الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سقوط حلّ الدولتين، أو انتصار الدم على المدفعيّة

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2023 / 11 / 12
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


على حساب الغالبية السوداء، ولدت جنوب أفريقيا المعاصرة عام 1910، من اتحاد المستعمرين البريطانيين والهولنديين. بعد الحرب العالمية الثانية، ولد النظام العنصري عام 1948 (توأم الكيان الصهيوني)، وذلك بسيطرة "الحزب الوطني" على الحكم. وقد قامت سياسته على قوانين ميز عنصري كتصنيف السكان. والإسكان المنفصل. وقانون الأرض. ومثلما بنى الكيان الصهيوني الجدار العازل. خصص توأمه في جنوب افريقيا حافلات للسّود ومطاعم وشبابيك تذاكر وحتى شواطئ للبيض. ومنع الزواج المختلط بين البيض والسّود.. والاخطر من ذلك حُجزت 87% من الأراضي للبيض. وأُجلي نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون شخص قسرًا إلى محميات عرقية على هيئة المخيمات الفلسطينية. وكان على السود الاستظهار بتصريح من السلطات للتنقل من مدينة إلى أخرى... الخ

عام 1960 ارتكب النظام العنصري مذبحة شاربفيل، فانتبه له العالم بعد أن كان غافلا لعقود طويلة. تفطنت الإنسانية إلى الممارسات الوحشية لهذا النظام المتوحّش في جنوب إفريقيا، مما أدى إلى تصاعد الضغط لمقاطعته دوليًا. فاُستُبعِد من المشاركة في الألعاب الأولمبية. ثّم طُرِدَ من جميع هيئات الأمم المتحدة. ثمّ مُنِع عليه توريد الأسلحة. وفي ملعب ويمبلي بلندن عام 1990 أقام نجوم الموسيقى في العالم احتفالًا ضخما للتنديد بجرائم نظام الفصل العنصري وتضامنا مع السكان الأصليين.
ضاق الخناق على النظام، وفي فيفري 1990، أُجبر الرئيس فريدريك دو كليرك على إضفاء الشرعية على المعارضة السوداء. فأفرج عن نيلسون مانديلا الذي قضى 27 عاما في السجن. وفي 1991، أُلغي نظام الفصل العنصري وتفكّك رسميًا، ثم دُفِن إلى الأبد.

تميّز النظام الصهيوني منذ قيامه عام 1948 بنفس سلوك نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا، محافظًا على تراث الجريمة المنظمة التي قامت عليها الحركة الصهيونية منذ وعد بلفور.
ففي صيف 1920 أيام الاحتلال البريطاني لفلسطين، بعثت الحركة الصهيونية منظمة "الهاغانا" الإرهابية المسلّحة. وكانت مهمتها طرد الفلسطينيين من بيوتهم ومن أراضيهم، وتوطين المهاجرين اليهود مكانهم. كان ذلك على إثر "وعد بلفور البريطاني". حيث أعطى وزير الخارجية ورئيس الحكومة البريطاني الأسبق آرثر جيمس بلفور، وعدًا بإقامة دولة لليهود في وقت لم يصل فيه عدد اليهود 10% من سكان فلسطين. ولا يملكون سوى 2% من أرضها. ومع ذلك تجسّد قيامها بارتكاب خمسين مجزرة وإبادة خمسئة وعشرين قرية، وتهجير 70% من الفلسطينيين.

هكذا لعبت عصابات "الهاغانا" دورا مركزيا في تأسيس دولة "إسرائيل عام 1948". وقد انتظم في صفوفها عدد كبير ممن أصبحوا لاحقا قادة للدولة. وبحكم متانة تدريب منظمة "الهاغانا" وتسليحها، شكّلت النّواة الأولى للجيش الصهيوني الحالي. وسيصبح عدد من أعضائها وزراء ورؤساء حكومة في دولة الكيان الصهيوني. من بين هؤلاء الإرهابيين: بن غوريون ومناحيم بيغن، وإسحاق رابين، وأرييل شارون، ورحبعام زئيفي وزير السياحة... وآخرين.

هذا التراث الإجرامي وفكرة الإرهاب والقتل والتهجير التي قام عليها الكيان الصهيوني تُفسّر سلوك حكومة نتنياهو بعد هجوم 7 أكتوبر.
أولا كان ردّ الفعل انتقاميًا بلا حدود، لإخفاء الفشل المُركّب العسكري والسياسي والاستراتيجي والأمني، بالمجازر الوحشية ضد المدنيين العُزّل في غزّة. وفي نفس الوقت استغلّ نتنياهو "التعاطف العابر" مع إسرائيل لتنفيذ مخطّط جاهز، جوهره التطهير العرقي والتهويد والضمّ، على اعتبار ذلك هو الحلّ النهائي الوحيد لمشكل غزّة في نظر حكّام تل أبيب. وفي الخلال، بينما كانت الأنظار مُنصبّة على القطاع، اندفع الجيش في عملية تطهير عرقي موازية في الضفة الغربية. فكانت النتيجة سلسلة من الجرائم كالعادة :
جريمة العقوبات الجماعية ضد مليونين وثلاثمئة ألف فلسطينيا بالتجويع والتعطيش وقطع الكهرباء والوقود والدواء.

جريمة الإبادة الجماعية عبر الهجوم المنظم والقصف بالطائرات والمدفعية، مما أودى بحياة أكثر من خمسة عشر ألف فلسطيني من بينهم قرابة خمسة آلاف طفل بحساب الذين استشهدوا تحت الأنقاض.

جريمة التطهير العرقي والتهجير المتمثلة في الاكتفاء بتهجير مليون ونصف ساكن من شمال غزة إلى جنوبها، بعد أن فشل مخطط تهجيرهم إلى صحراء سيناء.

يجب على الإنسانية أن تتذكر، وستتذكر دائما بأن كل هذه الجرائم تقترفُ بمشاركة أمريكية نوعيّة بالسلاح والخبراء وبالغطاء السياسي والديبلوماسي وبالحماية المطلقة بكل أبعادها ومعانيها. وبالرّغم من ذلك، وكما ذكّرت في البداية بمسار تطور أزمة النظام العنصري في جنوب إفريقيا، وانقلاب الأحوال إلى ضدّها كلّما بلغت حدّها، وحكمة انتصار الدم على السيف، فإن هذه الحرب الوحشية أفرزت نتائج عظيمة لم يُخطّط لها أحد.

أولا، أدّت هذه الجرائم البشعة إلى تلاشي التعاطف العابر مع الصهاينة رغم الآلة الإعلامية الضخمة والهجوم الشرس على كل من يحاول القول بأن قضية فلسطين لم تبدأ يوم 7 أكتوبر. وقد بلغ الأمر ببعض الحكومات الغربية إلى مهازل استخدام العنف البوليسي والملاحقات القضائية لإسكات الناس. برغم كل تلك الحيل، انتبهت الشعوب إلى زيف السردية الصهيونية. وفي الأخير انتصر التعاطف الأممي العارم مع الشعب الفلسطيني، بل أن حجم الجريمة دفع الناس إلى إعادة النظر في كلّ ما قيل لهم من أكاذيب حول قضية فلسطين.

ثانيا، أعاد العدوان الصهيوني الهمجي على أطفال غزة فتح جراح النكبة من جديد، بما يشحن الأجيال الفلسطينية القادمة بوعي حقيقي لقضية التحرير، وبروح المقاومة الرافضة لتجربة التعايش مع الاحتلال وتكريس الاعتراف به والتسليم بوجوده. والرافضة لكلّ السياسات التي أحدثت شروخًا وقُروحًا في الوحدة الوطنية الفلسطينية. أما على المستوى الكوني، فإن الأطفال الشهداء في غزة، إنما يدفعون بدمهم شباب العالم وفي مقدمته الشباب اليهود إلى تأسيس ثقافة تعايش جديدة، تقوم على العدالة، اعتراضا على ثقافة فرض التعايش بالعنف والبطش.

ثالثًا: انهار مسار التطبيع، وفشل المتطرف نتنياهو والدّواعش المحيطون به في تهميش القضية الفلسطينية وتصفيتها عبر القفز عليها، وإقامة علاقات تعاون وسلام مع دول عربية مركزية تحت سرديات وشعوذات مختلفة. وحلّت محلّ مسار التطبيع، قضية فلسطين بوصفها قضية استقرار الشرق الأوسط وقضية أمن العالم بأسره.

رابعا، وأخيرا، والأهم من كل ما سبق، هو أن هذه الحرب الظالمة، أعادت القضية الفلسطينية إلى جوهرها الوطني الأصلي، باعتبارها قضية تحرّر من استعمار عنصري استيطاني إحلالي، كان يمكن له النجاح في القرن السابع عشر في أيّ مكان آخر، مثلما نجحت تجربة إبادة السكان الأصليين في أمريكا الشمالية. لكن الحركة الصهيونية جاءت متأخّرة في الزّمان. وخاطئة في المكان أين اصطدمت بشعب عنيد، مرتكز على أمة قديمة وتراث ثقافي ثقيل. فرفض الاستسلام وتمسّك بالبقاء على أرضه.
لقد مرّت عقود على النكبة، وتوسعت وظيفة الكيان الصهيوني في علاقة بحماية المصالح الاستعمارية في أهم منطقة في العالم، من حيث الثروات والممرات البحرية والموقع الاستراتيجي، مما زاد في الإصرار الغربي على جعله القوة الفريدة في المنطقة. وبموجب ذلك سادت في العالم، وفي المنطقة، ولدى الفلسطينيين قناعة الإذعان لقرارات مجلس الأمن، وإمكانية وجود حلّ وسط يسمح بقيام دولة فلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزّة والقدس الشرقية، في إطار ما يُسمّي "حلّ الدولتين". غير أن العدوان الأخير ومذابح قتل المدنيين وعمليات التهجير والإبادة الجماعية، جلبت انتباه العالم، وأثبتت استحالة قبول إسرائيل بقيام دولة للفلسطينيين، والحال أنها تحاول تنفيذ نكبة جديدة، بارتكاب مجازر لم يسبق لها مثيل، علاوة على استمرارها في زرع آلاف المستوطنات، وفصل الضفة عن غزة، وتقطيع الجغرافيا الفلسطينية لنسف فكرة "حلّ الدولتين".
كلّ هذه الأمور تندرج ضمن حكمة انتصار الدّم على السيف. بمعنى أن إحدى الإفرازات الثقافية لإعدام الأطفال، هي عودة الشعب الفلسطيني، إلى مشروعه التاريخي التقدّمي الأصيل، المتمثل في التخلي عن فكرة حلّ الدولتين، والكفاح من أجل قيام دولة ديمقراطية واحدة في كل فلسطين التاريخية، يتساوى فيها السكان على اختلاف دياناتهم في الحقوق والواجبات. هذا هو المشروع المستقبلي الذي سيجد سندا أمميا جارفا ودعما من اليهود والمسيحيين والمسلمين. ولقد رسخت الحرب على غزة، وستظل ترسّخ القناعة عند شعوب العالم، بأن السلام والأمن والاستقرار سيتحقق بتفكيك نظام الكيان الصهيوني العنصري الاستيطاني، وتحرير اليهود والمسلمين والمسيحيين منه ومن شروره.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): 80% من مشافي غزة خارج الخدمة وتأج




.. اعتقال عشرات الطلاب المتظاهرين المطالبين بوقف حرب غزة في جام