الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين ينفقع بالون البروفيسور من الضجر 2

علي دريوسي

2023 / 11 / 4
الادب والفن


وها هو سعادة البروفيسور، يحفظه الله، يعود إلينا من عيادة طبيب الأسنان، متأففاً متبرّماً من جهة ومنبهراً من جهة أخرى، وبسبب التخدير الموضعي نجده لا يقوى على الكلام ولا الطعام، لكنه يقوى على الكتابة، سبحان الله، كريات المناكفة الزرقاء في دم البروفيسور، سجين زنزانة أسنانه يأبى أن يخلد للراحة والنوم قبل أن يزعجنا ولو قليلاً، الشيء الذي قد ينسيه ضجره من آلام أسنانه وضيقه من المبلغ الكبير الذي سيدفعه ... حالما وصل إلى البيت كتب لنا بكلمات ضجرة:

الضحك ينظف الأسنان ويبقيها سليمة، كما يقول الإفريقي. الإفريقي لا يحتاج إلى طبيب أسنان لأنه دائم الضحك.

جميلون هم أصحاب اللون الغامق، ماذا أقول عنهم! لو ترونهم كيف يلعبون في استاد الجامعة في العطل الإسبوعية، سترون في عيونهم حب ويضحكون من القلب، سترون أن أسنانهم بيضاء وأجسادهم قوية، يمارسون كرة القدم بشغاف القلب، يُجيدون إصابة العارضة حتى من الضربات الركنية وتسجيل الأهداف .. كم أود الكتابة عن ألعابهم الجماعية البسيطة وعن حالات فرحهم الصغيرة، لكن لا وقت لدي إلا في مواسم ضجري.

صيانة ورعاية الأسنان والأضراس في العالم الرأسمالي هي من أكبر المشاكل التي تواجه الإنسان وخاصة الغريب، الذي يضطر غالباً بشكل مؤقت، إلى العوده إلى وطنه، الذي هرب منه، بغية المعالجة بأقل التكاليف ثم العودة من جديد إلى الحضن الرأسمالي. كل غريب يحلم بتقسيم جسده، يريد وضع القدم اليمنى في الغرب واليسرى في الشرق، الغريب يطمع في كل شي! حتى لو كان هذا الشيء بطاقة مجانية لزيارة بيوت الترفيه عن الجسد.

حين لم يحتاجوا لخدمات القرباطي أوجعوه بكلامهم وحكاياتهم وتعليقاتهم، لعنوه وأخافوا الأولاد منه، اِتَّهموه بالسحر والشعوذة وخطف الصغار، أغلقوا الباب بوجهه، هَدَّدوه، ألصقوا به التُهَم والجرائم، حجبوا المعرفة عنه، خوّنوه وسجنوه .. وحين احتاجوا لخدمات القرباطي أحبوه، سمحوا له بدخول بيوتهم لقراءة الطالع وكشف المستور لطفل أو عريس، تضاحكوا معه، رقصوا الدبكة على قرع طبله ولحن مزماره، مدحوا بانسته العجيبة حينما آلمتهم أسنانهم وتغزّلوا بقدراته على زراعة أسنان الذهب وصناعة الغرابيل .. إضحكْ يا قرباطي، يا طبيب الأسنان، ولا تدع النهر على الخيام يطوف، يا البائس، يا السكّير المتشرِّد، يا الطبّال، يا رجل المزمار، إضحكْ يا أمير العزف على البزق.

اليوم كان عندي موعد عند طبيب الأسنان من أجل أخذ القياسات لتصنيع موديل تلبيسة (كرونه)، وكما تعلمون يتم عن طريق قالب مناسب لحجم الفم مملوء بمادة شبيهة بالمعجون، الطريقة هذه بليدة ومزعجة وطويلة وتترك خلفها بقايا تتلتصق على الأسنان ولن أذكركم بطريفة إدخال القالب إلى الفم ونزعه عن الفك بقوة تخال بها أن أسنانك ستنخلع مع القالب.

أكره مثلكم مواعيد تطبيب الأسنان وكنت اليوم قلقاً بهذا الشأن، وحين جاء الوقت تفاجأت باستخدام طريقة جديدة ـ نضجت وتطورت عبر السنين بالاستفادة من تطبيقاتها في عالم هندسة الآلات. إنها الماسح الضوئي ثلاثي الأبعاد (سكانير). يتم إدخال قلم إلكتروني إلى الفم والذي يقوم بتسجيل غيوميتري (اِلتقاط بيانات) الأسنان والأضراس ومن ثم طبعها رقمياً وهذا كله خلال دقيقة. ومع هذا يتأفف بعض الهاربين من المستوى المتدني لطبيب الأسنان الألماني!

هناك فرق شاسع بين طبيب أسنان ألماني وآخر عربي. ليس فقط في مجال إدارة العيادة ومواكبة التطور التقني والعلمي وتحقيق أرباح عالية وتقديم فرص عمل للآخرين، بل في مجالات أخرى عديدة. يرفض الألماني مثلاً القيام بأكثر من ثلثي الأعمال التي يقوم بها العربي، إذ يتركها لممرضات الأسنان اللواتي يعملن معه، كما كان الأمر اليوم مع الماسح الضوئي.

ولأن جلد سعادته يتفتق من حدة الضجر نراه يخلط عبّاس بدبّاس دون أن يهتم برأي القرّاء ولا النقّاد وما يمكن أن يتندرون به. في الوقت الذي يكتب فيه لنا عن أعمال التصليح والتجديد التي يقوم بها بنفسه في بيته الكبير في ألمانيا الذي أطلق عليه لقب "قصر البروفيسور"، نسافر معه هكذا فجأة دون أن ندري لنعيش معه ذكرياته في المدينة التي وُلد وترعرع فيها:
أيضاً إزالة ورق الجدران العتيق وبلاط الأرضية الخشبية / الباركيه عمل شاق يا عبد المنعم، عمل يشبه إزالة الجثث المتعفنة من أرض معركة، ومن ثم عمليات سحب المعجون على الجدران بوساطة المشحاف لتغطية الثقوب والحزوز والتشوهات، لتأتي بعدها عمليات التنعيم / الجلخ والتنظيف واستخدام "أساس" مائع على الحائط والسقف، لإنشاء سطح خشن قليلًا غير قابل للانزلاق يلتصق به الطلاء / الدهان جيداً.

لم يعد ورق الجدران يستهويني يا عبد المنعم، بل بت أعتبره حمولة ثقيلة مزعجة تستر العيوب والتشققات، رغم أن استعماله باللون الأبيض ما زال رائجاً في ألمانيا حتى في الأبنية الحديثة. ورق الجدران ـ وخاصة الورق الملوّن المزخرف منه ـ يذكرني بالبلدان الاشتراكية وعلى رأسها روسيا وألمانيا الشرقية، ويذكرني أيضاً بورق التواليت، كلاهما لم يكن سائداً أبداً في سوريا حتى منتصف التسعينيات على ما أعتقد.

كنا نسمع بورق الجدران وحسب، فنتخيله "شغلة" حضارية مميزة.
ثم جاء ذلك اليوم الذي رجع فيه صديقنا الضابط الذي كان موفداً إلى روسيا لأغراض تدريبية ودراسية، فقد سمعناه ـ وهو الذي كان يكبرنا ببضع سنوات ـ يحدثنا عن ورق الحائط كبديل للدهان وبأنه قد أحضر منه ـ لمزاياه العديدة ـ كمية كافية لتغطية الجدران الداخلية لشقته التي لم تكن قد اكتملت بعد.
يومها لامستنا تلك الكلمة لأول مرة وبتنا نفكر كيف ستمسي شقته وفي أي زاوية منها ـ بحكم حياته القصيرة في روسيا والكتب التي كنا بدأنا نقرأها ـ سيحتل البار موقعه برفوف ممتلئة بزجاجات الشامبانيا والويسكي والفودكا.

في الحقيقة كنت قد تناسيت هذه التفاصيل الصغيرة التي لا تحل ولا تربط في حياة بني آدم .. لكني اليوم وأنا لوحدي أرمّم إحدى غرف القصر رحت أسلي نفسي باستحضار تفاصيل الماضي، وهكذا حضرت هذه الذكرى من تلقاء نفسها دون تنقيب. وعلى رأي الكاتب الألماني "فالتر كومبفسكي" نقلاً عن صديقي المعتكف "حميد" ما معناه "من يوثّق ذكرياته تضاعفت حياته".

كان قد بدأ قبلنا يهتم بالقراءة والسياسة والمتناقضات الاجتماعية، فنسمعه يناقش بحماس مبادئ المادية الدياليكتيكية وأولوية خلق البيضة أم الدجاجة. وكنا سعداء بمعرفته وفخورين بأفكاره وجرأته لا سيما أنه يعمل في السلك العسكري، الأمل بالتغيير السياسي الاجتماعي يبدو منطقياً وقابلاً للتنفيذ حين تلتقي بمثل هؤلاء من حملة الصليب، أو كما كانوا يسمونمهم "من حملة السلم بالعرض".

هاجرت عائلته من قريتها الداخلية وسكنت على تخوم قريتنا الساحلية، عائلة كبيرة مؤلفة من الأب والأم مع سبعة أولاد وثلاث بنات. كنا ما نزال في المدرسة الابتدائية بالأحرى على أبواب الدخول إلى المدرسة الإعدادية حين تعرفنا إلى أحد أخوته، ومعه بدأت علاقة صداقة متينة مع هذه العائلة.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا