الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة في تابوت

رولا حسينات
(Rula Hessinat)

2023 / 11 / 14
الادب والفن


بقي وقعها في قلبه يرجع صدى كلما وضع الدراهم المتبقية في فخارة يلفها بالقماشة التي ناولته إياها تلك الفتاة ذات العيون الزيتية، بعد أن تناول ما فيها من سمن وزبد، وبقيت رائحتها تفوح بما علق من عطرها ليأخذه نفساً عميقاً، ومن ثم يخبؤوها في صندوق معدني تحت سريره الخشبي، ويغطيه بملائته الثقيلة، ويبقي على جلسته على الأرض الخشبية، وهو يعيد ذكريات ذلك اليوم الجميل الذي أدفئ قلبه، ولأول مرة ينصت لعزفه: إنه يحبها بعزف بطيء ثم يتسارع ثم يطول بفراغ في قلب جوفه، يتبعه بشهقة طويلة ثم تفرّ الدموع من عينيه، وهو ينظر لحاله الذي لم يتغير منذ وفاة أمه الذي كان فاجعة له، لم ينس منظر الدماء الحمراء ورائحة الفراق بعد معركة طاحنة راح ضحيتها كل الأنقياء...مسح دموعه بطرف قميصه، ومسح السائل الحار الذي نزل بسلاسة من أنفه، وبقي على ذكرى تلك العيون الجميلة...
الديك الذي يسكن عند بيت جاره غليظ الصوت يصيبه بالجنون؛ فهو يوقظه في كل وقت من النهار، هل هناك الكثير من الملائكة؟ وفي الليل ينام شوطه الطويل ثم يصمم على إيقاظه! تتبعه مناوشات من السباب بين الجار صاحبه وبقية الجيران بمراشقة تبقى فطوره اليومي حتى تصل دفقة النور إلى سريره بالكامل، ليقوم ويتوضأ ليصلي، ثم يمضي إلى عمله على لحم بطنه، ولكنه قرر أن يتوقف عن ذلك فقد أخذ عهداً على نفسه أن يستيقظ مع الديك حتى يصلي الفجر، وصلاة الضحى ثم ينطلق إلى عمله بعد تلك العداوة التي عاشت زمناً بينه وبين الديك الملعون، جعلته ينصت وينصت جيداً؛ بأن الحياة الدنيا متاع الغرور، لقد عزف عن الدنيا بكل زينتها؛ لباسه من قميص وسترة دافئة في الشتاء وفي الصيف قميص أبيض وسترة دافئة، لم يتغير فيه شيء؛ فعمله في جو خانق، ليس فيه منفس جعله يصاب بالعطاس والبرودة والقشعريرة عندما تصفعه البرودة الجليدية التي تجعله يشعر ببرودة كبيرة..
لقد ملّ من كل شيء نفس المشاهد اليومية؛ مروره تحت سيل من تراشق السباب، واللعن من جيرانه، والديك يبقي على صياحه دون أن يفكر في حل الخلاف، ويتابع ببطء السير بين المحال التي تفتح للتو أبوابها، من قوارير الزيتون الأسود والأخضر المغمسة بالزيت المائل لصفرة يانعة، مصفوفة بعناية والتوابل ذات الروائح النفاذة من زعفران، وهيل، وكركم، وعصفر، وزنجبيل، ويانسون، وجوزة الطيب، والحبة السوداء، والكري وغيرها من توابل تتراقص في ألوانها، والجبن الأبيض الذي يقوم صبي بصفه فوق طبق فضي بعناية فائقة، وصبيان محال أخرون يرشون المياه أمام أبوابها، وكلما توغل في السوق كان أمامه الكثير من المعروضات من محال الأنتيكات والخزفيات، والمشغولات الفضية، والخشبية، والعباءات ذات الفراء بأصباغ زاهية، والكثير الكثير من المعروضات حتى يصل أخيراً إلى باب محل الحاج للقماش وهو لم يسبق الحاج يوماً يجده دائماً جالساً خلف مكتبه الذي تتربع على صفحته قماشة تركية خمرية اللون، والكثير من الأوراق، وكأس كبيرة دائرية الشكل فضية اللون منقوش عليها، تنتهي بفتحة صغيرة تخرج منه قشة صغيره يشفط منها الحاج الزهورات الساخنة، يلقي عليه التحية، والكثير من الأصوات خلفه تدخل المحل الكبير، وهم يسألون عن ألوان وأنواع للقماش الذي ذاع صيته، وذهب بريقه، الكثير من تجار، وزبائن فيما هو يعبر إلى حيث الكوة الصغيرة يزيل عنها زجاجها بمتراس حديدي، وملفوف عليه قطعة قماشية سوداء لتجنب أشعة الشمس...وفي الأفق تعانقت الظلال مع الجبل الأزرق البعيد، حيث كان كثير من الرجال يسيرون إلى البحر حاملين معهم زادهم وقد ارتدوا الكثير من الملابس الدافئة؛ معاطف مبطنة بصوف الغنم...كانت أهازيجهم رغم الكثير من المعاناة التي سيعانونها لسوء الأوضاع عند الشاطئ الطويل الجنوبي، وهم سيعاندون الأجواء الباردة، بقليل من المؤونة، وكثير من الأمواج التي ستأخذهم إلى البعيد، ما يريده فقط أن يبيع القماش هذا هو رأيه الصواب، كان ذلك بعد فترة طويلة من رحلة هؤلاء الرجال للبحر؛ ليبنوا الميناء، وقد استنفذ قدرته على الصبر، يريد أن يجمع المال الكافي؛ ليهجر كل شيء، ويعود لتلك التي تتراءى له في كل لحظة. ما الذي عليه أن يفعله أكثر؟ ولم لا يتحالف مع القدر، ويوقع هدنة؟!
صوت الديك مازال يعرج كل صباح فوق بيته الصغير، بعد أن أعجز الرجال إمساكه قدر أن يهرب منهم إلى سطح بيته، ربما عرف أنه مهادن... إنه صامت، إنه لا ينطق سوى أنه راغب في البقاء بعيداً عن كل ما يشترك فيه البشر...الساعات الخمس الأولى من النهار كانت شاقة حين علا صوت الحمالين، يضعون أصناف القماش، والكثير من القماش الفارسي الذي سيعجب تلك البلاد البعيدة كانوا راغبين بأجرة مرتفعة؛.غناؤهم تارة ودعاؤهم للحاج بالبركة، والأحجار تلتقف بعضها بعضاً في مسبحته ذات المئة حبة، صوت الأذان لصلاة العصر كان ينبئ بانتهاء العمل فقام الجميع للمسجد وقف الأمام يحدثهم عن ويلات التعلق في الدنيا ...:"ففيها ينفطر القلب، وتجهل الروح مبتغاها، فتغيب في هوى غير هواها، وبات ينبؤهم عمن يتعلق في دنياه؛ كالذي يمسك خرقة قذرة من دم فاسد."
والكل له منصت، وهو يجمع بين صورتها الدافئة، وبين تلك الخرقة، يهز رأسه بالنفي، وقد ثقل صدره، لم يفطن إلا والإمام يقيم للصلاة، الكثير من الهمس ارتفع إلى صخب عند انتهاء التسليم، جنود السلطان يعلنون منشوراً سلطانياً بالتجنيد الاجباري، لم يكن هناك مفر فهو سيجند، فله شقيق غاب في السوق ليأخذوه هو، وليدعوه دون أن تضيع فرصه بالزواج من تلك الجميلة البعيدة المنال، الوجوه العالقة بين الجنود وبين التسليم، تتلقفها لفحة الخبر فتغوص في الجلابيب، غير أن يد الجند تتلقفهم الواحد تلو الآخر، لم يكن له من فرار في أن يخرج من المسجد أو أن يبقى لكن أين البقاء؟ في المسجد الأحمدي غير مأمون، فقد كانت قبابه قبل عشر سنوات تتهاوى فوق من فيه من تلك المناجيق التي اصطفت لإزالته، ولولا رجاء العلماء من السلطان أن يتركه كونه ميراث قديم، والناس في المدينة يتبركون فيه وأن لا ضرر من اجتماعهم معاً وتبادلهم أحاديثهم لما بقي منه حجر...وعندما علق: بأنه يثير الفوضى ويؤلب القلوب حوله،...بين توعدهم بالعقاب، وعدم المساس بالمسجد هوت القباب الواحدة تلو الأخرى وقد قتل خلق كثير، ولم ينجو أحد ممن فيه، ولم يعاتب أحد السلطان؛ فقد كانت رسالته: بأنه لن يسمح بشيء هو لا يريده.
وها هو اليوم معلق برحمة الخروج من المسجد إلى التجنيد الاجباري أو البقاء ينتظر قباباً جديدة لتتساقط كسفاً، الكثير من الوجوه توارت إلى الممر الذي يأتي منه المؤذن، ولكن ارتفعت عقيرتهم بالصراخ بعد الفلقات التي تناولهم بها جنود السلطان، وكان الخروج يعني معجزة... الجميع بدأوا الواحد تلو الآخر يجرون إلى العربات والجلبة بدأت تهدأ دون أثر لنزاع أو تبادل للسباب فالسوط ينتظر، والعربات تنتظر، لم يكن أمامه سوى أن يدعو الله أن يخرجه من هذا الضيق؛ الذي هو فيه؛ فظلمته كانت أكثر سوءاً من سجن يوسف، ومن يونس وما عليه سوى أن يغرق في دعائه.
كما غرق في غرفة يد ربتت فوق كتفه انتزعته من كوفيته ... وكيف عثر عليه جند السلطان وهو غارق في دعائه؟ صوت الإمام جاءه برداً وسلاماً: لقد انفض الجمع وانشلتك يد الله.
الأطباق التي تناثرت، والدجاجات قد التفت حولها، وهي تنقر ما تبقى فيها من حبات الأرز الأبيض التي كانت بقايا طعام الغذاء الذي أعدته، النخر الذي تشعر به في قلبها يضيق ثم ينغز ثم ينفرج، وما يلبث أن يضيق فتضيق عينه وتلتهب بحمرة حانقة، وتمطر دمعاً حارقاً مالحاً يحفر أخدوداً أحمراً فوق النمش البني فوق خديها....
- أنت منزعجة لا تقلقي. قالت أختها الصغيرة، لم تنظر إليها وهي تزيح وجهها وتقبض صدرها بيد، وتمسح دمعها بيدها الأخرى.
- لم يكن هناك داع لأن تنزعجي، هم دائماً يقولون أشياء لا يستطيعون تنفيذها رغم أني أعلم أن لهجتهم لم تكن كتلك قبل سنوات... وصمتت، وهي تستجمع قوتها لتقفز عن الصخرة، تجمع جيدها إلى ساقيها وهي منحنية تجمع الأطباق والدجاجات قد فزعت ونقنقت، ثم وضعتها في الطشت النحاسي الكبير، وأختها تعلق ناظريها بالأفق البعيد. بدأت برغي الصابون وتضعه فوق القماشة الخشنة، وتدعك الاطباق فترتفع الفقاقيع برغوة بيضاء حتى بدت الأطباق غريقة فيها... كانت يد أختها أسبق من يدها لتنتشل الدلو من البئر لتغسل الأطباق، انتهيتا وحملتاها معاً إلى البيت، بعد أن دفقتا الرغوة فوق الصخرة التي كانت تجلس عليها قبل قليل. أغلقتا الباب، وصوت أمهما يعلو: بأن ترتبا الأطباق، وتمسحا الأرضية، وتذهبا إلى الحقل لجلب الخضروات قبل حلول الليل...
نثرت الحبوب الزهرية من جيبها طيلة الطريق، وقد تبين أنها مثقوبة تعجبت فهي لم تعرف بهذا الثقب من قبل، انشغلت بالثقب ونسيت أمر جمع البذور التي ناولتها إياها أختها قبل قليل.
- ما الذي جعلك تعرفين أن الأمر مختلف هذه المرة؟
قالت وهي تضع آخر ثلاث نبتات من القرنبيط في السلة الكبيرة، بعد أن ضجت بالكوسا وبالباذنجان والكثير من الأعشاب الطبية المتناثرة فوق المرج من نبات البابونج والزعتر فهي تعرف فرحة أمها بها، وبخاصة بعدما كانت سبباً في شفاء جدتها من مرضها المزمن بالكحة التي تنتهي بسعال قوي لا ينقطع؛ فقد فقدت جدتها قدرتها على الوقوف، وعلى السير، وبقيت طريحة الفراش فترة طويلة، حتى تمكنت من الشفاء قبل موتها بشهر كامل، كان نبأ إصابة أكبر معمر في القرية بمرض ووفاته أثره السيء عليها؛ فقد كانت تتلوه في العمر؛ كانت قد تراهنت معهما أنها ستبقى بعده بعمر طويل، ولكنها لم تكن متيقنة من ذلك، ولم عساها تبقى وقد سبقها إليه أحدهم؟. ما أصابها من سعال بسيط كان لا يصيبها قبل سنوات، يبدو أن دودة النخر قد بدأت تأكل في كل جسدها منذ ذلك الحين، ولم ينفعها منقوع ماء الورد في إزالة التجاعيد، ومشروب الزنجبيل مع حبة البركة، والقرنفل في إبعاد التهاب المفاصل عنها، كان هذا يلهمها مستقبلاً في البقاء ولأنها قررت أن تغادر وتغادر بصمت، وصوت دعائها: بأن يقبضها الله إليه، يفتت قلبها حتى اليوم، فهي التي بقيت حتى النهاية مع جدتها ولم تخبر به أحداً، أبقت على هذا الدعاء حتى تدعوه؛ إن قدر لها أن يطول بها العمر فهل تفعل الآن؟، وهي لا تريد الرحيل، لا تريد لهم جميعاً أن يتركوا بيتهم الحجري الذي بقي أبوها زمناً طويلاً يمضي فيه إصلاحاً ورتقاً لسطحه بحجارة قوية جديدة، كان يحتاج صقلها لوقت طويل، وصبر، ولكنها لم تكن تظن أن يترك كل ما له ليرحلوا... ولم يرحلون؟ الجواب كان بارداً. لم تراهم سيبقون؟ الكل بين الرفض والقبول دون أن ينطقوا، كانت أعينهم تزيغ أمام رغبة أبيهم ذي الطباع الحادة.
رائحة المطر بدأت تأتيهم من بعيد مع الغيوم السوداء بمجيئها المبكر هذا العام مع سحابة ممطرة فوق بيتهم، ارتفعت طقطقة الحطب في الموقد، وقد بدأت تجدل جديلة أختها الصغيرة بينما جابر وصابر يقومان بنحت الأحجار الصغيرة ليتمموا لعبة الشطرنج التي سمعوا الكثير عنها من الشبان الذين يذهبون إلى المدينة البعيدة، ويعودون بالكثير من الأغراض التي يبادلونها مع مشغولاتهم أو خضرواتهم، كان الحلم في أن يذهبا.
الصمت المطبق أطبق على وجه أبيهم وحاله، تعابير وجهه لم تتغير وهو يرتشف كوب الشاي بالنعناع .
-لم يتبق لدي الكثير من العمر. قالها ببرود، وكل منهم تلقفته المفاجأة، وصمت وقد توقفت أيديهم عما يشغلها... ربتت الأم فوق كتفه وهي تتمتم: لا تقل هذا يا عبد الرحمن لك من العمر الكثير، لم عساك تقول هذا؟
- كفي عن ذلك يا ثبات... كفت يدها وهي تنظر إليه وتمسح بيدها دموعها.
- هناك داع يدعوني للذهاب إليه. تعلقت أعينهم بكلماته التي نزلت عليهم كوقع الصدمة.
- من هذا الذي ينتظر أباهم؟
و صمت لم يقل شيئاً مدة طويلة، وكأنه صام صيمته الأخيرة، واللون الأحمر يملأ الشفق البعيد...
جاءهم الخبر ..."سنغادر، الإشارة بأن هناك سفينة تنتظرنا بعد ثلاثة أيام أعدوا للرحلة ..." لم يكن الامر بالهزل، لقد كان قراراً حاسماً... أن الرحيل هو الرحيل، لا يعني البقاء بأي شكل كان. ابتلعت دموعها وهي تلملم حاجياتها، الكثير من الأردية والسراويل، الجرابات الطويلة، الأحذية الجلدية، الشالات الملونة، والقليل من الذكريات، هو سيعود قلبها لا يكذب، ولكنه لن يجدها.
- لكنه لا يعرفك جيداً كل ما فعلتماه أنكما تبادلتما النظرات، وبقي كلاكما كتمثال ينظر إلى الآخر.
أفزعها قولها وهي لم تنطق بشيء.
- كيف تعرفين أني قلت ذلك؟ هل هذيت به؟ هل نطقت دون أن أدري؟
- لا عليك يا سلمى... وهي تحرك رجليها ذهاباً ومجيئةً، تلاعب دميتها ذات الشعر الأسود التي صنعتها لها والدتها من بقايا وسادة قديمة.
- ربما الدمية عرفت ذلك، وأخبرتني.
الرعب دخل قلبها...ما الأمر؟ ما الذي يحدث دون أن تعرف؟ أمسكت بكتفيها وهزتها: قولي يا سمية...ما الذي يجري؟ هل تستطيعين التنبؤ بالمستقبل أخبريني؟! هزت برأسها وكأنها لا تعرف عما تسألها: لا أدري إنما هي أشياء أو لا أدري. وصمتت وهي تداعب الدمية، تركتها، ومضت لترتب حقيبتها، ونظراتها لا تفارق أختها الصغيرة... جمعت كل ما يحتاجانه لم يبق شيء لهما هنا... لقد كان الوداع والوداع صعب، لكنه ربما يكون بداية لشيء جديد.
صراخهم وهم ينادونها لتستقل العربة التي يجرها حصانان أعدها لهم جارهم الذي تعهد بأن يحافظ على البيت طيلة غيابهم، وأن يبقي على مفتاحه لديه، حتى يحتاجونه، كان ميثاقه قوياً نقشت اسمها فوق الصخرة، ومضت وهي تستنشق أنفاسه من البعيد... ظلت العربة تعبر بهم الطريق تلو الطريق، متعرجاً تارة ومستقيماً تارة أخرى، محملاً بالرياح وبالضباب والغيوم السوداء... ثلاث ساعات كانت طويلة بما يكفي لهم جميعاً، وبخاصة أمهما ثبات وهي تطيل الخشوع بصلوات وتسابيح، منكمشة على نفسها والصغيرة بينهما تطيل النظر بعينيها الزرقاوين إلى حيث كانوا، ولكنها كانت تنظر إلى شيء آخر.
- العاصفة. لم يسمعها سوى أختها التي انقبض قلبها، وأخذت تصلي عسى أن ينتشلهم الله من هذا الموت المحقق ...
كانت يد الإمام هي التي جعلت قلبه يتوقف ثم ينبض من جديد، مفاجئة مليئة بالطمأنينة.
- لقد انفض الجمع...
- ماذا؟ بقي على ذهوله...
-لقد ذهبوا إرادة الله في أن تبقى لتذهب برسالته إلى البعيد...
-استغفر الله ... ما الذي يخبأه الغيب...
صوت الحاج جاءه ملهوفاً...
-لقد تأخرت... كان سؤاله غريباً، وكأنه لم يشهد جنود السلطان، كل شيء كما تركه، سجاجيد الصلاة، والعتالين فوق الحمولة، والحاج يفرك بكلتي يديه: لقد تأخرت كثيراً.
- لكن جنود السلطان...
- أين هل مروا من هنا؟ لم نر أحداً.
- لقد كانوا قرب المسجد جندوا خلقاً كثيرًا...
- ماذا لم نسمع شيئاً من هذا القبيل... بسم الله، بسم الله... وضع الحاج يده فوق جبينه وهو يتم التسمية لقد أصابتك الحمى، ربما أصابك التعب من الشمس الحارة... أتريد الذهاب لترتاح هز رأسه، وهو يقول: لا، لا أريد الذهاب. مضى إلى المستودع، لملم أغراضه، وضعها في حقيبته ومضى... لن يودع أحداً لقد أصبح ذاهلاً، كل شيء حدث معه... لم يحدث وكأن هناك سوءاً حدث لعقله... مضت العربة به وهو يجلس بقرب الحادي وهو يتم الدعاء... نصف ساعة كان قد نسي أمر المدينة التي علا صراخها... فقد جاء جند السلطان يجمعون الناس للتجنيد...
الحمالون يحملون البضاع ويضعونها في قلب السفينة، والكثير من الأجساد تراصت في الجزء الآخر من قلبها، الكثير من الروائح الثقيلة، الأبخرة، التوابل، الأطعمة، الحيوانات، الطيور، البشر كلها اختلطت مع بعضها البعض ، وأزكمت أنوف العائلة وهي تسير خلف أبيها دفع أكثر لتصبح لهم مساحة أكبر ...لكنها لم تكن كبيرة، كانت بمتر أو مترين طولاً وعرضاً لم تتسع لهم ولحاجياتهم، افترشت الصغيرة وأختها وأمهما الجزء المخفي بحقائبهم، والأخوان والأب بالنصف الآخر، وبقيت أرجلهم مكفوفة كي لا تتعثر بحقائب عائلة أخرى، لم تتوقف ألسنتهم عن الدعاء وقد رفعت المرساة وأشرعت الأشرعة، السفينة تقلب الماء وأصوات قلبها المعدني تعمل في جوفها، فأصابتهم بدوار البحر، لم تتقيأ الصغيرة لكنها بقيت فاتحة عينيها وكان هناك ما يرعب الأم، أخذت تلهج بالدعاء وهي تمسك فمها والحمض يخرج ثم يعود إلى جوفها، وهي لا تلوي على شيء... الأصوات، والإزعاج والضجيج تصاعدت حتى لم يعد أحد يسمع أحداً... يهذي: سنأتي، سنأتي.
همست الصغيرة وسط الضجيج بصوت مخنوق: العاصفة ونامت نوماً عميقاً.
لم يجد له مكاناً في قلب السفينة فبقي على سطحها، وهو يراها بين عينيه... لقد ذهبت أحلامه لقد غابت وطيفها وابتسامتها ، بدأ الشك يراوده... ماذا لو أنها جان؟ ولكن كيف يعرف ذلك؛ أنه لا يهذي... لا يحلم في وضح النهار... الشبان في مثل سنه ينتشرون فوق السفينة يبدو أنهم تسلموا أعمالهم دون يرفضوا ربما شعروا بأنهم رهن هؤلاء، إذاً عليهم أن يستسلموا لمشيئة القدر .
هيجان البحر وغضب ما فيه جعل يلاطم السفينة وهو على سطحها يتأرجح من زاوية إلى أخرى يتمسك بالأشرعة، ربط على بطنه بحزمة من تسليم القدر، وهو يبتلع حجراً في فقده لحبيبته تلك التي عانده القدر في لقائها، وأين سيلقاها بعد كل هذا لن يلقى شيئاً وظل الثوب الأبيض عالقاً بين ناظريه، وقد أغمض عينيه حين تلقفت السفينة موجة عالية قصمتها إلى نصفين.
الأدعية والابتهالات وما جأر في قلب السفينة لم يكن ليمنع القدر ...
-سنغرق لا محالة سنغرق إنها البداية إنها البداية. القلوب التي وصلت إلى حناجرها لم يستطع أي منهم ابتلاعها، كل ما كان انتهى بالنسبة إليهم لم يعد هناك ماض ليتعلقوا فيه لم يعد هناك مستقبل ليحيلوا أنفسهم إليه، لم يعد هناك قشة يتعلقون فيها لقد انتهى الأمر، ولكنها البداية أي هذيان تهذي فيه الصغيرة، أعينهم تنتقل بينها وبين دفة النهاية... اغمضوا أعينهم وهم يتشبثون ببعض حين أظلمت الدنيا ولم يبق لهم أي قشة.
الشمس الحارقة التي مدت سياطها فوق الأجساد المترامية على أخشاب النجاة، والكثير من النوارس التي تحوم تتلقف أسماك الشواطئ غابت فوق خيط الأفق، والعالقون فوق الأخشاب يقلبون نظرهم بين السماء والبحر فلا يميزون الخط الفاصل بينهما، كلاهما طعمه مر، كلاهما لونه أزرق، وكلاهما يحمل رائحة النهاية...لم يستطع الكثيرون فعل شيء بقوا متسمرين فوق المياه المالحة تلذعهم وأطرافهم المتجمدة، والحرقة الحمراء تحرق أجسادهم ...
رغم أن الشاطئ بدأ قريباً إلا أنه لم يستطع أن يصل إليه إلا بشق الأنفس، رغبته في البقاء ورغبته في الذهاب تتقاسمان وجوده لتجعلاه على الخط الفاصل بين أن يترك جسده يهيم فوق سطح الماء، أو أن يبتلعه الموج، ثم يلقي القلم كلمته لينتهي في قلب وحش من وحوش البحر أو السماء...عندما تحين النهاية فلا فرق حتماً سينتهي دونها. لقد ترك كل شيء ليذهب إليها فلم يعانده القدر ويأتي به إلى هنا؟...وأي قدر هذا الذي سيعيده إليها؟ ليقول فقط: إنني فاروق ذلك الأبله الذي أحبك من أول نظرة عندما تاهت به قدماه بين الجبال ليشتم ريحك!
أيكون له هذا اليوم ربما...؟! ولكن... بعد الموت.
أضاءت عيناها بالنور وهي تلف يدها المتصلبة على خاصرة أختها، نظرت حولها سمعت اسمها، لكنها لم تر شيئاً...
الغشاوة التي غطت عينيها والماء المالح الذي عافته أنفاسها ملأ رئتي الحياة التي غابت بغمامة الشواطئ البعيدة ولكن ساقاها تسوقانها إلى حيث النجاة؛ إن لم تكن لها فلأختها الصغيرة.
القادم الأول الذي خط أول خطواته إلى الجزيرة ظل مفترشاً الرمال الذهبية الحارقة التي لا بد أنها جزيرة النجاة، ظل قرص الشمس الأحمر عالقاً بين عينيه، وهو لا يستطيع أن يتوارى عنها إلا بالرمال الحارقة...جاءه الصوت من بعيد.
-إنهم الناجون، إنهم الناجون...لم يعرف ما الذي عليه فعله سوى أنه قد نجى! لكن بين يدي من؟ لا يوجد أسوأ من هكذا نهاية! أفاق على تلك الحرقة في جسده، وتلك النيران التي تكويه في غرفة واسعة وامرأة في عقد العشرين تطبب جراحه، كانت أشبه بحورية من البحر مضيء وجهها.
-أين هو؟ هل صدق المولى حين قال: أنهن الحور العين؟! لم تكن بعينين خضراوين، لم تكن ببياض ناصع... كانت بجمال لم يره من قبل، خفق قلبه، ونطفت روحه، وأسلم جسده لها، وهي تطببه، إن كان في الجنة فهي أجمل ما يريد، وإن كان في الأرض ف ...أي خيانة هذه التي سوف...
إنها فلسفة الخيانة التي لم يستطع التخلي عنها، ربما لأنه يريد أن يجد خيطاً يمسكه ليعيش ... أراح جسده وهي مستمرة بمسحه بدهون له رائحة الكافور والحناء...
أمالت الشمس لهيبها وقد استقرت ملامح وجهه، وهو يهبط بنظره ويصعد رغم مرجل الغضب الذي أخذ يغلي في جوفه إلا أنه تمسك بكل ما يمكن للزعيم أن يفعله، الاستقرار الذي صنعه...هو هبة السماء.
ففي بلاده الممتدة حولها الشواطئ من كل الجهات، وأشجارها الخضراء الباسقة التي تصفق جذوعها السماء البيضاء وتضرب بسيوفها الرمال الذهبية، كل ما يحيط بجزيرته، وكل ما يغلي فيها ملك يده لن يصارعه فيه أحد ولكن الذي يحدث هذه الأيام لن يستطع أحد تغييره؛ الموت الذي يضرب بلاده من كل حدب وصوب، لن يستطيع إيقافه...
ولكن ما الذي حدث؟ وما الذي جرى؟ هو لم يستطع تخمينه... السماء لم تمطر سوى الموت. كان ذلك طيلة الأشهر الثلاثة الأولى؛ المطر الذي نزل من السماء لم تبتلعه الأرض بقدر ما ابتلعه أناس مملكته... شربوه فقضوا... حتى ماء البحر لم يقض فيه أحد منهم... فلم هو معجون بماء المفاجـأة ويشرب منقوعه دون أن يكون له حول ولا قوة؟! أسطورة زومبا لا بد أنها انتهت، بقيت الغصة كحجر الطاحون يدور في حلقه.
الحكيم آشاس الذي يسكن في مغارته أعلى قمة الجبل الأبيض الذي تمتد فوق سطحه الكثير من الزهور ذات الرؤوس البيضاء، والتي تبقى طوال أشهر السنة لا تمل من بياضها أو تنتهي منه بفعل جدب أو عارض ما...منذ الآلاف السنين وهي على هذا الحال بقيت فاجعة أمام عينيه لقد ماتت كلها عن بكرة أبيها، لم تترك لها حتى الجذور.
بقي الحكيم عاجزاً عن تفسير ذلك، وبقي صائماً عن الكلام، وهو يرى أبناء المملكة يقضون الواحد تلو الآخر دون أن يدلي بدلو حكمته في الفصل في الأمر. أطال النظر من الشرفة المطلة على البيوت البيضاء ذات النوافذ والأبواب الخشبية، وهي تصفق فيها الرياح فلا تمتد يد لمنعها لتكف عن اللعب مع الريح... الريح الصفراء، والماء الآسن، والحياة الصعبة التي لا تمتد إلى الأفق قبض إليه عينيه، وكأنما ارتعشت الصحراء بين ناظريه...
- سيدي الحكيم آشاس يطلب رؤيتك.
-آشاس ما الذي سيأتي به الآن...؟
حول الطاولة الخشبية في غرفة المعيشة المستطيلة الشكل، والتي تمتد منها الأطر الخشبية المنقوشة حول سقفها، وقد وضعت المشاعل المعلقة على الجدران، وقد بدا لون الجدران مائلاً للون الكستنائي والمشاعل فوق الطاولة بدت أخيلتها متراقصة فوق السقف، والتي تعلقت أعينهم فيها... الصغيرة بدت مستأنسة، وهي تتابع النظر مع الأدخنة المتراقصة.
وقعت الكلمات المتراصة من الحكيم باردة على رأس زومبا وهو يرتشف ما تبقى من ماء على شفتيه الجافتين ..أخذ يردد: هناك من سيأتي فلنسامح ، ولننتظر...
- ومن هو الذي سيأتي ومتى ومن وكيف؟! مئات من الأسئلة تراصت فوق رأسه، الجهد الذي يبتلعه مازال حارقاً يسقط فوق معدة خاوية... تمتم: ومن يكون؟
أطرق الحكيم رأسه، ثم رفع عصاه الخشبية ذات الرأس المدببة، والقاعدة كالدبوس بيده، ويده الثانية بسطها وقد شخص ناظراه في الفراغ، ونطق بصوت جهوري: إنها الرحمة، إنها الرحمة فلننتظر... ومضى وهو مازال على هذه الحال حتى سقط صريعاً عند باب زومبا الذي جحظت عيناه.
- هل يمكن أن تأتي الرحمة؟ وهو يرى الموت يقطف أعز من لديه من أصحاب، ورفقاء وقد وصل موسم القطاف إلى الحكيم بعينه.
شهدت البلاد حزناً دفيناً وقد أغلقت النوافذ والأبواب وطليت بالسواد، وكل ما من تبقى فيها خرج معصوب رأسه بعصبة سوداء، وقد نكست الأعلام، وبقيت الديدان هي من تسير حافية القدمين فوق الطرقات... وفي المزارع التي تكوم فيها كل ما هو فوق الأرض، وابتلعته في جوفها... الأبقار والماعز والأغنام أغلبها نفقت، ولم يبق منها إلا القليل ...
-قلت لك أنه سيأتي...عندما يسقط النجم في الوادي ستعود الحياة.
قالتها وكل من على المائدة ينظر بغرابة لهذه الصغيرة...حتى زومبا بدا مشغولاً بما قالته...
-من هو الذي سيأتي؟ أخبريني اين أجده؟
مشى طويلاً بين البيوت الفارغة، وهو يتأمل بأسى مشهد الموت...قبض قبضة من الرمال وجه وجهه نحو السماء حين اعتصر الشفق الأحمر، وتلاشى في سواد الليل كانت المشاعل قد التفت حوله، وقد دار رحى الهمس حتى وصل إلى أذني زومبا...خرجوا جميعاً وهم يبصرون النجم الذي هوى في الوادي، وهم يشتمون رائحة الحياة...
-إنها البداية ...إنها البداية...قالتها الصغيرة وهي تغمس عينيها بالنور الرباني.


النهاية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب