الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التخصص في السلام السوري الإسرائيلي: كوميديا السلوك أم الأخطاء؟

صبحي حديدي

2006 / 11 / 18
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


في هذه الأيام التي تشهد تصاعد الحديث عن دور إيراني وآخر سوري (والبعض يذهب أبعد، فيتحدث عن دور إيراني ـ سوري!) في حلّ ما بات يُسمّى "المشكلة العراقية"، لا نعدم مَن يذهب أبعد من كلّ بعيد، فيتحدّث عن دور سوري إيجابي في العراق ولبنان وفلسطين و... أفغانستان! هل سيطول الوقت قبل أن يطلع علينا مَن يقول إنّ السير نايجل شينولد، المستشار السياسي لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير، زار دمشق سرّاً للبحث في دور إيجابي محتمل يقوم به بشار الأسد في... انتخابات الكونغرس النصفية القادمة سنة 2008، أو ربما الانتخابات الرئاسية!
قد تهون كوميديا المبالغة السوداء هذه أمام ما طلع علينا به مؤخراً باتريك سيل، الكاتب البريطاني المتخصص في قضايا الشرق الأوسط (كما يعرّف بنفسه، وكما كان بالفعل... ذات يوم!)، من أنّ نائب الرئيس فاروق الشرع نقل على لسان الأسد هذه العبارة الذهبية: "سورية مستعدة للعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل". ما الذهبيّ في هذه الكلمات الثماني؟ أنها، حسب النائب الشرع ورواية الكاتب سيل: "لم يسبق أن صدرت عن أيّ سوريّ من قبل"، وهي بالتالي "كلمات شجاعة لأنها تسير عكس المزاج العربي الراهن"، الذي لا يطالب بالمقاومة المسلحة في وجه إسرائيل فحسب، بل أيضاً بتجديد العمليات الإنتحارية.
والحال أنّ في وسع المرء أن ينقل عن سيل نفسه كلمات أخرى أكثر ذهبية، في المسألة ذاتها، جرت هذه المرّة على لسان حافظ الأسد وليس بشار الأسد، وأتت في سياق من تبادل الإعجاب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، وكان سيل هو الناقل أيضاً: قال الأسد الأب عن باراك إنه "رجل صادق وقوي"، فردّ الأخير بأنّ الأسد «أعطى الأمّة السورية صيغتها الحالية». ولعلّ الجديد الأهمّ في ذلك التراشق الودّي كان حكم القيمة الشخصي ـ الأخلاقي (في عبارة: «رجل قوي وصادق») الذي أصدره الأسد في حقّ المسؤول الإسرائيلي الأرفع، وحكم القيمة الشخصي ـ السياسي (في عبارة: «استطاع أن يبني سورية قوية ومستقلة وواثقة بنفسها») الذي أصدره المسؤول الإسرائيلي الأرفع في حقّ رئيس لدولة عربية حدودية ما تزال رسمياً عدوّة أو معادية للدولة العبرية.
الجديد الثاني أنّ الأسد وباراك قلبا المنطق الدلالي البسيط لهذا النوع من أحكام القيمة: إذا افترضنا أنّ «حالة العداء» ما تزال هي الناظم في علاقات القوّة البلدين، فإنّ وجود رجل «قويّ وصادق» أو توفّر دولة «قويّة ومستقلة وواثقة بنفسها» ينبغي أن يبعث القلق في الدولتَين المتعاديتَين المتحاربتَين، كلّ منهما على حدة، اليس كذلك؟ ليس من مصلحة سورية (ما دامت معادية لإسرائيل) أن يتولّى الحكم في إسرائيل رجل قوي وصادق، وليس من مصلحة إسرائيل (ما دامت معادية لسورية) أن تكون سورية قوية ومستقلة وواثقة بنفسها.
قبل هذه العواطف المتبادلة كان الأسد قد أطلع عضو الكونغرس الأمريكي توم لانتوس على ما يعنيه بالسلام مع الدولة العبرية: «إن مفهومي للسلام واضح، وحين أتحدث عن السلام الكامل فإنني أقصد السلام الطبيعي من النوع القائم اليوم بين 187 دولة في العالم». وتعقيباً على هذه الواقعة، كتب المؤرخ والصحافي الإسرائيلي توم سيغيف رسالة مفتوحة إلى حافظ الأسد، عبر صفحات صحيفة «هآرتس»، جاء فيها: «لقد بدأتَ طور الطمأنة الجديد بحديث صريح مع يهودي طيّب من أمريكا هو توم لانتوس. ولكن لانتوس لن يعيش معك، بل نحن الذين يتوجب أن نعيش معك وتعيش معنا، فتحدّث إلينا يا سيادة الرئيس». كيف؟ تابع سيغيف يقول: «أقترح عليك استدعاء مجموعة من الصحافيين الإسرائيليين إلي دمشق. ويسرّني أن أكون أحدهم. اسمحْ لنا بالتجوّل الحرّ يوماً أو يومين في مدينة دمشق، ودعنا نتحدث مباشرة مع الناس في الشوارع لكي نكوّن انطباعاتنا الخاصة. عرّفنا على من نعتقد أنه يجدر بنا التعرّف إليه، مثل أساتذة الجامعات ورجال اللإقتصاد وضباط الجيش والوزراء، ثم تحدّثْ إلينا أنت ساعتين أو ثلاث ساعات. أقنعنا أنّ السلام جزء لا يتجزأ من نظريتك الإستراتيجية لمستقبل سورية، وأنّ السلام يعكس مصلحة سورية حقيقية. من الممكن جداً أن نثق بك في هذه الحالة، وأن نكون عوناً لك أكثر من لانتوس»!
مثال ثالث وقع ذات يوم غير بعيد، في عهد الأسد الأب دائماً، إذْ نشرت «هآرتس»، وأكدت صحف عربية نقلاً عن مصادر سورية مسؤولة، خبراً لافتاً عن ترتيبات كان يتولّى أمرها عضو الكنيست عبد الوهاب الدراوشة، لعقد «قمّة روحية» في دمشق، تجمع مفتي سورية آنذاك الشيخ أحمد كفتارو إلى يسرائيل لاو كبير حاخامات إسرائيل، يحضرها أيضاً الحاخامات إلياهو بكشي، عوفاديا يوسف (الزعيم السابق لحركة «شاس») ويوسف جيجاتي (حاخام اليهود السوريين). وبالطبع، لم يكن الدراوشةن فما بالك بالشيخ كفتارو، سيشرع خطوة واحدة في الإعداد لهذه القمة لولا أنّ الضوء الأخضر من الرئاسة السورية كان قد بارك المبادرة، لكي لا نقول إنّ قصر الروضة أوحى بها.
في العودة إلى زمن أسبق قليلاً، مطالع العام 1994، نقل مراسل صحيفة «وول ستريت جورنال» عن بدر الدين الشلاح، عميد رجال الأعمال السوريين وشيخ غرفة تجارة دمشق آنذاك، أنه قال بالحرف: «ليس بوسع المرء أن يقيم تجارة مع جيران له هو في حرب معهم. ولكن لك أن تتخيّل حجم المغانم حين يعقد السلام وتبدأ التجارة. نحن في عالم متبدّل انقلب فيه أعداء سابقون مثل ألمانيا وفرنسا الى أشقاء توائم في الاقتصاد على الأقل. فما الذي ينقصنا نحن والإسرائيليين لكي لا نكرر المثال ذاته وننقلب إلى أصدقاء وشركاء»؟ الإنصاف البسيط يقتضي القول إنّ الشلاح، وليس بشار الأسد، هو السوري صاحب القول الأكثر ذهبية في ما يخصّ السلام السوري ـ الإسرائيلي، فالرجل لا يتحدث عن جيرة فقط، بل عن صداقة وشراكة. ومَن يعرف طبيعة الحدّ الأدنى للمسموح والمحظور في علاقة المواطن السوري بالصحافة الغربية تلك الأيام، سوف يدرك دون عناء أن الشلاح لم يكن ينطق عن هوى.
أخيراً، في مثال خامس على المناخات ذاتها، روى أسعد إلياس، كاتب خطب الأسد الأب حينذاك، هذه الحكاية النتي نقلها مراسل «الإندبندنت» البريطانية: منذ عقدين وهو يكتب خطب الرئاسة في شتى المناسبات، ولم يحدث قط أن أدخل الأسد تعديلات جوهرية على تلك النصوص، باستثناء الكلمة التي ألقاها في المؤتمر الصحفي الى جانب الرئيس الأمريكي كلينتون أثناء زيارة الأخير إلى دمشق. لقد كتب أسعد إلياس: «سورية تسعى إلى سلام عادل شامل لجميع شعوب المنطقة»، ولكن الأسد أضاف العبارة التالية: «بما في ذلك إسرائيل».
ما الذي تعنيه هذه الأمثلة سوى أنّ سعي النظام الحاكم في دمشق إلى سلام مع الدولة العبرية ليس قديماً متقادماً فحسب، بل هو ركيزة كبرى في استراتيجيات حفظ البقاء ومنجاة السلطة؟ أليس من الفاجع، والعجيب في آن معاً، أن لا يدرك الخبير البريطاني أنّ هذه الحقيقة البسيطة ليست البتة صناعة هذا العهد؟ ألم ينهض معظم قواعد شطرنج الأسد الأب في ملفّ السلام مع الدولة العبرية على ثلاث ضرورات: ضرورة هذا السلام في سيرورات ترتيب بيت السلطة وسلامة النظام، وضرورة الاتساق بين مشاريع الإنفتاح الإقتصادي وغنائم السلام التي تجعل الإنتقال مأموناً أكثر، وضرورة إخراج سورية من العزلة الإقليمية والدولية التي تربك معادلات التناغم بين الحركة الداخلية والحركة الخارجية؟
والحال أنّ استعجال النظام في التعاطي مع باراك كان قد نهض على هذه الإعتبارات أساساً، قبل أن يتباطأ قليلاً بسبب التباطؤ الإسرائيلي، الذي هبط إلى درجاته الأدنى حين منح الأسد أولوية مطلقة لحلّ ما يمكن حلّه من مشكلات توريث نجله بشار، خلال ما تبقى له من أشهر معدودات في الحكم، بعد تدهور وضعه الصحي. العامل الثاني كان تنصّل باراك من «وديعة رابين» الشهيرة، وإفراطه في مطالبة دمشق بنوع من السلام الشامل والسريع في آن معاً (علاقات دبلوماسية، تطبيع اقتصادي وثقافي وسياحي، ترتيبات أمنية خرافية، تقاسم للمياه، الخ...)، مقابل غمغمة غير واضحة عن «إنسحابات في الجولان» وليس عن «انسحاب من الجولان».
ومجدداً، ولكي تبدو هذه الضرورات غير منسلخة عن سياقاتها التاريخية الماضية والراهنة، لا مناص من استذكار المحطات الكبرى في مسعى النظام لإنجاز حال متقدمة من السلام مع إسرائيل:
ـ منذ عام 1973، قبل الأسد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، فاعترف عملياً وحقوقياً بأنّ الدولة العبرية جزء لا يتجزأ من تكوين المنطقة ومن نظام الشرق الأوسط السياسي والجغرافي؛
ـ وفي عام 1974، بعد توقيع "اتفاقية سعسع" وإقرار نظام الفصل بين القوات ونشر مراقبي الأمم المتحدة، لم تُطلق في هضبة الجولان طلقة واحدة تشي بانهيار السلام التعاقدي، مبرماً كان أم افتراضياً؛
ـ ومنذ عام 1976 أيّد النظام قراراً أممياً يدعو إسرائيل إلى الإنسحاب من الأراضي العربية المحتلة، مقابل "ضمانات حول سيادة، ووحدة أراضي، واستقلال جميع الدول في المنطقة"، و"الإعتراف بحقّ هذه الدول في العيش بسلام داخل حدود آمنة معترف بها"؛
ـ وبعد ستّ سنوات وافقت سورية على ما سًمّي "مبادرة الملك فهد" التي اعترفت عملياً بحقّ إسرائيل في الوجود (رغم أنّ ذلك الإعتراف لم يرضِ الدولة العبرية آنذاك)؛
ـ وفي عام 1991 حضرت سورية مؤتمر مدريد، بعد أن شاركت في قوّات "حفر الباطن" وعمليات "عاصفة الصحراء"؛
ـ والوقائع اللاحقة ليست أقلّ دلالة، من لقاءات حكمت الشهابي ـ أمنون شاحاك، إلى لقاءات فاروق الشرع ـ إيهود باراك، ولا نستنثني ما تردّد عن اللقاءات السرّية بين ماهر الأسد ـ إيتان بن تسور في العاصمة الأردنية عمّان، أواسط العام 2003.
وبهذا فإنّ ما أثار إعجاب باتريك سيل، وقبله أثلج صدر فاروق الشرع، من حديث للأسد الابن عن استعداد سورية للعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل، ليس سوى قطرة من عباب سبق للأسد الأب أن أغرق به البلد، فبقي العباب سراباً يطلق جعجعة لا طحن فيها. ومن عاثر حظّ هضبة الجولان المحتلة، الجميلة الأسيرة الأثيرة الغالية على قلوب السوريين، أنّ مَن أضاعها في الحرب ليس عاجزاً عن ردّها في السلم فحسب، بل هو حوّلها إلى الدوام إلى صفقة مقايضة لقاء الحفاظ على بيت السلطة ومدّ النظام بالمزيد من أسباب البقاء. وما يهمّ الشارع السوري ليس تصميم بشار الأسد أن "يكون صنع السلام هو إسهامه في إرث بلاده"، كما نقل عنه سيل، بل أن لا يعيد إنتاج نظام الاستبداد والنهب والمافيات على نحو أدهى مما فعل أبوه طيلة ثلاثة عقود. ومن المدهش أن ينتهي كاتب خبير في قضايا الشرق الأوسط إلى التماس العذر القبيح التالي لاستمرار انتهاكات حقوق الإنسان في سورية: ثمة ممارسات أسوأ ترتكبها الولايات المتحدة وإسرائيل! أهذه خبرة على هيئة كوميديا أخطاء، أم كوميديا سلوك؟
ليس عجباً أن الخبير ذاته كان يجلس إلى مائدة الأسد في دمشق، قبل أيام معدودات من تقديم هذه الخبرة إلى الرأي العام!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم


.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام




.. دلالات استهداف جنود الاحتلال داخل موقع كرم أبو سالم غلاف غزة


.. مسارات الاحتجاجات الطلابية في التاريخ الأمريكي.. ما وزنها ال




.. بعد مقتل جنودها.. إسرائيل تغلق معبر كرم أبو سالم أمام المساع