الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ريادة طه حسين في فن السيرة

صبري فوزي أبوحسين

2023 / 11 / 15
الادب والفن


يعد فن السيرة من الفنون المستحدثة في أدبنا الحديث، والتي لها أصل ماتع وحضور ناصع في تراثنا العربي؛ إذ نجد العناية بالتراجم الغيرية في قالب سِيَري روائي، حول العظماء من الأنبياء والصحابة والتابعين، والخلفاء والولاة والوجهاء، منذ عصر التدوين، سواء في كتب السير والمغازي، أم كتب الطبقات والتراجم، أو كتب التاريخ، ثم كانت السِّيَر الذاتية بقلم كبار الأدباء والعلماء في العصر العربي الوسيط أمثال ابن منقذ(488-584ه) في كتابه الاعتبار، وابن حزم(384-456هـ) في كتابه(طَوْق الحمامة في الأُلفة والأُلَّاف)، وابن خلدون(732-808هـ) حيث سجل سيرته الشخصية كاملةً في أجزاء تاريخه الكبير، مصورًا تفاصيل حياته كلِّها، وما عاناه أثناء ولادة الممالك وموتها في المغرب العربي، إضافةً لما رآه أثناء الإقامة في مصرنا، ووساطته مع تيمورلنك ورحلته لأداء فريضة الحج، وممن أبدع السيرة الذاتية في التراث السيوطي(849-911هـ) في كتابه(التحدث بنعمة الله)... وغيرهم، وذلك بطريقة لغوية تراثية، ليس فيها كل مقومات فن السيرة الذاتية؛ إذ تطور هذا الفن في بنائه وصياغته في عصرنا عن طريق الاطلاع على تجارب أبرز كتابات الغربيين في هذا الفن النثري المَرِن المُثير المُشوِّق، ذلك الفن السردي، الذي يسترجع فيه المبدع رحلة حياته الشخصية أو حياة إنسان آخر، مركزًا على الأحداث والأخبار والمعلومات، مُتَّبعًا طريقة خاصة في صياغة هذه الرحلة، سواء في قالب التاريخ، أم قالب اليوميات، أو قالب المُذَكِّرات، أو قالب الرواية، أو قالب الاعترافات أو قالب الوثائق... أو غير ذلك من التقنيات الفنية التي تُستَحدث وتُستَجدُّ، كل وقت وحين! وهي فن غائي يهتم بالمواعظ والنصائح وتقديم الانفعالات الشعورية تجاه المواقف والمرائي بشكل متنوع، سواء أكانت حسنة أم سيئة. إنها كما يعرفها الدكتور عبد العزيز شرف- "تعني، حرفيًّا، ترجمة حياة إنسان كما يراها"، بشرط ألا يضر الآخرين في عرضهم أو يثير المشاكل والصراعات بسبب بوحه الذاتي الصادم... أو غير ذلك من طرائق البناء السردي الذاتي! فالسيرة الذاتية تجمع بين تاريخ الإنسان وحياته الشخصية جمعًا يشترط فيها الصدق والإثارة والتشويق والجاذبية والهادفية، واحترام الآخرين في خصوصياتهم! وينبغي في السيرة الذاتية أن يحدث تطابق بين السارد والمؤلِّف والشخصية حتى يتحقق الصدق الفني، ويتحقق الحياد في عرض أحداثها ورؤاها فيها! وتنقسم السيرة الذاتية إلى قصة حياة، وسيرة ذاتية روحية، وسيرة ذاتية خيالية، ومذكرات، واعترافات، وشهادات، وغير ذلك...
ومع مطلع القرن التاسع عشر سلك الأدباء العرب المحدثون والإحيائيون الأوائل مسلك قدمائنا في الترجمة لأنفسهم، ومن هؤلاء محمد بن عمر التونسي (ت1857م) في كتابه "تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان" عام 1832م الذي يحتوي في مقدمته سيرة المؤلف نفسه، ثمّ تحدث عن الوظائف التي شغل بها، ثم تحدث عن رحلته إلى بلاد السودان. والشيخ رفاعة رافع الطهطاوي(1801-1873م)؛ فهو من أوائل الأدباء المحدثين المُسهمين في فن السيرة الذاتية في كتابه الشهير الجهير( تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، وقد كتبه شيخنا الطهطاوي بعدما رشحه شيخُه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا -حاكم مصر آنذاك -بأن يكون مشرفًا على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة. والذي كان له الفضل في تشجيع الكثيرين على تدوين الرحلات والسير الذاتية في الأدب الحديث. وقد تكون من مقدمة ومقصد وست مقالات، كل مقالة تنقسم إلى عدة فصول... يقول في الفصل الأول من المقالة الأولى، وعنوانه(في الخروج من مصر، إلى دخول ثغر إسكندرية): "كان خروجنا من مصر يوم الجمعة، الذي هو ثامن يوم من شعبان، سنة إحدى وأربعين ومائتين بعد الألف، من الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فتفاءلت بأن عقب هذا الفراق يحصل الاجتماع، وأن تسلم العودة سيقوم مقام الوادع، فركبنا زوارق صغيرة، وتوجهنا إلى الإسكندرية، وأقمنا على ظهر النيل المبارك أربعة أيام، ولا فائدة لذكر بعض البلاد والقرى التي رسونا عليها. وكان دخولنا الإسكندرية يوم الأربعاء (ثالث عشر يومًا)الأَوْلَى: الثالث عشر) من شهر شعبان، فمكثنا فيها ثلاثة وعشرين يومًا، في (سراية) الوالي بها. وكان خروجنا إلى البلد في هذه المدة قليلاً، فلم يسهل لي ذكر شيء من شأنها، غير أنه ظهر لي أنها قريبة الميل في وضعها وحالها إلى بلاد الإفرنج، وإن كنت وقتئذ لم أر شيئًا من بلاد الإفرنج أصلاً، وإنما فهمت ذلك مما رأيته فيها دون غيرها من بلاد مصر، ولكثرة الإفرنج بها، ولكون أغلب السوقة يتكلم ببعض شيء من اللغة الطليانية ونحو ذلك، وتحقق ذلك عندي بعد وصولي إلى «مرسيليا» فإن إسكندرية (عينة) «مرسيليا» وأنموذجها، ولما ذهبت إليها سنة ٦٢ وجدتها قطعة من أوروبا.... " ؛ ومن ثم يعد الباحثون هذا الكتاب تجربة أدبية شخصية حديثة حية وحَيَوِية ومقصودة، فهو من الكتب التي احتوت على ملامح من فني السيرة الذاتية والرحلة الأدبية...
أما التجربة الأدبية الرائدة والأبرز والأنصع في فن السيرة الأدبية، فهي تجربة الدكتور طه حسين(1889-1973م)؛ فقد مارس الترجمة الغيرية في حديثه الأدبي المتأنق عن كبار أدباء العربية في كتبه: "حديث الأربعاء"، و"صوت أبي العلاء"، و"ذكرى أبي العلاء"، و"مع أبي العلاء في سجنه"، و"مع المتنبي"، و"حافظ وشوقي". كما مارس السيرة الذاتية في تجربتيه: (الأيام)، و(أديب):
أما كتاب (الأيام) فقد صدر سنة 1929م، وهو حَكْي ذاتي عن أيام أتت وولت على أديبنا الكبير، يقص بها أبرز مجريات حياته، وجاء في ثلاثة أجزاء، وتكوَّن كل جزء من عشرين فصلاً، وقد سرد الدكتور طه في هذا الكتاب قصة حياته في مراحل ثلاث: طفولة، وفتوة، وشبابًا: استرجع في (الجزء الأول) طفولته بما تحمل من معاناة وشقاء، ويحدثنا عن الجهل المطبق على الريف المصري وما فيه من عادات حسنة وسيئة في ذلك الوقت. وعرض في (الجزء الثاني) المرحلة الحياتية التي امتدت بين دخوله الأزهر وموقفه منه، حيث كان يتجلى كل أمل أبيه أن يراه عالمًا يعتكف على إحدى تلك الأعمدة يدرّس فيها طلابه...، وحتى التحاقه بالجامعة الأهلية. ثم كان (الجزء الثالث) عن الدراسة في الجامعة الأهلية، ثم سفره إلى فرنسا وحصوله على الليسانس والدكتوراه ودبلوم الدراسات العليا، ثم العودة إلى مصر أستاذًا في الجامعة. ويقال: إن للكتاب (جزءًا رابعًا مخطوطًا)، ولما أطلع عليه بعدُ! وقد طبعت(الأيام) في كتاب آخر، تحت مسمًّى تجاري خادع، وهو (مذكرات طه حسين)، وما هو إلا الجزآن الثاني والثالث من الأيام! ويرى الأستاذ خليل الجيزاوي في مقالته(طه حسين مؤسس رواية السيرة الذاتية) أن كتاب (الأيام) قد جمع بين تسجيل الوقائع والأحداث اليومية في حياة كاتبها والخيال الفني في وصف الأمكنة التي عاشها السارد المؤلف العليم، فجاءت رواية الأيام حلقات سردية أبهرت الجميع، عربيًّا وأوروبيًّا، فعندما ترجم الجزء الأول للإنجليزية بعنوان: (طفولة مصرية)، بلندن عام 1929م، وترجم الجزء الثاني بعنوان: (بحيرة الأيام)، بلندن عام 1932م، تعرّف الأوربيّون على الرجل الطموح الكفيف الفقير الذي تحدى الصعاب، ليصبح كاتبًا ومفكرًا تنويريًّا، وترجم الجزء الثالث بعنوان: (طريق إلى فرنسا)، بلندن عام 1967م، وتصف دائرة المعارف البريطانية ترجمة: الأيام، بأنها أول أدب عربي حديث عرفه الغرب، ويتم توزيع الكثير من النسخ المترجمة على مكتبات الهيئات الأوروبية المهتمة برعاية شباب المكفوفين، ليتعلم منها الشباب كيفية التحدي وتجاوز المعوقات الصعبة، حتى يتم تحقيق أحلام المكفوفين وآمالهم، وقد أعجب به المستشرقون قبل الباحثين والنقاد العرب، ففي سنة 1929م، ومع صدور الجزء الأول من كتاب الأيام، وصفه المستشرق البريطاني المعروف هاملتون جب(1895-1971م) قائلاً: "وأهمّ من ذلك كلّه من الناحية الأدبيّة سيرته الشخصيّة التي دعاها الأيام، هذا الكتاب الذي استحقّ الثناء؛ لما فيه من عمق في الشعور وصدق في الوصف، ويمكننا أن نعده بحقّ أحسن عمل أدبي صدر في الأدب المصري الحديث حتى الآن!".
ويكاد يُجمع النقاد العرب على أن كتاب الأيام يُعدّ الكتاب العمدة في أدب السيرة الذاتية، فهذا الدكتور إحسان عباس (ت2003م) يرى في كتابه(فن السيرة) أن كتاب (الأيام) لطه حسين (ت1973م) أول كتاب في السِّيَر الذاتية الحديثة، وأنه لا يتسابق معه كتاب آخر في مسيرة أدبنا العربي الحديث، وأن له ميزات عديدة، منها: الطريقة البارعة في القصص، والأسلوب الجيد، وكذلك العاطفة المكنونة، والقدرة على السخرية... وهذا الناقد والروائي محمد رجب باردي يقول في كتابه "إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة": "كان كتاب الأيام لطه حسين هو النص التأسيسي الأول لكتابة السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث؛ ففيه يتحدث عن طفولته وشبابه، ويعطي صورة متكاملة عن الظروف التي ساعدت في نشأته، وأثرت في تكوين شخصيته، كما أنه أبدع في تصوير المعاناة التي عاشها، في بيئة تحيا في ظل الموروثات القديمة والخاطئة".
إن كتاب "الأيام" ليس مجرد سيرة ذاتية، وإنما تجربة أدبية وفكرية ناصعة تصلح لأن يستفيد منها الأجيال المتعاقبة، كما تصلح لدراسة أوضاع المجتمع المصري في القرن العشرين، وإدراك مدى تدهوره وانتشار الجهل فيه، وموقفه الشجاع والصادم منه، وحرصه على النَّهَل من ثقافة الغرب، والعيش فيه ليرى فيه ما رأى، ويتعلم فيه ما تعلم ثم يعود إلى مصر يبث نور العلم الذي تلقَّاه. إنها تجربة إنسان فذ حوَّل الإعاقةَ إلى إرادة، وحول العمى إلى إبصار. وبذلك يكون عميد الأدب العربي قد وضع مثالاً للشباب(المكفوفين منه وغير المكفوفين!) ليهتدوا به في القِيَم الجميلة والسلوكيات النبيلة من الحنين إلى الطفولة السعيدة، والرؤية النقدية للحياة والأحياء، والرغبة في مراجعه الذات والتاريخ، والرغبة في تحدي مُعوِّقات الحاضر ومُكدِّراته والعمل على تغييره وتطويره وتنويره... يقول الدكتور طه: "أنا أتمنى أن يجد الأصدقاء المكفوفون في قراءة هذا الحديث تسلية لهم عن أثقال الحياة، كما وجدت في إملائه، وأن يجدوا فيه بعد ذلك تشجيعًا لهم على أن يستقبلوا الحياة مبتسمين لها، كما تبتسم لهم ولغيرهم من الناس. الحياة لم تُمنح لفريق من الناس دون فريق، وحظوظها من اليسر والعسر ومن الشدة واللين، ليست مقصورة على المكفوفين وأصحاب الآفات دون غيرهم من الناس، ولو عرف الإنسان ما يلقى غيرُه من المصاعب وما يشقى به غيره من مشكلات الحياة، لهانت عليه الخطوب، المهم أن يلقى الإنسان حياته باسمًا لها لا عابسًا، وجادًّا فيها لا لاعبًا، وأن يحمل نصيبه من أثقالها ويؤدي نصيبه من واجباتها. .. وللناس مذاهبهم المختلفة في التخفف من الهموم والتخلص من الأحزان، فمنهم من يتسلى عنها بالقراءة، ومنهم من يتسلى عنها بالرياضة، ومنهم من يتسلى عنها بالاستماع للموسيقى والغناء، ومنهم من يذهب غير هذه المذاهب كلها لينسى نفسه ويفر من حياته الحاضرة وما تثقله به من الأعباء...".
ومع ما في كتاب(الأيام) من بعض الرؤى المُشكلة لا سيما فيما يخص علاقته بالأزهر وشيوخه! فإنه يظل ذا قيمة أدبية رفيعة بوصفه طرازًا فريدًا من السِّيَر الذاتية، حيث الصدق والعذوبة، وبث الأمل والطموح في النفوس، والإعلان عن الروافد الفكرية والثقافية التي شكلت مذهب الدكتور طه حسين ومنهجه، حيث يقول مثلاً عن موقف بيئته الريفية من العلماء والشيوخ: "صاحبنا يرى علماء الريف وأشياخ القرى يغدون ويروحون في جلال ومهابة، ويقولون فيستمع لهم الناس مع شيء من الإكبار، وكان صاحبنا متأثرًا بنفسية الريف، فكاد يظن أن العلماء فُطِروا من طينة نقية ممتازة غير الطينة التي فطر منها الناس جميعًا". ويقول مبينًا قيمة الأدب في روحه ونفسيته:" صاحبنا لا يعرف شيئًا يدفع النفوس إلى الحرية والإسراف فيها كالأدب، إنه امتحان للذوق ورياضة له على تعرّف باطن الجمال في الشعر والنثر". ويقول مشيرًا إلى العلاقة بين العلم والمال، وموازنًا بين حالة التعليم الكريمة في الأزهر، وحالته المادية في الجامعة المدنية: "صاحبنا كان من الغريب عليه عندما كان في الجامعة أن يدفع مبلغًا من المال وأن يشتري العلم بالمال، لم يتعود ذلك ولم يألفه، لقد اعتاد أن يرزق برغيف من الخبز مقابل كل يوم في الأزهر، وكان أداء ذلك الجنية عسيرًاً عليه، ولكنه عشق دروس الجامعة بمقدار ما وجد من العسر فيها!"، ويقول مبينًا أثر الصحافة الإيجابي في شخصيته وأدبه: "صاحبنا أخلص لحياته الجديدة عند أول مقال تمّ نشره له، فقد أرضاه ذلك عن نفسه وأطمعه في المزيد"، ويبين أثر الشيخ الأزهري والأستاذ الجامعي فيه: "وأصبح له أستاذان اختصّا بحبه وإعجابه، أحدهما يذكِّره بأئمة البصرة والكوفة، هو الشيخ سيد المرصفي، والآخر يذكِّره بفلاسفة اليونان، وهو لطفي السيد". فمثل هذه المقتبسات من الكتاب تدلنا على أبرز المؤثرات في شخصيته، وأبرز توجهاته الفكرية أصالة وتجديدًا، وموقفه من حالة التعليم في زمنه، والتي كان لها أثر في شخصيته حين صار وزيرًا للمعارف، فدعا إلى أن يكون العلم كالماء والهواء! وقد عمل على وضع مقولته هذه موضع التنفيذ، فبدأ في تنفيذ سياسة التعليم المجاني للتعليم الثانوي والتعليم الفني، وعمل على بناء منظومة تعليمية صحية وقوية، آتت ثمارها في زمنه...
أما كتاب (أديب) للدكتور طه حسين فقد صدر هذا الكتاب عام ١٩٣٥م، وقد تكون من واحد وعشرين مشهدًا أو فصلا، ويكاد يكون نسخة أخرى معدلة ومطورة من الأيام؛ فهو-في نظر كثير من قارئيها ودارسيها- سيرة أديبة جامعة بين الذاتي والغَيْري معًا، وتدور أحداثها حول(إبراهيم) الشاب العبقري الذي يحب الأدب حبًّا جمًّا، ويعشقه عشقًا مغاليًا، يقول الدكتور طه عنه:" لست أعرف من الناس الذين لقيتهم وتحدثت إليهم رجلًا أضْنَتْه علة الأدب، واستأثرت بقلبه ولُبِّه ونفسه كصاحبي هذا؛ كان لا يحسن شيئًا، ولا يشعر بشيء، ولا يقرأ شيئًا، ولا يرى شيئًا، ولا يسمع شيئًا إلا فكر في الصورة الكلامية، أو بعبارةٍ أدق في الصورة الأدبية التي يظهر فيها ما أحس وما شعر وما قرأ وما رأى وما سمع. وكان يجد مشقة شديدة في إخفاء تفكيره هذا على الناس، فكثيرًا ما كان يقول لأصحابه إذا رأى شيئًا أسخطه أو أرضاه: ما أخلق هذا الشيء أن ينشئ صورة أدبية ممتعة للسخط أو للرضاء! "، و(إبراهيم) الأديب يعاني من فقدان البصر، ويُحب امرأة ولكنها كرهته ورفضت الزواج به؛ فعندما يتقدم لخطبة إحدى قريباته تُقدم على الانتحار حيث تفضل الموت على الزواج بشخص مثله، فانتهى به الأمر أن تزوج بـ “حميدة”، المرأة التي رضيت به وأحبته، وبعد زواجه، تأتيه فرصة للسفر في منحة إلى فرنسا ولكن تشترط تلك المنحة أن يكون المتقدم غير متزوج، فيُطلق زوجته حميدة حتى يحصل على المنحة. ويعيش حياته في باريس بين ذنب تركه لزوجته، المرأة الوحيدة التي رضيت به مع فقدان بصره، وبين إحساسه بالضجر لحصوله على المنحة بالغش. ومن ثم أتى هذا الجزء من الكتاب سيرة ذاتية للفتى “إبراهيم” بطل القصة. يقول:" وكان أصدقاؤه إذا سمعوا منه هواجس الأحلام أو خواطر اليقظة ألحُّوا عليه في أن يذيع ذلك وينشره، فيبتسم ثم يهزأ، ثم يمتنع عليهم ويلح في الامتناع؛ لأنه كان يؤمن بأن ما يكتبه لم يصل بعد إلى أن يكون خليقًا بأن يُقدم إلى المطبعة، فهو كان يخاف المطبعة ويُكْبرها ويحيطها بشيءٍ من التقديس غريب...، وأنه لم يوفق إلى أن يودع القرطاس من نفسه، أو يسطر عليه صورة قلبه وعقله. فما زالت الآماد بينه وبين المطبعة بعيدة، وما زالت الأستار والسُّجُف دونه مسدلة. فليكتب إذن لنفسه لا للمطبعة..."، وقد ختم هذا الكتاب بما يعلن عن قيمته والعاطفة المهيمنة فيه، يقول:" نظرت في هذه الأوراق فإذا أدب رائع حزين صريح، لا عهد للغتنا بمثله فيما يكتب أدباؤها المحدثون، وقد هممت بنشره وقدمت بين يديه هذا الكتاب، ولكن هل تسمح ظروف الحياة الأدبية المصرية بإذاعة هذه الآثار يومًا ما؟!".
وقد عُدَّ هذا الكتاب عند بعض النقاد أحد أفضل كتابات طه حسين وأجملها لغويًّا، وقد لاقى ترحابًا عظيمًا عند كثير من المثقفين، لاسيما دراسة الدكتور جميل حمداوي في مقالته: "سيــــــرة "أديـــــب" لطــــه حسيـــــن بين الذاتي والغيري" المنشورة سنة 2007م، والذي قرر فيه أن أسلوب هذه التجربة الأدبية يتسم باللغة السامية والوصف الدقيق، والذي يجعل القارئ يتمتع باللغة ويغوص في جمالها، وتصل به حد الاندماج معها، وأن من يتدبر البناء الفني لكتاب(أديب) يرى الإبداع الأدبي الفذ المدهش لأديبنا؛ فهو نص أدبي تداخلت فيه الأجناس وتشابكت وتناغمت؛ ففيه سيرتان متنوعتان متكاملتان: سيرة ذاتية خاصة بالكاتب، وسيرة غيرية متعلقة بالأديب، وفيه في الوقت نفسه رواية فنية، تعتمد على التخييل والالتفات والتشويق والاستطراد والاهتمام بصناعة البيان وبلاغة التصوير، كما أن في هذه السيرة نزعة نقدية صريحة؛ فهو إدانة لجيل من المثقفين العرب الذين قصدوا أوروبا بحثًا عن العلم واستكمالًا لدراساتهم العليا، فانبهروا بحضارة الغرب، ولكنهم بدلًا من أن يستفيدوا من العلوم والمعارف والآداب، سقطوا في الغواية والرذيلة وفتنة الخطيئة، وانغمسوا في بُوتقة الشر والفساد، والانسياق الأعمى للغرب والإيمان بفلسفته المادية المحضة وأفكاره المنحلة. إنها مأساة «أديب» أفنى عمره في الأدب، وأودت به الغربة الزمانية والمكانية إلى عالم الشهوة والجنون والإدمان، فضيع نفسه وخسر أهله! وقد صورها الدكتور طه بأسلوب جاحظي فيه إسهاب واستطراد وإطناب، وحالة ذهنية وثقافية وإنسانية طيبة، مع قالب بياني مثير للمتلقي ومشوق إياه. رحم الله عميد الأدب العربي وبصيره، ومثير الإنسان العربي ومنيره ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??