الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


راشيل .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2023 / 11 / 18
الادب والفن


يقف ( علي ) متأملاً حركة الطلبة والطالبات مأخوذاً بالجو الجامعي المفتوح والمثير .. تتعالى همهماتهم وتشرئب أعناقهم نحو لوحة الاعلانات .. تختلج تعابير وجوههم بين سعيد ومحبط .. يخوض في زحامهم تتنازعه مشاعر متضاربة بين الخوف والأمل .. يساعده طوله الفارع على أن يلتقط إسمه بسهولة .. يزفر أنفاسه في ارتياح .. يخطو مبتعداً وينزوي في أحد الأركان مستمتعاً بمداعبة أحلامه وآماله ..
لمحها تقف على أطراف أصابعها ، وهي تحاول عبثا أن تُرسل نظرها من فوق الأكتاف الى عديد القوائم .. أدركَ أنها تبحث عن اسمها .. فتاة متوسطة الجمال .. كل شيء فيها هادئ وبسيط .. حتى شعرها الأسود الناعم معقود ببساطة خلف أذنيها .. تبدو بشخصيتها الجادة الرزينة أكبر من عمرها .. لا يدري لِمَ راقت له .. لاحقها بعينيه .. التقت نظراتهما أكثر من مرة .. بدا له أنها لم ترفض إهتمامه أو تتهرب منه .. اقترب منها متعثراً .. تسللت رائحة عطرها الى أنفه .. قال في ايجاز :
— ممكن الاسم ..؟
ترددت قليلاً ، ثم قالت مستسلمة في صوت خافت خَفِر :
— راشيل داود ..
التقط الاسم من أول وهلة رغم غرابته .. تزاحم وسط المحتشدين ثانيةً مستفيداً من قامته المديدة ، وعندما استدار فوجئ بعينيها تتبعانه .. لم تأخذ منه سوى دقائق حتى عاد اليها .. ما أن هتف بكلمة : هندسة حتى أشرق وجهها بابتسامة عريضة .. بدت سعيدة .. سألته في مرح : وحضرتك .. ؟ أخبرها بانهما من الآن أصبحا زملاء في كلية واحدة .. عرّف نفسه مستغلا الخدمة التي قدمها لها : علي ناصر ..
هتفت في فرح ، وهي تلوح بيدها :
— شكراً ، علي .. باي .. الى الغد ..
تابعها بنظره وهي تسير حتى ركبت في المقعد الخلفي لسيارة فارهة كانت تنتظرها أمام بوابة الجامعة .. من الغريب أن يجد نفسه منجذباً الى هذه الفتاة بهذه السرعة رغم وجود أُخريات أجمل .. خف الزحام وهدأت الحركة ، واشتدت سخونة الجو .. لم يبقى سوى طلبة متناثرين .. أصبح وجوده لا معنى له ..
سعى الى موقف الباصات يجوس وحيداً تحت وهج الشمس اللاهبة ، وصورة راشيل مبتسمة لاتزال تلازمه كظله .. استقل أحدها ، وعاد الى البيت شخصاً آخر مختلف .. لم يهتم لزغاريد أمه ، ولم يبالي بقبلات التهنئة من شقيقاته .. كان عاجزاً تماماً عن التجاوب مع أي أحد .. كل أفكاره وحواسه كانت محصورة في نقطة واحدة .. راشيل .. يراها شاخصة أمامه بوجهها الباسم الجميل .. لا تفارقه .. انها أول فتاة يخفق لها قلبه ، وتأخذ كل هذا الحيز من اهتمامه وتفكيره .. استعجل الانفراد بنفسه مدعياً التعب .. استلقى على سريره .. استعاد كل لحظة مرت ، وأخضع تفاصيلها الى التأويل ، والتمني ، وعذوبة الأحلام .. !
وفي صباح اليوم التالي ..
وقف قبالتها صامتاً يحدق فيها حائراً .. تقدم وصبّح عليها بصوته الرجولي الخشن .. قفز سؤال على طرف لسانه كسر به برودة الصمت .. قال متلكئاً كأنه يهمس :
— حضرتك مسيحية .. ؟
قالت مصححة :
— يهودية .. ! .. ( تركته برهة من الوقت يستوعب الكلمة وخلفيتها ، ثم .. ) هل يُحدث هذا فرقاً .. ؟
استفاق من دهشته .. أجاب بلا تردد :
— أبداً أبداً .. ( أكمل بعد فترة قصيرة من التفكير .. ) .. أعتبر الدين مسألة شخصية .. التعصب الأعمى في أي دين هو من يُحدث فرقاً .. لو رجعنا الى الفطرة الأولى ، فنحن كلنا بشر .. الأديان هي من أحالتنا الى مزق .. !
— آرائك خطيرة ..
— لا خطيرة ولا شي .. إنها الحقيقة .. ما رأيكِ .. ؟
— لا رأي لي .. أنا لا أخوض في الدين ، ولا في السياسة .
— خيراً تفعلين ..
عاودا اللقاءات .. تعمقت زمالتهما ، واتسع أفق حديثهما .. يدرسان معاً ، ويتحدثان كثيراً .. كان هو الذي يتحدث .. عن نفسه .. أهله .. أحلامه ، ومشاريعه في المستقبل .. لا يدري من أين كانت كل هذه الكلمات المتدفقة تنبع .. من أين تبدأ ، وكيف تنتهي ، لكنها في كل الأحوال سهلة صريحة وصادقة .. أخذ ينتقي حديثه ويهيئه في عقله قبل أن يُطلقه ، ويتجنب الكلمات المثيرة والحساسة ، أما هي فلم تكن تتكلم كثيراً .. كانت غالباً ما تكتفي بالاستماع ، واستقبال حديثه بنظرة نظيفة وادعة وابتسامة عذبة .. لاحظ أنها حريصة على أن تُبقيه بعيداً عن دائرة حياتها الخاصة ، وأن تُبقي العلاقة في حدود الزمالة .. كانت أحلامهما محدودة لم تسمح لها بالتمدد أكثر .. كأنها كانت تعلم بأن لا مستقبل لعلاقتهما .. !
انقطع عن الدوام ثلاث أيام لوعكة مفاجئة ألمت به .. وحين عاد استقبلته بلهفة .. وجدها قد استنسخت كل المحاضرات التي فاتته ، وقدمتها له .. لم يستطع أن يتمالك نفسه أكثر ، فاعترف لها بحقيقة مشاعره .. شحب وجهها ، وابتعدت بنظرها ، ثم قالت ودموع صامتة ترطب كلماتها :
— ما أشق الطريق ، يا علي وما أبعده .. !
في نفس العام 1969 .. استيقظ البصريون على وقع حدث مروع هزَّ المدينة والعراق وربما العالم ، وكان لحظة فارقة في حياة علي وراشيل وكل اليهود في العراق .. عندما أقدمت الحكومة على اعدام عراقيين من أديان مختلفة جُلهم من اليهود .. قالت بانهم عملاء لاسرائيل ، وعلقت جثثهم في الساحات العامة في مشهد بدا متوحشاً .. بدائياً ، وصادماً لم يألفه العراقيون من قبل .. سادت حينها أجواء رمادية داكنة تميل الى الكآبة والرعب .. !
جاءت راشيل بعد غياب أيام .. مصفرة الوجه .. محمرة العينين .. متوترة .. حزينة ، ومفزوعة كأن الدم قد تجمد في عروقها .. تعمّد علي ألا يخوض في الموضوع .. حاول أن يقرأ ملامح وجهها ، وأن ينفذ الى أغوار نفسها ، لكنها كانت صندوقاً مغلقاً بإحكام .. لم يستطع التغلب على دهشته ، وهو يرى ابتسامتها الجميلة الوادعة ، وقد تلاشت كأن يداً آثمة مسحتها ، ويرى لمعة عينيها ، وقد خبت .. يتكلم ولا تصغي ، وإن فعلت ، فعقلها في مكان آخر .. تتطلع نحوه وكأنها لا تراه .. يدخلا قاعة المحاضرات ، ويخرجان منها ، ولا كأنها فهمت شيئاً .. يتأملها وهي تمارس الحياة ، فيرى فيها جسداً يتحرك بلا روح .. راوده احساس مريع بأن كل شيء بينهما قد بدأ بالتنائي ، وانه على وشك أن يفقدها الى الابد .. أرعبه هذا الهاجس .. هزَّ رأسه بقوة كأنه يطرد نذير الشؤم هذا .. رغم كل ذلك لم تتخلى عن هدوئها وتماسكها ، ولا عن وقارها .. بقيت قسمات وجهها ثابتة مستقرة .. أما هو فكان يتلوى من الحزن والألم ، وهو يرى حب حياته على هذه الحال ..
تقول في وهن :
— أرجوك ، علي .. لا تحزن من أجلي .. لا اليوم ولا غداً .. !
صدمته كلماتها .. مضت الأيام متشابهة تكرر نفسها .. الغموض والتوتر والترقب يحيطان بكل شيء .. لا أحد يعرف ما الذي سيتمخض عن القدر من مفاجآت .. حتى حلَّ العام التالي حين سمحت الحكومة لليهود بالهجرة الى اسرائيل ، وكانت راشيل وأسرتها من أوائل من هاجروا ، أو فروا .. غادرت راشيل العراق ، وحياته دون وداع والى الأبد ، وتلاشت كأي حلم وردي من أحلام اليقظة .. !
ظل علي يعاني مرارة التجربة بعد أن غيرت الحياة مجراها الى مسار آخر معتم لم يتوقعه .. رحلت بعيداً وتركته ملتاعاً يعذبه الشوق والحنين حد البكاء .. اليها ، والى أيامهما الجميلة معاً .. كانت لها وحشة وغياب .. بدت له الكلية بدونها مكاناً قَفُراً موحشاً مهجوراً .. !
رغم توالي السنين وتآكل العمر ، إلا أن ذكرى راشيل لم تهدأ في نفسه يوماً ، ولم تخبو .. ظلت تعاند النسيان والغياب .. من الغريب .. أنه كلما صادف وتحدث عن راشيل وحبه لها .. كان كمن يتكلم بلغة لم تعد مفهومة في هذا الزمن الذي بات أهله يعيشون على هامش عالم مادي شرس متوحش .. لا يصلح .. للحب ، ولا للأحلام .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا