الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشراقات الحب وإيقاعاته -في-إستمِرّي سيّدتي- للشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي

محمد المحسن
كاتب

2023 / 11 / 13
الادب والفن


تصدير :
نمضي العمر ضجراً نبحث عن نصفنا الحيّ، فإذا اكتمل القلب، إتّزن النبض. هكذا هو الحب، ندور في مداره دون كلل وملل. نفرح لعذابه،نتباهى بلوعته ونغرف منه قصائدنا.
هكذا هو الحب،نصطبر على مشاغباته نثور ونهدأ وكلّما أقسمنا اعتزاله عاد قلبنا إليه طواعية. أوَمَنْ أصدق من الشاعر حين يحكي مفاهيم الحبّ ويحاكي الحبيب؟

لم يعد يكفي أن تقول عن بيت من الشعر أو قصيدة أنها خفقة قلب أو دفقة شعورية كما كان يحلو لمن جعلوا الشعر من قبيل الوجدان المحض ولا شيء غير هذا ، وقاسوا قيمة القصيدة بما تحتويه من وجدان صاحبها ، وكان هذا القول في حينه ثورة على كلاسيكية شوقي وحافظ على أنه - أي هذا الرأي لم يكن نبتا عربيا خالصا وإنما اتبعوا فيه المدرسة الإنجليزية في النقد إبان الربع الأول من القرن العشرين ثم أحدثت المدرسة النقدية الفرنسية ثورة نقدية على يد " كلود ليفي شتراوس " مذ أصدر كتابه الفذ " المدارات الحزينة " سنة 1955م متأثرا بنظرية " دي سوسير " في اللغة حيث جعلها نسقا قائما وحده مبرزا ثنائية الدال والمدلول. .ولم يقدر لهذه المدرسة الاستمرار في فرنسا إذ ماتت بالسكتة سنة 1968م وإن انتقلت إلى بلادنا العربية في العام التالي لموتها او قبل ذلك بقليل-لست أذكر بالضبط فأنا أكتب من الذاكرة -غير أني أذكر أن مقالا للأستاذ الراحل/ محمود أمين العالم هو الذي ابتعثها من مرقدها، وقوبلت بما يقابل به كل جديد وإن كان هذا الجديد في بقعة أخرى من بقاع الأرض-جيفة- لا أكثر ..
أقول :لم يعد مقبولا ان نقول عن قصيدة أنها نفثة مصدور أو خفقة قلب ولا شيء غير هذا خاصة إذا كنت أمام نص الشاعر التونسي السامق د-طاهر مشي والذي يصل-في بعض قصائده-إلى كنه الأشياء وحقائقها المجردة،أو قل يصل إلى العلاقة بين الأشياء وقوانينها الجامعة،وهذا غير كائن لغير الشعراء الكبار كجيتة وأليوت وطاغور وغيرهم من الكبار الذين يحلقون في فلك الفن الأعلى ..
إستمِرّي سيّدتي

إسْتمرّي سيِّدتي
دعيني أحترقُ بيْنَ النّظَراتْ
دعي ابتسامتَكِ تختَرِقُ أضلعي
و خُطُواتُكِ تنقرُ أسْمُعي!
لأسيرَ على هدْيِها خُطُواتْ!
إستمِرّي سيّدتي
فكلّما مرَرْتِ أمامي
هربَ دمي في العُروقْ
وتشتّتَ نبضي
وتاهتِ الكلماتُ في فمي
فدعيني أرمِّم َما تبقّى مني
لِنَختَصِرَ الطّريقْ !
استمرّي سيّدتي
إعْبَثي بِمَشاعِرِي الجميلَهْ
دعيني للألمِ والأملْ
واسْبَحي في أعماقي دون وَجلْ
مزِّقي دُروعي
واعلنيها ثورةَ عشقٍ
تعيدُ ترتيبَ حياتي مِنْ جديدْ
لأيّامٍ طويلَهْ!
واستمرّي..
ما بِكِ ترسُمينَ لي
خارطةَ الغيابْ ؟
فكلُّ تفاصيلِكِ بِتُّ أراها
مِن بَعيدْ
تسكنُ بعيداً بعيداً
في مدُن ِ الضّبابْ
يُعانِقُها السّحابْ
عودي..ما بِكِ سيِّدتي؟!
أشعَلْتِ في قلبي حريقْ !
عودي..وَلا تستمرّي في الغيابْ!

طاهر مَشّي

إذا كان الحبّ سعادة،فالشعراء والعاشقون،المغتسلة أقلامهم بندى الحبّ،سعداء مرّتين: مرّة لأنّهم أطلّوا من نوافذ قلوبهم على دنيا اجترحها الشوق وأخذت العاطفة شجرها صعودًا، وأخرى،لأنّهم جعلوا قصائدهم أجمل سجون تحتفظ بوجوه من أحبّوا وتدوّن اللحظة الحبلى بألف وعد وحلم..
في هذه القصيدة المثقَلة بالحب يلفّ الشاعر د-طاهر مشي كتفيه بعباءة العشق،ويتّخذ قلمه مجذافًا ومركبًا وبحرًا ليبحر بعيدًا،فاتحًا أشرعة الوجد إلى امرأة مثقلة بالنساء،إذ هي ألف الحبّ وياؤه وما بينهما.
ضمن حدود هذه الشعرية المنذورة لخارطة الرومانسية المطرّزة بلغة كريستالية،سلسة وأليق بهشاشة الذات المنشغلة بهواجس إشاعة ثقافة الحب،نقف على جملة من أسرار الحب،هذه الأسرار المختزلة والمضغوطة والتي لا تتأتى بغير محاولات تأويل واستكناه ما بعد عتبات البياض.
إننا بمعية الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي،في استسلام تام لنوبات وجدانية تضمّد الإفلاس الروحي،عموما،في زمن مصطبغ بالكراهية.
إن هذه القصيدة الباذخة،تتوسل صور الحب وتستنطق مستويات ألغازه،كي تحقق،أخيرا، إشاعة ثقافة الحب،في عالم يهيمن عليه الظمأ العاطفي،حدّ الاختناق.
يقول شاعرنا :
اسْبَحي في أعماقي دون وَجلْ
مزِّقي دُروعي
واعلنيها ثورةَ عشقٍ
تعيدُ ترتيبَ حياتي مِنْ جديدْ
لأيّامٍ طويلَهْ!
واستمرّي..
هي متوالية رسائل إلى العاشقين،يبصمها القلب المتقلّب في نوبات عشقه حدّ الجنون.
كما أنها تلك الخلطة السحرية التي تقترح على الكائن والأرض،وصفة الخلاص،مزيج من جنون القصيدة وإدمان العشق.
كتابة شعرية تترع ثغرات المعطل في ذات ماطلها التغريب وممارسات التجسيد الجاني على المكسب الوجداني القادر على منح الذات والعالم توازنهما.
إن عدو الحب الأول هو ذلكم الجبن المركب والذي تغذيه تشاكلات الإيديولوجي وغطرسة الفسيولوجي أو الشهواني المدمّر.
من هنا نجد القصيدة(إسْتمرّي سيِّدتي)وقد التزمت بنغمة رومانسية تتبوأ منزلة المابين،فلا هي أوغلت في أسلوبية الهبوط العاطفي الذي يشوه مشهدية ظاهرة الشوقيات هذه،ويشوش على لغة رسم ملامحها ببرودة تقصي الحضور الروحي،ولا هي أثقلت بمفردات المعجم الإيروتيكي الذي يسوّق لسلطة الجسد ويكرّس منظومة مفاهيمها المتسببة في نهاية المطاف بالإفلاس السيكولوجي والتغريب الروحي.
وهو ما أعطى لهذه القصيدة المترَعة بالحب طابع المغايرة والفرادة والاستثناء.
هي ممارسة تعطي الحب معنى الصلاة،أو الطقس التعبدي الذي لا تعادله غير لحظات ميلاد القصائد.
يقول كذلك :
كلّما مرَرْتِ أمامي
هربَ دمي في العُروقْ
وتشتّتَ نبضي
وتاهتِ الكلماتُ في فمي
فدعيني أرمِّم َما تبقّى مني
لِنَختَصِرَ الطّريقْ !
بذلك،استطاع الشاعر التونسي الفذ د-طاهر مشي إتقان لعبة تقديس الحب بمفهومه الجامع..
قصيدة تترجم ببهاء يداعب نرجس القلب قيمة الحب النقي والمرمّز..
ومن هنا فقصيدة «استمري سيدتي» كتابةٌ تنطلق من الذات وتلوذ بها وتفيء إليها لتشيّد شعرية موسومة بالذاتية المفرطة،تنساب في دفق وجداني،اتخذ من التصوير والصورة الشعرية وعاء لتعبير الذات الشاعرة عن أحاسيسها ولواعجها، وهي صور تختبر هشاشة هذه الذات أمام واقع تتصادم معه.تناغم،ما بين حضور الأنثى والقصيدة.
قصيدة «إسْتمرّي سيِّدتي»-وكما أشرت،كتابةٌ تنطلق من الذات وتلوذ بها وتفيء إليها لتشيّد شعرية موسومة بالذاتية المفرطة،تنساب في دفق وجداني، اتخذ من التصوير والصورة الشعرية وعاء لتعبير الذات الشاعرة عن أحاسيسها ولواعجها،وهي صور تختبر هشاشة هذه الذات أمام واقع تتصادم معه.
ختاما أقول : العديد من قصائد شاعرنا الكبير د-طاهر مشي تقول الحب وتكاشف أسراره ويومياته،إذ يتحرك النص الشعري عند-هذا الشاعر الفذ-بين الكثير من جماليات قرأناها في الشعر العربي المعاصر،وكأنه يمتلك متعة السفر بين دواوين شعرية وتجليات فنية وفكرية لنزار قباني وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش..ويلحظ القارئ ذلك التأكيد الشعري في نص"الطاهر" على عنصر التفرد وحضور الخصوصية النصية.
مع ملاحظة أن القصيدة ذات نفس غنائي،تحتاج لملحن يحسن تجسيد المعاني السامية لها،وتبحث عن صوت تونسي أو عربي طربي ليحولها لأغنية جميلة،تذكّر الإنسان العربي بقيمة-الحب النبيل-في زمن مفروش بالرحيل..ويسكنه الخراب..
وأخير،وعلى سبيل الختام،فقصيدة "إستمِرّي سيّدتي"تنبض بملامح وجماليات فنية أخرى وتشابكات استعارية ودلالية عديدة،استطاع بها الشاعر أن يخلق عالما شعريا متناغما ومنسجما،مما يعد بأعمال أخرى آتية بزخم شعري أنضج.
قبعتي..يا "الطاهر"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا