الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يد القدر الثقيلة .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2023 / 11 / 8
الادب والفن


تشعر بغصة ، وهي تتأمل في المرآة بنظرات ساهمة شاردة .. تمد يداً مترددة .. تتلمس بأناملها المرتجفة قسمات وجهها الغليظة الجافة .. تمررها على خدين شاحبين ، وشفتين قاحلتين لم تعرفا متعة التلامس قط ، وجبين واسع متغضن ، وشعر استحال لونه رمادياً كالتراب .. !
تتمتم بصوت متهدج كأنها ترثي نفسها :
— يا لبؤسك صفية ، ويا لخسارتك .. !
تلفحها هبّة من شعور كالأسف على عمر ضاع وتبدد هباءً .. تتنهد ، ثم تسوّي ثوبها ، وتخطو بجسدها الثقيل نحو المطبخ ، وهي تزفر أنفاساً ثقيلة .. ثقل السنين العجاف التي تحملها على أكتافها المتهدلة .. !
وبعد ساعة .. يتململ البيت الخاوي الموحش ويتمطى ، ثم تبدأ الحياة تدب فيه تدريجياً .. يتناهى اليها صخب هاني وهيثم عند الباب ، وهما يشتبكان في مزاح صبياني نزق .. يتضاحكان ويتدافعان على من يدخل أولاً .. وجوه نظرة حلوة تنضح بالبهجة والعذوبة وشقاوة الصبا .. تبادرهما بوجه سمح يحمل رغماً عنه سمة الصرامة المفتعلة ، وبكلمات حب مغلفة برنين جاد :
— هيا .. عجلا الى الحمام .. اغتسلا ، فالغداء جاهز ، أم تريدان أن ننتظر هالة حتى تعود من الكلية .. ؟
يصرخ هيثم محتجاً :
— أنا لا أنتظر أحداً .. أكاد أموت من الجوع ..
يقول هاني كأنه تذكر :
— بالمناسبة عمتي .. اتصلت بي هالة ، وقالت بأنها ستتاخر ساعة .. لديها محاضرة إضافية .
— ولِم اتصلت بك ، ولم تتصل بي .. ؟
— قالت بأنها إتصلت بكِ ، والتلفون يرن دون رد .
ترد ساهمة :
— حقاً .. ؟! ربما كنت مشغولة في المطبخ .
وبعد الغداء .. تمضي أكثر من ساعة ولم تأتِ هالة .. يتصاعد قلق العمة وغضبها .. يجلسون في جو ملغم بالصمت والتوتر والقلق .. يرن جرس الباب .. تهرع العمة متلهفة ، وهي تهمهم مع نفسها : أوف أوف .. ويلك اليوم مني ، يا هالة ، يا بنت صبري .. ! وبمجرد أن تفتح الباب ، تتفاجأ بأخيها أبو هالة أمامها .. تتنحى لتفسح له مجالاً للدخول .. ينسل الى الداخل بوجه عابس .. يُلقي التحية ببرود ، ثم يرفع وتيرة صوته ، ويسأل في ريبة .. متجنباً النظر في عينيها :
— أين هالة .. ؟
تتفاجأ بسؤاله .. ترد بصوت خافت :
— أين عساها تكون .. ؟ في الكلية طبعاً .
— متأكدة ، خاتون مما تقولين .. ما رأيكِ أني لمحتها قبل قليل ، وأنا في سيارتي تتسكع مع شاب في شارع الوطني .. ؟
تشعر بالمهانة من طريقته الساخرة في الحديث معها أمام الأولاد .. كأنها وجدتها فرصة لا تفوَّت لتُفرِغ ما في قلبها من أوجاع تراكمت تراكم السنين الطوال التي سُرقت من عمرها .. تتقدم خطوة حتى تقف في مواجهته .. تهتف بصوت حازم محدد ومتدفق :
— ما هذه اللهجة الباردة التي تحدثني بها ، يا ولد .. ؟ تأدب .. أهذا جزائي اني ربيتك حتى أصبحت رجلاً طول في عرض ؟ ويا ليتك تركتني أشوف حياتي بل رميت أولادك في أحضاني ، وانسليت هارباً بمجرد أن توفيت أمهم كأنك لم تصدق .. ثم تزوجت ، وممن .. ؟ ( بنغمة ساخرة .. ) .. من صديقتها المخلصة ، والآن تريد أن تلقي اللوم علي .. أنا التي ضيعت عمري كله عليكم .. أنت وأخوتك ، وأولادكم من بعدكم حتى آل حالي مربية عجوز طيبة سهلة تنتظر النهاية .. تأكد .. لولا حبي لهم لقلت لك خذهم الان وفوراً ، وأبعدوا عني ، لكني أعرف نفسي لا أستطيع أن أعيش بدونهم .. انهم من يشدني الى هذه الحياة .. ( يرن تلفونه المحمول .. تُكمل .. ) يبدو أن المدام استبطأتك ، والآن أخرج .. ( تصرخ في وجهه .. ) أخرج .. ! .. تدير له ظهرها .. ينصاع مطأطأً .. يستدير ويغادر الدار مثلما دخلها عابساً غاضباً .
ما أن خلت الى نفسها حتى ارتد بها الزمن الى الوراء حينما رحل والديها الى مستقرهما الأخير ، وكانت هي في مقتبل العمر .. أذهلها تخلي خطيبها عنها حينما وضعتهم الظروف أمام خيار وحيد .. أن يعيشا بعد الزواج في بيت أهلها لتتمكن من العناية بأشقائها الثلاثة الصغار .. لكنه صدمها برفضه ، ركعت أمامه بعينين دامعتين تتوسل بصوت مرتجف واهن أن يقدر موقفها ، لأن تخليها عن أشقائها معناه تركهم يتخبطون في تيه المجهول :
— أرجوك وليد أن تفهمني وتقدر ظروفي .
يقول متنهداً ، وبنبرة باترة :
— ليتني أستطيع .. كيف لي أن أتخلى أنا الآخر عن أمي وأختي ، وأترك بيتنا الواسع الكبير ، وأعيش في هذا الحيز الصغير الذي بالكاد يكفيكم أنتم الاربعة .. ؟
وغادر .. !
تلملم صفية بقايا دموعها ، وتفيق من الوهم الذي أغرقها فيه وليد ، وتعزم على اخراجه من ذاكرتها الى الأبد .. تبتعد المسافات ، وتتقاطع المصائر ، ويذهب كل الى حاله .. تمتد أيامها كئيبة كالحة متشابهة .. تنكفئ على نفسها ، وتنطوي على حلمها .. تتوسل النسيان .. سرعان ما تتخطى مرحلة الشباب ، وتقف عند عتبة الكهولة .. تنتظر .. !
تجلس العمة على جمر ملتهب .. توشك على الانفجار ، وسط صمت مهيب بانتظار مجيء هالة .. تهيء نفسها لتلقينها درسا قاسياً على عملتها السودة التي جعلت منها اضحوكة ، وزرعت بذور الخلاف بينها وبين شقيقها ..
يرن الجرس بالحاح كأن صاحبه يستعجل الدخول .. ينتفض الثلاثة وقوفاً .. يندفعون بلهفة تتقدمهم العمة .. يقف هيثم وهاني متجاورين ، وهما يتطلعان الى الباب .. تتقدم العمة على الفور من الباب وتفتحه .. تنساب هالة داخلة كالنسيم بجسدها الفارع النحيل .. يتقدمها وهجاً من سعادة تشع من بريق عينيها الواسعتين .. فَرِحة مَرِحة وكل شيء فيها يضحك .. تتقافز في دلع ، وتدور حول نفسها راقصة .. تعانق عمتها وتخطف قبلة سريعة من وجنتها .. تتسمر العمة في مكانها مبهوتة لا تدري ماذا تفعل .. تتأملها في حنان كأنها كانت تعرف عصف المشاعر هذا ، وخفة الروح هذه ، وياما خَبِرتهما .. ما أن رأتها بهذه الحالة من السعادة حتى تبدد كل ما كانت قد أعدته لها من صراخ وعتاب ومواعظ وتهديد .. وذاب .. هالة هي العضو الاثير لديها في الاسرة ، ونقطة ضعفها .. ترى فيها صورة مستنسخة منها .. من أيام صباها وشبابها .. تصدر العمة أخيراً حكمها :
— عقابك أن تتناولي غداءك بارداً وحدكِ ، وبعده سيكون لي حساب آخر معكِ .
تنتصب هالة في حالة استعداد ، وتأخذ تحية عسكرية لعمتها ، وتقول في خفة ونزق :
— نعم سيدي القائد الطيب .
— أنا لا أمزح ..
لم تكمل جملتها حتى تبخر الجميع من أمامها .. هالة الى المطبخ ، والصبيان الى غرفتهما .
تنفرد العمة بابنة أخيها بعد الغداء ، وقبل أن تبدأ بتعنيفها تبادرها هالة بنبرة متضرعة :
— عمتي .. أعرف انك زعلانة مني .. سامحيني لما سببته من فوضى .. إنه زميلي ( تُمسك يدَي عمتها في حنان ، وهي تواصل الحديث .. ) .. أحبه ، عمتي ، والله العظيم أحبه ، وهو يحبني .. إنه شاب طيب جداً من أسرة كريمة .. لا يفوَّت .
كأن العمة نسيت الأب وتهجمه عليها ، ونسيت كل ما أعدته من تعنيف شديد اللهجة لهالة ، وعادت بها الأيام سنين طويلة الى الوراء عندما تذكرت كيف استماتت يوماً في إقناع أمها بحبيبها وليد .. !
— هل نعرفهم .. ؟
— لا أدري ، عمتي ..
— ما اسمه .. ؟
— خالد ..
— الكامل .. ؟
— خالد وليد عبد الرزاق .. والده مهندس في مديرية الطرق ، و ..
تنفذ الكلمات ، ويسود السكون .. لم تعد العمة تسمع شيئاً ، ولم تعد ترى أحداً .. تنائت عن كل ما حولها .. تكتشف أن ترديد هذا الاسم من أعماق الماضي قد حرك المياه الراكدة ، ونكأ جرحها القديم بعد أن كاد أن يلتئم .. تتوالى أمامها شذرات من صور كانت شاردة من مخيلتها .. تسترد بها جزءً من شبابها ، وأوجاعه وعذاباته .. تفيق من شرودها .. يتلاحق وجيب قلبها ، وهي تهمس في صوت دافيء محبط :
— لو قُدر لي ، حبيبتي هالة أن أتزوج خطيبي وليد ، لكان خالد الآن ابني .. ( تطفر دمعة من عينيها .. )
لم تستطع هالة التغلب على دهشتها .. تحتضن عمتها في مشاعر صادقة ، وتحاول أن توصل لها مودتها ومواساتها .. تقول مستغربة :
— حقاً .. ؟ كيف ذلك ، عمتي .. ؟ اخبريني بالله عليكِ ، وبالتفصيل الممل .
تسرد لها الحكاية من أولها بمرارة ، وهي تختنق بعبراتها .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا