الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بصقة فى وجه العالم

صفوت فوزى

2023 / 11 / 14
الادب والفن


فنظرت وإذا أنا أعدو لاهث الأنفاس حافى القدمين ، شاحب الوجه زائغ النظرات وسط خرائب مهدمة . تلاحقنى الصيحات المستغيثة ، تطاردنى أنات تخرج من حناجر مردومة بالأنقاض . أرى رجال يستخرجون من بين الردم جثث أطفالهم ، بالأمس كانت العصافير تنام بين أيديهم . صبايا فى عمر الزهور كن يحلمن بيوم العرس وإنجاب الأطفال يتحولن إلى دمى مشوهة مذعورة . ورود بيضاء حولتها الدماء المسفوكة إلى ورود حمراء قانية . اصوات القصف تتعالى ، تصم الآذان ، والبيوت التى كانت عامرة بالونس وأنفاس الحياة ، تحولت إلى غبار يملأ الآفاق . رجال هدهم التعب والعجز وقلة الحيلة يوارون جثث احباءهم فى أكياس القمامة بعد أن نفذت الأكفان ولم يتبقى منها شيء . امرأة الجار الحسناء ، كانت حاملأ فى شهرها الثامن ، ممددة وسط الركام تعانقها طفلتها الصغيرة مشدوهة النظرة يطل الرعب من عينيها النجلاوين الميتتين ، وبجوارهما يرقد الزوج الصريع . طيور مرعوبة تحلق فى الآفاق متخبطة وكأنها نسيت كيف تطير . جرذان قميئة منتفخة تطارد قططا تجرى بأقصى سرعتها وهى تموء باحثة عن مأوى وحماية . حمامات الدور طارت فزعة . مدينتنا التى كانت هادئة ، تنتحب طوال الليل ، وتمسح دموعها بأكفان الموتى ، وقمر يبزغ على مدن ليس فيها سوى رائحة الموت ، وصخور تبكى على الراحلين المغدورين . لاماء ، لاكهرباء ، لاغذاء ، لا شيء سوى موت قاهر يعربد فى الحارات والأزقة ، وأطفال صغار لم يعرفوا الضحك يوما ، بل ولدوا فى قبور ، وهاهم يموتون فى قبور . العالم معصوبة عيونه ، يتلذذ برؤية الموت والدمار ، ماض فى غيه ، يدير وجهه بعيدا عن القتلة ، ويدين القتلى الضحايا . الجحيم الذى وصفوه لنا فى الكتب المقدسة ، هانحن نعيشه ونراه بأعيننا ، نشم رائحته ، وتتلمسه أيادينا . امرأة وحيدة تعانى آلام المخاض حولها أطفال يأكلون خبزا يابسا ، فيما تدوى اصوات الانفجارات حولهم وتتحول البيوت إلى اكوام من رديم . اختفى النور الطالع من المآذن ساعة العشاء وتسيد الظلام . رحل الونس الذى كان مبدورا فى البيوت والشوارع . أم مكلومة ، تقف وسط اطلال بيتها المتهدم ، تقشر ما تبقى لديها من ثمرات البطاطس ، لتعدها غذاء لمن تبقى من أفراد عائلتها ، وعلى البعد جثة مشوهة لطفل رضيع تعجز أمه عن التعرف إليها .
يئن الشجر ، يئن التراب ، يئن الحجر ، تئن الشوارع ، الجدران المتداعية ، تئن الأرصفة ، وتئن الطيور . رجل مقطوع الأنفاس ، وجعه يشلب دم فى صوته ، معفرا بالتراب والرمال والغبار ، يبحث عن أولاده بين الأنقاض آملا أن يكونوا مازالوا أحياء .
أغمضت عينى متعبا ، وغفوت . عندما انتبهت ، كانت المذيعة المتأنقة فى التلفاز ، بشعرها المصبوغ المستعار ، ووجهها ناصع البياض ، نحيل ، يزيد من نحوله عيناها الكبيرتان السوداوان ، تنوه عن فيلم رسوم متحركة يعلم الآطفال والكبار أهمية الحفاظ على السلام والبيئة النظيفة . أدرت المؤشر غاضبا . كانت المحطة التالية تستضيف رجلا يرتدى بدلة رمادية وربطة عنق زرقاء تتدلى على صدره بلا معنى ولا وظيفة . كان يستعرض نصوص الاعلان العالمى لحقوق الانسان . لشد ما أنا مهان وعاجز ، مربوط اليدين والقدمين . كأننى كبرت مائة عام . بدت لى ملامحى شبيهة برجل أوغل فى العمر . محنى الظهر ، تطل من عينى نظرات بلهاء ، ابيض شعر رأسى ، وهزل جسمى . أبصق على الشاشة وعلى الاعلان وعلى العالم المغيب المضلل الذى يتشدق بالحريات وحقوق الانسان وكثير من الرطانة الفارغة ، ويغمض عينيه عامدا متعمدا عن المجازر التى تبيد شعوبا بأكملها دون أن يطرف له جفن .
___________________








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب