الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات ذاكرة مثقوبة

بسمة الخطيب

2006 / 11 / 18
الادب والفن


مطار رفيق الحريري الدولي – قاعة الواصلين...
هبوط الطائرة القادمة من الدوحة. عبق رائحة تراب الوطن يختلط بأنفلونزا الطيور وزكام البشر وعطور السيدات المتبرجات لإستقبال القادمين، أو من دون مناسبة. سائقو التاكسي يهرولون نحو الواصلين. يقتنصون أصحاب الجلاليب البيضاء. مضيت بحقائبي الثقيلة مشغولة بتحديد أيام غيابي التي ولّت: "أربعة أشهر، أربعة أشهر" ليست بزمن طويل...
لكن الفجوات التي راحت تتفتّح في ذاكرتي أثبتت لي أنها كانت أكثر بكثير من أربعة أشهر. راحت تتسع شيئاً فشيئاً كاشفةً الهوّة التي انحفرت داخل نفسي... عندما طلبت من سائق السرفيس أن يقلّني من شارع ليون الى فرن "البوشرية" وأنا أشير بيدي إلى قرب مقصدي موضحة للسائق: "لهون، لقدّام شوي"، وهو يرفع حاجبيه استهجاناً، ثم يفهم من حركتي أني أعني فرن "الكبوشية" لا البوشرية الذي "بآخر الدنيا" كما قال. هل لأربعة أشهر أن تنسينا أسماء طالما ردّدناها وأماكن طالما قصدناها؟... وعندما نقدت عامل محطة البنزين 15 ألف ليرة ليملأ خزان الوقود في السيارة فلم يتحرك مؤشّر الوقود في التابلو سوى خطوة خجولة! عندما أخذت طريق الكوكودي بدل الأوزاعي وأنا أغادر العاصمة نحو الجنوب مساء الجمعة ناسية الازدحام الخانق الذي يسببه تقاطع الزمان(مساء الجمعة) مع المكان(أوتوستراد الكوكودي). وعندما باشرت الطباعة على الكمبيوتر مساء غافلةً عن موعد انقطاع التيار الكهربائي المقدّس تمام السادسة وحازوقة الجهاز المنذرة بضرورة اقفاله.

الصوّانة – الخزان...
تغييرات قليلة أجرتها حماتي في بيتي. هي التي اعتنت به أثناء غيابي كانت تخشى على لمساتي بينما تمسح الغبار، وتخشى أن تفرّ أنفاسي بينما تعرّض البيت للتهوئة اليومية. لكنني وجدته غريباً حاقداً على غيابي، حتى مراياه أبت أن تتعرّف إليّ، ومعظم ما فيه أنكرني.
منزل أهلي صار قلعة حصينة، بطبقات أربع، وزّعها أبي وأمي على أخوتي الذين تبقّوا لهما انتقاماً من السفر الذي فرفط عائلتهما المتراصّة الحبات كعنقود غالٍ.

نزلة السارولا- شارع منيمنة...
أفراد من الجيش يشاركون موظفي "جريدة السفير" في الحراسة. شبّان سمحون لن يستيقظ لرؤيتهم ضمير أي ارهابي يمتطي دراجة نارية. ظروف الحياة القاسية قطعت حبل أحلامهم فلم يصبح هذا طبيباً وذاك رساماً وذاك مخرجاً مسرحياً...
شجرة الزهور التي زرعتها عند باب "جريدتي" كما أسميها- من دون أن يكون لي حقّ نسبتها الى نفسي متعدّية على الحقّ في مرّة فريدة وربما وحيدة- الشجرة اذاً تعيش أسوأ أيامها، نهاية الخريف، وتتبرأ هي أيضاً مني فلا تدلني اليها ولو بإشارة، لكن "بو براهيم" يؤكد أنها هي نفسها وأن ليس عليّ أن أحزن فجميع النباتات تفقد أوراقها في الخريف لتجدّد شبابها في الربيع، وأنا التي تعرف هذا الأمر جيداً ودرّسته لصغار الروضة طوال سنوات لم أصدّق أن هذا يحدث فعلاً لشجرتي التي تركتها والزهور البيضاء والحمراء تشعّ فوق أغصانها كشجرة الميلاد.
"هل أنت متأكد من أنها ستزهر مجدداً؟ هل ستحرص على أن يحدث هذا؟؟".
عند مدخل الجريدة أتفقّد الجيران. الخيّاطان صارا خيّاطاً واحداً. فضّا الشراكة. قال الباقي منهما: "روح لوحدك بترجع راضي". معه حقّ لكن ليت جميع الشراكات هكذا!
التاجر الذي تعوّدت التعامل معه شطح في الأسعار، فأنا العائدة من الخليج في اجازة قصيرةٍ لن أفعل خلالها سوى التبذير، لن أسأل عن عشرة آلاف زيادة أو عشرين أخرى، حتى أنه حاول اقناعي أن مسحوقاً ما تضاعف سعره في أربعة شهور:" كل شي غلا بغيابك!! "...
ألم تكن أربع سنوات حقاً؟ ربما!

بناية "السفير"- الطابق الثالث...
غادرت راء إلى أوروبا، فرّت بطريقة ذكية. كانت مرهقة ويائسة حتى من التغيير والعمل في الخليج، لكنها فعلتها أخيراً وذهبت الى عاصمة أوروبية لتشهد مطاردةً ما في محطة المترو الذي يقلّها إلى الجامعة حيث تتابع دراساتها العليا. غير هذا لا تغييرات تذكر سوى مضي كل واحد من أصدقائي فيما كان فيه... وحده حلمي لديه شيء جديد، سيغادر إلى غزّة ولن يكون سهلاً أن يدخل أي منا غرفته في غيابه، ولا حتى أن يشرب شاياً بالياسمين واسبرسو وكركديه لا تتوفّر في الجريدة كلها الا في غرفة مكتبه! أشياء كثيرة بمثل قيمة الياسمين ستذبل مع رحيله. نخفّف عن أنفسنا بأنها ستزهر في مكان يحتاجها بقوّة الحياة نفسها.

بيروت – بيروت...
تفوح في شوارع بيروت رائحة وحوش كاسرة وأنفاس طرائد هلعة. الجميع في وضعية الاستعداد. متجمدون لكن راداراتهم في قمة الرهافة والنشاط. وحدهم العجائز يتحرّكون! يملأون المتاجر والأرصفة ومقاعد سيارات الأجرة. ما الذي يخرجهم في هذا الجوّ البارد؟ وتحت كلّ هذه الأمطار؟ أم أنه لم يبق غيرهم هنا؟ هل هي الوحدة تلفظهم إلى أنس زحام الشوارع؟ ألا يحاولون إثبات أنهم ما زالوا أحياء ولن يرضوا بحرب جديدة يبكون فيها على ضحايا جدد؟؟
تدخل سبعينية إلى صالون تزيين الشعر، تجلس بصبر لنصف ساعة طويلة منقوعة الشعر بالصبغة التي تحرق فروة الرأس، تتصفّح المجلات اللامعة الصفحات، تتوقّف عند أخبار أليسا وهيفا ووائل كفوري، بعد تفويح الشعر من الصبغة يمرّر الكوافير الفرشاة والسيشوار في شعرها الضئيل ويلفّه بطريقة سحرية تضاعف حجمه وتجعله ينتفخ فوق رأسها الصغير فيبديها أقل هرماً. يختفي ظهرها المقوّس تحت المظلّة البنفسجية المرقّطة بالأصفر والوردي وتغادر راضية! ما الذي يرضيها؟ كيف تقوى على الابتسام لزائرات الصالون اللواتي لا تعرفهن؟؟

الروشة- شرق البحر المتوسط...
أتلقى اتصالاً من ناهدة على مائدة الغداء مع صديقاتي الأربع، خلاصته أنها قدّمت وزوجها طلب هجرة إلى أوستراليا. تعقّب أميمة من خلف قالب الحلوى والشمعات الثلاث أنها تبحث عن عمل في عاصمة أوروبية، تقول إن الأجواء المذهبية في الشركة والشارع والبلد تكاد تخنقها وإنها تريد أن تتنفس! شركة نينا تستعبدها، فهي لا تمتلك وقتها أو راحتها أو حتى لحظة لإلتقاط أنفاسها وطبعاً لحظة مشابهة لتجلس معي أثناء اقامتي القصيرة. تستأذن لتعود إلى عملها. تفتقد نسرين يوم عيد ميلادها صديقنا السادس، أقول إني تركته بخير في قطر. تعقّب مهى: "عندما اجتمعنا لنودّعه أحسست أننا في رواية "عشرة عبيد صغار" كل يوم ينقص منا واحد، أنتِ ثم هو والدور على الباقين...". يؤلمني التشبيه! لأنه يؤلم صديقتي، فهي تعتبر سفرنا اختفاء غامضاً ومأساوياً! وقد يكون هكذا!
فيليه السمك لا يعجبني، منظر البحر المتوسط أشهى! تسألني البنات عن حالي في الغربة فأسألهن عن حالهن في غربتهن:" من منكن أفرحتني بخبر؟ خبر واحد مفرح؟! من شدّت على يدي كي أبقى هنا؟"...
وحدها "حنان" التي ينمو داخلها جنين، ولا أعرف إن كان يأتي في وقت مناسب، لكنني أتصور عينيه وهما تتفتحان في هذا العالم تلمعان كنقطتي ضوء في السماء القاتمة التي تلفّنا.

الحمرا – الست نسب...
في المتجر الكبير الذي كان سينما في ماضي "شارع الحمرا" الذهبي أجول بين البضائع الرخيصة التي باتت نقطة تحوّل في الشارع، ألمس عشرات الكنزات والقمصان ونعال الأحذية ... لكني لا أخرج سوى بقلادة "أنتيكا" على شكل بيت عنكبوت تتوسّطه أنثى عنكبوت ويتدلى منه الذكر الأصغر بعشرين مرة من الأنثى متجهاً إليها كي يلقى حتفه بمحض إرادته! مثلنا جميعاً.
ارتديت القلادة وذهبت إلى صديقتي الرسامة لتأخذ لي صوراً في حديقتها. بينما هي تلتقط لي الصور راحت تطلب مني أن أبتسم من دون تكلّف، أن أسترخي، ألا ارتبك... ثم قالت: "فكّري بحدا بتحبّيه"... يأخذني السؤال بعيداً، فأنسى الكاميرا وأشعر بدرنة خبيثة تظهر فجأة في جسمي.
أبحث عن صورة شخص أحبه بين الذكور والإناث، الكبار والصغار... لقد تهت كثيراً كي أصل الى هذه الحديقة وأجلس تحت شجرة "الفتنة" ذات الزهور البيضاء والمدقات الصفراء، تهت طويلاً كي أنبش أمام عدسة كاميرا ديجيتل ذاكرتي بحثاً عن شخص أحبّه تجعلني ذكراه أجمل. أين تاهت الوجوه؟ أي فجوات ابتلعتها؟

مطار الدوحة الدولي – قاعة الواصلين.
جيش من الآسيويين بأزيائهم الزاهية غير المتناسقة، بأحلامهم المنهكة، "بمناديل" صغيرة يخفونها تحت ملابسهم ويودعون فيها "تحويشة" سنوات العمل في لبنان، ينشطر إلى قسمين فيتوجه الأول نحو قاعة "الترانزيت" ويزحف الثاني نحو هواء الدوحة الطلق بحثاً عن عمل. زحمة خانقة بسبب الأعداد الهائلة التي تفد إلى العاصمة يومياً، بل كل ساعة! الجميع يتساءل متى سينتهي هذا الصفّ الطويل ويأتي دوري كي أختم جواز سفري؟ متى سأستلم عملي الجديد؟ متى سأتقاضى أول أجر؟ متى سأرسل لأمي كي تخطب لي حبيبتي؟ متى سأعود إلى بلدي؟ أما أنا فالسؤال الوحيد الذي عدت به من تلك الرحلة هو الذي وجدت له إجابات كثيرة فيما بعد لكني وقت احتجت إليها لم أجد واحدة منها، وحين حمّضت صوري وطبعتها اكتشفت أنني وجه من دون ألوان. لا يشبهني هناك في بيروت سوى مخلّفات الحملات الانتخابية من صور تشوّه المدينة وتشوّش إيقاع الحياة فيها، صور مصلوبة زهقت روحها، صور من دون ذاكرة، رغم أن أصحابها كانوا يفكّرون بشيء يحبّونه بجنون، "المقعد المذهبي".
أعرف أن بيروت ستتعافى، وها هي تتحضّر لسلسلة نشاطات وتظاهرات ثقافية تنطلق دفعة واحدة كي تروي أرضاً عطشى ومتمرّدة. وأعرف أكثر أن كلّ ما أريده ثمناً لغربتي هو دفعة أولى لشقّة أو "علبة باطون" في بيروت علّني أعلّق صورتي (أبدو فيها مشرقةً حباً وحياةً) فوق أحد جدرانها، ذات يوم سعيد، أؤمن أنه سيأتي، وسأنتظره مهما تأخّر، سأنتظر بحبّ أن أمضيه منقوعة الشعر عند الكوافير المجاور أتصفّح أخبار نجوم الفن وأخفي شعري الخفيف وظهري المقوّس تحت مظلّةٍ لدي الوقت الكافي، بل والفائض، كي أتكهّن بألوانها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا