الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللهُ يَكفرُ بنفسِه

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2023 / 11 / 7
الادب والفن


تُراودُني فِكرةٌ أَلقاها خيالي عليَّ ذاتَ ليلٍ ورحلَ دونَ أنْ يأخذَها معه، ولم يكنْ في وُسعي آنذاكَ طردُها من رأسي. وقدِ اعتدتُّ، في حضرةِ هذا الجِنسِ منَ الأفكار، أن أترُكَها تَعبثُ بي كما يحلو لها إلى الوقتِ الذي تَمَلُّ فيه من صَمتي وعدمِ اكتراثي فتُلقي بنفسِها مُنتحرةً في إحدى أوراقي البيضاء. لكنِّي في ذلكَ اللَّيل تحديدًا قرَّرتُ أنْ أستغلَّ ما بَقيَ لي من ظلامٍ وأُعلِّقَ العملَ بتلكَ العادةِ حتَّى الفجر، فاتَّخذتُ قرارًا غيرَ قابلٍ للطَّعن بحقِّ هذه الفِكرةِ قاضيًا بأنْ أُبادلَها العَبثَ بمثلِه. وليسَ في دُنيا الكِتابةِ أكثرُ عبثًا من كِتابةِ العَبثِ بكُلِّ ما تَعنيه كلمةُ «كِتابة» من استحضارٍ للذَّاكرةِ والخيال وإيقافٍ للزَّمنِ على حاجزٍ طيَّار في ديكتاتوريَّة الوقت العادلة!

أُدركُ أنَّ فترةَ الشَّباب غالبًا ما تكونُ مليئةً بالأقصويَّة التي لا تحترمُ الوسطَ الذي يختلفُ تمامًا عن الرَّماديَّة المَقيتة؛ الوَسطَ الذي يستحقُّ أن يُحترمَ بحقٍّ. لا غرابةَ في قِلَّةِ احترامِنا، نحنُ الشَّبابَ، لهذا الوسط! هذا هو معنى الشَّباب، أو المُراهقة على وجه التَّحديد. ثُمَّ إنَّ الوسطَ خبيثٌ في تعاطيه مَعنا، يُشبهُ حائكي السِّجَّاد تمامًا في طولِ أناتِه. صحيحٌ أنَّه ينتزعُ احترامَه انتزاعًا لكنَّه يفعلُ ذلكَ على مهلٍ؛ ينتزعُه بأنْ يترُكَنا لنبتعدَ عنه كما يحلو لنا، ولا شيءَ في نفسِه إلَّا عبارةٌ واحدة؛ «لن ترضى بي قبلَ أنْ تَغرقَ بدمِكَ وعرقِكَ. هو عُمرُكَ فاصرفْه كيفَ تَشاء، وأسرِفْ قدرَ ما تشاء. لو كانَ عُمرُكَ كُلُّه لكَ أيُّها الإنسان لكنَّ اللَّحظةَ الأخيرةَ منه ستكونُ لي؛ ستعودُ إليَّ بعدَ عُمرُكَ كُلِّه نادمًا على شيءٍ واحدٍ أسرفتَ في صرفِه؛ إنَّه عُمرُكَ كُلُّه، اذهبْ إلى أقصاكَ، ستجدُني هُناك!».

رغمَ أنِّي لستُ شابًّا بهذا المَعنى، أو بالأحرى لستُ مُراهقًا في بعضِ الأحيان وخاصَّةً بما يتعلَّقُ بأفكاري، إلَّا أنِّي في حضرةِ تلكَ الفِكرة قرَّرتُ بمحضِ إرادتي وبكامل قِوى قلمي أن أكونَ مُراهقًا؛ أن أكونَ عبثيًا إلى أقصى حد. لا إثمَ عليَّ إذا كُنتُ، في نهايةِ النَّصِّ، سأحكمُ على كُلِّ هذا العَبثِ بالإعدام رَميًا بالنِّسيان. ولأكونَ أكثرَ سيطرةً على هذا العَبثِ سأُمارسُه في ساحةِ الإعدام؛ أوراقي. سدَّدتُ قلمي وكتبتُ:

«شعرتُ أنِّي أرى الوجود من خارجِه؛ أراه من فوق. ثمَّةَ مخلوقٌ عاقلٌ يعيشُ خارجَ كوكبِ الأرض، ولستُ أعني الإنسانَ طبعًا لأنَّه الكائنُ اللَّاعقلانيُّ الوحيد في هذا العالَم. وإنَّما أعني مخلوقًا يَفهمُ أشياءَ مثلَ الحياةِ والموتِ وما يتعلَّقُ بهما مِن مُترادفاتٍ ودلالاتٍ وموجِبات. وفي إحدى تنقُّلاتِه بينَ المجرَّاتِ مرَّ هذا المخلوقُ صُدفةً بمجرِّتِنا، درب التَّبَّانة. ومِن بينِ حوالي مئةِ مليارِ نجمٍ، ألقاهُ طريقُه أمامَ شَمسِنا. ومِن بينِ ثمانيةِ كواكبَ قرَّرَ أن يأخُذَ استراحةً قصيرةً قُربَ الكوكبِ الأزرق الوحيد؛ الأرض. إختارَ قمرَنا طبعًا لأنَّه الاستراحةُ الأقربُ إلى كوكبنا وجلسَ يشربُ كأسًا منَ الهيدروجين المُشتعِل المُستورَد منَ الشَّمسِ. وبينما هو يستمتعُ بكأسِه الدَّافئةَ ورائحةِ الشِّواءِ التي تتصاعدُ من أعماقِه المُلتهبة، سمعَ صوتًا غريبًا لم يألفْه طيلةَ تنقُّلاتِه في هذا الكَون. كانَ الصَّوتُ مزيجًا منَ الأنينِ والصُّراخ ودَوِيِّ قنابلَ وزمجراتِ طائرةٍ حربيَّةٍ وأشياءَ من هذا القَبيل الذي نألفُه نحنُ أهلَ الأرض. وبعدَ محاولاتِه ليُسكتَ صوتَ هذا الصَّوتِ في رأسِه لم يُحقِّقْ إلَّا الفَشل. ومعَ استمرارِ هذا الصَّوتِ الرَّهيبِ الذي يبعثُ على الموتِ خوفًا وقهرًا، لم يَستطعْ هذا الغريبُ ألَّا يَصرُخ.

لم يُفكِّرْ كثيرًا في ضَرورةِ الصُّراخ. مسكينٌ! لم يَسبقْ له أن حُوكِمَ بتُهمةِ الشُّعور بالألم، فكيفَ له أن يُدركَ أنَّ صُراخَ المُعذَّبينَ خيانةٌ عُظمى؟ عقلُه لن ينفعَه ههُنا. كيفَ لعقلِه أن يُدركَ ما يتعارضُ معه دونَ نموذجٍ سبقَ أنْ رآه؟ مسكينٌ مرَّةً أُخرى! لم يَسبقْ له أن عاشَ في دولةٍ عربيَّةٍ تُساعدُه على استيعابِ هكذا نموذجٍ بالتَّجربةِ الحِسِّيَّة. لكنَّه، رغمَ ضرورةِ الصُّراخ، لم يَصرُخْ! خافَ أن يطغى صُراخُه على الصَّوتِ الآتي من الأرضِ فينسى أن يسألَ عنه. مسكينٌ مرَّةً أخيرة! لم يَحكمْه إنسانٌ من قبلُ، فكيفَ يُصدِّقُ أنَّه لا صوتَ يعلو صمتَ شعبٍ تُكتَمُ آلامُه بكاتمِ الصَّوتِ والحياة. على أيِّ حال، قرَّرَ أن يسألَ أحدَ العاملين في تلك الاستراحة.

كانَ مُطرِقًا يُقلِّبُ صِيغَ الأسئلةِ في رأسِه لعلَّه يلقى بينَها صيغةً تُناسبَ حجمَ الآلامِ في ذاكَ الصَّوت. وقبلَ أنْ يَجدَ ضالَّتَه اقتربَ منه أحدُ القائمين على خِدمةِ الزَّبائن وربَّتَ على كتفِه هامسًا في أُذُنِه بنبرةٍ واثقةٍ كما لو أنَّ صاحبَنا قد وجدَ السُّؤال وسألَه أهلَه: «إذهب إلى ذلكَ الشَّيخ وسيُجيبُك. لستَ أوَّلَ غريبٍ يمرُّ بنا ويُراودُه ما راودَك». قالَها واختفى دون أن يتركَ أيَّ فُرصةٍ لسؤالٍ آخر.

قامَ هذا المخلوقُ مذهولًا يمشي باتِّجاهِ ذلكَ الشَّيخ كأنَّه يُساقُ دونَ إرادةٍ منه. وما إنْ وصلَ إلى ذلكَ الشَّيخِ حتَّى رآهُ جالسًا وقد انحنى بظهرهِ قليلًا إلى الأمام ووضعَ كفَّه على ذقنِه يتأمَّلُ الأرضَ بعَيْنَيْنِ سارحتَيْن في اللَّانهاية وحاجبَيْن يتبدَّلانِ بين الاستبشار تارةً والأسى تارةً أُخرى والدَّهشةِ دائمًا. لم يمهلْه الشَّيخ حتَّى يُصدرَ أيَّ صوتٍ يُشيرُ إلى مجيئه، وإنَّما طلبَ منه الجلوس إلى جانبِه والمحافظةَ على هدوءٍ تامٍّ. جلسَ بينما شرعَ الشَّيخُ يتحدَّث:

- منذُ ثلاثمئةِ ألفِ سنةٍ وأنا أتأمَّلُ الإنسانَ على هذه الأرض.

- ثلاثمئةِ ألفِ سنةٍ وأنتَ كما أنت؟

- وهو كما هو. هذه هي الأرضُ التي يَسكنُها أبناءُ القاتل.

- أبينَكَ وبينَ الإنسانِ سُوء؟

- مشاكل قديمة. دعكَ مِنها.

- ما الذي يجري على الأرض؟

- ثمَّةَ كثيرٌ من الإنسانِ يُقتلون.

- مَن يقتلُهم؟

- قليلٌ من الإنسان نفسِه.

- لماذا؟

استدارَ الشَّيخُ بوجهِه نحو المَخلوق العاقل وابتسمَ ابتسامةَ أسًى ثمَّ رفعَ كتفَيْه وحاجبَيْه بما معناه؛ لستُ أدري! ثمَّ عادَ يتأمَّلُ الأرض وهو يسألُ المخلوق:

- ما الذي تُفكِّرُ فيه الآن؟

- سؤالٌ واحد.

- ما هو؟

- ما الذي كان يعلمُه ولا يَعلمونَه؟

- أكُنتَ هُناك؟

- نعم. طلبتُ تسريحي من الخدمة وصرتُ أتجوَّلُ في الوجودِ. لم أكن أدري أنِّي سألتقي الإنسان مرَّةً أُخرى.

- ألم تسجُد؟

- لا

- لماذا؟

- لم أكن ممَّن سألَ؛ «أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدِّماء؟».

- ما اسمُكَ؟

- ناديني عبد الله.

- أتؤمنُ بالله يا عبدَ الله؟

- نعم.

- أتعبدُه؟

- نعم.

- أتُحبُّه؟

- جدًّا.

- رغمَ أنَّه لا يتدخَّلُ لإيقافِ هذا القتل؟

- بل لأنَّه لا يتدخَّل.

- رغمَ قُدرتِه على ذلك؟!

- أتدري؟

- قُلْ فأدرِ.

مدَّ عبد الله يدَه إلى جَيبِه وأخرجَ ورقةً يبدو من هيئتِها أنَّها قديمة جدًا قِدَمَ جلوسِ الشَّيخ على تلكَ الحال. قرَّبَ الورقةَ من الشَّيخ وقال:

- انظرْ.

- ما هذا؟

- صكُّ حُرِّيَّةٍ أخذَه آدم لأبنائه.

- حسنًا؟

- يُريديون من الله أن يكون خادمًا عندَهم. يقولونَ أنَّهم يعبدونَه لكنَّهم يُريدونَه أن يَعبُدَهم. ينتظرون الله ولا يدرون أنَّه ينتظرُهم.

- لماذا ينقمون على الله؟

- الإنسان لا يكفُّ عن التنصُّل من مسؤوليَّتِه، تارةً يُلقيها على غيرِه من النَّاس، وحينَ يكونُ الكُلُّ عاجزين يُلقونَها على الله.

- ماذا يُريدونَ منه؟

- يُريدونَ منه أن يكونوا أحرارًا، رغمَ أنَّه خلقَهم كذلك. وحينَ تعجزُ حُريَّتُهم عن انتشالِهم من الجحيم التي ألقوا بأنُفسهم فيها بكامل حُرَّيتهم ينقمون على الله لأنّه خلقهم أحرارًا ويغضبون لأنّه لا يتدخَّل. يظنَّون الوجود لُعبةً من ألعابهم!

- وأينَ رجال الدِّين من كُلِّ هذا؟

- هؤلاء الشِّياطين لا يُهمُّهم إلَّا مَنع الإنسان من الكُفرِ بالله. متى يُدركون أنَّ الله هو الذي كفرَ بالإنسان؟!

- وأنتَ لماذا لم تزل تعبدُ الله رغمَ كُلِّ هذا العبث؟

- ثمَّة قيامةٌ آتية. البدايةُ كانت على هذه الأرض، لكنَّ النِّهاية لا يُمكن أن تكون هنا أيضًا. ثمَّة حسابٌ عظيم.

- ألهذا لم تكفُر؟

- كلّا. أنا أعبدُ الله لأنّه الله، لو كفرَ كُلُّ الخلقِ به هو لا يَكفُرُ بنفسِه.

استدارَ الشَّيخُ نحو عبد الله ونظرَ إليه بعَيْنَيْنِ دامعتَيْن، ثمَّ قال:

- قبلَ قليل مرَّ أحدُ أفرادِ الملأ باكيًا. سألتُه عمَّا يُبكيه فقال لي أنَّ الله كفرَ بنفسِه بعدَ أن رأى كُلَّ هذا القَتل. تبًّا لهذا الإنسان. لقد أجبروا الله على الكُفر بنفسِه. أتدري ما معنى هذا؟

- هل نطقَها حقًّا؟

- ربَّما. سمعتُ أنَّه قد يتراجعُ عن ذلك إذا توقَّفَ القتلُ على هذه الأرض.

- ألا يوجدُ في الأرض من يوقفُ القتل؟

- بلى.

- أين هو؟

- مشغول.

- أيُّ شيءٍ يشغله عن إيقافِ القتل؟!

- القتل.

- والآن؟

- هذه الأرضُ ستقتلُ الله يا عبد الله. حتَّى إبليس مرَّ من هنا قبل أن تأتي. أتدري ما الذي قالَه لي؟

- ماذا قالَ ذاك اللَّعين؟

- قال: «أعترفُ أنِّي أغويتُ آدمَ وزوجه. لكنَّ أبناءَ آدمَ فعلوا مثلَ ذلكَ بأبنائي. أبنائي يبكون كُلَّ يومٍ من كُلِّ هذا القتل، كيفَ سأُقنعُ أبنائي أنَّهم شياطين؟». أيُرضيكَ هذا يا عبد الله؟

وقفَ عبد الله غاضبًا. تراجعَ بضعَ آلافٍ من السِّنين الضَّوئيَّة وأقبلَ راكضًا باتِّجاه الأرض التي ما إن وصلَها حتَّى ركلَها بقدمِه ركلةً أخرجتها من حدود الكون المنظور، ثُمَّ عادَ إلى الشَّيخ وقالَ له:

- أتظنُّ أنَّ الله سيكفرُ بنفسِه بعد الآن؟

- لن يفعلَ، لكنَّكَ فعلت.

- ماذا؟

- قتلتَ أهلَ الأرض.

- لكنِّي أوقفتُ القَتل!

- أحسنتَ صُنعًا. والآن أتدري من أنا؟

- من؟

ضحكَ الشَّيخُ وقال بصوتِ المُنتصر: أنا الذي لم أكن لأسجدَ لبشرٍ مثلَ ذاكَ الذي كان في تلكَ الأرض. قالَها ثُمَّ طارَ باتِّجاه الشَّمس ودخل فيها. أمَّا عبد الله فتراجعَ بضعَ آلافٍ من السِّنين الضَّوئيَّة وركض باتِّجاه الشَّمس».

حسنًا، سأتوقَّفُ الآن عن العبث هذا، لأنِّي لو أكملتُ فحتمًا سيركلُ عبدُ الله الشَّمس بقدمِه وقد تصلُ مِن شِدَّةِ غضبِه إلى مكانٍ لا يُحبَّذُ أن تصلَ إليه، لا لشيءٍ ولكنَّ حتَّى لا يموتَ الإله فيختلطَ دمُ القاتل بدمِ القتيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح