الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إسرائيل والله وقوانين الطبيعة

أحمد دلول
كاتب وباحث فلسطيني مُقيم في الدنمارك.

(Ahmad Dalul)

2023 / 11 / 2
القضية الفلسطينية


لكي تتمكن من العيش، لا بُدَّ لك من التعايش مع محيطك؛ سواء بالمعنى البيولوجي أو السايكولوجي أو الاجتماعي. ومن ثمَّ، فمن ليس لديه القدرة على التعايش مع محيطه فإن مصيره إلى الزوال؛ سواء كان الأمر يتعلق بنبتة في تربة ما، أو بخلية في كائن عضوي ما، أو بكائن عضوي ضمن جماعة ما، أو بجماعة ضمن محيط أوسع.

إسرائيل المتموضعة في محيط عربي شاسع بمسيحيه ومسلميه، كانت منذ نشأتها قد عجزت عن تحقيق ذلك التعايش، لا بل أنها سعت بكل ما امتلكت من إمكانيات لنسف ذلك التعايش مع المحيط ولنفي أسبابه، بطريقة همجية لم يجاريها بها أحد في التاريخ المعاصر. وكأنها تحاول لَيّ قوانين الطبيعة، أو أنها في الحقيقة لا تبحث عن استمرارية البقاء ولا تسعى لذلك، ونحن هنا لا نتحدث عن أمانينا ورغباتنا الذاتية، وإنما نتحدث تبعا لقراءة منطقية موضوعية. ولا ننسى بإن البقاء تبعا لنظرية التطور مثلا هو ليس للأقوى، وإنما البقاء لمن امتلك القدرة على التأقلم أو التلاؤم. ولذلك فإن الكثير من الكائنات الضعيفة الوديعة كانت قد تمكنت من البقاء لملايين بلا عدد من السنين، في الوقت الذي انقرضت فيه الديناصورات، ذات البنية الضخمة والقدرة الهائلة على سحق الكائنات الأخرى. ومفهوم التأقلم أو التلاؤم يتساوقان مع مفهوم التعايش مع المحيط، ضمن ما نرمي إلى تبيانه.

وكذلك تقول الطبيعة أن لكل فعل رَدَة فعل، ورَدَة الفعل تتناسب طردا مع قوة الفعل، وذلك قانون من قوانينها، الذي لا يُمكن نفيه أو التحايل عليه أو الالتفاف حوله. فإذا تراكمت الأفعال مع خنق ردات الفعل إلى حين، تفجرت ردات الفعل بشكل أعنف كما وكيفا، لانتفاء الإمكانية لنفيها، كونها كانت كامنة فحسب؛ إذ لو حاول الإنسان مثلا أن يخنق نبعا ما بشكل مُحكم لحين، فإن الماء الملجوم ما وراء ذلك النبع قد يتحول إلى عشرات الينابيع في أماكن أخرى. فإذا تمَّ خنق تلك الينابيع المستجدة بشكل مُحكم كذلك، فإن ذلك قد يكون سببا في تفجر ينابيع أخرى أكثر عددا ولو بعد حين. وبغض النظر عن كَمّ تلك الينابيع، فإن كَمَّ الماء وعنفوان تدفقه، يتناسبان طردا مع الفترة الزمنية التي تمَّ فيها خنق تدفق الماء، فإذا طالت تلك الفترة الزمنية، تحول النبع عند تفجره إلى طوفان رهيب؛ طوفان الأقصى مثلا.

لكل فعل ردة فعل ولو بعد حين، أو لو بأشكال مختلفة ومتفاوتة؛ فنكبة فلسطين في العام 1948 ولَّدت فصائل مُقاومة فلسطينية، وإبعاد تلك الفصائل عن الحدود الشرقية لإسرائيل في أعقاب أحداث أيلول الأسود عام 1970 وما تلا ذلك، كان قد وضع تلك الفصائل في لبنان على الحدود الشمالية لإسرائيل. من ثمَّ جاء أرييل شارون بحلول جذرية لإبعاد كابوس الفصائل الفلسطينية عن حدود إسرائيل، لكي يرتاح منهم إلى الأبد، بعد أن حصل على ضوء أخضر من الدول الكبرى لإخراج منظمة التحرير من لبنان، مهما بلغ الثمن، تماما كما يحصل الآن مع نتنياهو وفصائل المُقاومة في غزة. وبالفعل أفلح شارون في نفي منظمة التحرير إلى تونس بعد اجتياح لبنان وحصار بيروت في العام 1982. ولكن الاجتياح والحصار كانا في الحقيقة سببا لنشوء حزب الله، والذي بات يُشكِّل خطرا إستراتيجيا حقيقيا على وجود إسرائيل، علاوة على أنه قد فعل بها، ما لم تفعله الفصائل الفلسطينية مُجتمعة. وأما عن فصائل المقاومة الإسلامية في غزة، فهي كانت في الحقيقة بمثابة ردة فعل على انسداد الأفق وتوالي الهزائم والمظالم على الفلسطينين والعرب، ولم يتعزز دور تلك الفصائل لتفرض نفسها كمقاومة بديلة عن منظمة التحرير، إلا كردة فعل على فشل مؤتمر أوسلو للسلام، وعلى بداية احتضار منظمة التحرير الفلسطينية نفسها. ذلك الاحتضار الذي كانت قد أعدّت له إسرائيل عبر مؤتمر أوسلو لتصفية القضية الفلسطينية، لكي نحصل بعد ذلك على خيمة فلسطينية لا دولة، كما ذهب الشاعر الفلسطيني محمود درويش. ولكن مع ذلك، فقد ظهر بأننا كنا مُتفائلين أكثر مما يجب؛ فحتى تلك الخيمة لم ترَ النور في الحقيقة. بمعنى أننا لم نحصل حتى على دولة فلسطينية منزوعة السيادة، كما لا يزال يحلم بعض الفلسطينيين تحت سقف منظمة محمود عباس لتحرير فلسطين.

أما عن مفهوم إسرائيل لله وقوانينه، فقد وَرَدَ في العهد القديم (التكوين 32: 25-31) تحت عنوان: "صراع يعقوب مع الله"، بأن يعقوب قد رأى الله وجها لوجه على هيئة رجل، فتصارعا حتى مطلع الفجر، إلى أن كانت الغلبة ليعقوب في النهاية: "وبقي يعقوب وحده، فصارعه رجل حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقوى على يعقوب في هذا الصراع، ضرب حُقَّ وِرْكِه فانخلع. وقال ليعقوب: طلع الفجر فاتركني. فقال يعقوب: لا أتركك حتى تباركني. فقال الرجل: ما اسمُك؟ قال: اسمي يعقوب. فقال: لا يُدعى اسمك يعقوب بعد الآن بل إسرائيل، لأنك غالبت الله والناس وغلبت. وسأله يعقوب: أخبرني ما اسمُك. فقال: لماذا تسأل عن اسمي، وباركه هناك. وسمَّى يعقوب ذلك الموضع فنوئيل، وقال: لأني رأيتُ الله وجها إلى وجه ونجوت بحياتي". إذن، اسم "إسرائيل" الذي اكتسبه يعقوب منذ أن غلب الرب، صار اسما لدولة اليهود فيما بعد. وترجمة "إسرائيل" إلى العربية هي "مُصارِع الرب" أو "صارع الرب".

لو أخذنا هذه الرواية التوراتية بحرفيتها، فهي لا تتعدى أن تكون نوعا من الخرافة البحتة، أو ربما ضربا من الكُفر البواح. أما لو تأملنا في دلالاتها الرمزية، فذلك من شأنه أن يُقرِّبنا من فهم العقلية التي قامت على أسسها دولة إسرائيل، وما تزال. وأما عن التأويل، فمن العسير أن يتم فهم دلالة النص التوراتي، من دون إسقاطها على سياق توظيفها على أرض الواقع، بدون الاكتفاء برمزية فلسفية مُجرَّدة عن سياقها، أو بمفاهيم لاهوتية أو عرفانية تتسم بالروحانية مثلا. علاوة على ذلك، فإن هذا التوصيف التوراتي، لا يتساوق تماما، مع وصف الأسطورة السومرية لـ "جلجامش" على أنه نصفه إله ونصف بشر.

من المؤكد أن مُصارعة يعقوب لربه، تتسم بأكثر من بُعد، وتحتمل تأويلات شتّى. ولكن عندما يتعلق الأمر بدولة "يعقوب / إسرائيل" فإن التأويل يشي بتبرير دولة لنفسها أن تتعالى، ليس على قوانين الأرض فحسب، بل وعلى قوانين السماء كذلك: "لأنك غالبتَ الله والناس وغلبتَ"، عبر فلسفة ذرائعية تسويغية لإخضاع الآخر ومحقه بضمير نقي، كائنا من كان؛ بمعنى انتفاء الرادع اتجاه أي موجود كان؛ ناسوتي أو لاهوتي، حتى ولو كان الرب نفسه، إله بني إسرائيل، الذي سيُصبح بعد ذلك، تابعا لنزوات وغرائز فئة من البشر، لا متبوعا بإرادته الكونية الشاملة، التي يبسطها على كافة خلقه، من دون أن يُحابي فئة بعينها، سواء كانت دينية أو عرقية.

بالمقابل، فإن الفيلسوف اليهودي الحُرّ "باروخ اسبينوزا"، الذي قام بنقد تاريخي للتوراة وفنَّد الكثير من الأشياء اللاعقلانيّة فيها، يعتقد بأن الله كامن في كل شيء وكامن في الطبيعة ذاتها، وبأن قوانين تلك الطبيعة هي ذات طابع إلهي، ومن ثمَّ فإن الإيمان بالله لا يتطلب وجود معجزات وخوارق تقلب قوانين الطبيعة، لا بل أن رسوخ وانتظام قوانين الطبيعة، هو إثبات كافٍ لوجود الله. وبالتالي يُمكننا القول، بإن تحدي قوانين الطبيعة هو تحدٍ لإرادة الله، أو أنه تحدٍ لله ذاته، كما فعل يعقوب حين غالب الله والناس وغلبهم، تبعا للرواية التوراتية، أو كما حاولت إسرائيل أن تفعله منذ نشأتها.

حتى لا يُساء فهم ما نرمي إليه، فإن اقتباسنا لتلك النصوص من التوراة لا يعني بأي حال بأن مشكلتنا هي مع اليهود أو مع ديانتهم، أو بأن الصراع هو صراع ديانات أو صراع حضارات، كما حاول أو يُسوِّق البعض، فاليهود مثلهم مثل غيرهم، فيهم الحَسَن والقبيح، ومن الخطورة بمكان أن يتم التعميم لإعلان العداء ضد مجموعة لمُجرَّد إنتمائها لدين ما أو لعرق مُحدد، وإنما نحن نتحدَّث هنا عن آلية فهم وتأويل النصوص المُقدَّسة، أو عن بعض من تلك النصوص التي تم إضافتها إلى الكُتب المقدسة باسم الوحي؛ لطالما يتحدَّث اسبينوزا مثلا، بأن كتاب الله، أو كتاب التوراة الموجود بين أيدينا في هذ العصر هو كتاب مُحرَّف ومنقوص. ولكي نكون أكثر دقة وشفافية، فنحن نتحدث عن أيديولوجيات موازية للأديان، بحيث أن آلية فهم الدين وتأويله تصبح فضفاضة، لدرجة أن تلك الأيديوجيات تسعى لتحقيق مبتغاها، حتى ولو تناقضت جذريا مع جوهر تلك الأديان التي انبثقت منها، كما فعل بعض مسيحيي العصور الوسطى وكذلك بعض المسلمين في حقب تاريخية مختلفة، حين قاموا بتأويل دياناتهم على نحو كارثي. ولكن هل هناك تأويل أكثر كارثية وهمجية من تأويل بعض الإسرائيليين ليهوديتهم، في إطار دولة يدَّعون بأنها علمانية حتى النخاع! وفي الحقيقة لو كانت إسرائيل دولة علمانية حقا، لانتفى سبب وجودها، لكونها قامت أساسا تبعا لوعد إلهي وليس تبعا لحقائق تاريخية. وثمَّة إقرار صريح في التوراة، بأن تلك الأرض هي أرض بني كنعان، ولم تكن أرضا لليهود أبدا، وإنما أصبحت كذلك، بعد أن وعد الربّ شعبه المختار بتلك الأرض التي تدرّ لبنا وعسلا، وذلك تبعا لما وَرَدَ في التوراة (التكوين 17: 8) عندما قال الرب حين تراءى لإبراهيم: "وأعطيكَ أنت ونسلكَ من بعدكَ أرض غربتك، كل أرض كنعان، مُلكا مؤبدا". وتبعا لما ورد في السفر نفسه (التكوين 26: 3) حين تراءى الرب لإسحاق قائلا: "فأعطي لك ولنسلِكَ جميع هذه البلاد، وأفي باليمين التي حلفتُها لإبراهيم أبيك". وأيضا تبعا لما وَرَدَ في نفس السفر (التكوين 35: 12) حين تراءى الرب ليعقوب قائلا: "والأرض التي وهبتها لإبراهيم وإسحق، أهبها لكَ ولنسلِكَ من بعدك". فهل كانت إرادة إلهية حقا، أن تُسلَب أرضنا وأن تُستباح دماؤنا وأن نُرجَم بأحدث ما أوجده العقل من وسائل الدمار، باسم الله. وأي إله ذلك، الذي ينهزم أمام البشر ليحابي غرائزهم وشهواتهم في القتل والتدمير! وما طبيعة ذلك الإله الذي ينكر باقي خلقه ويتنكر لإرادته ولقوانيه في هذا الكون!

أما بعد، فيبدو أن استباحة دمائنا باتت أمرا مألوفا لا يُسبب الدهشة لأحد، ويبدو أن التاريخ بات يُكرر نفسه بوقاحة لامتناهية من دون أن يمنحنا فرصة لالتقاط أنفاسنا؛ فأراضينا باتت مُلكا مشاعا، وفصيلة دمنا باتت رخيصة، إذ بتنا ننظر إلى أطفالنا ثمَّ نلتفت إلى أطفال غزة وهم يكتبون وصاياهم، وأهاليهم يكتبون أسمائهم على أذرعهم وأيديهم، حتى يتمكنوا من التعرف عليهم عندما يصبحون أشلاء مُشوهة. نلتفت لنرى المباني في غزة تخبز السكان، تبعا لوصف محمود درويش للدمار الذي كان يحصل في بيروت أثناء حصارها. لا بل حتى المستشفيات في غزة باتت تخبز المرضى، والكنائس والمساجد تخبز المؤمنين، والمدارس تخبز اللاجئين إليها، ولا خبز ولا ماء ولا دواء ولا وقود ولا كهرباء ولا مأوى، ولا مفرّ لأهل غزة من جحيم غرائز المُحتل ومن تواطُؤ ذوي القربى. نلتفت إلى التاريخ، فنراه يُسجّل في هذه الأيام، بأن ثمَّة جماعة، وبسخاء بلا حدود، كانت قد هدرت دم الآخر بأطفاله ونسائه وعجائزه ومرضاه لمجرد الثأر والتشفي، حتى قبل أن تتقدم للانتقام ممن قاتلها. في حين أن "العالم المُتحضّر" قد نزع قناع تحضره الهش، ليبوح بغرائزه كلها، وبكل ما أوتي من أسلحة دمار ومن أكاذيب وتسويغات، نصرة لإباحة دم الإنسان في غزة. ثمَّ نجلس نترقب دورنا؛ نترقب استباحة دمائنا ودماء أطفالنا، في بقعة أخرى، وفي زمن آخر، وتحت مُسميات وذرائع أخرى… ونترقب طوفانا آخرا، لا يُبقي ولا يَذر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التبوريدة: فن من الفروسية يعود إلى القرن السادس عشر


.. كريم بنزيمة يزور مسقط رأس والده في الجزائر لأول مرة




.. بعد إدانة ترامب.. هل تتأثر فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية ا


.. لابيد يحث نتنياهو على الاستجابة لمقترح بايدن بخصوص اتفاق غزة




.. الوسطاء يحثون إسرائيل وحماس على التوصل لاتفاق هدنة في غزة