الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماسة

الحسين سليم حسن
كاتب وشاعر وروائي

2023 / 11 / 15
الادب والفن


(ماسة)

رواية
الجزء الأول

كان أول يوم عمل لي في إحدى الصيدليات ،حين قابلت ضياء للمرة الأولى .
كنت أعبر الشارع الرئيسي في منطقة الزراعة في مدينتي اللاذقية ،ويكتنفني شعور بأنني خرجت للتو من مركز تجميلي لا صيدلية .
كنت شاردة مصدومة منذ بداية اليوم بما آلت إليه تلك المهنة المخجلة في عصر التفاهة هذا ،ولم أستطع سماع صوت زمور سيارته ،كاد أن يدهسني ،فتوقف فجأة وسقطت أنا جراء الفزع على الأرض ،وسقطت معي علبة الواقي الشمسي التي كنت قد أحضرتها لشقيقتي .
ترجل من سيارته لمساعدتي على النهوض ،مادا" ذراعه لأستند عليها ،ثم قادني إلى داخل سيارته ،مصرا" على عرضي على طبيب في المستشفى القريب ،إلا أنني أخبرته بأنني بخير وأن ذلك سيعرضه للمساءلة وأنني لا أرغب في التسبب بالأذى له ،كما أنني لا أثق بتلك المستشفى .
أزال عن عينيه النظارات الطبية وأخذ يمسحها بقطعة قماشية ،ثم مسح بها ذاتها جبينه المتعرق ،وتحضر للقيادة .
بدا مثل رجل قادم من إحدى الدول الاسكندنافية ،ببشرته النحاسية المتوردة وعينيه الزرقاوتين المانحتين للطمأنينة .
قاد سيارته دون أن ينطق ببنت شفة ،ثم بعد دقائق قال بلهجة كلام أخرى :(سأوصلك إلى منزلك إذا" ) .
هززت رأسي موافقة ،وأخبرته بعنوان منزلي في إحدى الضواحي الجديدة .ثم تابعنا الطريق صامتين .
مرت سيارات يقودها شبان بسرعة جنونية ،كما هي العادة في هذه المنطقة من المدينة .
لاحظت كيسا" ورقيا" على المقعد ،رسم عليه لوغو أحد محلات بيع أغذية الحيوانات ،فعلمت بأنه يربي حيوانا" ما في منزله ،وأنه مهتم بأحد أنواع الحيوانات .
لم نسأل بعضنا أي شيء ،وأصر كل منا أن يبقى غريبا" بالنسبة للآخر ،لكنني أجزم بأن كلينا كان ينتابه شعور ما لم يستطع أن يدرك كنهه .
حين وصلنا المنزل ،صافحته وتعارفنا بطريقة تقليدية ،أخبرني بأن اسمه (ضياء) وأنه صيدلاني يعمل في مجال التسويق لإحدى شركات المستحضرات التجميلية ،وأنه نازح من مدينة ادلب الخاضعة لسيطرة الإسلاميين الإرهابيين المدعومين من قبل الحكومة التركية .
ومع أنني أعمل في المجال نفسه ،وكنت نازحة من المحافظة ذاتها إلا أنني اكتفيت بتعريفه باسمي : (أنا ماسة ) ،ثم التفتت مغادرة .
حين سمعت صوت محرك السيارة ،نظرت إلى السماء فوجدت القمر بدرا" مكتملا" ،ابتسمت ولم أشعر بالحزن لأنني كنت واثقة بأننا سنلتقي مرة أخرى .


لم أخبر ضياء بأنني كاتبة أيضا" ،وأنني انضممت مؤخرا" إلى تجمع للمعرفيين الأحرار المستقلين عن أي حزب أو طائفة يترأسه كاتب كردي يقيم في ألمانيا ، وأنني كنت قد لمحته عدة مرات في الجامعة خلال دراستي للصيدلة ،فقد كان يسبقني بدفعة طلابية واحدة ،وقرأت بضعة تعليقات له على منشورات فيسبوكية تتعلق بنا كطلاب صيدلة .
كما أنني لم أخبره أيضا" بأنني أنحدر من ادلب ،ونزحت مع عائلة جدي وأشقائي إلى اللاذقية ،بعد إرسال الإسلاميين الإرهابيين تهديدات لأفراد عائلتي لانتمائهم السياسي إلى حزب البعث ،أو لأننا على الأرجح علويون ،وفي نظرهم وفكرهم الأصولي نعتبر زنادقة .
أردت أن أجعل من المشاعر التي ولدت بيننا هي وحدها ما يذكره بي ،وأن يبقى اسمي هو ما سينطبع في ذاكرته عن لقائنا الأول .
بعد أن ولجت المنزل في تلك الليلة ،أزلت العدسات اللاصقة الطبية عن عيني ،والتي كنت قد استبدلت النظارات الطبية بها منذ سنوات ،بعد يأسي من نفاق الأطباء الذين يبنون وعودا" كاذبة عن إجراء العملية الجراحية إلا أنهم يمصون جيوبك بجلسات علاجية ماقبل العملية ثم يتهربون من إجرائها .
سلمت علبة الواقي الشمسي لشقيقتي التي تملكتها غبطة شديدة بها كما لو أنها عثرت على مرادها ،وقبلت جدتي من رأسها .
كنا قد نشأنا أنا وأشقائي في منزل جدينا في ادلب بعد وفاة والدتي وسفر والدي لتسلم وظيفة حكومية في محافظة الرقة البعيدة .ثم نزحنا معهم إبان سيطرة الجماعات الإسلامية على ادلب ،واستقرينا في شقة كان قد اشتراها جدي قبل الحرب في اللاذقية .
كنا ثلاثة أشقاء أنا وزينب وعلي ،وكنت أنا أكبرهن سنا" ،ثم يلحقني علي الذي تخرج بعدي بعام من كلية الهندسة الغذائية وعين في مؤسسة تابعة لوزارة السياحة ،وكان قد اتخذ مؤخرا" من فتاة خطيبة له تدعى (تمارة) وهي ابنة ضابط متقاعد من إحدى قرى محافظة اللاذقية .
أما زينب فكانت لاتزال طالبة في الثانوية العامة ،إلا أنها مولعة بكل ما يخص التجميل ،وكانت قد شعرت بالسعادة حين أخبرتها أن الصيدلية التي أعمل فيها تكاد تكون مركزا" تجميليا" لا صيدلية .
حدثتها عن عملي الجديد في تلك الأمسية ونحن نشرب المتة ،لكنني لم أخبرها شيئا" عن ضياء ،بل فضلت بأن أحتفظ بالحكاية لنفسي كي لا تتحول إلى حديث عابر.

قبل أن أشرع في العمل في صيدلية (رايا) في منطقة الزراعة ،عملت في صيدليات مختلفة في مناطق متباينة من المدينة ،كان آخرها صيدلية في منطقة شعبية تدعى بطريق المزار تعج بالحشاشين والمجرمين ،تملكها صيدلانية ابنة رجل نافذ قادمة من مدينة حمص ،افتتحت تلك الصيدلية للربح فقط ،ولم يكن يهمها المنطقة وطبيعتها ولا الناس الذين يقطنون فيها ،وكانت تتعامل معهم بحزم بدعم من والدها .
وعندما تهجم أحد الحشاشين علي وهددني بتكسير زجاج واجهة الصيدلية ،أرسلت له شقيقها وأصدقائه ،وطردتني في اليوم التالي تجنبا" للفضائح دون منحي أي تعويض .
كان استخدام النفوذ والسلطة دارجا" في مدينة اللاذقية ،وكان أمرا" مقبولا" وطبيعيا" من الشعب ،وكانت تلك الصيدلانية نتيجة حتمية لطفلة مدللة لدى والدها الذي يملك سلطة مقدسة لا مجال للنقاش فيها ،ما البشر بالنسبة لها سوى عبارة عن حشرات أو أداة لتحقيق رغباتها .
في صيدلية (رايا) كان الوضع مختلفا" ،كانت الصيدلانية ذات أفكار يسارية ،تفضل الاعتماد على النفس ،وتقدس العمل ،مع أنها تنحدر من عائلة مسيحية محافظة ،إلا أنها كباقي اليساريين في المدينة كفوا عن الحديث في السياسة وأصبح جل اهتمامهم هو جمع الثروة والاهتمام بالأشياء الفارغة والسطحية بعد يأسهم من تصاعد الأفكار اليمينية في البلاد إبان الحرب ،فاتجهوا إلى محاولات يائسة من فرض ليبرالية موقفها ضعيف للغاية أمام هول التوحش الإيديولوجي الديني الطائفي .
فتحولت صيدليتها إلى مايشبه المركز التجميلي لضمان ربح أكثر ،واستعانت لتحقيق ذلك بصيدلانية من تلك النسويات المتوحشات اللواتي تقلدن الرجال كمحاولة لمواجهة التوحش الذكوري الذي نتج بعد الحرب ،نتيجة تصاعد القيم الدينية على نحو صارم .
وكنت أنا لم أنل إعجابها في اليوم الأول من عملي ،لهدوئي وصمتي ولرفضي الدخول في تلك المعركة النسوية مع المجتمع القاسي مع المرأة والمرء المختلف .
لذا في اليوم الثاني من العمل ،كادت أن تطردني لولا أنها اكتشفت براعتي في مجال الوصفات الطبية المتعلقة بشركات التأمين الصحي ،لكنها اشترطت علي أن أهتم بمظهري أكثر.
حين خرجت من العمل رغبت في سؤال أحدهم عما إذا كان مظهري سيئا" إلى هذا الحد ،وهل علي أن أحقن وجهي وشفاهي بالبوتوكس كالصيدلانية رايا كي أبدو أنثى ،كان هذا الشخص الذي علي أن أطرح عليه هذا السؤال ،على الأرجح هو (ضياء )!

حين دخلت الحي الذي أقطن فيه ،التقيت ب(حيدر) أحد أقربائي الذي كان يلح علي دوما" بأن أمارس الجنس معه ،وحجته في ذلك كانت أنني أعجبه !
كان شابا" مدللا" عند والده ،طفل كبير يظن أنه عليه أن يحظ بكل ما يريده ،وآخرهم كان جسدي ،وكان حاذقا" يعرف من أين تؤكل الكتف ،حتى خدمته العسكرية الإلزامية خدمها مع إحدى فرق الدفاع الوطني التي ظهرت إبان الحرب ،والتي سمحت له بقضاء خدمته في المنزل ،مع راتب شهري ضخم جعله يعيش في رفاهية تامة ،لتغدو أقصى اهتماماته الاستحواذ على جسدي !
كان قد فقد كل هذا الدلال مؤخرا" بعد انتهائه من الخدمة الإلزامية ،وراح يعمل في أحد محال الوجبات السريعة ، الأمر الذي تعارض مع نرجسيته وشخصيته المغرورة ،مما جعله يمر من جانبي مطأطئ الرأس للمرة الأولى ،دون أن ينظر بوقاحته المعتادة .
كان شقيقه (جمال) هو أول قصة حب في حياتي ،ونشأنا معا" منذ الطفولة ،لكنه حين زجه والده في جامعة خاصة وصرف عليه مالا" باهظا" انشغل في مغامراته مع الفتيات والنساء ،مما جعلني أتقزز منه ،وأرغم نفسي على نسيانه ،حتى لو كان هذا صعبا" للغاية .
ونسيته بالفعل ،لما أغرمت بشاب في فترة مغادرتي لبلدي سوريا إلى بيروت ،بعد تخرجي من كلية الصيدلة ،رغبة مني في فرصة عمل أفضل ،ونزلت في منزل يملكه رجل سوري يعيش في بيروت منذ سنوات طويلة ،ويؤجر غرف منزله للسوريين النازحين أو الطالبين فرص العمل في بيروت .
استأجرت غرفة إلى جوار (سليم) الشاب السوري الذي يعمل في مجال البناء ،وسرعان ما أصبحنا صديقين ،وصرت أزوره وأطبخ له وأرتب له غرفته وأنظفها ،ونذهب معا" إلى التسوق من (سيتي مول) المركز التجاري الضخم .
ومع (سليم) بدأت أنسى جمال حبي الأول ،ووقعت في حبه ،لرجولته المطلقة ودماثته وحنانه الكبير ،وشجاعته في الإدلاء بآرائه وإيمانه الشديد بأن الخير قادم لا محال .
إلا أنه كان متعصبا" لكاثوليكيته ،وفضل أن نبقى أصدقاء فقط ،وسرعان ماضجر مني ،وخصوصا" بعد قدوم شقيقه المتشدد دينيا" الذي كان يعاملني كبهيمة أو كعاهرة لتقربي من شقيقه،وراح سليم يصب جام غضبه من شقائه وقلة حيلته وماله وسوء حظه وفراره من سوريا هربا" من تأدية الخدمة الإلزامية علي ،و تحول فجأة إلى شخص لا يعجبه شيء ،ولم يكن ليبدي أي امتنان لي مهما فعلت ،بل على العكس كان ينتقد كل ما أقوم به من أجله ،ويصفه بعدم الذوق ،كطبخي وتنظيفي لغرفته .
وحين جئت إليه يوما" وجلست بقربه على حافة سريره لأخبره بمشاعري ،رفض أن ينصت إلي ،وقال بأن قصتنا لن تنجح .
حينها وبسبب ذلك ،رحت أقضي جل يومي أجوب شوارع بيروت ،وأطيل ساعات عملي كمندوبة تجارية وأكثف جولاتي على الصيدليات ،ثم أقضي ساعات كثر وأنا أمشي على شاطئ الروشة مثلا" ،أو أزور مكتبة أنطوان في شارع الحمرا لأشتري الكتب لأنسى بها سليم ،إلا أن ذلك لم يفلح ،لذا قررت ذات ليلة العودة إلى سوريا ،وجمعت أغراضي على نحو مستعجل ،وغادرت دون توديع سليم .
في تلك الليلة وبعد أن ولجت منزلي في اللاذقية،لا أعلم لم تذكرته وسارعت نحو اللابتوب لأبحث عن صفحته الشخصية على الفيس بوك ،لأشاهد صورته وحينها بكيت بشدة .
إلا أنني مسحت دمعي رغما" عني ،وبحثت بدلا" من ذلك عن صفحة (ضياء) الشخصية ،ورحت أتأمل صورته الشخصية وهو يحمل قطة أميركية نحاسية اللون ،وعيناه تنبضان بالعطف .
ثم تجرأت وأرسلت له رسالة فحواها بأنني سررت بمعرفته وأنني زميلة له في المهنة ،وأنني أعمل في صيدلية رايا في الزراعة وأنني في الخدمة فيما لو احتاج صديقة صيدلانية تعمل في صيدلية .
ثم أغلقت برنامج الرسائل ،وحملقت في صورته التي جعلتني أستذكر نفسي وأنا أمشي على شاطئ الروشة والهواء الدافئ يحرك شعري بحنو لذيذ.

فوجئت بضياء في اليوم التالي في صيدلية (رايا) حيث أعمل،قال بأنه يرغب في التدرب في إحدى الصيدليات ،فقد ضجر من عمله كمندوب تجاري ،وأمل بأن أحادث له (رايا) في هذا الشأن .
كان بصحبة صديق له ،وتكلم معي بالطريقة الأكثر تهذيبا" التي رأيتها في حياتي ،فوعدته بالمحاولة .
كنت غارقة في أعمالي المكثفة التي فرضتها علي رايا في الصيدلية لما أطل علي هو وصديقه ،ثم جاءت بعدهما (شغف) الفتاة التي تعمل إلى جانبي في الصيدلية ،وراحت تطلق بعض الانتقادات بأسلوبها الفج الذي يخص فتاة فهمت من المساواة أن تتحول إلى رجل .
لم أحتمل أسلوبها القمعي ،وكأنها قادمة من ثكنة عسكرية ،أو من دير أو دار للقبيسيات ،لذا قمت بالرد عليها بالأسلوب ذاته .
كانت فتاة قادمة من إحدى القرى الجبلية حيث يسود الدين والتعصب والرأي الواحد،والتوحش والولاء المطلق وتقديس القوة والتعسف .
تشاجرنا وحدثت بيننا مشاحنات كلامية فاتصلت برايا وحكت لها كعادتها كل ماحصل ،كانت تربطها بها علاقة ولاء مطلق وتبعية مطلقة كما لوكانت عبدة أو كلبة عندها .
جاءت رايا فورا" ،ووقفت إلى جانب شغف التي بدأت العمل قبلي بكثير في الصيدلية ،وهذا ما يجعل لها الأفضلية بالنسبة لرايا ،لضمان سير العمل وجمع المال كوسيلة أخيرة لبقائها حية كيسارية في زمن كهذا .
ولمحت رايا لي بأن بإمكانها طردي متى شاءت ذلك ،ثم اكتفت بتحذيرنا من افتعال مشاجرات في المستقبل كما يحدث في الأفلام الهندية .
لم أخبرها برغبة ضياء في التدرب في الصيدلية ،وأجلت مفاتحتها في الموضوع لوقت لاحق .
اتصلت بي شقيقتي زينب وطلبت مني أن أحضر لها معي علبة مزيل للماكياج ،ودواء القلب لجدتي. .
لم أعثر على دواء جدتي في صيدلية رايا ،لأن الدواء كان كغيره من الأدوية الكثيرة الغير متوفرة ،نتيجة إضراب المعامل الدوائية عن الانتاج قبل الرضوخ لشروطهم في رفع أسعار الأدوية بحجة غلاء المواد الدوائية الفعالة المستوردة وغلاء جمركتها .
وكانت مستودعات الأدوية تحتكر تلك الأصناف و ترفض توزيعها على الصيدليات حتى ترتفع أسعارها .
لذا صار من الصعب أن يحظى المرضى على دوائهم دون عناء ،وكانت من بينهم جدتي .
إلا أنني لم أقبل بهذا _ ولما كنت قد بقيت وحيدة في الصيدلية _فقد غضبت ورحت أفتش في مخزن الأدوية التابع للصيدلية ،فوجدت علبتين فاشتريتهما بنفسي ،دون اكتراث إلى ما ستقوله رايا أوشغف .
كان آخر همي رأي متوحشتين هيستيريتين تدافعان عن وجودهما ،بالكذب والنفاق والأساليب الملتوية لجمع المال فقط .

في اليوم التالي ،بدأ ضياء بالتدرب في الصيدلية بعد موافقة رايا ،بشرط مراقبته عبر كاميرات المراقبة .
حدثني عن طفولته في محافظة ادلب ،وانحداره من عائلة بورجوازية ثرية و الذي جعلها تتخذ أسلوبا" متحررا" في العيش على عكس بيئتها حيث تسود القيم الأصولية الدينية ،وكيف نزح مع عائلته إلى اللاذقية بعد سيطرة جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة الإرهابي هناك .
ثم جاء دوري ،فأخبرته عن نشأتي في المحافظة نفسنا ،في بلدة كاثوليكية على الحدود السورية التركية ،سكانها كانوا من الأرمن الفارين من بطش الحكم العثماني واعتنقوا الكاثوليكية على أيدي الفرنسيين في ثلاثينيات القرن المنصرم ،وأن جدي كان رجلا" فقير الحال إلا أنه بعمله وعرقه استطاع أن يضعنا في مصاف العائلات البرجوازية ،فقد ولدت أنا في أقصى درجات الرخاء التي وصلت إليها عائلتنا ،وحظيت بطفولة ومراهقة مرفهة للغاية ،حتى وفاة جدي ونزوحنا إبان الحرب .
وأخبرته أن والدي كان مدير المدرسة الثانوية في تلك البلدة ،وأحد أقربائي هو المسؤول الحزبي الأول فيها ،مما جعل من عائلتنا تتمتع بسلطة سياسية ومعرفية ما ،وهذا ما جعلنا من ألد أعداء الأصوليين عندما تسنى لهم أن يسودوا في الأرض .
ومع أنني كنت قد نشأت في كنف الراهبات الكاثوليكيات وفي بيئة مسيحية محافظة ،وفي المنزل مع جدين يمكن اعتبارهما محافظين علويين ، مع نفحة من أفكار بعثية سياسيا" ،إلا أنني فضلت أن أبقى مستقلة سياسيا" ،واعتبرت نفسي دوما" علمانية أو ربما لا أدرية .
دخلت مريضة إلى الصيدلية مقاطعة حديثنا ،فترجل ضياء للإنصات إليها .
اتصلت بي رايا على الفور بعد أن شاهدته عبر كاميرات المراقبة ،وقالت بغضب : لم تعجبني نظرات ضياء إلى الزبونة ،قولي له أن لا يأتي مجددا" إلى الصيدلية ،لاينقنصنا سوى اخونجية أو جائعي نساء !
لم أخبر ضياء بشيء ، لأنه كانت لدي مناوبة ليلية في الصيدلية في تلك الليلة وكنت أريده بقربي .
أريد ضياء إلى جانبي ،لألقى فيه الأمان ،رغما" عن أنف رايا وعنصريتها .

في تلك الليلة كان ضغط العمل كبيرا" في الصيدلية أثناء المناوبة الليلية ،فقد كانت الكورونا قد انتشرت حديثا" ،وسارع الناس لاقتناء الكمائم الطبية والكحول الطبي.
غادر ضياء ظهرا" إلى منزله بعد أن وعدني بالعودة مساء" ،ولم يخلف بوعده فقد جاء مساء بسيارة والدته ،مصطحبا" معه قطته الأميركية (سيلا ) .
قال بأنه متعلق بقطته كثيرا" ،وأن القطط أشد إخلاصا" من البشر .
قضينا الليلة معا" ،شربنا القهوة ،وأخذنا بعضا" من الصور الفوتوغرافية أثناء العمل ،وضحكنا كثيرا" لما نفق الكحول من الصيدلية .
لم أشعر بهكذا سعادة مع أي ممن أحببتهم من قبل ،لا مع جمال الذي كنت بالنسبة له محطة أولى في عالم النساء ،الذي راح يكتشفه دون أية قيود ،حتى بدوت له كراهبة إلى جانب صنف النساء اللواتي تعرف بهن .
ولامع سليم الذي تحولت معه إلى خادمة دون أن أحظى حتى بفرصة لحبه لأنانيته وفوقيته وجهله وتمسكه بطائفته .
كان دفء ضياء وحنانه قد جعلاني أشعر بأمان لم أشعر به من قبل طوال حياتي منذ رحيل جدي ،وشعرت معه أيضا" أنني للمرة الأولى لا أواجه هذا العالم بمفردي ،وأنني أستطيع حتى النوم بعمق وطمأنينة ،لذا وجدت نفسي غفوت على طاولة المكتب لبعض من الوقت ،لأنني كنت على ثقة بأن هناك من أستند عليه في معركة حفاظي على نفسي كإنسانة تستحق الاحترام دون تقديم أي تنازلات في بلاد ومجتمع متوحش فقد أخلاقه وقيمه الإنسانية .
في الصباح ،غادرنا الصيدلية في سيارة ضياء ،وضع ضياء قطته النائمة في حضنه ،وشغل المسجل على الأغاني الفيروزية .
مررنا في الشوارع الهادئة عند الفجر ،وقمت أنا بتسجيل فيديو لنا ونحن نغني مع المسجل أغنية لفيروز ،ونشرته على صفحة الفيسبوك الخاصة بي .
اتصل ضياء بصديقه (ماجد ) الذي يعمل في مخبر تحاليل طبية ،وأعلمه أننا سنمر عليه في المخبر لتناول القهوة .
دخلت برفقة ضياء إلى المختبر ،لأنني اعتبرت أن التعرف إلى أصدقائه هو بمثابة مشاركته لحياته .
نعم ،كان ضياء يوجه رسالة لي بأنه يرغب بي في حياته ،أن أكون موجودة في حياته ،وبقربه دوما" .

استيقظت مثقلة الرأس مساء ذلك اليوم ،على صوت رنين هاتفي .
كانت رايا هي المتكلمة ،تكلمت معي بجفاء معلمة إياي بأنها تنتظرني في الصيدلية كي تحادثني في موضوع هام .
جهزت نفسي بسرعة و سارعت إليها ،فإذ بها تنتظرني برفقة شغف ووجهيهما يطفحان بالسم .
قالت رايا بلهجة غاضبة : لا أرغب في اخونجية أو جائعي نساء عندي في الصيدلية ،كاد ذلك الشاب ضياء أن يلتهم تلك الزبونة !
ثم من الآن فصاعدا" سوف نكثف العمل ،وستكون شغف المشرفة عليك ،نحن لا نلعب هنا !
كان من الواضح أن كلا" من رايا وشغف تنتقمان من تعاستهما بي ،ومن ماضيهما القاسي مع الفقر ومواجهة العالم الذكوري واستصغار قيمة الفتاة والمرأة في بيئتيهما المحافظتين والمتعصبتين .
فشغف قادمة من مجتمع القرية المنغلق والمتشابه الذي يقدس القوة ،ورايا منحدرة من عائلة مسيحية أصولية من الروم الأرذوكس الذين يقدسون الذكر و ما مجتمعهم الذكوري سوى أكبر دليل على ذلك ،فكان من الطبيعي أن تتجردا من أية مشاعر لمواجهة توحش مجتمعاتهم ،وأن يسبب لهما الحب حساسية في قلبيهما المتحجرين .
فيما كنت أنا قد نشأت في بيئة تحترم المرأة وتقدس حقوقها وتمنحها الحرية المطلقة ،كراهبات الدير حيث تعلمت ،أو في منزل جدي العلماني المنفتح ،فكنت حتما" من النموذج الذي لن يعجبهما ،والذي سيشكلان معا" حلفا" ضده .
طلبت مني رايا أن أتصل بضياء وأخبره بألا يأتي مطلقا" إلى الصيدلية بعد اليوم .
كان من الواضح أنهما ترغبان في استعمال سلطتهما ضدي ،لإثبات أنهما على حق ،وظنا" منهن أنني بحاجة ماسة لهذا العمل وأنه علي أن أرضخ لشروطهن .
إلا أنني فهمت غايتهما ،لذا لم أصحح لهم فكرتهم عن حاجتي لذلك العمل ،بل أشفقت عليهم ،لكنني قررت أن ألقنهم درسا" في الإنسانية ،بأن أبقى في العمل وأعيش بالطريقة التي لاتحلو لهما .

عندما خرجت من الصيدلية رحت أتمشى في شوارع اللاذقية بمفردي كما كنت أفعل في شوارع بيروت ،أستذكر ما حصل معي طوال حياتي ،والصعوبات التي واجهتني منذ طفولتي ولم تزد سوى من قوتي وإصراري على ألا تغيرني الظروف وتجرفني معها مع سيل التوحش الذي أطاح ببلادي .
بدءا" من إصراري على أن أكون في المرتبة الأولى دوما" في مدرستي ،رغم أنني لم أعش حياة طبيعية في كنف عائلة كالجميع ،ثم كيف علمت نفسي على أن أقيها من التورط في أي إيديولوجيا ،رغم المغريات الكثر للولوج في صفوف حزب ما ،ثم أن أحافظ على أنوثتي دون أن أنضم إلى قطيع الجواري الذي تشكل إبان الحرب ،أو قطيع النسوة اللواتي قررن الاسترجال لحماية أنفسهن .
والأهم من ذلك كيف واجهت نزوحنا في فترة حساسة من حياتي ،فترة دراستي الجامعية ،إلى جانب الاعتناء بجدتي ،وشقيقي ،دون أن أتخلى عن حلمي في الكتابة والنشر .
ثم سفري بالصدفة إلى بيروت بعد تخرجي بتحريض من صديق لي ،حيث كدت أن أخسر هويتي وثقافتي وكل ماتربيت عليه لولا قراري الحاسم بالعودة إلى بلادي ،مقررة أن أواجه كل هذا التوحش الذي وصلنا إليه لا بالهروب ،إنما بالإصرار والتمسك بكل ماتربيت عليه ،حتى لو أتعبني ذلك وجعلني أخاطربحياتي ،الأمر الذي سأكتشفه فيما بعد .
عندما ظهر ضياء في حياتي كان بمثابة الضياء تماما" في حياتي ،بعد تجارب الحب القاسية لي مع شبان أنانيين حتى درجة النرجسية تربوا في بيئات محافظة منحازة للذكر .
اتصلت به في تلك الليلة ،وطلبت منه أن نلتقي كي أخبره بقرار رايا ،واتفقنا بأن نلتقي على الكورنيش الجنوبي بجانب البحر .
استقليت باص النقل الداخلي للوصول إلى هناك ،ووصلت قبله ،فإذ به يطل علي في سيارة والدته .
تمشينا طوال ساعات على رصيف الكورنيش المكتظ بالناس الذين يودعون الحياة الاعتيادية اليومية لاستقبال شهر رمضان .
حين أخبرته بقرار رايا ،بدا عليه الانزعاج إلا أنه لم يبدي ذلك ،وقال : هذا أفضل ،سيتسنى لي عيش طقوس رمضان كما يجب .
حاولت مواساته وأخبرته بأن هذا النوع من البشر هكذا ،الإنسان بالنسبة لهم لا يساوي أكثر من علبة دواء منتهية الصلاحية .
كنا نجلس على الصخور حينها ،ورغبت في أن أضمه وأعلمه بمشاعري ،إلا أنني ترددت في ذلك ،فقد كنت أخشى التهور في الحب بعد تجربتي جمال وسالم ،وماخلفتاه في قلبي من التصحر وانعدام الثقة .
مرت بجانبنا فتاة تلبس تنورة قصيرة رغم الجو البارد ،فأطلق أحد الشبان المارين بقربها عليها صفة غير لائقة .
التفت حينها ضياء وأردف : تستحق ذلك !
سألته : لماذا؟ ،فأجاب :لأنها ترتدي ملابس غير مناسبة ،من الواضح أنها تتعمد ذلك لكي تبرز مفاتنها .
حينها خطر لي أن أسأله : هل من الممكن أن ترتبط بفتاة مثلها؟
فأجاب: مستحييل …
ثم أردفت : هل ترتبط بفتاة كانت قد ارتبطت من قبل أكثر من مرة ؟
أجاب: لا أعلم ،لم يحدث هذا معي بعد .
حينها تجرأت وحكيت له عن قصتي حبي ،مع جمال وسليم ،فاكتفى هو بالصمت ،ولم يعلق على الحكاية أبدا" .
وعوضا" عن ذلك التفت إلي وسألني فيما لو أردته أن يوصلني إلى مكان ما ،فأجبته بأنني أرغب في زيارة مكتبتي المفضلة في المدينة ،لشراء كتاب جديد ،وأنني أتمنى بأن يرافقني إلى هناك .
قال بأنه مهتم بكتب الصوفية و خصوصا" أشعار جلال الدين الرومي ،وقبل بمرافقتي .
ولجنا مكتبة مجد في شارع أنطاكية ،حيث كان يجلس هناك مالكها ،المثقف اليساري الملتزم والذي دفع ثمن أفكاره غاليا" في الماضي .
كان معتادا" على قدومي ،وبقائي لساعات ،فقد أصبح أسلوبي في اقتناء الكتب مفهوما" بالنسبة له :تلك الكاتبة المبتدئة والصيدلانية التي تنبش المكتبة كالعادة لساعات كي تقتني في النهاية كتابا" واحدا" ،بعناية فائقة ،وتميل إلى الكتب النسوية والروايات السياسية وكتب تجديد الخطاب الديني الإسلامي .
وتفضل الأدب الأميركي والفرنسي ،والأدب الروسي الحديث المعارض للسلطة ،والأدب النسوي الإيراني المعارض للنظام الإيراني .
حتى أنه حفظ كتابها المفضلين : إيزابيل ألليندي ،بول أوستر ،ألبير كامو ،حنة أرندت ،نوال السعداوي ،محمد شحرور ،هدى بركات ،أورهان باموق ،سلمان رشدي ….الخ
وكنت قد وضعت هنا سابقا" نسخا" من روايتي الأولى التي صدرت عن دار نشر (القرار)هنا في اللاذقية ،نشرت لي الرواية وأعطتني نسخي ،لكنها لم تسوق للرواية ولم تبرزها في المعارض الدولية ،لم يكتب ذلك في العقد وأنا لم أنتبه لكونها المرة الأولى في عالم النشر،وتعرضت لعملية احتيال من دار النشر تلك دون أن أدرك ذلك ،كما يتعرض الكثير من الكتاب الجدد عند نشرهم للمرة الأولى .
اشتريت تلك الليلة كتابا" لآلان دي بوتون بعنوان (عزاءات الفلسفة )
واشترى ضياء كتابا" لابن عربي .
حين ودعت ضياء ليلتها بعد مغادرتنا المكتبة وإيصاله لي إلى المنزل ،نظرت في عينيه فوجدت فيهما قسوة لم أجدها من قبل ،فانتابت جسدي رعشة باردة ،وحين غادر بسيارته شعرت بأنه يبتعد كثيرا" عني وكأنه يضيع في الغياب .
حين دخلت المنزل ،كانت شقيقتي زينب تنتظرني بفارغ الصبر كي توبخني على نشري الفيديو على الفيسبوك ،الفيديو الذي يجمعني بضياء ونحن نستقل سيارته في صبيحة المناوبة الليلية وقطته الأميركية تجلس بيننا ،ونحن نغني بقربها كما العاشقين .
قالت بأن الجميع يسخر من هذا الفيديو ،وخصوصا" أن من نشره هي أنا وليس ضياء ،وكأنني أفخر بنفسي لاهتمام شاب بي !
هكذا أخبرتني زينب ،وتابعت بأنها تلقت اتصالات كثر من صديقاتها اللواتي سمين ما شاهدن بالفضيحة .
لم أكترث لما قالته ،والتزمت غرفتي ،وعندما خلدت إلى النوم ،تلقيت رسالة نصية من رايا فحواها : ماهذه الفضيحة ،أتريدين أن تجلسي في حضنه بدلا" من القطة !



مر شهر رمضان بأكمله دون رؤية ضياء ،اتصلت به عدة مرات لكنه لم يجب ،بينما كنت أنا منهمكة بالأشغال الشاقة التي فرضتاها علي كل من رايا وشغف ،انتقاما" من ليلة الفضيحة التي عشتها ! وكأنهما تعاقبانني على كوني إنسانة طبيعية ،حرة ،وواثقة دون أي خوف أو تصنع ،وكان علي أن أكذب وأتوحش وأقبل أقدام الزبائن الأثرياء ،أو المتمتعين بسلطة ما ،وأن أبيع المراهم والكريمات المنتهية الصلاحية بعد افراغها في علب بلاستيكية على أنها وصفات محضرة يدويا" ،كان علي أن أرضخ لمنطقهما المريض في الحياة ،منطق القوي والضعيف و كأننا نعيش في غابة .
وكانتا لا توفران فرصة في إسماعي اللقب الذي طرحتاه علي (القطة) ،والذي يدل على سخافتهما وعماوتهما الكلية .
كان من الواضح فيما بعد وعندما تأكدتا من ابتعاد ضياء عني ،اتبعتا أسلوبا" جديدا" في جعلي أتخلى عن عملي ،كي تثبتان انتصارهما .
إلا أنني صممت في قرارة نفسي على أن أتشبث ببقائي وأحتمل كل إهاناتهما ،وانحدارهما الأخلاقي .
وكنت أيضا" أحتمل زبائنهم المدللين ،ذوي النفوذ والسلطة ،سائقي الكبار ،الذين يتطلب التعامل معهم لطافة زائدة ،وإلا عرض المرء نفسه لخطر انزعاجهم أو حساسيتهم الزائدة .
كنت قد بدأت أرهق من تلك الحرب التي وضعت نفسي فيها ،وكان ما جعلني مصرة على الخوض فيها أكثر هو انقطاع الأدوية وأنه كان علي تأمين دواء جدتي .
رغم أنه كان قد وصل الحد برايا إلى أن تستعين بامرأة من عائلة نافذة ،وفاسدة وتحثها على مهاتفتي عن طريق سائقها ،وتهددني بإرسال شبان لضربي وتعنيفي إن لم أترك العمل في الصيدلية .
ولما لم أكترث بذلك ،كنت أجد يوميا" في طريقي إلى العمل قطة ميتة في الطريق المحتم علي بأن أسلكه .
كنت وحيدة وضعيفة ،ولم أخبر أحدا" بهذا ، فأخي كان منشغلا" في عمله المكثف إلى جانب وظيفته لتأمين مصاريف زواجه من خطيبته المتكبرة التي لا يعجبها شيء ،وشقيقتي زينب كانت قد تمت خطبتها حديثا" ، بينما رحت أنا أنتظر عودة ضياء .
ولم أكن أعلم إلى ماذا ستقودني تلك الهشاشة ،أكثر من لجوئي إلى حيدر ،ذاك الذي يراني كوجبة لذيذة ،إذ زرته ذات يوم في محل الوجبات السريعة ،وكدت أن أخبره بكل شيء إلا أنني عكفت عن ذلك لما وجدته قد بدأ في قصة حب جديدة .
أو حتى إلى أن أوافق على عرض (ماجد) صديق ضياء ،الذي اتصل بي ذات يوم ،وطلب مرافقتي لتناول القهوة في أحد المقاهي ،رغبة في التعرف علي أكثر .
كان من الواضح أنه يرغب في الحصول على ماحصل عليه صديقه ،بعد مشاهدته للفيديو المعلن عن عودتنا الشهيرة من ليلة المناوبة .
ومع أنني كنت أعلم ذلك في قرارة نفسي ،إلا أنني رغم ذلك ،ذهبت معه في لعبته حتى النهاية .

أصبحت ألتقي ماجد بشكل يومي ،فقد كان خيارا" جيدا" للتفريغ عن غضبي من إهمال ضياء ،وخصوصا" لصمته الدائم ،ورغبته الدائمة في إرضائي .
لم أعلم سبب اهتمامه بي ،لكنني كنت أدرك أنه ليس الحب ،وإنما رغبة منه في التفوق في أمر ما ،فقد اكتشفت لاحقا" أنني واحدة من كثيرات يتميزن في أمر ما ،كاتبة ،أو طبيبة مشهورة أو شيء من هذا القبيل ،قضى معهن وقتا" جميلا" وأعلن على الملئ علاقته بهن ،وعندما شعر بانتصاره تركهن على نحو مهذب .
كان نازحا" من ادلب ،طموحا" للغاية ومجتهدا" في عمله وتطوير نفسه ،ولديه الحماس في تجربة كل شيء ،لرميه فيما بعد ،بما يمنحه الثقة بنفسه أكثر بأنه حصل على ما يستحقه من الحياة القاسية معه والتي حرمته من كل تلك الحقوق .
لم أشعر بشيء تجاهه بداية ،ثم تحولت مشاعري نحو الاعتياد ،وما كنت على ثقة تامة به أنني لم أخرج معه من أجل الانتقام من غياب ضياء ،وإنما كنت أحتاج لعلاقة ما في حياتي ترمم هشاشتي التي قادتني إليها كل تلك الضغوط التي حلت فوق رأسي .
مع أنه علي الاعتراف بأنني كنت أضجر من علاقتنا المبنية على الاحتياج فقط ،وأغيب عنه لأيام وأيام ،ألوذ بها بملاذ آخر .
كان والدي قد نزح معنا من ادلب مع زوجته الثانية وإخوتي منها ،وقطن في منطقة شعبية تدعى (الدعتور) حيث كنت أذهب لما أضجر من ماجد .
أو أتصل بإحدى صديقاتي القديمات في الكلية الجامعية لنلتقي معا" في الجامعة نفسها ،ونستذكر معاناتنا مع بيروقراطية تلك الجامعة وانغلاقها وعصيانها على التطور.
وحين استنفذت كل الفرص في تحمل رايا ،والدعس على كرامتي ،وخصوصا" بعد أن جلبت معها يوما" زوجها ،وتعمدت بأن تقترح علي بأن أدلك له كتفيه ،وهما عاريتان ،كما لو أنني عاهرة .
حينها رميت المفاتيح لها ،وأخبرتها بأنها امرأة مريضة نفسيا" ،وتافهة ،وعنصرية ،وفاسدة ،ومتوحشة ،ومعدومة الكرامة .ومضيت دون أن أتقاضى أي راتب .
اتصلت بماجد وأنا غاضبة وأخبرته بأنني أرغب في رؤيته ،فجاء برفقة ضياء ،وكانت تلك هي المفاجأة الكبرى .
تعاملا معي وكأنهما صديقان حاولت أنا التفريق بينهما ،وتوضح أن غاية ماجد من كل تلك العلاقة هو أن يثبت لضياء أنني غير جديرة بالثقة ،وكان من الواضح أنها نظرته الأصولية عن المرأة وحاول إثباتها لصديقه ،وتعاملا معي كما لوكنت لا أعني لهما شيئا".
حين عدت إلى المنزل كنت قد اتخذت قرارا" بالعكوف عن الحب على نحو مطلق ،والالتفات إلى الكتابة فقط .
استقبلتني يومها شقيقتي زينب بخبر زادني خيبة وانكسارا" ،وهو أن جدتي قد ماتت للتو ،على نحو مفاجئ وصادم .



الجزء الثاني
عندما مات جدي ،جربت الفقدان للمرة الأولى ،وكان ذلك لما كنت في الثانوية ،وكنا نقطن منزلنا في ادلب .
ومازلت أذكر كيف تلقيت الخبر ،كنت نائمة وأيقظني جمال قريبي ،حبيبي الأول لاحقا" ،وصعقني بالخبر محطما" كل قوتي بفأس تلك الصدمة .
منذ ذلك اليوم تعلقت بجمال واعتبرته تعويضا" لي عن ذلك الفقدان ،ولم أكن أتوقع أنني أضم بقربي فأسا" ستستمر بتحطيم قوتي حتى النهاية .
وحين انتقلنا لاحقا" كل إلى حياته ،هو إلى جامعته الخاصة وأنا إلى اللاذقية ،بدأت أرمم تلك الهشاشة التي خلفها وراءه من وقع صدمته ،إلى الحد الذي جعلني متماسكة أمام صدمتي الجديدة برحيل جدتي .
إذ خرجت من حزني مبكرا" ،وعلمت أنه علي مواجهة ظروف جديدة ،وأن الأمر يتطلب مني صبرا" عظيما" .
كانت جدتي قد أوصتني ببيع ذهبها وافتتاح صيدلية بعد وفاتها ،وإعالة شقيقتي زينب ريثما تتزوج ،ولم أطل الوقت على تحقيق رغبتها .
تزوجت شقيقتي زينب وانتقلت للعيش مع زوجها بعد حصولها على الشهادة الثانوية ،وانتقلت للعيش بعيدا" ،وتبعها أخي أيضا" ،فقد تزوج من خطيبته تمارة واستأجر منزلا" ليعيشا فيه ،فبقيت وحيدة في منزلنا مع صورة جدي .
افتتحت صيدلية في منطقة بعيدة عن مركز المدينة ،تدعى سقوبين .
وكان علي أن أشرف على كل خطوة في تجهيزها بمفردي ،وكان أهل الحي يستقبلونني بكل حب ،في كل خطوة أقوم بها لتجهيز المكان .
وخصوصا" (سعيدة )جارتي في البناء نفسه ،وهي سيدة خمسينية عزباء ،تعيش برفقة والديها العجوزين .
كانت سعيدة تقدم لي القهوة الساخنة يوميا" وتجلس إلى جانبي أمام الصيدلية غير المجهزة بعد ،ونثرثر معا" عن الأوضاع الاقتصادية السيئة ،أو عن تراجع الخدمات في هذه المدينة والانحدار الفكري لدى العامة ،نتيجة تفشي الجهل والفقر .
كان الحي الذي افتتحت فيه الصيدلية أكبر مثال على تفشي الجهل والعودة إلى القدامة ،رغم كون سكانه طيبي القلب ،لجؤوا إلى الدين كمحاولة أخيرة للخلاص من فقرهم وقهرهم .
وقد احتضن هذا الحي مختلف الطوائف والملل أكثرهم علويون ،ومن بينهم النازحين من المدن الأخرى ،وخصوصا" من الطائفة الشيعية .
كانت (سعيدة) أيضا" كاثوليكية خسرت عملها في مستشفى في حلب إبان الحرب ،وعادت إلى والديها في اللاذقية للاعتناء بهما .
كان الحي أكبر دليل على أن أكثر من دفع ثمنا" باهظا" في الحرب ،هو الأقليات ،وخصوصا" المتمسكين بمبادئهم ،والذين رفضوا الانخراط في لعبة أمراء الحرب ،الذين حولوا كل شيء إلى سلعة لضمان توحشهم ،حتى البشر .
على سبيل المثال ،كان ثمة رجل يعد نفسه زعيما" للحي ،لامتلاكهم أكبر بناء فيه ،وثرائه ،مع أنه كان واحدا" من المرتزقة الذين اشتهروا بالنهب والسرقة واستغلال الحرب لبناء ثروة .
وكان جميع سكان الحي يهابونه ،ويحسبون له ألف حساب ،لقلة حيلتهم وضعفهم وانكسارهم الذي خلفته الحرب ،فضلا" عن حزنهم على فقدان أغلى من لديهم من شبان استشهدوا في الحرب .
كان الحي أيضا" يعج بالحشاشين ،واللصوص الخارجين من السجون ،التائبين علنا" ،المستمرين في إجرامهم سرا" .
وقد حذرتني سعيدة منهم ،وقالت بأنها تفضل بناء حاجز جيد في الصيدلية قبل أن أشرع في العمل فيها .
كنت قد تعاملت مع هكذا أصناف سواء في الدعتور أو الزراعة ،وظننت أن التعامل مع الأشخاص هنا سيكون أسهل ،إذ هنا حتى الحشاشون أكثر لطفا" وسذاجة من نظائرهم في الزراعة مثلا" حيث يتعمدون اللجوء إلى الحشيش والمخدرات ،وهم على دراية تامة وذلك لضمان مزيد من التوحش وانتهاك الأخلاق .
أما الناس هنا فكانوا يخالفون القانون كردة فعل أخيرة عن قهرهم المحتوم ،وبالتالي ليس علينا محاسبتهم بالأسلوب نفسه ،إلا أنه في الغالب يحدث العكس !
كان الناس هنا طيبين لكنهم خائفين ومستسلمين لدرجة تصديق نفسهم أنهم طبقة دنيا ،والتعامل كضعفاء وخطأة أمام من هم أقوى وأكثر شرفا" منهم .
كانت الحرب والتسامح مع المجرمين والقتلى ،والفساد في جميع مؤسسات الدولة وأجهزتها هو ما أنتج هذا النوع من البشر المقهورين اليائسين ،والذين يجلدون أنفسهم على ذنوب لم يقترفوها أصلا" .

حين افتتحت الصيدلية ،تردد علي بعض من أولئك الحشاشين الذين تحدثت عنهم سعيدة ،لكنني تمكنت من كبح جماحهم ،على أتم وجه .
كان التعامل معهم أفضل من التعامل مع مالك المتجر المحاذي للصيدلية ،فقد كان ابن رجل نافذ قادم من العاصمة ،وكان قد افتتح هذا المتجر في هذا الحي الفقير ،لزيادة ثروته على حساب هؤلاء الضعفاء ،ولم يكفيهم ما فعلت بهم الحرب حتى يأتي هذا الحوت ليمص آخر ما تبقى من دماء أبنائهم .
كان أسلوب تعامله مع شبان الحي وكأنهم يخدمون عنده ،وصبه ألفاظا" نابية عليهم على الدوام ،يضايقني ويستثير في مشاعر القرف والغضب .
أحبني جميع من في الحي ،وتعرفت بأناس كثر كانوا يترددون على الصيدلية ويجلسون إلي ،ونتحاور ،وهذا ما جعلني ملاذهم من هول الظلم الذي يعيشون فيه .
كان من بينهم الجد بطرس والد سعيدة ،الذي كان يطل علي كل صباح ،لنجلس ونتحدث ،ويخبرني بأنني جلبت النور معي إلى هذا الحي المظلم ،وأنني شجعت الناس على الخروج من ضعفهم وعدم الاستسلام ،بإصراري على توعيتهم بما يخص اللجوء إلى الدواء عند المرض ،وتشجيعهم على الإيمان بالعلم أكثر ،وليس اللجوء إلى رجال الدين ورجال السحر والشعوذة .
وقال بأنني بثثت فيهم الأمل مجددا"،بالطاقة التي جلبتها معي إلى هذا الحي اليائس ،وأن لي دور هنا كان الله قد قدره .
ثم سألني سؤالا" : أتعلمين لم قال السيد المسيح : أنا هو الطريق والحق والحياة ؟
أجبته : لأنه صورة الله على الأرض ،ومخلص البشر .
فأجاب: لا،لأنه كان الأشجع في مواجهة الظلم والعمى الذي انتشر في مملكة الرومان الظالمة ،فقاد الناس من حياة بلا معنى إلى حياة المعنى ،فأصبح هو المعنى نفسه .
جملة (المسيح ابن الله) هي رمز ،المسيح شخص قال الحقيقة فلحق به المعذبون واليائسون ،لأنهم وجدوا فيه بصيص الأمل ،لأنه نور من الله ،لذا هو ابن الله وتجسيده على الأرض .
فكرت بكلام الجد أرتين كثيرا" ،وهذا ما جعلني أفهم بأنني كنت محدودة التفكير دوما" فيما يتعلق بمفهومي عن الحب ،الذي حصرته بين شخصين .
إلا أن الحب أوسع من هذا ،وأنه حري بي أن أمنح هذا الحب لمن يستحقه حقا" ،لمن يحتاجه .
لذا اتخذت قرارا" بأن أغير حياة الناس نحو الأفضل في هذا الحي ،بطرق عديدة ومختلفة ،وأصبح هذا هاجسي الأول والأخير .
وبدأت مع سعيدة ،التي اكتشفت مرضها بسرطان الرئة مؤخرا" ،فصرت أجلس معها في الأمسيات وأشجعها على البقاء حية ،وأمنعها عن التدخين ،وأقدم لها النصائح عن حياة صحية .
كانت يائسة بداية ،ثم بفضل وجودي قربها كما أسلفت ،تمكنت من تجاوز اليأس والعيش من أجل الحياة فقط ،ومن أجلها هي نفسها .
كان علي أيضا" أن أساعدها في رعاية والديها المسنين ،إلا أن غيبها الموت ذات يوم على نحو مفاجئ ،تاركة ورائها ذكريات جميلة وشعورا" بالطمأنينة في داخلي ،أنني فعلت ما باستطاعتي لأن تعيش آخر أيامها سعيدة ،كما سماها والداها في الصغر .

بعد وفاة سعيدة ،تعرفت بشاب من الحي ،متطوع في الجيش ،وكانت ثكنته في منطقة قريبة ،فأصبح يتردد علي ليستشيرني صيدلانيا" ،إلا أنه سرعان ما أصبحنا صديقين .
كان ذلك الشاب الذي يدعى (قسورة) يحب فتاة سنية من الحي نفسه تقطن في البناء الذي تقع فيه صيدليتي ،ولم يكتب لهما بأن يكونا معا" ،لأسباب عديدة ،أولها قلة حيلته وعدم اعتماده سوى على راتبه في الجيش ،وتزمت أهله فيما يخص زواجه من طائفة أخرى .
وشيئا" فشيئا" أصبحت أنا مرسولة الحب بينهما ،وحاولت التوفيق بينهما ،إلا أنني عكفت عن ذلك لما اكتشفت أن تلك الفتاة لن ترتبط به مطلقا" ،فقد كانت أحلامها أوسع من مجرد الزواج بشخص فقير الحال مثله .
شعرت بالحزن لأجله ،لأنه كان عاطفيا" للغاية ،ويحبها من كل قلبه ،وحاولت تعويضه عن ذلك بإسلافه المال إلى أجل غير مسمى ،وربما قد أحببته في سري ،إلا أنني لم أخبره بذلك لأن هاجسه كان تلك الفتاة ،وبدلا" من ذلك كنت ألجأ إلى صفحة ضياء الشخصية على الفيس بوك فأجده يعانق فتاة ما ترتدي المايوه الذي يرفصه هو ،يمرح في نادي الضباط ! مع أنه كان متخلفا" عن الخدمة الإلزامية .
أو إلى صفحة جمال الشخصية ،جمال حبيبي الأول ،لأجده يضم خطيبته وهما يتسوقان تحضيرا" لعرسهما .
حينها أعود لقسورة وأجلس إليه لأحثه على تقدير ذاته ،والتفكير بفتاة أخرى ،وعدم الانقياد الأعمى لذلك الرجل الذي ينصب نفسه زعيما" على الحي ،وبأنه ليس عاملا" لديه ،بل هو شخص يستحق كامل الاحترام حتى لو كان فقيرا" .
حثثته أيضا" على القراءة ،فقمت بإعارته كتبا" من عندي ،ولم يقتصر الأمر عليه بل تعدى إلى عدد جيد من أهالي الحي ،الذين راحوا يرسلون إلي أولادهم لأعلمهم القراءة والكتابة بعد انحدار التعليم في مدارس المدينة وخصوصا" في ظل أزمة الكورونا وما تبعها من أزمات أخرى كالزلزال الذي ضرب سوريا في وقت لاحق .
لذا نذرت وقتي لأطفال الحي وتعليمهم ،إلى الحد الذي ابتعدت فيه عن شقيقي ،الذين حظيا كليهما بطفلة ،وانشغلا مع عائلتيهما .
أما أنا فكنت أعيش تجربة أمومة من نوع مختلف،حيث قابلت شابا"في السادسة عشرة من عمره هناك ،ولم أعلم لم تعلقت به إلى هذا الحد ،مذ قابلته للمرة الأولى ،تحرك شيء ما في داخلي ،ظننته للوهلة الأولى شعورا" بالشفقة ،ثم تخليت لاحقا" عن هذا الاعتقاد مع مرور الزمن .
لم أنجذب له انجذاب فتاة لشاب ،أو امرأة لرجل يصغرها ،وإنما كان شعوري نحوه أقرب إلى شعور الأمومة كما أسلفت .
رغبت في غسل قدميه بالماء الدافئ لما تعرفت به لأول مرة عائدا" من عمله ،وتخفيف آلامه والعناية بنظافته .رغبت في أن أضمه إلى صدري وأحنو عليه حنو أم .
تعرفت بأمه الحقيقية وأسلفتها المال والأدوية من الصيدلية ،كي أضمن بألا ينقصه شيء .
ليس هذا فقط بل وأكثر ،بحثت عن صبية الحي الذين يعاركهم على الدوام ،وأفهمتهم بأن من يقترب منه عليه مواجهتي وبأنه سيلقى مني حسابا" عسيرا" !
كان حبا" مبتذلا" ما جمعني به ،كنت أشعر بأنه ولدي الذي لم ألده ،
وجعلت من مشاعري تجاهه غير مفهومة بالنسبة لشاب في عمره ،مليء بالحياة ،متهور في معظم المواقف التي يزج فيها .
وكان هذا ما زاد من رغبتي في احتضانه و إعانته ليتخطى ماهو فيه ،لكونه يتيم الأب ،أميا" ،مهجرا"من مدينته بفعل الحرب ،ولا سبيل لاستمراره في العيش سوى الكفاح في العمل طوال اليوم .
يزورني كل صباح في صيدليتي،يحدثني عن حياته ،عن علاقاته العاطفية وعن تدخينه خفية عن والدته .
وأحيانا"ينسج لي في مخيلته قصصا" صبيانية عن مغامراته في مغسلة السيارات حيث يعمل ،مما يدفعني للضحك في سري .
كأن يسرد لي عن تدليله من قبل رجال ذوي نفوذ أو أولئك الذين يسوحون في طرقات المدينة يرعبون البشر ،أو بالأحرى يرسلون أزلامهم للقيام بهذه الأمور ويكتفون هم بزج النقود في جيوبهم .
كان العيش في مدينة فاسدة كهذه ،قد زاد من أوجاعه وشعوره بغياب العدالة عن هذا العالم .
وكنت بدوره أشاركه هذا الشعور ،لذا فتحت له صيدليتي وقلبي وفعلت المستحيل لإسعاده ،ووقفت إلى جانبه في مواقف عدة ،إلا أنني ذات يوم أدركت فجأة كم أصبح بعيدا" عني ،وانشغل في قصة حب طبيعية
لكنني رغم ذلك لم أشعر سوى بحزن ضئيل ،وسعدت لسعادته .

زارني ذات يوم في الصيدلية ،جاري التاجر في المتجر المحاذي لصيدليتي ،وحادثني في موضوع شراء عقار صيدليتي ،رغبة منه في توسيع متجره ،لكنه في العمق أراد توسيع نفوذه وسلطته على أولئك الضعفاء ،كان حوتا" لايشبع اعتاد على السلطة ،ومتدينا" بغيضا" يرغب في الاستحواذ على كل شيء .
أخبرته برفضي لعرضه ،فأعلن الحرب علي ،بدءا" من إرسال الأطفال الأشقياء لرمي واجهة الصيدلية بالحصى ،وتأليف الشائعات عني بأنني أبيع الأدوية الممنوعة دستوريا" ،وأنني عاهرة أستقبل الشبان لدي لمضاجعتي ،أو أنني أرفع أسعار الدواء .
كانت تلك الضغوطات التي تعرضت لها ،قد قادتني إلى الانسحاب تدريجيا" من الصيدلية خوفا" وذعرا" من هذا الوحش الكاسر .
ورحت أكثف زياراتي إلى منزل أشقائي ،أو ألوذ بوالدي وإخوتي من زوجته الأخرى ،فأجدهم جميعهم منغمسين بحيواتهم ،فأعكف عن إخبارهم بأي شيء .
كنت وحيدة وهشة للمرة الأولى في حياتي ،ولم تقويني حتى الكتابة كما هي عادتها ،لذا اتخذت قرارا" بأن أتعلم كيف أدافع عن نفسي ،ليس فقط باستخدام قلمي ،وإنما باستعمال يدي أو قبضتي إن صح التعبير .


كان ثمة شاب رياضي ،حاصل على بطولات في مجال الكيك بوكسنغ والقتال المختلط _يشاع عنه أنه لا ينهزم في أية منازلة _يمر دوما" من أمام صيدليتي .
سألت عنه وعلمت مكان إقامته ،كان يدعى (حيدر) وكان يختلف كليا" عن حيدر قريبي المهووس بالجنس .
زرته في منزله ،وطلبت منه التدرب عنده ،لغرض الدفاع عن نفسي .
فحدد لي موعدا" أسبوعيا" بداية .
في دروسي الأولى ،كنت أسقط خائرة القوى بعد وقت قصير ،كطفل يرسب في امتحاناته الأولى .
نعم ،شعرت مع حيدر كما لو أنني طفلة ولدت من جديد ،تلج الحياة مجددا" من باب أخرى ،لم تدقها من قبل .
كثفت دروسي معه ،إلى الحد الذي أغلقت فيه صيدليتي نهائيا" ،وأصبح الوقت الذي أقضيه مع حيدر ،حياتي بكل بساطة .
وسرعان ما تغيرت بنية جسدي ،و أصبحت أكثر ثقة و بشاشة وحيوية ،وتجاوزت كل أحزاني القديمة ومخاوفي ،وبدأت أرى الدنيا بعين طفولية ،فشعرت بأنني ملكت الخلود .
وتذكرت مقولة الجد بطرس: (حين تحبين الحياة والناس ،ستجدين الحب الحقيقي ) .


بعد فترة ،وحين أصبحت بارعة في رياضات الكيك بوكسنغ والقتال المختلط ،كنت أغلق باب صيدليتي ذات مساء ،وكان مالك المتجر المحاذي جالسا" يدخن بغضب ،بعد أن ضاق ذرعا" بعنادي فيما يخص بيعه عقار الصيدلية .
وحين التفتت للمغادرة ،رمى بسيجارته على ظهري ،فهجمت عليه وطرحته أرضا" ،وشتمته ،وأوسعته ضربا" ،حتى أدميته .
تجمع أهل الحي حولنا ،و أنقذوه من بين يدي ،وكان أحدهم قد أبلغ الشرطة .
جاءت الشرطة وقادتني إلى المخفر ،وتعرضت للمحاكمة بعد أن قرر ذلك التاجر بأن يقاضيني .
زارني بعدها في السجن ،وعرض علي عرضا" بأن أوافق على بيعه عقار الصيدلية مقابل إطلاق سراحي ،فالتزمت الصمت وغادرت طاولة المقابلة .
بعد انتهاء فترة حكمي التي لم يزرني خلالها سوى شقيقتي زينب وابنتها ،خرجت من السجن ،وحين عبرت البوابة الحديدية لسجن النساء ،كان في انتظاري شخصان ،وقف كل منهما في جهة .
كانا حيدر وضياء ،ولم يكن من الصعب معرفة أية وجهة سوف يقودني إليها قلبي .





( انتهى )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | المسرحية والأكاديمية عليّة الخاليدي |


.. قصيدة الشاعر العقيد مشعل الحارثي أمام ولي العهد السعودي في ح




.. لأي عملاق يحلم عبدالله رويشد بالغناء ؟


.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د




.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل