الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعرة التونسية السامقة أ-نعيمة المديوني..تضيء ذاكرة الوطن.. قراءة نقدية في قصيدة -أسيرة في الوطن-

محمد المحسن
كاتب

2023 / 11 / 9
الادب والفن


تقديم : لعبت تيمة الوطن دورًا في تشكيل الشعرية التونسية،وأحدثت بين الشّاعر والوطن تبادلًا وتكاملًا وتماهيًا،نشأت عنه معادلة هي نفسها العلاقة التي لا انفصام فيها بين الإنسان وروحه، عبّرت عن تلك الرّغبة الكامنة في عمق الإنسان الّذي يظلّ دائمًا مولعًا باكتشاف الوطن في ذاته ورؤية نفسه في تجليات الوطن من حوله،وهو شكل التماهي الوجودي الذي يعكس علاقة الإنسان بالوجود،ويصبح هذا التماهي مضاعفًا حين يجلّيه الشعر الذي هو وجود الشاعر، فيوقفنا الشعراء عند المثلث الذي لا انفصام لأحد أضلاعه عن الآخر والمتمثلة في الشاعر والشعر والوطن.

التجربة الشعرية للشاعرة التونسية الفذة أ-نعيمة المديوني..غنية وحافلة بالعطاء الإبداعي والتنوع الموضوعاتي،كتبت عن الوطن وعن الوَجد والحب بأبعاده الإنسانية والحياة والوجدان والقصيدة..
ولكن
قبل أن يخوض المرء في الحديث عن صورة الوطن في شعرأ-نعيمة المديوني..يجدر به أن يحدد تعريفاً لهذه المفردة التي لم تكن ذات حضور كبير في الشعر العالمي،والشعر العربي(1) كذلك.ويبدو أن بروزها أخذ يطفو على السطح،ضمن فهم جديد،في مرحلة نشوء الدول ذات الكيان السياسي المحدد جغرافياً.
«والوطن بالمعنى العام منزل الاقامة،والوطن الأصلي هو المكان الذي ولد به الانسان،أو نشأ فيه.والوطن بالمعنى الخاص هو البيئة الروحية التي تتجه اليها عواطف الانسان القومية.ويتميز الوطن عن الأمة (Nation) والدولة (Etat)بعامل وجداني خاص،وهو الارتباط بالأرض وتقديسها،لاشتمالها على قبور الأجداد»(2).
ونقرأ في المعجم الفلسفي المختص،تحت مفردة «الوطنية»،ما يلي :
«مبدأ يعبر عن حب المرء لوطنه وعن استعداده لخدمة مصالحه.انها انشداد المرء الطبيعي نحو مسقط رأسه،نحو اللغة الأم والتقاليد الوطنية،واهتمامه بمصير البلاد التي ترتبط حياته كلها بها».
ونقرأ أيضا :
« ولكن المشاعر الوطنية لا تأتي عن أسباب غيبية،من «صوت الدم» أو «العرق» كما يزعم المنظرون البرجوازيون.فهي تظهر تاريخاً،بتأثير ظروف حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية، ولذا فان مضمونها يتغير تبعاً لتغير تلك الظروف"
وتحضر تيمة الوطن في قصيدة "أسيرة في الوطن" للشاعرة التونسية السامقة أ-نعيمة المديوني..موضوع الدراسة،بشكل قوي ومهيمن،حيث تحتفي فيه الشاعرة بوطنها،تجعله في قلب الشعر والخيال والتفكير وفي قلب الأحداث,هو المحور المركزي وفي فضائه الأنا والجماعة روحا وجسدا.
وقفت بدار
الحبيب
أطرق بابه
أطلب ودّه
أنبش قلبه
أداعب صور
الذكريات
الزاهية
أذكّره بما مضى
من شدو ألحاننا
هذه الرّوابي شهادة
على قُبلاتنا
هذه الصخور
الصامدة
أخفت بين طيّاتها
لهيب عِناقنا
صدّني الحبيب
قال والدّمع
من المحاجر
مجامرا
أخذوا منّي
وطني
نهشوا
كبدي
حتى حبّي
سجنوه
وراء قضبان
الشحن
اغتالوا
طعم القبل
قالوا
يُسجن من
يهوى ويتذوّق
النّعم
تُبتر يدا
من يحتضن
الأحلام
وبها
يزرد رداء
يقيه سياط
الشّجن
ويتلو صلوات
الجوى
في محراب
الهوى
زرعوا أراضينا
ألغاما
فغدونا أسرى
في موطننا
إن هجرنا أسيجته
تلقّفتنا الحيتان
بالزّغاريد
والقبل
**
بترنا سبّاباتنا
رميْناها للكلاب
العاوية
أصيبت كلابنا
بالسّعير
جُنّت ونهشت
أجسامها
سالت دماؤها
امتزجت بدمائنا
وتسألينني اليوم
الهوى
ذاك لعمري
نجم رابض
في السّماء
من طاله رجمته
الشّهاب
فغدا
ذكرى لمن صدّق
الوعود الكاذبة
موطني غدا
لقمة للسّباع
الجائعة
راح يمشي
مترنّحا
كتلة أشجان
دامعة
آه يا حبيبي
أفديك
بالرّوح والولد
عسى يوما
ييْنع ياسمينك
تتمايل أغصانه
تجود الزيتونة
بخيراتها
فيرقص الفؤاد
طربا
تعود البسمة
الى الشّفاه
نكرع من
مواسم القبل
ما طاب وأثمل.
ينساب من القصيدة لحن عذب شجي يذكر بعودة الرومانسية الغنائية العربية،إذ تتدفق الأبيات رقة وغنائية وعذوبة،مستثمرة في ذلك القيم النغمية المنبعثة من التكرار النغمي من بعض الألفاظ كصوت النون الذي يتردد في غير دال من دوال الخطاب الشعري بما يكتنز بداخله من إيحاءات نغمية واسعة (ألحاننا،قبلاتنا،عناقنا،سبّاباتنا..)وهذه النغمة الغنائية سمة أصيلة من سمات الشعر العربي،وكأنه جاء استجابة لدعوة الشاعر العربي حسان بن ثابت:
تَغَنَّ في كل شعر أنت قائــله
إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ
وظفت الشاعرة في خطابها الشعري ألفاظاً مأنوسة تتسم بالبساطة والرشاقة والرقة،استغلت فيها القيم الصوتية التي ساهمت في بناء هذا النص الشعري،بوصفها بنية فنية مترعة بالإيحاءات والرؤى،التي تعكس حالة نفسية.فضلا عن أنها راحت تمتاح معانيها وتراكيبها من -الجو الصوفي الروحاني-بما يتصف به من توحد واندغام وذوبان.
لقد ازدادت رؤية الشاعرة شفافية وصفاء وإنسانية عندما عبرت عن تجارب وجدانية ذاتية يتدفق منها الصدق الصافي المفعم بحرارة التجربة وألقها،موشية إياها بلون من التعاطف الحميم مع الوطن.إذ يفيض حبها لحبيب غذا ذكرى،ولوطن ظل يسكنها،ويهجع خلف شغاف قلبها الجميل..
خلاصة القول:
حينما قرأت هذا النص توقفت عند عتباته المهمة من حيث التشكيل في الصورة والسينوغرافيا والالوان واللغة والمشاعر من جهة،والابداع والتألق والانطلاق في عالم كتابة الشعر..
لغة الشاعرة أ-نعيمة المديوني..تتميز بالدلالات المتغيرة (غير ثابته) لوصف الصورة التي تتشابك في ذهنها وخيالها،وتعصف لنا صورا شعرية متحركة..لأن الصورة الشعرية وبحجم الشاعرية التي تحملها تكون جوهراً للشعر،كما هي روح القصيدة التي تمتد من أول عتبة إلى أخر عتبة لتثبت للقارئ الصلة بين الواقع والتأثير المهم جداً،لذلك تأتي الصور قوية،كل مفردة لها خصوصية في حواس القارئ وشعوره،لأن فن الصورة مرتبط بمفهوم الفن لدى الشاعرة أ-نعيمة المديوني..
والناقد بطبيعة الحال يبحث عن الجمالي في الصورة وعن التجربة الفنية والحالة النفسية للشاعر..
وايضا يبحث الناقد في مستويات الشاعر المتميز من حيث كيفية تجددالصورة ونشأتها في فكره وخياله وعكسها للقاريء لأن الحواس وحدها غير كافية بتوصيل ما نصبو اليه،بالاضافة الى بحثه عن الانزياح اللغوي وتحديث اللغة عند الشاعر،وبين الذاتية والموضوعية نتوقف كثيرا،لأن حجم الشاعرية والانزياح اللغوي،وتشكيل الصورة الجديدة،وسعة الخيال والمخيلة وسائل نكتشف بها معايير مهمة لجمالية الصورة الشعرية عند اي شاعر،وهي بصراحة مفاتيح للناقد مهمة لتفكيك اي نص شعري،حتى نصل الى جوهر النص وجمالياته الفنية..
الشاعرة أ-نعيمة المديوني..لم تأتي إلى حقل الإبداع بالصدفة أبدا،إنما هي ثمار تجارب عديدة حاولت ان تمزقها لكنها كانت قوية من الداخل،حيث تمتلك الذائقة الشعرية لتبوح نتتكلم وتصرخ،لها الشغف الكبير والمعرفة في حب الوطن،لذلك جعلت اهتمامها في الشعر في قلب اهتماماتها،وجعله صوتها المنحدر من أي مكان يسكنها صوب الوطن..وليس صدى .
الصوت والكلمة والطاقة التي يمتلكها الشاعر ضمان كبير في تركيبة الصورة وانعكاسا لحياته، وبنفس الوقت انعكاس لمفهوم المكان-الوطن-لأن الزمان ماعاد يشكل شيئاً الآن..فالذاكرة تعتمد المكان أولا ًثم تخوض في الأزمنة لاحقاً لتثبت من قبل الأسماء كدلالات معروفة للقاصي والداني،ومن اهتم بشأن الادب والتاريخ .
وهذا التقابل الفني بين واقع الشعر المعيش،وبين ركام التاريخ يؤسس لوعي ولإحساس الشاعر في فكره ووجدانه بحب الوطن ومتابعة معاناة الناس..
نص شعري تتدفق منه مشاعر خليطة من قوتين أساسيتين هما الفكر الانساني الذي تحمله الشاعرة ونبضات قلب حساس رهيف شفاف،يشكلان قوة نابضة في دعائم النص،وهما في نفس الوقت الجسر الذي تعبر به الشاعرة-نعيمة-إلى الانسان القاريء وبالتالي تضيف تفاعلاً عضوياً في المجتمع،وبالمحصلة يتحول النص الى ثمرة جميلة فيها من التكامل الروحي والانساني..وتسكن في مخيلة القارئ ويتدفأ بها وباحضانها،كعاشقة،كحبيبة ،كمعشوقة، كمعشوق،فالنص يسري على المذكر والمؤنث بنفس التوجهات،لأن الجميع يعيش داخل الأسوار..أسوار حب الوطن..
وانا هنا بصراحة لا اتساهل في مسؤولية الكتابة النقدية من حيث المحاباة في الاصدقاء،كوني ولسبب بسيط لا أعرف الشاعرة-أ-نعيمة المديوني..-عن قرب أبدا..إنما أعرفها عن بعد لمتابعتي اعمالها الشعرية وما تكتب بالفن والأدب وهذا من تخصصي انا..
وقد استحوذ علي هذا النص لان أسجّل له ما يستحق من حق واستحقاق وكنشاط ابداعي له ولتجربتها الشعرية وفي قصائدها المتعددة وهي إبنة تونس-مهد الثورات العربية-إبنة الوطن العربي الممتد من البحر..إلى البحر..ابنة الشعر وابنة السرد والحكايا ومكامن الوعي الجمالي في العلاقة بين السحر في اللغة،والشعر وما بينهما من انتاج للوعي المتجدد في فضاء وروح أ-نعيمة المديوني..
وأخيراً،فإن ما زعمنا انه قراءة ليس إلا مفاتيح قراءات أخرى نأمل أن تدرس جوانب أغفلناها.
ولنا عودة إلى منجزاتها الإبداعية عبر مقاربات مستفيضة.



هوامش:
1-لم تتكرر كلمة وطن كثيراً في الشعر العربي.وفي لسان العرب المحيط للعلامة ابن منظور، وهو معجم لغوي علمي قدم له الشيخ عبد الله العلايلي وأعده وصنفه يوسف خياط ونديم مرعشلي. ورد التعريف التالي لمفردة وطن :
موطن: اقليم يتسم بخصائص طبيعية تلائم احياء معينة.
بيئة: مكان له ظروف خاصة يستوطنه بعض الأحياء مثل ساحل البحر والغابة والمستنقع.
الموطن الأصغر: هو الموطن البيئي الخاص الذي يعيش فيه كائن ما.
موطن الأصل : موطن الشخص عند ميلاده.
2-انظر : جميل صليبا،المعجم الفلسفي،بيروت 1982.ج2 ص 580 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس


.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد




.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد