الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غزة-مدينة أسطورية-تروي لنا بطولات الأجداد وملاحم الأحفاد..وتنتصر لنفسها ولهويتها القومية والإنسانية..

محمد المحسن
كاتب

2023 / 11 / 6
الادب والفن


على هامش ملحمة العزة بقطاع غزة

غزة-مدينة أسطورية-تروي لنا بطولات الأجداد وملاحم الأحفاد..وتنتصر لنفسها ولهويتها القومية والإنسانية..

(أرادوا جحيما بقدر ما يشتهون..بقدر ما نشتهيهم..نعم..وليعمّ الجحيم( مظفر النواب)

"يا تلاميذ غزةٍ علّمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا/علّمونا بأن نكون رجالاً فلدينا الرجال صاروا عجيناً/علّمونا كيف الحجارة تغدو بين أيدي الأطفال ماساً ثميناً."(نزار قباني)

"تفاح جرحكِ،هل سيثمر للغزاة الفاتحين؟/يتفقد الأغراب جرحكِ:«قد تموتْ في الفجر غزة،قد تموتْ»وتعود في الفجر الحزينْ/صيحات حبكِ والحياة/أقوى وأعلى،يا صباح الخير،أختَ المعجزاتْ"(معين بسيسو)
"أتيتُ،سيروا في شوارع ساعدي تصِلوا/وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلّبُ/كنت أهرب من أزقتها/وأكتب باسمها موتي على جميزةٍ..."(محمود درويش)

"لا شيَء يُذكِّرُني بالنّخوة/فقد أريقتْ دماءُ فلسطين/ومعها كرامةُ العَربِ والمسلمين/أجسادٌ تناثرتْ /بطونُ حواملِ انفجَرتْ/وأجِنّةٌ منها أنطلقَتْ/تصرُخُ في وُجوهِ العرب والمسلمي/قبلَ وُجوهِ أحرارِ العالم :"دماءُ غزّةَ تنهمرْ ولا أحدَ يكترثْ!/ولا أحدَ يُنقِذُنا "؟!
(الشاعر التونسي د-طاهر مشي)

ما علينا بعد كل هذه السنين،وبعد كل هذا الدّم-إلا أن نتأمّل وننتظر.
جرح مفتوح،وعدالة شائخة،وضمير إنسانيّ كسول وكفيف..لا يفعل غير أن يعدّ حصيلة الخراب ويتأفّف من وفرة دماء الموتى!..وأيضا ينتظر.
تعبت ذاكرة التاريخ.ضجر الشهود.ضجرت الأسلحة والقوانين والمذاهب والسماوات،وضجرت أرواح الموتى،لكن-وحدها-شهوة القاتل إلى مزيد من الدّم..لم تضجر!..الدّم يشحذ شهيّة الدّم..وفي المقابل تفيص غصّات الأمهّات على حافة الدّمار،وتعلو صيحة الضمير الأعزل المعطوب،مستنكرة ومستنكَرة،كأنّما هي صيحة ميت طالعة من قاع التابوت : ثمة شعب محاصر بالليل.
أحسّ كأنّ حاجبات الوميض تنتصب من جديد،وقوى التغيير تُحبس داخل قمقم السلطة وتحايلاتها التي لا تبغي سوى الإستمرار مهما كانت التنازلات..ودفقات الدّم الفلسطيني،عبر الفضائيات،تذكّرني أكثر فأكثر،بهذا العجز الخانق.تذكرني بالحصار المظلم والظالم المضروب على غزة،فيما القذائف والصواريخ تواصل هجماتها،وليس هناك فعل عربي يساند بالملموس شعب محاصر بالدياجير..
من أي موقع إذن،أتكلّم عنك-يا غزة-ويكون لكلامي معنى أو ثقل؟
سأصارح استحضارا للتاريخ :
قلّ أن شهدت مدينة من المدن ذلك القدر من المكابدات والنجاحات والتحولات المصيرية الذي شهدته غزة عبر عصورها المختلفة.فقد قُدّر للمدينة التي بُنيت قبل أربعة آلاف عام،وعدّها المؤرخون إحدى أقدم الحواضر المسكونة،أن تدفع غالياً ثمن موقعها الجغرافي المتميز الذي جعلها واسطة عقد القارات وملتقى الهجرات والقوافل،مستدرجاً إلى الظفر بها فاتحين كثراً من قدماء المصريين والبابليين واليونان والفرس والرومان،وصولاً إلى العرب والفتح الإسلامي. وقد ورد اسمها في سفر التكوين،كما تعددت أسماؤها بتعدد غزاتها فسميت إيوني ومينووا وقسطنديا وغاريس،كما سماها الفرس «غازا»،وتعني الكنز الملكي،وأطلق عليها اليونان اسماً مماثلاً ويعني الخزينة أو الثروة.
وقد ذكر ياقوت الحموي* في معجمه،بأن اسم المدينة قد اشتق من فعل «غَزّ»الذي يحمل معنى «اختصّ»،بما يعني أن الذين بنوا غزة،قد اختصوها من بين المواقع الأخرى على المتوسط. وتعني غزة أيضاً المنعة والقوة.ومن بين أسمائها غزة هاشم؛تيمناً بجد الرسول الأكرم،الذي كان يقصدها للتجارة في رحلات الصيف ثم دُفن فيها.
ولأن لكلٍّ من اسمه نصيباً كما تقول العرب،فقد دأبت غزة ولو بكلفة باهظة،على مقاومة غزاتها الطامعين عبر الزمن،تماماً كما كان حالها مع الأوبئة والكوارث الطبيعية،في حين كان أهلها لشدة تمرسهم بالآلام وأهوال الحروب،يزدادون صلابة ومنعة وتشبثاً بأهداب الحياة.
وإذن؟
لم يكن غريباً إذا،أن تحظى غزة منذ القدم باهتمام الشعراء،أو أن تكون مصدر إلهامهم ومحط أنظارهم ومثار حنينهم،كما كان حال الإمام الشافعي،الذي وُلد فيها وقضى في ربوعها ردحاً من الزمن،حتى إذا غادرها متنقلاً بين الأمصار،واستبد به الشوق إلى مرابعها،قال فيها:
وإني لمشتاقٌ إلى أرض غزةٍ وإن خانني بعد التفرّق كتماني
سقى الله أرضاً لو ظفرتُ بترْبها كحَلتُ به من شدة الشوق أجفاني
أما في الأزمنة الحالية،حيث بات الحديث عن جمال المدينة وألق بحرها وسواحلها نوعاً من الترف،فقد اختارت غزة أن تنتصر لنفسها ولهويتها القومية والإنسانية،وأن تدفع مرة أخرى الأعباء الباهظة لتقاطع الجغرافيا مع التاريخ على أرض مأهولة بالزلازل.
ولأنها اختارت بشكل طوعي أن تقبل ما شاءته لها أقدارها من أدوار،فقد أطلقت إثر سقوط فلسطين،أولى صيحات التمرد والعصيان،وقدمت في سبيل الحرية أغزر قرابين الدم،وأكثر التضحيات جسامة وسخاء.كما استطاع هذا الشريط الساحلي الضيق الذي تشغله المدينة والذي يعدّ أحد الأماكن الأكثر اكتظاظاً على الأرض،أن يلفت أنظار العالم بصمود أهله الأسطوري،ويصبح المجسد الأمثل لروح فلسطين العصية على الانكسار،وهو ما مكّنه في الوقت ذاته من أن يشحذ بالاستعارات والحدوس والصور الملحمية المعبرة مخيلات الشعراء، فكتب نزار قباني،وقد أذهلته صلابة أطفال غزة،ونضجهم المبكر على نار المواجهات الضارية مع العدو:
يا تلاميذ غزةٍ علّمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا
علّمونا بأن نكون رجالاً فلدينا الرجال صاروا عجيناً
علّمونا كيف الحجارة تغدو بين أيدي الأطفال ماساً ثميناً
كما استلهم سميح القاسم صمود غزة وتضحياتها السخية في الكثير من قصائده.وإذ بدا له بأن تاريخ المدينة الطويل يكاد يُكتب بالدم لا بالحبر،وقد تحول سلسلة من المجازر والفظاعات والمواجهات المتواصلة مع المحتلين،كتب يخاطبها في قصيدة له تحمل اسمها بالذات:
ما أنت؟ من؟ أمدينةٌ أم مذبحه؟
يتفقد الأغراب من حينٍ لحينْ
تفاح جرحكِ،هل سيثمر للغزاة الفاتحين؟
يتفقد الأغراب جرحكِ: «قد تموتْ في الفجر غزة،قد تموتْ»
وتعود في الفجر الحزينْ
صيحات حبكِ والحياة
أقوى وأعلى،يا صباح الخير،أختَ المعجزاتْ
ولم يكن محمود درويش أقل احتفاءً بصلابة المدينة وجسارة مقاوميها من صديقه القاسم،حتى ولو كان لكل منهما أسلوبه ولغته وطريقته المختلفة في التعبير.وإذ حدث أن ركنت غزة إلى فترة من الراحة،بعد أن أثخنتها المواجهات المتلاحقة مع الغزاة،سرتْ بين سكانها شائعات مفادها بأن قبور الشهداء قد بدأت بالتحرك.وهو ما قرأه صاحب «محاولة رقم 7»**بوصفه نوعاً من الشعور الجماعي بالذنب،وحثاً ملحاً على استئناف المواجهة،فكتب في قصيدته «الخروج من البحر المتوسط»:
أتيتُ أتيتُ،سيروا في شوارع ساعدي تصِلوا/وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلّبُ/كنت أهرب من أزقتها/وأكتب باسمها موتي على جميزةٍ.إن الوضوح جريمةُ/وغموض موتاكم هو الحق الحقيقةُ/آه لا تتحرك الأحجار إلا حين لا يتحرك الأحياءُ/فالتفّوا على أسطورتي.."
ورغم كثرة الشعراء الذين واكبوا بقصائدهم ونصوصهم سيرة المدينة المتوسطية،التي لا تزال تتعرض لحصار خانق منذ عقد ونصف العقد من الزمن وتقاتل اليوم بجسارة بالنيابة عنا جميعا عدوا شرسا،لئيما ويستحم"منتشيا" في بحر من الدماء،فقد اتسمت قصائد الشاعر التونسي د-طاهر مشي عنها بنكهة خاصة،متأتية من وطنيته الخالصة وعروبته الصادقة،وانتصاره المطلق للقضايا العادلة.إذ أنه يؤمن أن على الكتابة أن تدفع الحياة المتعثرة قليلاً إلى الأمام،فقد بدا الشعر بالنسبة له أداة من أدوات المواجهة مع الظلم الكافر والموت السافر،وإعلاء للكرامة الإنسانية التي يستبيحها الطغاة والمستعمرون والغزاة على حد سواء.
في هذا السياق يقول :
لأنّهم يُدافِعون عن أرضِهِم عن أقصانا يُبادون!/لا شيَء يُذكِّرُني بالنّخوة /فقد أريقتْ دماء فلسطين/ومعها كرامةُ العَربِ والمسلمين/أجسادٌ تناثرتْ /بطونُ حواملِ انفجَرتْ/وأجِنّةٌ منها أنطلقَتْ/تصرُخُ في وُجوهِ العرب والمسلمين/قبلَ وُجوهِ أحرارِ العالم :/"دماءُ غزّةَ تنهمرْ ولا أحدَ يكترثْ!/ ولا أحدَ يُنقِذُنا "؟ !
أما أنا فأقول :
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ هذه المجازر المتنقلة وهذه الإغتيالات الوحشية وكل هذا الدمار المرعب الذي-يلسع بشراهة-الفلسطينيين بقطاع غزة،أعاد إلى الأذهان المذابح الوحشية التي ارتكبها السفاح-غير المأسوف على رحيله-شارون في صبرا وشاتيلا حيث تطارده-في موته-أشباح جريمته ضد الإنسانية،ومن بقوا أحياء من المخيمين يطالبون بإدانته-وهو تحت التراب-أمام القضاء البلجيكي،وبالتالي إدانة إسرائيل وأعمالها الإرهابية التي التصقت بها إلى الأبد كما أراد وخطّط لها -محترفو القتل بتل أبيب-إلا أنّ كرة الثلج بدأت تتدحرج وأنّ مسألة حسم المعركة لصالح-الضحية-باتت مسألة وقت،وأنّ المراهنة الفلسطينية على هذا الإنجاز غدت عاملا إستراتيجيا قادرا بفعل الإرادة على إنجاز عزل سياسة بحر الموت التي -بشّر بها سيء الذكر-شارون الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني وتحقيق السلام المنشود والإستقلال المشرق على أنقاض سياسة الخراب.
رسالة -غزة-بالأمس..واليوم-مؤلمة في جوهرها،مقنعة بشجاعة شبابها وطلائعها وقدرة شعبها على الصمود والتحدي.لكن الأمور ليست للأسف بهذه البساطة والوضوح لدى الجميع.ذلك أنّ السياق العربي-ماضيا وحاضرا-ينتصب مثل حاجبة الوميض ليمتصّ اللّهب ويعزل شرارات الصمود عن مجالاتها الطبيعية.ولا يقتصر الأمر على ظلم ذوي القربى،بل هناك أيضا عماء الألوان الذي أصاب أمريكا وأوروبا بما فيها فرنسا،بلد الثورة المناصرة لحقوق الإنسان !.
وإذن؟
إذن لست خجلا من الإعتراف بأنّ-غزة-هذه المرّة،قد وضعتنا جميعا أمام المرآة وأربكت بصمودها العدوّ بعد أن تراءى له بأنّ المصالحة التاريخية التي نسعى إليها،ليست سوى شعار نرفعه ليحتفل هو بقيدنا،ولنباركه نحن على تناغمه معنا-بنعيق المدافع ونباح الرشاشات- ولنشكره على ميزات فصله العنصري لنا..
وإلى أن يتحقق النصر المبين لهذه-المدينة الأسطورية-التي ظلت صامدة في وجه الغزاة،نتطلّع -جميعا-إلى قوافل الشهداء تسير خببا في اتجاه المدافن..إلى شعب يحاصره الليل بعد أن غدر به الزمان،وإلى أبطال المقاومة الفلسطينية،وهم في مواجهة الطائرات والدروع،يدافعون بالأصالة عن نفسهم،وبالنيابة عن الأمة العربية كلّها..ونسأل:إلى متى؟
..ويظلّ السؤال عاريا،حافيا ينخر شفيف الرّوح.
هل بقي ما أضيف؟
ربما لن أضيف جديدا إذا قلت أنّ أثناء الثورة العربية في فلسطين بين عامي 1936و1939 اعترف-غاندي-نفسه بأن الفلسطينيين “تبعا للقواعد المقررة حول الخير والشر،يملكون الحق في استعمال القوّة العنيفة لمقاومة الإحتلال الأجنبي”،كما أنّ قرارات الأمم المتحدة تكرّس هذا المبدأ نفسه.
فهل بإمكان النضال السلمي الفلسطيني المتجسّد بقانون اللاعنف أن يحقّق أهدافه مع عدو غاشم لئيم،شرس وإلغائي يتميّز بالطبيعة الإنكارية لحقوق الضحايا..؟!
بإمكانك أيها القارئ الكريم أن تصوغ الجواب المناسب.


*ياقوت الحموي..شِهَابْ اَلدِّينْ أَبُو عَبْدِ اَللَّهْ يَاقُوتِ بْنْ عَبْدِ اَللَّهْ اَلْحَمَوِيِّ الرومي البغدادي (574هـ/1178م - 626هـ/ 1229م)،أديب وشاعر ولغوي ومؤلف موسوعات وخطّاط ورحالة جغرافي..
**محاولة رقم 7،مجموعة شعرية من مؤلفات الشاعر العربي الفلسطيني الراحل محمود درويش،صدرت في عام 1973،عن دار الآداب في بيروت،لبنان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا