الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشكلة فلسطين مع المسيحية الصهيونية لا تقلُّ عن مشكلتها مع اليهودية الصهيونية

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

(Abdul-hamid Fajr Salloum)

2023 / 11 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


يقول المفكِّر الأمريكي، البريطاني الأصل، توماس بِين:

(أعظم الآلام التي أصابت الجنس البشري هي تلك التي كانت لها جذورٌ دينية)..

ربما كانت هذه المقولة صحيحة مائة بالمائة.. ولو عدنا لتاريخ الأديان فسوف نجد أن الدماء التي سالت بين أتباع الأديان المختلفة، وحتى بين الطوائف والمذاهب داخل الأديان، هي أنهارٌ لا تكاد تجُفّ حتى تسيل من جديد، تحت عناوين متنوعةٍ.. وهذا يُذكِّرنا بمقولةِ كارل ماركس أن (الدين أفيون الشعوب) ..

وهذه قالها كارل ماركس بعد أن استنتجَ كيف أن الكنيسة في أوروبا همّشت الإنسان بالماضي، وجمّدت عقلهُ وأبعدتهُ عن التفكير في مصيرهِ وحياتهِ، وجعلتهُ كما الآلة يخضع للمسلمات والغيبيات، ولآراء وأفكار وأقوال رجال الدين بلا أي نقاش أو اعتراض.. حتى حينما كانوا يبيعونهُ صكوك الغفران..

وربما هذا ما دفع لاحقا بالأديب الفرنسي (إميل زولا) للقول: (لن تكتمل الحضارة حتى يسقط آخر حجر في آخر كنيسة على رأس آخر قسّيس) ..

فهل يا ترى كان هذا كان مقتصرا على الكنيسة، أم يندرج على غيرها من بقية الأديان في هذا العالم؟.

وكيف نفسر ظاهرةَ ما نعيشهُ في هذا الزمن، على يد التنظيمات الإسلاموية المتطرفة التي تحلِّلُ قتلك وقطع رأسك إن خالفتها العقيدة، أو الرأي؟.

**

يبدو أن الأديب الكبير عبّاس محمود العقّاد الذي هاجم بقوة كارل ماركس والماركسية في كتابهِ (أفيون الشعوب) تجاهل كل الدماء الغزيرة التي سالت عبر التاريخ وكانت أسبابها، أو دوافعها، أو خلفياتها، دينية.. وأن مصيبتنا في فلسطين دوافعها الأساسية دينية، إذ أن اليهود يعتبرون أن هذه أرض الميعاد، وأن النبي إبراهيم وعدَ بها نسلَهُ، من إسحاق إلى يعقوب.. وهكذا.. وأن الدِّين هو من يعطيهم الشرعية لامتلاك هذه الأرض.. فهي حقٌّ إلهي بِنصٍّ توراتي..

وفي الرواية التوراتية(الخُرافية بالتأكيد) فإن الأرض التي وعدَ بها إبراهيم ذرّيتهُ هي من النيل للفرات:

(لِنسلِكَ أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات) .. هكذا في التوراة.

**

وها نحنُ نشهدُ في هذا الزمن ماذا يفعل المتطرفون الهندوس بالمسلمين والمسيحيين في الهند، لاسيما في زمن حُكم الحزب الحالي المتطرف (بهاراتيا جاناتا) والذي ينتمي له رئيس الوزراء (ناريندا مودي) ..

وماذا يفعل البوذيون في ميانمار بالمسلمين.. وماذا فعل المسيحيون ببعض عبر التاريخ في أوروبا.. وماذا فعل المسلمون ببعض عبر التاريخ..

**

كل تلك الحروب كان سببها (على الأقل في الظاهر) صراعات وخلافات وتفسيرات متناقضة داخل الدين الواحد.. مما أدّى إلى انشقاقات كبيرة وصدامات دموية..

(حروب المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا .. وحروب المسلمين السُنّة والشيعة التي لم ننتهي من آثارها الكارثية ومن بلاويها حتى اليوم)..

وكل دين (وأحيانا كل مذهب داخل الدين) يعتقد بنفسه أنه هو الصحيح والسليم والصراط المستقيم، وينكر ذلك على غيرهِ..

بل اليهودية تعتبر أن الشعب اليهودي هو المُفضَلُ والمُختارُ من عند الله.. ومفهوم الله باليهودية يقوم على ثالوث حُلولي مكوّن من (الرّب والشعب والأرض).. ويؤمن اليهود أن الني (ملاخي) هو آخر الأنبياء.. وأن الله لم يُرسل أنبياء بعد عام 420 قبل الميلاد.. أي منذ القرن الخامس قبل الميلاد..

وينتظر اليهود مجيء (المسيح) المُخلِّص(من نسل داوود) في نهاية العالم والذي سيكون ملِكا عليهم ويخلّصهم من الشتات وسيعيد إنشاء مملكة إسرائيل، وسيقيم الوصايا والشريعة وسيبني هيكل سليمان وسيسود السلام العالمي.. ولا أرى في ذلك إلا الخُرافات..

وحينما ظهر (يسوع، أو عيسى المسيح بن مريم) في صورةِ قدِّيس كي يخلّصهم من شرورهم، أنكروهُ واضطّهدوهُ وصلبوهُ.. ويقولون أن المسيح لم يأتِ حتى اليوم، وكل من ادّعوا (المسيحية) يتّهمونهم (بالكذب والهرطقة)..

**

وفي اليهودية مجموعة متنوعة من الحركات الدينية التي تتناقض في تفسيرها ومقارباتها للديانة اليهودية ذاتها.. منها الأرثوذكسية المتشدّدة، ومنها المعتدلة، ومنها الإصلاحية، ومنها المحافِظة، ومنها الحديثة.. الخ..

وتؤكد اليهودية الأرثوذكسية أن التوراة والشريعة اليهودية إلهية بالأصل، وأبدية وغير قابلة للتغيير، وينبغي اتباعها بصرامة.. بينما تُعتَبر اليهودية المُحافظة والإصلاحية أكثر ليبرالية، حيث تنظر إلى التوراة أنه مجموعة من المبادئ التوجيهية العامة وليس مجموعة من القيود والواجبات التي تتطلب احترامها من جميع اليهود..

وكثيرٌ من اليهود، لاسيما اليهود (الحريديون) ويقيمون في حي (ميا شعاريم) أحد أقدم الأحياء الواقعة خارج البلدة القديمة في القدس، يعتبرون أن دولة إسرائيل هي نتاج الغطرسة الآثمة لأنها قامت على يد نفرٍ من الكافرين (وهُم الصهاينة) الذين حرّفوا مشيئة الله وتطاولوا على وعدِ الرّب، ولم ينتظروا المسيح الموعود، الذي هو وحدهُ القادر على إقامة الدولة لتكون مملكة الكهنة والقدّيسين..

**

والمشكلة أن المسيحة الإنجيلية المُتشدّدة، وجذورها في المسيحة البروتستانتية، تعتقد كلية بما تعتقد به الصهيونية اليهودية.. ولذلك أُطلِق عليها مصطلح (المسيحية الصهيونية) وهذه داعمة لإسرائيل بالمُطلَق..

فما هي المسيحية الصهيونية؟.

**

نشأت المسيحية الصهيونية أساسا في إنكلترا في القرن السابع عشر.. وكانت آنئذٍ مرتبطة بالسياسة.. ومع بدء الهجرات الواسعة للولايات المتحدة، أخذت الحركة أبعادا سياسية واسعة وواضحة.. وأخذت بُعدا دوليا يدعم بالكامل اليهود في فلسطين.. وتطور المصطلح ليأخُذ بُعدا دينيا من خلال دعمِ خُرافة (الحق الإلهي) لليهود في فلسطين.. وضرورة تحقيق نبوءة الله..

وأول من استخدم عمليا مصطلح (الصهيونية المسيحية) كان تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية.. ومع ذلك لم تتم الإشارة كثيرا لهذا المصطلح قبل حُقبة التسعينيات من القرن الماضي..

والمسيحية الصهيونية تُصنّفُ ضمن حركة جماعات البروتستانت الإنجيليين.. ولهذه الحركة ما يقربُ من 130 مليون عضو في العالم.. والأهم في الولايات المتحدة حيث الغالبية الساحقة..

**

ويؤكِّد الباحثون في هذا المجال، أن المسيحية الصهيونية سبقت اليهودية الصهيونية.. ورغم الإختلاف الشديد بينهما، إلا أنّ الأصوليين الإنجيليين (البروتستانت) يعتقدون أنه على جميع اليهود أن يؤمنوا بالمسيح أو يُقتَلون في معركة هرمجدون.. وهي المعركة الفاصلة بين الخير والشر، باعتقادهم، وهذا التعبير غالبا ما يستخدمهُ نتنياهو، كمصطلح توراتي..

وتؤمن المسيحية الصهيونية( الأصوليين الإنجيليين البروتستانت) أن اليهود هم شعب الله المختار.. وهم الأمة المفضّلة على بقية الأمم والشعوب.. وهناك ميثاقا إلهيا بمنحهم أرض فلسطين..

وأن قيام دولة إسرائيل عام 1948 كان ضرورة حتمية لأنها تُكمِّلُ نبؤات الكتاب المُقدّس بِعهديهِ، القديم والجديد، وتُشكِّلُ المقدمة لمجيء المسيح (الثاني) إلى الأرض كملِك مُنتصر.. ولذلك من واجبهم الدفاع عن الشعب اليهودي وعن الدولة العبرية خصوصا، ويرفضون أي نقد أو مُعارَضة لإسرائيل، خاصّة داخل الولايات المتحدة..

وهؤلاء بِدعمِهم المُطلق للخرافات اليهودية، فإنما يدعمون كل ما تقوم به الصهيونية المتطرفة التي تحكم إسرائيل اليوم، والتي تبرِّر قتل الأطفال، في سبيل غاياتهم وأهدافهم، وذلك استنادا إلى التوراة..

**

وحدث انقسام بين منظِّري المسيحية الصهيونية في القرن التاسع عشر، وظهرت مدرستان، البريطانية الداعمة لنظرية تحوُّل اليهود للمسيحية قبل عودتهم لفلسطين، والأميريكة التي آمنت بأن اليهود سوف يعودون إلى فلسطين كيهود قبل تحولهم للمسيحية.. ورأسُ فكرالمدرسة الأمريكية القِس الآيرلندي (جون نيلسون داربي) الذي يُعتبَر بمثابة الأب الروحي لحركة المسيحية الصهيونية الأمريكية..

**

وتجدرُ الإشارة إلى الكتاب الذي كشفت عنه صحيفة معاريف الإسرائيلية في 9 تشرين ثاني /نوفمبر 2009 وكتبَهُ حاخامان يهوديان متطرفان، بعنوان (شريعة الملِك) وتمّ توزيعه في المدارس الدينية، وعَبر شبكة الإنترنت، وفيه تأكيد أن العهد القديم أمرَهم بقتل الأطفال إذا تَبيّن أن هؤلاء سوف يكبرون ويشكلون (خطرا مستقبليا وأشرارا كما ذويهم على شعب إسرائيل)..

ومن هنا يمكن أن نفهم هذا الإجرام بحق الأطفال في غزّة.. فلم يستثنوا حتى الأطفال الخُدّج في الحاضنات بالمشافي، الذين لم يسمحوا بتوفير الوقود والأكسجين لهم، كي يموتوا..

**

الكنيسة المسيحية تعتقد بأن السيد المسيح سينزل مجددا (قبل قيام الساعة) ولكن هذه المرة سوف يؤمنُ به اليهود وينضمون للمسيحيين لخوض المعركة الكُبرى(هرمجدون) ..

واليهود ينتظرون المسيح المُخلِّص ولكن هذه المرة الكُل سيُصبِح يهودا..

المسلمون بدورهم يؤمنون بنزول السيد المسيح قبل قيام الساعة، ولكن ليؤكد رسالة محمد ويهدي الجميع للإسلام.. وطبعا هذا لا يتناقض مع نظرية المهدي المُنتظَر..

**

أتباع المسيحية الصهيونية، كما اليهودية الصهيونية، يؤمنون بمعركة هرمجدون الكبرى التي ورد ذكرها في سفر الرؤيا، وهو سهل في فلسطين بين الخليل والضفة الغربية.. وهذه الأسطورة صدّقها كبار القادة في الغرب، ومنهم نابليون، وعالِم الفيزياء نيوتن.. وحينما سُئِلَ الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان عن مدى إيمانه بِهرمجدون قال: إذا راجعنا الواقع سنكتشف أن جميع الأحداث التي تسبق هرمجدون قد مرّت منذ قيام إسرائيل وحتى اليوم، وكل شيء سار باتجاهه الصحيح تمهيدا لعودة المسيح وحدوث المعركة..

**

إذا هنا تكمن المشكلة الأساسية.. في هذا العقل الأمريكي الذي يؤمن بالمسيحية الصهيونية، ويتقاطع بالمُطلق مع اليهودية الصهيونية..

فإسرائيل بالنسبة لهؤلاء، ليست مجرد قاعدة عسكرية أمريكية متقدمة في المنطقة، ورأس حربة لخدمة مصالحها، وسيفا مُسلّطا على بُلدانها وشعوبها، وإنما المسألة أبعد من ذلك بكثير، إنها مسألة دينية عقائدية خطيرة..

والأخطر أن هذه المسيحية الصهيونية، هي من تحكُم الولايات المتحدة، وينتمي لها غالبية الرؤساء الأمريكان، أو يسيرون في فلكها، ولا أحدا منهم يُخالِفُ مُعتقَدَها حتى لو أنه لا ينتمي لِكنائسها..

**

ومما سبق أقول: أن الدولة الأمريكية هي الدولة الإسرائيلية، وأن العقل الذي يحكم إسرائيل، هو العقل الذي يحكم الولايات المتحدة، ومن الخطأ الكبير التمييز بين الإثنين فيما يتعلق بقضية فلسطين..

يقول الفريق سعد الدين الشاذلي:

(التفريق بين أمريكا وإسرائيل وهْما فإما أن يقف الفرد في صفِّ الشعوب العربية والإسلامية، فيجدُ نفسهُ بالضرورة في الصف المعادي لأمريكا، وإما أن يختار أن يقف في صف أمريكا فيجدُ نفسهُ بالضرورة في صفِّ إسرائيل، سواء اعترف بذلك أم لم يعترف)..

**

وبقي أخيرا التوضيح أن الكنائس الشرقية ترفض رفضا قاطعا مفهوم المسيحية الصهيونية..

يقول المطران عطا الله حنّا، رئيس أساقفة الروم الأرثوذكس في فلسطين:

(أننا في قاموسنا الكنَسي واللاهوتي لا نعترف بشيء اسمه المسيحية الصهيونية . فهذا المُسمّى تطلقهُ على نفسها جماعة متواجدة في أمريكا وهُم يتبنُّنون تفسيرات مغلوطة للكتاب المقدس وخاصّة العهد القديم. ونحن بدورنا لا نتبنّى ولا نعترف بـ (الإنجيليون الصهاينة) أو (المسيحيون الصهاينة).. ) ..

**

والسؤال الأخير: هل كانت الأديان مُشكِلةُ البشر، أم كان البشرُ هُم مشكلة الأديان؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي