الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة فنية-متعجلة- في قصة قصيرة -قدر الأمواج- للكاتبة التونسية زينب بن عبدالله نافذة مفتوحة على الأدب النسوي التونسي

محمد المحسن
كاتب

2023 / 11 / 14
الادب والفن


"هنالك فرق،فرق كبير بين الكاتب والإنسان العادي،الكاتب فنان،حالم،مليء بالرغبات،بريد أن يهدمَ العالمَ ويبني عالما جديدا،عالما خاصا قد لايعني الآخرين-عبد الرحمن منيف-

-نسعى على امتداد هذا القراءة محاورةَ النصّ ومقاربةَ مساحاته المعتَّمة، وليس فَضّ أغلاق النصّ والوصول إلى ضوالّه غاية في ذاتها (الناقد)

تقديم :
رغم انتشاره الهام على المستوى العربي مؤخرا،ما زال فن القصة القصيرة جدا يواجه العديد من الإشكاليات المزدوجة،من ناحية كتابته من جهة وتقبّله أو قراءته من جهة أخرى.فهذا النمط الأدبي عرف الكثير من الجدل وما زال،خاصة من حيث شكله وطرق تشكّله التي أقحمته في أجناس أدبية أخرى كالشعر أو الومضة،أو من حيث استسهال البعض لكتابته رغم ضعف الفكرة وتردي اللغة،بينما يبقى القراء متذبذبون حال الكتّاب،بين جدارة هذا النوع الأدبي في استقطابهم واللبس الذي يخلفه.

حين تدفع بنا المبدعة /الكاتبة التونسية زينب بن عبدالله إلى الولوج-عنوة-إلى فضائها الإبداعي،فإنما نراها تسعى-بجهد غير ملول–إلى أن تكون شاهدة على عصرها وفاعلة فيه بالقدر الذي يحتمله واقع المنع والإباحة،لذلك فهي تجرنا كما أسلفت-دون وعي منّا-إلى ذواتنا أو هي تذكرنا بها مشروخة مشظاة ..
ولا عجب فيما أزعم إذا علمنا أن-هذه المبدعة التونسية جاءت إلى القصة القصيرة من أبواب الحياة الشاسعة،وراحت تؤثث فضاء لغتها بالمجاز وبالإستعارة ذات الكثافة الحسية،والتوتر والإيحاء مما ساهم في إيجاد مناخات عالم قصصها المعبرة عن علاقة شخوصها المختلفة والمتوترة مع الذات والعالم التي تتركها لمصيرها الأعزل وحيدة ضائعة،مستلبة ومقهورة بسبب الشرط الإجتماعي والوجودي المأسوي الذي تحياه،والذي يجعلها تنكفئ على دواخلها-المعطوبة–وتعيش في مناخ كابوسي لا تجد سوى الأحلام وسيلة للهرب،وإشباع رغباتها المستفزة والمحرومة .
الراوية التي تتحدّث إلينا في هذه-اللوحة القصصية المبهرة-شخصية متخيلة لا تكاد تختلف عن أي شخصية من الشخصيات المتخيلة التي تعرضها علينا القصة،الإختلاف الجوهري الوحيد أنّ حضور شخصية الراوية في هذا الإبداع القصصي لزينب لحمر- حضور محوري،يتغلغل في دقائق النسيج الذي تتألّف منه القصة،ونستمع إلى صوتها وملاحظاتها عند كل منحى،إلى الحد الذي تصبح معه القصة وراويتها المحدثة أمرين متلازمين،لا وجود لأحدهما ولا معنى دون وجود الآخر .
مبعث المفارقات في هذه اللوحة القصصية الرائعة"قدر الأمواج " للكاتبة زينب بن عبدالله هو أن كل عنصر فيها يستدعي قرينه النقيض،استدعاء جدليا يجعل من الكتابة لدى تضعيفات مرآوية للصور واللوحات والمشاهد،وتداخلا لا ينتهي من “المحاسن والأضداد” وفق تعبير الجاحظ.
إن سؤال الكتابة،على تعدّد مقاصده،لدى -هذا المبدعىة الشابة-،يتخذ طابعا اطراديا في كثير من نصوصها القصصة -اللذيذة-إنه يتعدّى الكتابة،بدوالّ الكتابة إلى الكتابة بدوالّ فنون أخرى ..
من خلال-قصة قدر الأمواج-نستشف مدى حركيَّة وحيوية هاته القصة التي لا تخلو من ديناميَّة الأحداث.
تتميَّزُ القصة ببعض الخصائص الدلاليَّة،التي يمكن إجمالُها في خصائص-الإدهاش،التلغيز والبعد الوجودي والعاطفي الذي يوغل بنا-قسر الإرادة-في عالم نشعر في حالات كثيرة بالدهشة والإعجاب في ذات الآن وهي،كلها ميزاتٌ تُفصِحُ عن هذا التكامل الذي يطول القصة ويجعلها غنيَّة في دلالتها.
وكذا توجد خصائص شكلية؛كالقصر الشديد،والتكثيف،ووَحْدة الموضوع،والمشهدية،وأيضًا المفارقة،كلُّ هاته العوامل ساهمَتْ في جعل القصة زاخرةً بمؤهلات فنية بأن تمثِّل هذا الجنس الأدبي بامتياز.
أثناء قراءتي لهذه القصة الموغلة -كما أشرت-في الإبداع انتبهت إلى ظاهرة أساسية،مفادها أنها من وحي الواقع المعيش هنا / الآن..ليست محاكاة للواقع كالصور الفوتوغرافية،لأننا أمام عمل أدبي..و ليست في ذات الآن مجرد تقارير وصفية لحكايات حدثت فعلا وعاينتها الكاتبة كشاهدة مباشرة،وإلا جردنا العمل الأدبي من بعده الخيالي و الجمالي المرتبط به عضويا ووظيفة و امتدادا..و يفسر النقاد واقعية هذا النوع من الكتابة القصصية بظاهرة المشابهة la vraisemblance أي تخيل قصة شبيهة بالواقع إلى حد التماهي،و ظاهرة التماثل la représentation أي كيف يتم تقريب الحدث من القارئ على أنه واقع،لكن من وجهة نظر الكاتب..
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع :
كيف يبني النص القصصي في قصة "قدر الأمواج"العالم من خلال المشابهة و التناظر والتماثل بين الواقع المعيش و خيال الكاتبة كإجراء فني صار ذا قيمة مهيمنة معيارية في الحكم على جمالية النص؟
لأجل مقاربة هذا المحور الاشكالي،لا بد من الاشارة إلى أن الكاتبة زينب بن عبدالله قامت بتوظيف عدة تقنيات تتوخى معالجة قضايا جوهرية بجمالية حرف و صياغة و بناء،منها :
التبئير الخارجي
كيفما كانت درجة واقعية القصة فهي تعبر عن وجهة نظر،و عن ردود أفعال و عن مواقف : رؤية الكاتبة للوقائع و الأحداث المسرودة.. فهي على امتداد هذا النص القصصي تنصّب نفسها شاهدة ـ تعاين الحدث عن قرب.
لنقرأ معا..هذه القصة القصيرة "قدر الأمواج" للكاتبة التونسية ( زينب بن عبدالله)-أو بنت الجنوب كما يحلو لي أن أسميها- التي أهديها باقة من التحايا المفعمة بعطر"تطاوين"(موطن الكاتبة) إيمانا مني بقدرتها الفائقة على الإبداع بمختلف تجلياته الخلاقة..وانتصارها الخلاّق للجمال اللغوي والأداء المجازي..
قدر الأمواج
ترسو السفينة حيث تشعر بالأمان و يرسو قلبي على مشارف مرسى الأحزان لكنه لا يمل و يواصل البحث عن الأمان في وجوه أناسا تقف على الشط وقفة محارب يريد الإستراحة ليفرغ شحناته السلبية لأمواج البحر العاتية و كأنه في صراع مع الطبيعة و تتشابك الأقدار في غفلة من الزمن و تتلاقى الأنظار أ هذا هو النصيب أم جرح جديد ؟ حقا لا أعرف لكنني واثقة من أن ركوب البحر يستوجب المغامرة و انا أهوى كثيرا المغامرة ، ليس لدي ما أخسر اكثر لقد وصلت درجة من الخذلان لا يتوقعها بشر و تخلى عني كل من حولي لأتفه الأسباب و سقطت أقنعتهم بسرعة بعد أن منحتهم كل الثقة و الإهتمام ، لكن لا يهم لعل الخير قادم هذه المرة ، لعل رحلتي تكون أطول و ترسو على بر الأمان في جزيرة الأحلام حيث يعم الحب و السلام .
كانت النظرات الأولى نظرات مطولة و ما إن إنتبهنا لوجود بعضنا البعض صارت نظرات مسترقة من ثم إشتعلت شرارة الفضول في داخلي يا ترى ما الذي أتى به إلى هنا ؟ ما قصته و ما الأوجاع التي وجهت خطاه نحو شط الأحزان و أي آهات سيرميها في بحر الهوى أم أنه مجرد زائر غريب عن المكان و يريد إلتقاط بعض الصور التذكارية ؟
شحنة من التساؤلات أخذتني إلى عالم الخيال و صارت الأمنيات تنهال على مخليتي كالأمطار التي إنتظرها قلبي بعد صيف حار و سنوات عجاف من الجفاف و الدمار و من الغريب أنني رسمت لكلانا نفس المنزل و المقام و تمنيت أن تتمازج الأحاسيس و الأرواح و كأنه القشة التي ستنقذني من الغرق على بعد أميال من الشط و كأنه قدري التائه بين الغيوم العابرة و بقيت على هذه الحالة من الإسترخاء و التفكير دقائق أو ربما ساعات و فجأة أيقظني صوت باخرة كبيرة تستعد لمغادرة الميناء و جمع من الناس يلوحون بأيديهم لوداع أحبتهم و وطنهم لم يشدني هذا المشهد كثيرا لأني كنت منشغلة بالبحث عن قدري و فجأة لمحت يداه بين الأيادي و رأيت وجهه مبتسما لغيري حينها أدركت أنني مجرد موجة تتلاطمها الأقدار.
(زينب بن عبدالله)
نص بداية من العنوان توافر على شروط القصة القصيرة جداً،العنوان أضفى مشهداً حدثياً كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بالنص..الحدثية والفاعلية مع الإيحاء والحوارية والحركية والبعد الزماني والمكاني أضفت على النص جمالية لابأس بها،كذلك الإيحاء والتكثيف والاختزال ثم الإنزياح
السردي عوامل مساعدة على نجــاح النص،مع مفــارقة لا بأس بهـــا وقفلة كمعالجة كان فيها نوع من الإدهاش.(" لم يشدني هذا المشهد كثيرا لأني كنت منشغلة بالبحث عن قدري و فجأة لمحت يداه بين الأيادي و رأيت وجهه مبتسما لغيري حينها أدركت أنني مجرد موجة تتلاطمها الأقدار.")
إن الأحدث في القصة جاءت مترابطة متعاضدة في وحدة عضوية ونفسية متماسكة،تصب في البناء المعماري الفني للقصة.ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
وإذن؟
نحنُ إذا،أمامَ نصٍّ زاخرٍ بلغةٍ فريدةٍ متوهجة..لغةٍ جمعت ما بين النثر والسرد القصصي بكل حنكةٍ واقتدار..
فلا نكاد نقرأ جملةً إلا و يحضر فيها رمزٌ أو تشبيهٌ أو كنايةٌ أو استعارة،ومع ذلك نجد النص لا ينفلتُ من يدِ الكاتبة ليحافظَ بكل مهارةٍ على لغةِ القصة القصيرة حاضرةً ومهيمنةً على كل انتفاضاتِ تلك اللغة الرائعة.
في هذه القصة السلسة يفاجئنا هذا الازدحام من الصور البلاغية الرائعة والتي جاءت خادمةً للنص وموظفة بشكل دقيق للتعبير عن أحداثه وتقديم رسالته،وقد جاءت عفويةً في غالبها غير مقصودةٍ لذاتها،لكنها ألبستِ النَّصَ رداءً بهيًّا.
والملاحظة الرئيسة تكمن في اختيار القاضة زينب بن عبدالله لجنس القصة القصيرة..وهو من أصعب الأجناس الأدبية النثرية/ السردية ـ ذات الأصول الغربية -إذ يعتبر من الأجناس الأدبية الأكثر تعقيدا،من حيث التعريف،والتصميم،والكتابة،واختيارالركائز،والبناء المعماري، ونظريات التلفظ،واختيار المواضيع والقضايا،وتحقيق القيمة الفنية والجمالية التي تشكل أهم وأسمى عناصر آفاق انتظارات القارئ من العمل الأدبي عامة،و-هذه القصة الرائعة-التي نحن بصددها هنا خاصة..والأكثر تعقيدا أيضا،لأن الفضاء/ المكان فيها،كما الزمن/ الزمان لا يكتفيان بتأثيث عوالم القصة،بل هما برمزيتهما وإيحاءاتهما،كائنان مؤثران على الشخصيات والأحداث والقضية (القضايا) المطروحة،ويتأثران بها بشكل حتمي في إطارعلاقة جدلية..
أخيرا،يبقى النص مفتوحاً أمام تأويلاتٍ أخرى،وربما غابت عني جوانب كثيرة في محاورةِ النصّ وهذا مدعاةٌ لتقديم قراءات مغايرة.
وللقارئ للقصة أختم وأقول : أحيانًا لا تحتاج إلى مساحة كبيرة من الوصف لتضع يدك على الجرح،يكفي أن يصل إليك كومضة تقف طويلًا على نافذة إدراكك دون أن تغادر!
وهذا مافعلته بإمتياز القاصة زينب بن عبدالله..وتمنياتنا لها بالتوفيق والسداد بالقادم من أعمال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا