الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين ينفقع بالون البروفيسور من الضجر 5

علي دريوسي

2023 / 11 / 13
الادب والفن


في البيت لا يستطيع البروفيسور النوم مبكراً، هذا الاضطراب في النوم والأرق الذي تكبَّده مردّه لنيران الضجر التي تحرق روحه. يحضّر لنفسه كأس الويسكي اليومي وعلبة سجائره، يجلس أمام شاشة الكومبيوتر، يقلّب صفحات كتاب الوجه، لا يجد فيه إلا الهراء القومي والنعوات، يهمهم: "ما أسوأ أن ينتشر خبر موت إنسان على جدرانٍ زرقاء باردة، متى نتعلم أن الموت أمر عائلي لا ينبغي أن يثير الغبار من حولنا".

بعد موت شخص معروف لدى شريحة من الناس تنكشف ـ هذه الأيام ـ شخصيته الحقيقية من خلال الصور والرسائل والفيديوهات والأحاديث التي ينشرها معارفه وأصدقاؤه في الهواء الأزرق وكأنهم يشمّسون غسيلهم بما فيه ملابسهم الداخلية كي تراها كل الناس. حينها لا تملك أنت المراقب ـ الذي لا تعرفه ولا تعرفهم ـ إلا أن تتساءل من أين يأتي الشرقي بهذا المال والوقت للاحتفالات والعزائم والمطاعم والمقاهي والرحلات والسهرات والسكر والرقص والغناء حتى طلوع الصباحات. وأنت المراقب لا تستغرب أن مثل هذا الشخص لا وقت لديه للخصومات والمناوشات والمناقشات الجادة كي لا يخسر أجواءه والناس الملتمة حوله بهدف إسعاده، فتراه يضحك ويبتسم ويتواضع ويفتح يديه لاستقبال كل عابر سبيل وكأن المسيح من يخاطبه أن يفعل ما يفعله.

يقرأ البروفيسور عناوين الأخبار بالألمانية، يتصفّح سريعاً بعض الصفحات التي يتابعها بالألمانية، يشعر بالغيرة من تجمعات الصبايا والشباب بالمناسبات والأعياد، يكتب في صفحته "ليس أسوا من أن تعيش في بلد لا تنتمي لأعياده وأنت المهاجر الهارب من بلد لا ترغب بأعياده". يفكر بما عليه من واجبات ومواعيد في اليوم التالي، يتأكد من جاهزيته للمحاضرات والنقاشات، ينهض ليتفحّص حقيبته وما سيرتديه في الصباح ثم يعود إلى الصوفا قرب المدفأة، يتذكر أن عليه الذهاب ظهر اليوم التالي إلى مكب القمامة.

الألمان ـ ولا سيما أهالي القرى ـ أغنياء أكثر مما تسمح به الشرطة، عملوا بجد ونشاط بعد الحرب العالمية الثانية وبخلوا على أنفسهم ووفروا الكثير من المال لأحفادهم. الشيء الوحيد الذي يقهر الألماني هو خسارته للمال دون وجه حق حتى لو كان بمعدل يورو أو خسارته لقضية ما في المحكمة مهما كانت الدعوى خفيفة، مع العلم أنه يتبرع أحياناً بمقتنيات صالحة للاستعمال رغم غلاء أسعارها.

حين تذهب إلى مكبّات القمامة المتوفرة بكثرة في أرجاء بلدهم وتلقي نظرة على محتويات الحاويات الضخمة للأخشاب والمواد البلاستيكية والأجهزة الكهربائية ستكتشف وجود قطع أثاث وأجهزة منزلية كثيرة قابلة للاستعمال مرة ثانية، لكن لا يحق لك أخذها. إنه مجتمع الرمي، رمي الأشياء، مجتمع التخلص، التخلص من الأشياء، كما أراد له الصناعيون الكبار، لكل منتج عمره المحدّد، وإذا أصابه عطل ما ـ بل ينبغي أن يعطل لأنه مصمّم ومصنّع كي يعطل دون إمكانية لإصلاحه ـ يجب التخلص منه على الفور واستبداله بمنتج جديد. هذه السياسة الصناعية تشجع الناس على ضرورات الاستهلاك والتجديد والرفاهية والانتفاع التجاري المتبادل، حتى السيارة ومهما كان ثمنها عالياً سيتم التخلص منها بعد حادث سير من العيار المتوسط.

وهكذا نشأت في السوق العالمية برامج بيع وشراء ـ التجارة الإلكترونية من المستهلك إلى المستهلك ـ أحد أهم هذه المنصات الإلكترونية هو موقع "العروض الصغيرة". بعد التسجيل في الموقع تستطيع الحصول على ما ترغب ـ من الإبرة والخيط إلى غرفة النوم ومواد البناء، أحياناً تتم العملية مجاناً ـ المهم أن تأتي بأسرع وقت لإحضار ما تريده وما يريدون التخلص منه، وغالباً ما يتم الأمر مقابل مبلغ مالي صغير. على سبيل المثال: أنت تبحث عن صوفا للجلوس، كلفتها في المحلات قد تصل إلى حوالي ألف يورو، ستجدها حتما في منصة "العروض الصغيرة" مقابل أربعين يورو .. وهكذا يا عبد المنعم. مثال آخر: لنفترض أنك تريد تركيب بوابة لمنزلك أو حديقتك. قد تبلغ التكلفة الإجمالية لهذا المشروع حوالي عشرة آلاف يورو أو أكثر لكنها لن تقل عن ستة آلاف يورو إذا تركت أمر تنفيذها على عاتق شركة ما. لكن باستطاعتك أن تبحث ـ في الموقع المذكور ـ عنها أو عن مواد تساعدك في تصنيعها هذا إذا كنت موهوباً قادراً على عمليات القص واللحام والجلخ والتركيب. ستجد ما تبحث عنه حتماً وقد لا يتجاوز سعره ثلاثمائة يورو.

مكبّات القمامة في ألمانيا هو المكان الوحيد الذي نادراً ما ترى فيه أثراً للأجانب، ليس لديهم ما يستغنون عنه، ليس لديهم ما يرمونه. لا صوت للأجانب في المانيا إلا أصواتهم العالية باللغة الأم حصراً، التي لا أحد هناك يريد أن يسمعها أو يفهمها أو يفسّرها أو يبحث عن مصدرها.

عندما تشتري سيارة في ألمانيا وتستعملها ينخفض سعرها بمعدل 2500 يورو سنوياً، حسب موديلها وسنة إنتاجها، إذا أخذنا بعين الاعتبار مصروفها الشهري من الوقود وتكلفة تأمينها وضريبتها السنوية وتكاليف فحصها السنوي، فإننا نجد أن التكلفة الشهرية للسيارة ـ التي لا يمكن الاستغناء عنها أبداً عند العائلات ـ تصل إلى 500 يورو شهرياً بالحد الأدنى، هذا دون أخذ احتمالية الصيانة والإصلاح وتبديل بعض الأجزاء التالفة بالحسبان، ودون أجرة الكراج الشهرية التي قد تصل إلى 70 يورو، ودون احتساب ما قد تدفعه شهرياً لركن السيارة في الأماكن العامة في المدينة. ولأنه لا تخلو عائلة من ضرورة امتلاكها لسيارتين فهذا يعني أن المبلغ سيتضاعف حتماً إلى 1000 يورو شهرياً في حده الأدنى .. ولا ننسى ان ثمة عائلات تحتاج إلى أكثر من ثلاث سيارات.

حين يقوم الإنسان بتجديد وإصلاح بيته سيكتشف بأنه سيدفع الوقت والمال لترحيل الأخشاب المُعالجة أو الملوثة والحجارة والأتربة والأسمنت والبورسلان والسيراميك والمواد المختلطة غير قابلة للفصل والأطر، وسيدفع أكثر بكثير لترحيل المواد التي لا يمكن إعادة تدويرها مثل مواد العزل من حشوات ليفية وبطانات وألواح ورغوة مبخوخة وغيرها. لكن باستطاعته أن يبني مثلاً مصطبة بيتونية في حديقته ويقبر فيها الحجارة وبقايا المواد الإسمنتية والسيراميكية، لكنه لا يفعل، الألماني لا يحب أن تنقبر هذه المواد في حديقته، الالماني يكره الحجارة ويحب التربة والشجر الأخضر.

وعيه البيئي رفيع المستوى، ربما يتعلق هذا الأمر بخوفه من القانون وتفاصيله الشيطانية. ترتكب جرماً ـ في حال انكشاف فعلتك ـ حين ترمي جهاز هاتفك الخليوي بعد تعطله في حاوية القمامة والسبب هو إضراره الكبير بالبيئة.

العمل الأسود في ألمانيا (أي العمل دون عقد قانوني) موضوع قانوني شائك جداً، قد تصل عقوبته إلى حوالي نصف مليون يورو مع سجن لمدة خمس سنوات. ورغم ذلك هناك أكثر من ثمانية مليون إنسان يعملون في الأسود ـ وهذا ما يُدعى بالاقتصاد الموازي أو اقتصاد الظل. يعمل هؤلاء في مجالات البناء والصيانة والمحلات التجارية والمطاعم والمقاهي، وتخسر الدولة الألمانية بذلك المليارات.

إذا أردت على سبيل المثال تلييس/لياسة حائط (أي تلبيسه بالإسمنت) بمساحة عشرة أمتار مربعة فعليك أن تستدعي شركة ـ التي لن تأتي فوراً، بل بعد عدة أسابيع ـ وعليك بالإضافة إلى سعر المواد أن تكون قادراً على دفع أجرة العمل التي تبلغ بشكل وسطي 50 يورو للمتر المربع الواحد، أي خمسمئة يورو، ناهيك عن الضريبة 20%، وهذا مبلغ كبير جداً.

في الغربة كيف تقوم بمفردك بتلييس حائط في منزلك لأنك لا تريد أن تبحث عمن ينفذ لك هذا العمل بالأسود لاعتبارات كثيرة ومنها على سبيل المثال: احتمالية أن يدّعي عليك العامل باستغلاله لتحقيق فوائد مالية أو أن يتهمك بأنك السبب في آلام حلت في عصعوصه، وعليه ينبغي عليك معالجته على حسابك الشخصي ودفع راتب شهري له حتى يشفى من أوجاعه، هذا إذا لم يقطع أصبعه مدعياً أن ذلك قد حدث بسبب العمل عندك.

وها هو صديقنا البروفيسور ينهض من جلسته على الصوفا ليحضر شيئاً يمزمزه، تسافر الذاكرة به إلى قريته، يتذكّر شخصاً يسمونه "أبو عبير"، رجل جميل القلب والروح، تراه وكأنك تقف أمام المغني "طوني حنّا"، على الأقل هذا ما كان يشعر به في طفولته، أبو عبير معلم "تلييس" يتقن مهنته، لديه ورشته الخاصة وكان عاشقاً للكأس والسيجارة والحياة، عمل في ورشته العشرات من طلبة الجامعة ومن معلمي المدارس، ليتخرجوا لاحقاً ـ بعد سنوات من العمل ـ من تحت يديه، ولعل بعضهم قد احترف المهنة فيما بعد إلى جانب عمله كمهندس أو معلم مدرسة، رحل أبو عبير وبقيت صورته في الذاكرة كيف كان ينقّل التفاحة بين راحة يده وعضلة ساعده وعضلة ذراعه العلوي، مسلياً عمال ورشته في استراحة الغداء.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا