الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايتي مع السيد المفتش

محمد المهدي السقال

2006 / 11 / 16
الادب والفن



دلفتُ إلى قاعة الدرس مطأطأ الرأس , تسحبني إلى الخلف رغبة التمنع عن استئناف الحصة مع القسم الجديد ,
اتجهتُ إلى المكتب , يكون الابتداء عادة بضبط الحضور في السجل اليومي , سأتعثر في نطق الأس
ماء المتنافرة الحروف ,
يغتنم التلاميذ فرصة النداء عليهم لاستثارة الضحك على بعضهم البعض ,
يتهافتون لتصحيح ما يتلوى له لساني غير الفصيح , فأجدني بينهم أميل إلى مجاراة ضحكهم مع وقار مفتعل , ألقيتُ بالكتاب المدرسي جانبا , سُمِع صوت ارتطامه بالخشب المهترئ , ثم ساد صمت الدهشة في عيونهم , رميت ببصري إلى الخلف , نصف دائرة من الرؤوس مسندة ظهرها للجدار , تحيط بالمقاعد الخلفية ,
وجوه كنت أعرفها جيدا , ليست من هذا القسم , تقدمت إليها أسألها عن تواجدها ,
كانت جملة الجواب جاهزة :
ــ نريدك أن تعود .
كيف أشرح لهم أنني في النهاية بالنسبة للإدارة , لست أكثر من رقم في لوائح موظفي الدولة غير السامين , يمكن نقلي , توقيفي , طردي , تجميدي ,
لست محصنا ضد أي هَوًى يلعب برأس السيد المفتش ,
أما قصة حقوق الموظف قبل حقوق الإنسان , فليست سوى أسطورة للترويج في مناسبات استقبال الضيوف الأمريكان ,
صرنا وجهتهم المفضلة , بل إن بعض الأخبار تتحدث عن تعاون مطلق في كل المجالات ,
اعتدلت في جلسة غير مألوفة أثناء حصص الفصل التعليمي ,
ــ عليكم بالخروج الآن , ستسيؤون إلي من حيث تعتقدون الإحسان ,
يكفي ما جرى أمس , لقد كنتم في المستوى المطلوب , عبرتم بشكل حضاري عن رغبتكم, ليس ضروريا أن تكون الاستجابة فورية ,
ابتسمت بداخلي ولسان حالي يقول ’
أتريدون أن تعترف الإدارة بهزيمتها أمامكم بعدما وضعتموها في موقف أشد حرجا من إضراب عمال الوادي الحار؟
لعلهم لاحظوا احمرار عيني , أحس بها محتقنة , اختناق متعب , لا تزهق الحروف عبر حلقي إلا جريحة , ــ عليكم بالانسحاب ,
التحقوا بأقسامكم , يمكنكم أن تزوروني في كل وقت , أنا رهن الإشارة في أي شيء , أما اقتحامهم القاعة , بدعوى الاعتصام حتى التراجع عن قرارالسيد المفتش بتأديبي , فأمر مبالغ فيه ,
ربتت على كتف أحدهم , موحيا إليه بما أتخوف منه , لست ناقصا صداع الرأس المتعبة ,
تداخلت أصوات مهشمة حتى أصبحت لغطا تحس نبرته ولا تفهم كلماته ,
تماما كما فعلوا بالأمس ,
سمعوا بحكايتي مع السيد المفتش , فقرروا الدخول في اعتصام أمام مكتب السيد المدير ,
بلغني أنهم رفضوا دعوته للالتحاق بفصولهم , رغم ما وُصِفتْ به وقفتهم من قبيل الإضراب والعصيان ,
نريد عودة الأستاذ ,
لا يعقل تركنا للريح في انتظار أستاذ جديد ,
نحن تلامذة التاسعة , أمامنا امتحان التوجيه ,
عجبت من ربط مطالبتهم بعودتي , بحاجتهم إلى مادة التدريس, دون ربطها بشخصي ,
كأني بهم , قصدوا الابتعاد عن مواجهة الإدارة ,
لم يتحدثوا عما وقع لي مع السيد المفتش , بعدما رفضت الاستمرار في مناقشته حول هندامي وهيأتي ,
غضب مما اعتبره تحديا لسلطته على مرأى ومسمع التلاميذ , بينما كنت فقط أحاول شرح ظروفي المادية ,
ظننته سيتعاطف معي بعد تأخر تسوية وضعيتي الإدارية لأكثر من عام ونصف ,
ما أن همست له بالحال , تجنبا لاستراق الحضور ما قصدت الهمس به , حتى استشاط حنقا تصفر وتبيض شفتاه ,
تلك مشكلتك ,
صدَقَ ,
لكن نغمته الساخرة استفزتني , فلم أشعر إلا وأنا أصب عليه جام غضبي ضد بنية الإدارة الفاسدة ,
ثم كانت الجملة التي قصمت ظهر البعير :
ماذا نفعك لباسك المحترم في إدارة فاسدة ؟
جمع أوراقه منتفضا كالطير المبلل في الصيف ,
التفت إلى التلاميذ , ابتسامتهم كانت معبرة , ثم انسحب , شكا للسيد المدير حجم المهانة التي لحقته , تبادلا التعاطف :
عليك أن تسند له القسم الأولي , في انتظار اكتمال الإجراءات التأديبية , لن أسكت عليه , وسيرى من أكون ,
هل سمع التلاميذ العبارات بنصها , أخبرني أحدهم عن رد الفعل الغاضب , صارت المسألة شخصية بيني وبين السيد المفتش , انتقدت مبالغته في المحافظة على تناسق ألوانه , كنت على وشك أن أجره من رابطة عنقه , حين أشرت إليها كرمز للأبهة الكاذبة, اقتنع التلاميذ بكلمتي فيهم , أخذوا ينسحبون من الفصل ,
لم أشأ أن تلتقي عيوننا , تحولت إلى السبورة ,
كتبت:
انتحار بلبل , ص 96
تمنيت لو أنهم عصوني ,
لو أن احتجاجهم جاوز المطالبة بالتوقف إلى العصيان ,
كان الصغار يحدقون في ملابسي , لعلهم يجدونني صعلوكاً كما حاول السيد المفتش أن يصورني لآبائهم .

*
تأخرت تسوية وضعيتي المادية تسعة أشهر أخرى , رغم اعتذار السيد المدير عن تسرعه في مجاراة السيد المفتش .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | 25 سؤالا مع المخرجة رشا شربتجي


.. بتقنية -التزييف العميق-.. أول فيلم روائي طويل عن حياة الرئيس




.. شاهد: الشرطة الإسبانية تستعيد لوحة للفنان بيكون سُرقت قبل تس


.. بخاطر في التمثيل ومابخافش من أي دور سهر الصايغ عارفة إنه سلا




.. كل الزوايا - مذكرات فريدة فهمي.. الفنانة القديرة تسترجع ذكري