الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين ينفقع بالون البروفيسور من الضجر 4

علي دريوسي

2023 / 11 / 10
الادب والفن


في المساء فتح البروفيسور هاتفه المحمول وكتب في صفحة ملاحظاته الخاصة "لو كان الضجر رجلاً لقتلته أو لعالجته نفسياً على الأقل".

في صباح اليوم التالي توجّه إلى موعده ـ الذي كان قد حدّده قبل أسابيع ـ في عيادة التحليل النفسي الخاصة بصديقةٍ لأحد معارفة في الجامعة. هناك اِلتقى بالطبيبة النفسانية "مارتينا"، بعد حوالي نصف الساعة من الحديث حول سبب قدومه شعر بوقع جاذبيته على مارتينا واِكتشف بأنها تعاني مثله من الضجر وعدم الرضا وإن كانت درجة معاناتها أقل مما هي الحال عنده. شعرا خلال محادثتهما القصيرة بانجذابهما لبعض وتناغم كيميائيتهما وهذا ما جعلها تغادر عيادتها بعد أن طلبت من مساعدتها الاعتذار عن المواعيد بحجة مرضها المفاجئ وذهبت معه لتناول الفطور في أحد الفنادق القريبة.

مارتينا لا تعاني من الضجر وحسب بل من أخيها الذي يكبرها بعامين. تحكي عن تصرفاته اليومية وكأنها تتنفس بعد اختناق. لم تستطع رغم دراستها وخبرتها العملية أن تفهم سلوكه اليومي. رجل بخيل ولم يشكّل أسرة وكان غالباً ملحاحاً في طلب المساعدات المالية منها. وطمعه بها غير مستغرب فهي متزوجة ولديها ولد وحيد، زوجها صاحب شركة تصنيع بنى نفسه بنفسه من نقطة الصفر، وتعيش مع أسرتها الصغيرة في قرية جميلة في بيت مثل القصر لكنه مع الأيام غدا قصراً من ضجر بسبب علاقتهما الباردة جسدياً ومساعيهما للربح المالي كل على حدة، فهي لوحدها تمتلك أكثر من شقة مؤجرة، ولديها علاقات اجتماعية طيبة مع ركاب الشريحة البرجوازية، عيبها الوحيد ـ رغم جاذبيتها ولا سيما جمال صوتها ـ هو أنها اقتصادية في كل شيء، فهي مثلاً لا تغير ما ترتديه إلا نادراً. لم يكن بخل أخيها وطمعه هو ما يقلقها بالدرجة الأولى، بل حياته الخاصة ضمن جدرانه الأربعة، إذ إن الرجل ليس مرتباً أبداً ولا يهتم بنظافة شقته، والأنكى من ذلك هو شغفه وإدمانه منذ عقود على تجميع الجرائد والمجلات بأنواعها، حتى بات بيته مستودع جرائد كما بات بيتها الكبير مستودع ضجر. في المساءات تجلس مارتينا حتى منتصف الليل منشغلة برسم لوحات عاطفية وتلوينها باستخدام ورق الأشغال الملون بعد تقطيعه إلى أجزاء ناعمة جداً وبرأس القلم تنقل المجتزءات الورقية وتلصقها بالصمغ في الأماكن المناسبة من الرسم.

وعندما طلبت مارتينا منه ان يحكي لها شيئاً عن حياته شرد ذهنُه لوهلة ثم وجد نفسه يحكي لها عن تجربته مع الزلزال لأول مرة:

في عام 2002 كنت ما أزال أعيش في مدينة آخن ـ أقصى الغرب على الحدود الهولندية ـ وأعمل في جامعتها التقنية بصفة باحث في مجال تصميم المواد اللاصقة. في الساعة الثامنة إلا ربع من صباح يوم الإثنين الواقع في 22 تموز (يوليو) من ذاك العام كنت أستحم قبل الذهاب إلى العمل حين ارتعدت وارتجّت واهتزت البناية التي أسكن فيها لثوانٍ طويلة. لم يخطر في ذهني ولا للحظة أن ثمة زلزال قد حدث بل اعتقدت أن ثمة طائرة قد ارتطمت بالمبنى، كنت أفتكر بأنني في ألمانيا أبعد ما يكون عن ما يُسمى كارثة طبيعية. بعد أن أفقت من الصدمة وارتديت ملابسي سمعت من الراديو وأنا أشرب قهوتي أن هزة أرضية قد ضربت المنطقة الحدودية بين ألمانيا وهولانده بقوة 4.9 درجة وفقاً لمقياس ريختر وأن ثمة شكوك بإمكانية حدوث زلزال قوي خلال ساعات النهار التالية. لم يعني لي الأمر شيئاً. ذهبت إلى عملي في الجامعة مثل الآلاف وكأن شيئاً لم يحدث ولن يحدث، ولم يتكلم يومها أحد عمّا حدث في الصباح. هل تستطيعين أن تشرحي لي سلوك الألمان الهادئ وطرق تفكيرهم في مثل هذه الحالات!؟

في طريق عودته إلى المنزل ضبط نفسه يشكر القدر على إصابته بمتلازمة الضجر " متلازمة بورأوت"، بربر لنفسه: "إنها أرحم من الإصابة بمتلازمة الاحتراق". هو يعلم أنه لا يمكن علاج حالته هذه لأنها ليست مرضاً محدداً، لكن ثمة استراتيجيات للتعامل مع هذه المشكلة، والمفتاح هو التعرف على الأنماط السلوكية الضارة في مكان العمل والتخلي عنها أو التحدث مع من بيده القرار من أجل الحصول على مجال عمل جديد فيه قدر أكبر من المسؤولية والإبداع والقيادة، وقد يكون تغيير الوظيفة هو الفرصة الوحيدة للهروب من دورة الملل.

وقبل أن ينعطف بسيارته آخذاً الطريق المؤدي إلى قصره لمح صديقة قديمة له تنتظر مجيء الباص للذهاب إلى عملها. ركن سيارته ونزل منه متجهاً إلى موقف الباص. بدت صديقته الأوكرانية "فيرونيكا" التي تعمل في محلات "إتش أند أم" حزينة ومقهورة وساهمة عمن حولها. بعد عناق وديّ سألها إن كانت على مشاكل مع زوجها الألماني الموظف في إحدى شركات التأمين والتمويل، فلطالما ـ وبحكم فارق العمر بينهما وغياب الأطفال وضعف لغة التواصل ـ كانا على خصام دائم رغم المنزل الريفي الجميل والحديقة الكبيرة. نظرت "فيرونيكا" إلى وجهه بحزن مضاعف وقالت: "لقد مات منذ شهرين بالسكتة القلبية". لم يستطع البروفيسور الضّجِر ضبط نفسه فضح عالياً وقال: "أليس هذا أفضل حل أهداك إياه القدر .. الآن أنت حرة ومالكة وجواز السفر الألماني في حقيبتك". ابتسمت "فيرونيكا" وأجابت بخجل ساحر "كلامك صحيح". قال بمحبة: "إذن دعِ الحزن جانباً وتعالي نشرب قهوة". كانت قد سافرت بعد غياب طويل إلى قريتها الأوكرائينية لتستريح قليلاً في حضن أمها وعلى كتف أخيها الوحيد ولتنفض عن كاهلها غبار وتعب السنوات الأربع الأخيرة في الغربة مع رجل لم تحبه لكنها تزوجته بأنانية لغرض الأوراق والمال والأمان وسماحية العمل. هناك في البيت اِكتشفت بأن أمها قد ماتت وشبعت موتاً وبأن أخيها مستلقياً في سرير مهمل برجلين قطعهما له قطار عابر. في المقهى بكت الفقيرة الأميرة "فيرونيكا" بحرقة. حين لمس وجنتيها ليمسح دموعها مواسياً كان وجهها متوهجاً ساخناً أنساه ضجره للحظات.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا