الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشكل والمضمون في رواية -الخطوات- عزت الغزاوي

رائد الحواري

2023 / 11 / 3
الادب والفن


الشكل والمضمون في رواية
"الخطوات"
عزت الغزاوي
هناك من يتقن الجمع بين الحداثة/المعاصرة وتقديم مضمون وطني وفكرة نبيلة، وعندما نقول الحداثة نقصد طريقة التقديم، والشكل الذي يقدم به العمل، فعلى صعيد الحجم، العمل الأدبي الذي يستهوي القارئ هو العمل المكثف والمختزل، وعلى صعيد شكل التقديم لا من وجود محسنات أدبية، تمتع القارئ وتجعله يتقدم متشوقا لما يعرضه النص الأدبي، يضاف إلى ما سبق الفكرة/المضمون الذي يحمله العمل، وبهذا تجتمع كل الإيجابيات معا.
السرد
"عزت الغزاوي" استطاع أن يقدم رواية حداثية بكل معنى الكلمة، تحمل مضمون إيجابي (تعرية الفساد في الثورة) وبطريقة سلسة، ففي فاتحة الرواية يبدأ السرد بهذه الفقرة: "البداية خدر في القدمين.
...هل هو الموت، هل يحق للمؤلف أن يموت قبل ترتيب الرواية؟
الخطوات وحدها سوف تنقاد لأصابعي قبل أن يصلها الخدر.. البداية خدر في القدمين يصعد رويدا رويدا، لن يصرخ أحد في إشارة تنبيه، سيكون حدثا عاديا وسيمر وقت ما قبل أن يتكشف أحدهم أن المؤلف مات وهو يحاول أن يرتب فصول روايته، رواية الأمكنة وعلاقتها باليوسفي، عارف بن إبراهيم الغانم المولود في صفد سنة 1936" ص7، نلاحظ أن الفاتحة متعلقة بالعنوان "خدر في القدمين" الخطوات" وتكشف أنها متعلقة بشخص "اليوسفي" وبالمكان، صفد/فلسطين، ونجد السرد الروائي فيه ما هو جديد من خلال (تدخل) المؤلف، ومن خلال إعطاء الشخصيات حرية التحدث بنفسها، فهذه الثنائية ليس من السهل التحكم بها، وتستوجب من السارد معرفة متى يتدخل، ومتى يتراجع، ليبقي عمله حاملا السمات الفنية المقنعة والممتعة.
فهناك أكثر من راوي يتحدث في الرواية، منهم "هاجر بنت محمد القاسم"، اليوسفي عارف بن إبراهيم القاسم، وزكية السلطان، ومي رسولي، وحمزة الكاظم" وهناك مزج بين (المؤلف والسارد) عندما تحدث عن عنترة، وأوديب، والحسين بن علي، وسعيد بن المسيب، وعشتار/أنانا وتموزي، وعن جبينة، ثم يخرج المؤلف ليجعل المكان "الجافنة" تتحدث في خاتمة الرواية:
من يرحل من هنا يعود عاجزا
من يرحل من هنا لا يعود كما كان
من يرحل سيراني في طريقه الطويل، تتقلب عليه الحالات
أنا "الجافنة" أحزن من أجل رجل، وتحزن من اجلي امرأة
أنا هنا أبقى، وتمضون جميعا جيلا وراء جيل" ص88، إذن تنوع وتعدد أشكال السرد وتوزيع الرواة على أكثر من راوي جعلها رواية متعددة الأصوات، مما حررها من هيمنة طرف بعينه، فالأحداث تأتي بأكثر من صوت، وبهذا يكون القارئ قد سمع أكثر من وجهة النظر، وعليه أن يحدد هو بنفسه من هو الفاسد ومن هو الجيد، وعليه أن يتوقف عند بداية الرواية التي تحدثت عن "اليوسقي" وعن المكان، وفي نهايتها التي محت/تجاوزت "اليوسفي" وأنسنت المكان وجعلته يتحدث ككائن حي/مقدس/خالد، بحيث بدت "الجافنة" وكأنها مقدسة تتكلم بحكمة، وما على المستمع/القارئ إلا الإنصات لها والأخذ بما جاء على لسانها لأنها حقيقة، حقيقة اليوسفي الذي (ضاع وأضاع) معه الكثرين بعد أن رحل وغادر فلسطين/"الجافنة" فكان يعمل لرفع شأنه كفرد على حساب أروح كثرة أرسلها للموت، تحت تسمية الفدائي.
من هنا يمكننا القول إن السارد أستطاع الجمع بين الشكل الأدبي وما فيه من تقنية سرد، وبين مضمون تقدمي، وطني يكشف ويعري الفاسدين في الثورة، وإذا أخذنا سنة صدور الرواية 2000، نعلم أن "عزت الغزاوي" وجهها لمن أتوا بعد أسلو مشيرا إلى فسادهم، وبهذا يكون "عزت" من أوائل من تحدثوا عن فساد السلطة، وهذا يحسب له.
نقد الثورة
أعتقد أن أول روائي تناول سلبيات الثورة هو "رشاد أبو شاور" في روايته "البكاء على صدر الحبيب" التي صدرت عام 1974، ثم تبعها بروايات أخرى" آه يا بيروت، بيروت بيروت، الرب لم يسترح في اليوم السابع" التي صدرت بعد معركة بيروت عام 1982، وها هو "عزت الغزاوي" يكمل هذا النهج من خلال رواية "الخطوات"
يتحدث "اليوسفي" عن دوره في العمل العبثي والتخريبي بإرسال مقاتلين إلى موت محقق، فقط ليقال أنه قائد وها هو يرسل مجموعات مقاتلة إلى الداخل الفلسطيني: "بالأمس فقط قتل ثلاثة من الفدائيين بذات الطريقة التي قتل فيها خمسة قبلهم، إنهم لم يصلوا حدود فلسطين الشمالية، هناك من يموتون في هذه الرحلة الطويلة، وهناك من يزدهرون لأنهم كانوا السبب في رحلتهم إلى الموت" ص27، هذا النهج كان يعد جريمة بحق فلسطين ومقاتلها، بعض المتنفذين لم يكن يعينهم عدد الشهداء الذي يسقطون دون نتيجة أو سبب، بقدر اهتمامهم برفع مكانتهم ومركزهم في الثورة، واللافت أن هؤلاء المتنفذين لا يواجهون العدو في المعارك، بل يختبئون أثناء المواجهة بحجج واهية "اليوسف" يتحدث عن ممارسته أثناء مواجهة العدو بقوله: "بعد أحداث جرش وعجلون تعللت بموت محقق قد يأتي ولم أشأ لها أن تفقدني مرة أخرى، في بيروت تعللت بضرورة العمل السري الذي يحيط السياسيين العاملين في المنظمة، تغير مشروع الشهادة إلى تجنيد آخرين للموت، بعثت الكثيرين عبر الحدود، فمنهم من عاد ومنهم من لم يعد، كان عليّ أن أجد دائما أناسا ممتلئين بالحماس كي يعبروا إلى شمال فلسطين بالقنابل اليدوية والكلاشينات، فدائيون حقيقيون يحولون حياة المستوطنات إلى جحيم، إلى أين مضيت أنا.
قيل إنني فشلت في تجنيد ثلاثة من الفدائيين فشلا ذريعا...وقبل أن فشلي ذاك أجبرني على التفتيش عن فدائيين أكثر حماسا، كان بينهم حامد النابلسي، صبي في الخامسة عشرة، ترك المدرسة يعد شجار مع مدرس الرياضيات، قال لي عند الغروب، وقبل أن يغادر مع زميله:
ـ هل ستعتني بأمي إذا لم أعد؟
ـ هل تشك في ذلك؟
ـأريد أن أسمع منك...تعلم أن ليس لها سواي في المخيم
ـ وماذا تريدني أن أقول لها؟
ـ قل لي إنها لن تموت جوعاـ قل لي إنكم ستعتنون بها
...
ـ وضعت أمي المصحف على ركبتي وجعلتني أقسم أن لا أشارك في عملية مسلحة عبر الحدود...قالت أنها ستموت لو حدث لي شيء.
أردت أن أقول له لا تذهب، لكنني آثرت الصمت، نظراه كانت تعاتبني تقول لي: "لماذا لا تذهب أنت.. أم تراك استرحت لتعبئة الآخرين يا اليوسفي يا ابن صفد، أنت الذي يجمع المال الآن، المال الذي كنت تقول إنه مال الشهداء والثورة... زكية السلطان مخدوعة بابنها الذي هو أنان اليوسفي شطر قلبها يموت مزيف وترها تبحث عنه ربع قرن من الزمن، سمية البكري مخدوعة بابنها الصبي حامد الذي يريد أن يكون فدائيا ببدلة عسكرية وبندقية، وقيل أن حامد النابلسي والفتاة التي رافقته تفجرا بحزامهما الناسف على الحدود، الفتاة الصغيرة هي شادية الحلو، جميلة في السابعة عشرة، ...أما العنصر ثالث عنصر في الخلية فكان "أبو الفهد" رجل في الأربعينيات له زوجتان وخمسة أولاد، عاد صبحية اليوم التالي إلى بيته وقدم تقريرا موجزا يقول فيه أن "البطلين شادية وحامد فجرا نفسيهما على مقربة من عربة عسكرية إسرائيلية كانت تقل مجموعة من الجنود، وأنه انسحب عائدا تحت جنح الظلام ولم يدر ما الذي حدث بعد ذلك.
...سمية البكري غادرت المخيم ومضت إلى بيروت وعاشت هناك، وقيل إنها كانت تكره اليوسفي وتدعو الله أن يحرق قالب أمه في الحياة وفي الموت، لم ألتق سمية البكري أبدا، ولم أبحث عنها، تأملت فكرة تكاليف بعض الأصدقاء بتقصي أخبارها ومعرفة أحوالها، على أنني لم افعل، وحتى الثلاثة آلاف دولار التي استلمتها بقصد إيصالها لها بقيت معي، كنت أتوقع أن أعثر عليها ذات يوم، ربما سيحدث ذلك، لكنني لم أفعل شيئا، هل كنت أخافها أم أرغب في الاحتفاظ بالمال، أم أنها كانت سألقي بكل شيء في وجهي؟ أذهب يا اليوسفي إلى جهنم أنت وأموال الشهداء، سأنظف بيوت الناس وأحصل على قوتي مثل عباد الله، ولا يهم إن زاد رصيدك مبلغا بسيطا مثل هذا" ص35-37، بهذه الصراحة يحدثنا أحد (قادة) الثورة عن نفسه، عن دوره في إرسال الأطفال للموت ليرتفع رصيده المالي ومركزه في (قيادة الثورة).
"اليوسفي" أخفى على امه "زكية السلطان" أنه حي، وقبل أن يحترق قلبها عليه دون أن يبدي أي إنسانية تجاه أعز الناس عليه، فمثل هذه القسوة مهدت لتكون نفسيته ميته تجاه أي قضية إنسانية أو وطنية، من هنا نجد انتهازيته في التعامل مع قاصرين "حامد النابلسي وشادية الحلو" اللذان اعتبرهما مشروع اقتصادي مربح، يزيد من ثروته، فأي قادة هؤلاء الذي يقودون ثورتنا!؟
اختيار السارد لحدث عن الأمهات تحديدا "زكية وسمية" وكيف يتم التعامل معهن من قبل (قادة الثورة) أكد أن مثل هذه الثورة وهذه القيادة لن توصلنا أكثر مما وصلنا إليه في أوسلو، وما نحن فيه الآن من خراب اجتماعي واقتصادي وسياسي، يعود إلى أننا سلما أنفسنا "اليوسفي" ومن هم على شاكلته، فبعد مضي ثلاثين سنة على الاتفاق، هنا نحن نرى أنفسنا عراة من كل شيء، فلا صناعة، ولا زراعة، ولا قيم أخلاقية، ولا ثورة ولا ثوار، والفساد يستشري ويتوغل فينا حتى بتنا نفتقد لأبسط أنواع الأمان، فما الذي فعلته بنا يا "اليوسفي"؟ وكيف سنتخلص من نهجك ومن أمثالك، بعد أن أكلنا الفساد وتمكن منا الفاسدين؟
من هنا يمكننا القول إن رواية "الخطوات" قدمت فكرة وأحداث مؤلمة وشخصيات قاسية، لكن بشكل أدبي حديث، يجمع بين الفنية في الشكل وطريقة التقديم، مما سهل على القارئ تناولها، وخفف عليه شيئا من القسوة التي تحملها، وبهذا يكون السارد قد نجح في تقديم مادة مؤلمة بأقل الأضرار النفسية على المتلقي، وهذا ما يجعلها رواية متميزة على صعيد الشكل والمضمون.
الرواية من منشورات دار الشروق للنشر والتوزيع، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2000.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام