الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما يريدونه و ما يستطيعونه

خالد صبيح

2023 / 11 / 21
القضية الفلسطينية


في صيف عام 1982 وقفت المدمرة الأمريكية المخضرمة (نيوجرسي) عند سواحل بيروت وأمطرت المدينة بالقنابل.

وكانت المدمرة قد جاءت لدعم القوات "الإسرائيلية"، المتفوقة أصلا بالعدة والعديد، في مهاجمتها للبنان بهدف انهاء الوجود الفلسطيني هناك.

لم يكن المشهد غريبا، فالولايات المتحدة هي السند القوي والدائم لـ "إسرائيل" في كل الظروف.

كان قرار مهاجمة لبنان قد اتخذ سلفا، بعدما كانت صواريخ الكاتيوشا وقذائف الهاون وتسلل الفدائيين الفلسطينيين إلى مستوطنات الشمال يقلق " إسرائيل" ويزعجها. ولهذا منح وزير الخارجية الأميركي (الكسندر هيغ) وزير الدفاع "الإسرائيلي" (شارون)، الضوء الأخضر لغزو لبنان شرط حدوث استفزاز واضح يعترف به العالم.

أمريكا تحرص أحيانا على الشكليات وتهتم بإيجاد المبررات والدوافع، وتختلقهما إن لم يوجدا.

وكانت محاولة اغتيال السفير "الإسرائيلي" في لندن، هي الاستفزاز المطلوب رغم تهافته.

وبدأت "إسرائيل" غزوها في 4 حزيران بقصف جوي عنيف، تلاه هجوم بري في يوم 6 حزيران.

وكالعادة استهدف الصهاينة المدنيين؛ قتلوهم وهدموا بيوتهم. وبلغ عنف وضراوة القصف حد دفع بالرئيس الأمريكي حينها (ريغن)، وهو ممثل فاشل، ومجرم كأي رئيس أمريكي، لأن يطلب من "الإسرائيليين" تخفيف عنفهم بعد مشاهدته على التلفزيون مناظر الخراب المروعة التي سببها قصفهم الهمجي.

انسحبت القوات المقاتلة من جنوب لبنان أمام قوات الغزو، فلا داعي للمواجهة طالما أن الهجوم "الإسرائيلي" سيكتفي بعمق 45 كم، هكذا كان الاعتقاد، لإبعاد خطر الهجمات الفلسطينية.

لكن نوايا " الإسرائيليين" تكشفت لاحقا عند توجههم إلى العاصمة، و عند مدخل بيروت اختلف المشهد وبدأت المعركة الفعلية.

وبقية الحكاية معروفة:

خرج الفلسطينيون من لبنان بعد تدخلات دولية ووسط صمت عربي مخز كالعادة، لكن بعد صمود وقتال بطوليين طوال شهرين شاركهم فيه حلفائهم اللبنانيون.

سيتكفل اللبنانيون بعد ذلك بطرد الصهاينة من بيروت، ليخرجوهم هاربين في ليلة ظلماء.

غير أن "إسرائيل" لم تكتف بذلك وواصلت مطاردة القادة الفلسطينيين في بلدان المنفى البعيدة، فقصفت مقر أبو عمار في تونس ثم اغتالت القائدين البارزين في فتح ومنظمة التحرير، صلاح خلف" و "خليل الوزير" وقبلهما سعد صايل.

تلجأ "إسرائيل" لاغتيال القادة الفلسطينيين أو تخفيهم، إن استطاعت، في سجونها لسنوات وعقود طويلة. لكنها لا تفعل ذلك مع الجميع، هي تنتقي وتختار من يشكل خطرا حقيقيا عليها، ولا تكتفي فقط بالقادة السياسيين والعسكريين بل وبالكتاب والمثقفين أيضا.
وكانت "غولدا مائير" قد أصدرت أمرا بقتل أي فلسطيني مهم.

راجعوا قائمة الاغتيالات التي نفذها الصهاينة وستتحققون من هذا الأمر.

لكن لماذا تختار " إسرائيل" وتستهدف القادة الفلسطينيين؟

طوال تاريخ الصراع العربي "الإسرائيلي" لم تحاول "إسرائيل" اغتيال أي حاكم أو مسؤول عربي، حتى أولئك الذين واجهوها بإصرار وعناد، مثل عبدالناصر. ربما لأنها تدرك أن الأنظمة في النهاية قابلة للمساومة وتستطيع تحييدها بطرق مختلفة، ولاحقا اثبتت وقائع التاريخ ذلك، هذا عدا أن الأنظمة، وبسبب طابعها القمعي والبيروقراطي، ورغم كل شعاراتها وجعجعتها الإعلامية، لم تستطع أن تشكل بؤرة تأثير حقيقي، عميق وصادق، على الشارع العربي، أو على الأقل ليس مثل الأثر الكبير الذي تركته حركة التحرير الوطني الفلسطينية في وجدان ووعي المواطن العربي.

لقد كانت ولادة حركة المقاومة المسلحة الفلسطينية انعطافة ونقلة نوعية في وعي حركة التحرر الوطني العربية، كانت في قوتها ومثالها ملهما لأجيال متتابعة من الشباب العربي الذي استعاد بفضلها، وتحديدا بعد هزيمة حزيران، ثقته بنفسه وبقدرته على التحدي والفعل، ورفض الهزيمة وأصر على الانتصار، وكانت، رغم، وربما بسبب، الفوضى المحببة أو النزعة الأناركية في سلوكها وطرائق حياتها وعملها، بؤرة تجمع وجذب وتطوير لكل أطياف تنظيمات حركات التحرر الوطنية العربية، التي التحقت بها دعما لها في حالات، والتجأت عندها في حالات أخرى، وقد دعمتهم من جانبها ودمجتهم في جهدها الفكري والسياسي وفعلها النضالي والقتالي. وكان قادة الكفاح الفلسطيني، أمثال عرفات ووديع حداد وجورج حبش ونايف حواتمة، وغيرهم، ذوي كاريزما وحضور وتأثير معنوي كبير ترك أثرا إيجابيا وحيويا في نفوس الشباب العرب.

ولأن حركة المقاومة الفلسطينية كانت عصية على الترويض، وعنوانا للتمرد والمواجهة والإصرار على تحدي العدو، فقد صارت هاجسا مزعجا "للإسرائيليين"، وبالتالي هدفا لاغتيالاتهم.

والهدف الأكبر بطبيعة الحال للصهاينة من هذه الاغتيالات هو تصفية القضية الفلسطينية، الذي أردفته فيما بعد بحلول ترقيعية تحت مسمى (الحلول السلمية) الذي هو في جوهره ووفقا للمفهوم "الإسرائيلي" استسلاما، ووجدت من يستجيب لرغبتها تلك من بين "القيادات" الفلسطينية التي ترهلت ونخرها الفساد.

هنا تنبغي الإشارة إلى أن محاولات تصفية الوجود الفلسطيني في لبنان أثمر لاحقا حركة مقاومة لبنانية أشد بأسا وأقوى عدةً خاضت مواجهات ناجحة حولت مسار المواجهة مع العدو بعدما استطاعت نقل المعركة إلى أرضه، وغدت اعتداءاته التي دأب عليها دون رادع أو وازع مكلفة له.

وبعد انهيار منظومة الحرب الباردة، وسيادة القطب الأمريكي، وحماقة غزو الكويت، دخلت القضية الفلسطينية في منعطف خانق اضطرت فيه، متساوقة مع رغبة داخلية وعربية عامة، للدخول في عنق زجاجة "الحلول السلمية" باتفاقية أوسلو التي لم تحقق أي منجز جوهري أو مكسب حقيقي للفلسطينيين غير بضعة وظائف ومرتبات وثروة شخصية عند بعض "القيادات". ثم وبعدما كرس أوسلو حالة استسلام وتراجع في حظوظ القضية، سعت "إسرائيل" للتسلل خلف خطوط الفلسطينيين وفرض رؤيتها للحل التصفوي بعقد اتفاقات تطبيع مع أنظمة عربية، بعضها استجاب بدوافع انتهازية: مثل المغرب والسودان، وأخرى لانخراطها، كأنظمة تابعة، بالمشاريع الأمريكية في مواجهة الصين، وأيضا بدوافع التجارة والمال وقلة الحياء، وهي عموما أنظمة اكتسبت حضورها وأدوارها السياسية من ثرواتها النفطية لا غير.

لكن، وفي موازاة خط الاستسلام وتصفية القضية هذا، نما وتطور اتجاه يؤمن بالوسيلة الوحيدة الحقيقية لاستعادة الحق الفلسطيني، وأعني الكفاح المسلح، وكانت الحركتان الإسلاميتان (حماس والجهاد) هما أبرز من مثله، بالإضافة إلى الجبهة الشعبية وتنظيمات فلسطينية أخرى سواء داخل فلسطين أو في المنافي.

لقد بدا هذا النمو للقوى المسلحة واشتداد بأسها (كانت طوفان الأقصى إحدى أكبر تجلياته) وكأنه ثمرة لـ" حماقة" ارتكبتها إسرائيل حينما سمحت بعودة فلسطينيين وقيادات فلسطينية إلى أرض فلسطين، (الضفة والقطاع)، بعد اتفاقية أوسلو: فكيف تستقيم محاولة طمس القضية وتصفيتها "إسرائيليا"؛ بمحاربة القيادات وملاحقتهم خارج الحدود، مع السماح لهم بالعودة والاقتراب أكثر من خط الاشتباك المحتمل؟ والذي كانت محصلته النقلة النوعية في قدرات المقاومة الفلسطينية، من التسلل عبر الحدود اللبنانية و القصف بصواريخ لا تتجاوز مدياتها وتأثيرها مستوطنات الشمال، والذي عولج بعملية جراحية كبيرة بغزو لبنان سنة 1982، إلى القدرة على ضرب العمق "الإسرائيلي" ولأبعد نقطة فيه؟

لكن الواقع هو غير ذلك، فالمسالة لا تتعلق بهفوة أو حماقة وإنما بطبيعة الأشياء، فالتجربة التاريخية دللت دائما على تنامي متواصل لقدرات حركات التحرر حتى وصولها إلى لحظة نصرها المؤكد، ولم يدلنا تاريخنا المعاصر على حركة تحرر وطني واحدة لم تنتصر في نهاية الصراع، هذا منطق التاريخ، وحركة التحرر الوطني الفلسطينية لن تشذ عن هذا المسار، لهذا ما أن تبدو وكأنها انتكست وأن قضيتها دخلت في دوامة التسويف والنسيان، حتى تقوم فجأة بفعل ما يعيدها إلى مركز الأحداث وبؤرة التركيز.

حدث ذلك بالانتفاضات الفلسطينية المتكررة والمتواصلة وصولا إلى طوفان الأقصى التي تركت بصمة وضاءة في سجل الكفاح الفلسطيني رغم المآسي والخسائر.

لكن مأساة الفلسطيني هي أن خصومه يمتلكون القوة، المال والسلاح والسياسة والإعلام، بينما لا يمتلك مناصروه سوى حناجرهم وجرأتهم.

فرغم أن طوفان الأقصى قد أسقطت الأقنعة، و كشفت الزيف المتأصل عند رسميي الغرب، فإن "إسرائيل"، التي تدمر بهمجية ورعونة بعدوانها على غزة، قد كسبت إلى جانبها ليس فقط الساسة والإعلاميين الغربيين وإنما الحكام العرب وأتباعهم أيضا، وخصوصا المطبعون. وهؤلاء يتهيأون الآن للعب دور في ما يفترضونه ويتمنونه من نهاية لمعركة الأقصى، بأهدافها المعلنة، في "ترتيب" أوضاع غزة بعد القضاء على حماس. ومع أن هذا الهدف صعب، ويكاد يكون مستحيلا، لأن معطيات الميدان ماتزال لا ترجح كفته تماما، إلا أن تلك النوايا بدأت تتكشف منذ الآن. وإذا كان من بين أصعب الخيارات أمام "إسرائيل" هي العثور على فلسطيني يمثل مصالحها ومستعد لابتلاع جرعة عار التعاون معها، إلا أن وجود مثل هذا الشخص (وهو موجود فعلا، وبدأ بالظهور الإعلامي) يتطلب تمريره انجازا ما يقدم به أوراق اعتماده للمجتمع الفلسطيني عموما والغزي خاصة؛ مثل حل مشكلة القدس والأقصى، أو تقديم مفاتيح حل الدولتين، الذي لا يرجح أن "إسرائيل"، بتركيبتها الحالية، مستعدة أو قادرة على تقديمه، لذا فأن العطية التي سيقدمها هذا "المخلص"، لتبييض وجهه، ستكون إعادة اعمار غزة بأموال خليجية (إماراتية؟). وقد يكون من بين أهداف "إسرائيل" في قصفها الهمجي على غزة، والتدمير الهائل للبنى التحتية والعمران، والقسوة التي مورس بها في قتل الأبرياء وخاصة الأطفال، ليس فقط الانتقام والنفس العنصري الذي ينظر بدونية لحياة الفلسطينيين وآدميتهم، وإنما من أجل دفع الغزيين، بسبب الجزع والإحباط واليأس، كما يتصور أعدائهم، للقبول بأي حل يعيد لهم أساسيات الحياة الطبيعية، وعندها سوف "يرحبون" بعودة (الفتى الضال) الذي ترك ساحة النضال لينعم بصحبة حاكم الإمارات، عدو القضية الفلسطينية الأكبر.

إن ما يريده الصهاينة، ومن ورائهم أمريكا والغرب الرسمي كله، وكذلك أتباعهم من الأنظمة العربية، والمتصهينين العرب (الليبراليين)، بات واضحا، وهو تصفية القضية الفلسطينية، على المديين البعيد والقريب، والقضاء على مقاومتها المسلحة، لكن:

هل يستطيعون تحقيق ذلك؟

هذا هو السؤال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي