الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين يتخفى الشعر..في قناع الوَجَع.. قراءة فنية متعجلة في قصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي -وحدي أنا..والجرح يصهل-

محمد المحسن
كاتب

2023 / 11 / 18
الادب والفن


تصدير :
حين يكون الكلام في حضرة الكبار فهو تعويذة الروح والناطق الصحيح والفصيح بآلام ومواجع الإنسان..في زمن ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة..
شاعر امتلك ناصية الحرف فشد الوثاق اليه،وامتلك بيان الصورة الشعرية الراقية والتي تكاد أن تكون شخوصا تتكلم نحسها وندركها..شاعر أتت مشاعره طاغية في حروفه فتغزل فأتى رقيقا عبا إلى حدود التوحد بالحبيبة..اصطحب الحزن أطلقه نشيجا رقيقا ولكنه لم يتسع لأن يكون صامتا،فأتى صوته نداء الروح حين تستفز الألم،ليزودها بارتعاش الحرف في حنايا الحزن..وصهيل الجرح..
شاعر أسرج من دموعه قناديل وجعل منها ندامى تضيء عتمة الوهم،شاعر جعل للغياب معاول تحفر قساوة هذا الزمن السقيم..فلمن تراهُ يشكو همومه..وأحزانه ؟
.انه الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي.

وحْدِي أنَا..وَالجُرْح يَصْهُلُ

وحْدِي هُنا فِي حُلْمِي
أُجْذِف بِجَنَاحَيْنِ مَكْسُورَيْنِ
أسْتَفِيق مَرّةً
وأغْفُو مَرَّةً أخْرَى
أقْضِي بَقِيَّةَ لَيلِي فِي حُلْمِي المَقِيت
أصْرُخُ مِنْ أعْمَاقِي
أُجَفِّفُ دَمْعِي المُنْثَالَ عَلَى خَدِّي
أرَمِّمُ وَجَعِي بِابْتِسَامَةٍ مُبْهَمَةٍ
لا أدْرِي هَل صَافَحْتُ السَّرَابَ
أمْ احْتَوَانِي طَيْفُ هَوَايَ
هَلْ سَيُرَمِّمُ بُنْيَانِي المُهَدَّم
وَيَجْبُرُ كُسْرَ جَنَاحَيَّ
وَيَرْتِقُ جُرْحِي النَّازِف
أمْ يَتْرُكُنِي وَحْدِي أجَذِّفُ سُفُنِي؟
طاهر مشي

هل الشعر حقيقة مؤلمة،وماذا عن الحياة..أليست كذلك؟!..
رافقني هذا التساؤل وأنا أقرأ قصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي"وحدي أنا..والجرح يصهل"بعين واحدة..وبصيرتين"
ثمة مشاعرُ من الإحباط والحزن والوَجع،تسيطر على أجواء القصيدة التي تتأوه بين أنامل الشاعر،فيما تعلو نبرة الإحساس بالألم مشكلة دالاً محورياً ومفتاحاً للرؤية في بعض قصائده، التي تشي عناوينها أيضاً بالإحساس نفسه.يعزز ذلك أننا أمام ذات ممرورة،ضجرة من واقعها والعالم،من الماضي والحاضر والغد،أصبحت ترى في الوجَع تعبيراً عن كينونتها،ولا بديل أمامها لمواجهة ذلك سوى رهانها الخاسر على تعلم التعايش"السليم" مع الوحدة والحزن،لكنها قسوة حانية،تعلي من شأن "المحبة"،في أقسى لحظات الشعور بالأسى والخذلان من العالم والبشر والأشياء.في الوقت نفسه يشكل -الإحباط-بكل دواله رمزياً ونفسياً محور إيقاع النص هنا،ويبدو بمثابة الصوت الآخر المتخفي،الذي تخاطبه الذات من وراء القناع..
تتناص-الإبتسامة-والدَمع في القصيدة " أرَمِّمُ وَجَعِي بِابْتِسَامَةٍ مُبْهَمَةٍ/لا أدْرِي هَل صَافَحْتُ السَّرَابَ أمْ احْتَوَانِي طَيْفُ هَوَايَ/..لعله بحثاً عن أشياء حميمة وأزمنة مفتقدة،لم يبق منها سوى نثار من الذكريات والأحلام الموجعة.ف"الألم"وإن تخفى بين ثنايا القصيد،محض جوع للشفاء،لكن كيف يشكل قناعاً للشعر والشاعر معاً..؟
تعي الذات الشاعرة أبعاد هذا السؤال الشائك،فلا تتعامل مع "الألم" كمجرد انفعال باطني ووجود افتراضي،يلعب على سطحه الشاعر،إنما تستند عليه-في تقديري-كشكل من أشكال المعرفة،توسع به خبرتها بالوجود وتكتسب من خلال تداعياته حيواتٍ جديدة،طارحة تحت قناعه أسئلتها الخاصة عن واقعها الشخصي الذاتي،وهواجسها عن الإنسان والكون والحياة، وأيضاً عن مأزق واقعها الفكري والاجتماعي،وهو ما يطالعنا على هذه النحو:
..هَلْ سَيُرَمِّمُ بُنْيَانِي المُهَدَّم
وَيَجْبُرُ كُسْرَ جَنَاحَيَّ
وَيَرْتِقُ جُرْحِي النَّازِف
أمْ يَتْرُكُنِي وَحْدِي أجَذِّفُ سُفُنِي؟
هكذا،تتبادل كلمات القصيدة الأدوار على مسرح الوجع محاولة إدراك حقيقته،أو رسم صورة له بالسلب أو الإيجاب،ينتشلها الشعر من ضبابية الوجود،صانعاً منها ما يمكن أن أسميه"غبطة الوَجع"كاشفاً بحقيقته المؤلمة،ما ينطفئ ويفور،ما يذبل ويضعف،ما يقوى وينهض،ويمتد في جسد الذاكرة والحلم"أُجْذِف بِجَنَاحَيْنِ مَكْسُورَيْنِ/أسْتَفِيق مَرّةً/وأغْفُو مَرَّةً أخْرَى/أقْضِي بَقِيَّةَ لَيلِي فِي حُلْمِي المَقِيت"..ويوسع بطاقة المخيلة فضاء الذات،لتفرض الأنا وجودها على العناصر والأشياء،وعلى الألم نفسه بتلقائية صارمة أحياناً.
تنجح هذه القصيدة المضمخة-بجمال الحيرة..ووجَع السؤال-في اصطياد هذه الصورة تحت قناع الألم،ونسجها بلغة جزلة رصينة،وتراسلات رمزية ودلالية مكثفة،كما تنجح في الإيهام بالانقسام على نفسها،وتنويع دفة الدوال شعرياً في النص،فيصبح -الحزن-بكل نوازعه ومفارقاته السلبية والإيجابية وكأنه طريقٌ للبحث عن حقيقة الوجود والحياة،وحقيقة الشعر أيضاً.
يطالعنا ذلك على نحو لافت في القصيدة،إذ يتحول الوجع إلى حيرة تنخر شفبف الروح..تتسلح بها الذات،وتدافع عن كينونتها،في لحظة فارقة واستثنائية،فالأمر لا يتعلق بلعبة من ألاعيب الحياة المتخمة بالمواجع،وإنما يتعلق برغبة جامحة في-مقارعة-الحزن الكامن في الداخل، كغريزة إنسانية،يفرغ الإفراطُ فيها الوجودَ من المعنى والقيمة،وتصبح الذات معرضة للقلق والتوتر والتوجس،وكلها من مظاهر الألم.
في لقطات متتالية واخزة بصرياً،ينهي الشاعر قصيدته،لنكتشف أننا إزاء مشهد مركب مجازياً، فثمة -بنيان مهدّم-وثمة"أجنحة مكسّرة"تطارد الشاعر في منامه..
يقول :
هَلْ سَيُرَمِّمُ بُنْيَانِي المُهَدَّم
وَيَجْبُرُ كُسْرَ جَنَاحَيَّ
وَيَرْتِقُ جُرْحِي النَّازِف
أمْ يَتْرُكُنِي وَحْدِي أجَذِّفُ سُفُنِي؟
على سبيل الخاتمة :
القصيدة هي التي تشكل الشاعرأو نفسيته على الأقل،سواء من خلال ما تحتويه من أحاسيس ومشاعر قوية،أم من خلال إعطاء الفرصة للغة الشعرية للتعبير عن عوالم متخيلة حينًا وواقعية حينًا آخر.
إن جمال القصيدة،ومن خلالها،جمال اللغة الشعرية قد نسجتها بتأنٍّ وبشكل هادئ دون انفعال لغوي يفرض على القارئ الناقد الوقوف عليها بذكاء وتحليلها بقوة وبأسلوب نقدي يستحضر الثقافة الموسوعية والفهم الكبير للواقع والناس والعالم.
في قصيدة الشاعر التونسي المتميز د-طاهر مشي"وحْدِي أنَا..وَالجُرْح يَصْهُلُ" نجد بروزًا واضحًا للجوار بين الشاعر ونفسه،بين ذاته كشاعر مبدع وبين ذاته كإنسان يتأثر بالواقع والحياة وآمالها وأحزانها،حيث يصطدم بها اصطدامًا قويًا يجعل من قصيدته الشعرية نتاجًا موجعا ومؤلمًا في آنٍ.ولكأني بها-صلوات في محراب الوجع-
وهذا ما يتأكد لنا بعد الانتهاء من قراءة -القصيدة،حيث نسجل تلك العلاقة القوية بين الإبداع الشعري وتشظيات الذات الشاعرة،وكأننا أمام تجربة شعرية حياتية بامتياز.
يهتم د-طاهر مشي في شعره بروح القصيدة وبلغتها الفائضة بالحنان والشوق والألم والمعاناة وبالتدفق القوي للمشاعر والأحاسيس،حيث تتشكل هندسيًا وتشكيليًا لنسج بنية نصية خالية من العيوب.
حقيقة،هناك اشتغال كبير على اللغة وعلى النص الشعري،وتحرر من رقابة الذات بكل أشكالها،لأننا أمام شاعر متمرد على الصيغ التقليدية شعرًا وثقافة.فقراءة هذه القصيدة أساسا تجعلنا ندرك أن هناك سلطة معينة يمارسها الشاعر،سلطة على القارئ المتلقي يصعب إدراكها ببساطة،سلطة شعرية تفرض على المتلقي استحضار الشاعر المؤلف أثناء عملية القراءة وجعله سيدًا وموجهًا له بشكل أو بآخر.
وبعد..هل فعلاً الشعر حقيقة مؤلمة،لا بأس بذلك،لكن علينا أن نتذكر أن ألم هذه الحقيقة،يشد الإنسان دائماً إلى روحانيته،إلى نوره الخاص،ليعيش الحياة كما يحب ويشتهي،رغم قسوة الواقع وظلمه وانحطاطه..
هذه هي الخلاصة التي خرجت بها من قراءة هذه القصيدة المتميزة بآلامها واحباطاتها.
وأخيرا وليس آخر أتمنى لشاعرنا العربي الكبير د-طاهر مشي النجاح المستمر لإثراء المكتبة العربية والعقل العربي بالشعر المتفرد كما ونوعا..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا