الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليسار الجديد: الأفكار المواقف

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2023 / 11 / 21
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


تأليف: يوري اليكساندروفيتش زاموشكين* نيللي فاسيليفنا موتروشيلوفا**

ترجمة مالك أبوعليا

قبلَ عامين، صار يُنظَر الى الأُستاد في جامعة كاليفورنيا، هربرت ماركوز، الفيلسوف الاجتماعي الأمريكي الذي تلقّى تدريباً ألمانياً تقليدياً، على أنه مُنظر حركة "اليسار الجديد" المُعترف به. دَفَعَت شعبية ماركوز العديد من الكُتّاب، بمن فيهم نحن(1)، الى اجراء دراسة للمُحتوى النظري لهذه الحركة، والذي يدّعي بأنه يقوم بدور مُمثل النظرية النقدية والثورية للمُجتمع. ان تطوّر نقد الأُسس الفلسفية والنظرية وتناقضات تعاليم ماركوز يُمليه الوضع القائم وصراع الأفكار الفعلي، والذي لم يفقد تأثيره حتى الآن. هناك مسألة أُخرى أثارت اهتمام الباحثين في ذلك الوقت، ولكنها لم تجد اجابةً في مقالتنا بسبب أنها مسألة خاصة تتطلب بحثاً خاصاً، تتعلق بالعلاقة بين مفاهيم ماركوز الفلسفية ووعي المُشاركين "الجماهيريين" في حركات الاحتجاج التي أصبَحَت تُعرَف باسم حركة "اليسار الجديد".

لقد أصبَحَ من الواضح الآن أنه ليس كُل البناء النظري الماركوزي هو التعبير الحقيقي والقابل للمُلاحظة من الناحية التجريبية للاحتجاج الذي أصبَحَ، في العقود الأخيرة، عاملاً مُهماً للغاية في النضال المُتنامي في البُلدان الرأسمالية الأكثر تقدماً. لقد أدرَكَ "اليسار الجديد" نفسه الى حدٍّ ما، أن كفاحه ومزاجه ومُثُلهُ وقِيَمه لم تكتسب بعد تعبيراً مفاهيمياً دقيقاً بما فيه الكفاية. هذا هو السبب في أن السنوات القليلة الماضية قد شهِدَت بداية ظهور الكُتُب والمقالات التي لا يدّعي مؤلفوها، بخلاف ماركوز، بأنهم أنشأوا نظريةً عالميةً علميةً للعملية التاريخية، ولكنهم نصبوا هدفاً آخر: تعريف القُرّاء بأفكار "اليسار الجديد" ومواقفه العامة. ما يُميّز هذه الكتابات، أن أصحابها ليسوا هم "الرجال المُمارسين"، أي ليسوا قادة المُنظمات الاحتجاجية التي يتشكّل "اليسار الجديد" منها: في بعض الأحيان نجد تمظهرات الوعي العفوي في كتابات "رفاق السَفَر"، أي مُراقبي تلك الاحتجاجات والمُتعاطفين مع احتجاجات الشباب والذين لديهم آمالاً كبيرة في آفاقها. يوجد كتابين أصبحا مؤخراً من أكثر الكُتُب مبيعاً في الولايات المُتحدة. الأول بقلم مُحاضر التاريخ في جامعة كاليفورنيا تيودور روزاك Theodore Roszak المُعنون (صناعة الثقافة المُضادة: تأملات في المُجتمع التيكنوقراطي ومُعارضته الشابة) The Making of a Counter Culture. Reflections on the Technocratic Society and Its Youthful Opposition (New York, 1969).

يحمل الكتاب الثاني عُنواناً واعداً: (اخضرار أمريكا) The Greening of America (New York, 1970) ومؤلفه هو أُستاذ القانون في جامعة ييل، تشارلز ريتش Charles Reich(2).
باختيارنا لهذين الكتابين فقط كمادةٍ للتحليل، فإننا لا ندّعي، بطبيعة الحال، طرح تقييمٍ شاملٍ للمرحلة الجديدة في تطور وعي "اليسار الجديد"، لإن مثل هذا التقييم يفترض عملاً مُعقداً ومُتعدد الجوانب يدرس ويستخلص النتائج من الأدب العلمي والنقدي الشامل، يُقارن أكثر الخطوط والاتجاهات تنوعاً والتي تشق لنفسها الطريق داخل النطاق الواسع والمُتناقض وغير المُتبلور لهذه الحركة. ولكن تتطلب أعمالاً مثل أعمال روزاك وريتش استجابةً وتحليلاً سريعين. والأهم من ذلك أن هذه الأعمال تبدو لنا تعبيراتٍ نموذجية لتياراتٍ ايديولوجية مُعينة في حركة الشباب الاحتجاجية(3). في هذا الصدد، كلا الكتابين وضعا بين أيدينا مادةً قيّمةً ومُثيرةً للاهتمام، حيث تعود قيمته الى حقيقة أن "اليسار الجديد" يعرض نفسه فيهما للعلن ويستعرض وعيه في آخر مرحلةٍ له من تطوره. تُشير هذه الكُتب الى مجموعات مُعيّنة من "اليسار الجديد" والتي تحمل مواقفها وأفكارها بصمة المشاعر التي انخرطت في معارك واشتباكات السنوات الأخيرة.
الظاهرة الاجتماعية التي تنعكس في كُتُب روزاك وريتش-أي الوعي الذاتي للاحتجاج- أهميةً سوف تخضع لتطورٍ قوي. نحن نرغب، في مقالتنا، قبل كُل شيء، اعادة انتاج هذه الظاهرة بقدر الامكان وبأكبر قدَرٍ مُمكنٍ من الدقة في خصائصها الأساسية، مع ادراكنا الكامل أن مُحاولة وصف عقل جمعي عفوي ومُتناقض وسريع التغيّر هو أمرٌ صعب ومُعقد الى أعلى الدرجات. (بالاضافة الى ذلك، هناك دائماً فارق زمني مُعيّن بين الوعي العفوي من جهة، والتعبير عنه المُتمثل في الكُتب والوثائق والمقالات. وهذا الفارق، في الحالة التي بين أيدينا، ليس طويلاً. وسُنشير فيما بعد الى الوعي الاحتجاجي بين الشباب بالدرجة التي يجد انعكاساً له في الأعمال المعنية).

عند مُعالجة نظرية اجتماعية، فإن أحد الاتجاهات الضرورية التي يجب اتخاذها في الدراسة النقدية هو تسليط الضوء على التناقضات الداخلية ونقاط الضعف المنهجية. بقدر ما يتعلق الأمر بالوعي العفوي للمُشاركين في أي حركةٍ حقيقية، فمن الطبيعي أيضاً أن يتم تقييمه من وجهة النظر هذه: يُمكن اثبات-كما سنُحاول لاحقاً-أن وعي "اليسار الجديد" مُتناقض للغاية. ومع ذلك، ان اصدار "حُكم" مثل هذا من جانب النظرية لا يحرم الوعي الفعلي من أهم خصائصه: واقعه وتأثيره الاجتماعي. نود أن نؤكّد بشكلٍ خاص على ما هو مُميّز في الوعي العفوي لسببٍ آخر، وهو ظهور عدد من المقالات مؤخراً في أدبياتنا، التي يتبنى مؤلفوها، دون تمييزٍ كافٍ، معايير مُتطابقة في تقييم مفاهيم هربرت ماركوز، وفي تحليل عقول "اليسار الجديد". يتم في كلتا الحالتين الكشف عن الطبيعة المُتناقضة داخلياً لهذه الظواهر الفكرية، لكن يظهر تناقض كُلاً من النظرية والعقل الجماهيري في بعض هذه الأدبيات كأنه مُجرّد انتهاك قواعد نظرية مُعينة بسيط الى حدٍ ما، أو كنتيجة لـ"الوقوع في فخ البرجوازية"- الذي، في الأساس، يُهدد حتماً وحقاً جميع المثقفين في المُجتمع البرجوازي- في شكل حركة أفكار تدور في دوائر مُفرغة منطقياً أوجدها هذا الوعي نفسه إما بسبب "الفخ البرجوازي" أو بسبب جهل في النظرية. في حين أن هذه المُقاربة لا تزال مُبررة باعتبارها أداة نقاشية فعالة موجهة ضد تعاليم نظرية مقبولة(4) تُعيد التأكيد على وعي عفوي واسع النطاق الى حدٍّ ما، وتُشوه في كثيرٍ من الأحيان تناقضات الواقع الاجتماعي نفسه وصراعاته العميقة، وهي في ذات الوقت "تقع في الفخ البرجوازي" أيضاً. نحن نؤكّد أن التناقضات لا تنفصل عن الوعي المُنخرط بشكلٍ مُباشرٍ في عمليةٍ حيوية، وربما تكون هذه هي أكثر الأشياء لفتاً للانتباه في هذا الوعي من وجهة نظر التحليل الاجتماعي.
من هنا تنبع مُهمة الباحثين الماركسيين: دراسة وعي "اليسار الجديد" بأكبرِ قَدَرٍ من الواقعية والدقة، كعُنصر حقيقي، مُتناقض ينشأ بشكلٍ طبيعي ومُتغيّر باستمرار في الحياة الاجتماعية في وضعيةٍ مُعينة، وادراك درجة تأثير هذا العُنصر على تطور النظام الاجتماعي بأكمله، على مصيره (وعي اليسار) النهائي.

ما الذي يضع "اليسار الجديد" نفسه في مواجهته اليوم؟
- ضد "التيكنوقراطية الشاملة"
ان فكرة "التكنوقراطية" التي قد تكون أكثر المفاهيم التي نُواجهها في كتابات "اليسار الجديد"، لها معانٍ كثيرة جداً ولكنها دائماً تحمل "مُعامل قيمة" سلبي. عادةً ما يكون هذا المُصطلح الجديد هو الذي يُستَخدم للاشارة الى ذلك الكيان الاجتماعي الموضوعي الذي هو الموضوع الرئيسي لنقد "اليسار الجديد". يرتبط هذا الكيان في أذهانهم بمستوىً عالٍ من التطور الصناعي وتطور الأشكال المُعاصرة للثورة العلمية التكنيكية(5). يشهد استقرار هذا الارتباط وخطيته على حقيقة أننا نتعامل هُنا مع نمط ثابت وشكل تركيبي مُميز، ليس قابلاً لاعادة النظر فيه أو نقده أو تغييره.
هذه صورة نمطية للمُجتمع الأمريكي المُعاصر كمنظومة "استبدادية شاملة"(6)، والذي تُديره وسائل تكنولوجية مُحددة قبل كُل شيء، أنتجتها الهندسة والعلوم الحديثة (بما في ذلك العلوم الاجتماعية). نتيجةً لذلك، يتميز هذا النظام بالمعنى الكُلّي، بالأدوات الوظيفية التي يستخدمها، ولكن ليس بمُحتواها الداخلي. يكتب روزاك بمرارةٍ وغضب: "السياسة والتعليم والترفيه والثقافة ككل والدوافع اللاواعية وحتى الاحتجاج ضد التكنوقراطية نفسها: كُل هذه تُصبح خاضعةً للاختصاص التقني والتطويع التكنيكي الصرف"(ص6).

هنا، يعكس الوعي الذي ندرسه، عفوياً، تلك الحقيقة الواضحة والهامة للغاية وهي أن نظام الاضطهاد اليوم يستخدم وسائل جديدة لتحقيق أهدافه والتي هي نِتاج للثورة في العلوم الهندسة. في هذا الصدد، يُعبّر "اليسار الجديد" عن نظرة نموذجية الى العالم حول الفرد المُغترب المُحتَج بنشاط ضد الاكراه والتطويع، والذي يُركّز اهتمامه الاحتجاجي الرئيسي على الوسائل العملية المُستخدمة لتحييد وكبح الاحتجاج الاجتماعي. ان هذا التركيز له ما يُبرره طالما تضع تلك الوسائل عقباتٍ على طريق الاحتجاج الاجتماعي وتحرمه من فاعليته. هُنا، يَقبَل وعي "اليسار الجديد" العفوي بشغَف ويُعيد صياغة ما هو اليوم أشكال مفاهيمية وأيديولوجية "تقليدية" لتجسيد أمزجة الاحتجاج، والتي وَجَدَت تعبيرها الأكثر وضوحاً في الوجودية والشخصانية، وفي تفكير ماركوز مؤخراً. يجد المزاج العام المُعادي للتكنولوجيا والمُعادي للعلم استمراريةً هُنا. وفي الوقت نفسه، انه بالتحديد شكل "أمريكي" من الوعي النقدي، يعكس التأثير العميق لذلك التفاؤل التكنولوجي الواثق الذي يُميّز الولايات المُتحدة ويكرهه "اليسار الجديد". حتى روزاك نفسه لا يُدرِك مدى صوابه عند الحديث عن تأثير التكنوقراطية على الأفكار والحركات المُعارضة.
غالباً ما يتم وصف وتقييم المُجتمع المُعاصر من قِبَل "اليسار الجديد" وفقاً لنفس المُخططات والتعاليم التي تُعتَبَر نموذجية جداً للتكنوقراطي الأمريكي الواثق بنفسه: القُدرة المُطلقة للبيروقراطية، في نظره، هي مُجرّد نتيجة مُباشرة للتكنولوجيا التي اجتاحت كل روابط التنظيم الاجتماعي. تُعتَبَر جميع المشاكل الاجتماعية مشاكلاً وظيفية مُرتبطة بالبحث عن وسائل تقنية فعالة لحلها، ولكنها لا تفترض إجراء تقييم نقدي للأهداف الاجتماعية الشاملة. يُلامس روزاك وريتش العقل "الأمريكي" بشكلٍ أكبر في حقيقة أنهما يُعبران بوضوح عن السخَط العفوي الذي يَنضُج داخل مُجتمعٍ يتمتع بمستوىً عالٍ جداً من التطور العلمي التكنيكي، وهو سَخَط يتحول ضمنياً ضد "الأدوات الجامدة" التي تنشأ في سياق التطور (العلوم الطبيقية، التكنيك، بما في ذلك تكنولوجيا عقلنة الادارة)، والتي، تكتسب في مثل هذا المُجتمع، حياةً مُستقلةً وتصير تهديداً ضمنياً.

غالباً ما يكون هذا النقد والتحيّز الذي يستهدف الصالح والطالح، المُتضمّن في هذا الوعي، نابع من أشخاص إما أنهم يعيشون في ظروفٍ تفتقر الى تنظيمٍ اجتماعيٍّ عقلاني وإما في تنظيم اجتماعي يعمل التكنيك والعلم فيه بفعالية كافية. ومع ذلك، فإن سمات هذا الوعي في نُسختها "الأمريكية" تحديداً هي واقعية فعلاً. تكمن واقعية وعي "اليسار الجديد" الأمريكي في أنه يُعبّر عن التناقضات والمُفارقات الاجتماعية التي يألفها مُمثليه بكل عُمق: مُفارقات مُجتمعٍ يتمتع بمُستوىً مرتفعٍ نسبياً من تطور الانتاج وتقنيات الادراة الاجتماعية، وفي نفس الوقت، مُجتمع يعتقد شبابه المُحتجين بأنه "مريض" بشكلٍ ميئوسٍ منه.

وفيما يتعلق بادانتهم للبيروقراطية، يتحدث "اليسار الجديد" كثيراً هذه الأيام حول "الإدارة التي يقوم بها الخُبراء". انهم مُنزعجون من الدور المُتزايد للخبراء المُحترفين في المنظومة البيروقراطية الحالية. (هذا الدور، كما يعقد روزاك، أصبَحَ "مركزياً)، وهو يُشير الى فئة اجتماعية، تتزايد من حيث عددها وتأثيرها، وينشغل أعضاؤها بشكلٍ مُباشرٍ بتكييف معايير وقواعد النشاط التي طورته العلوم التطبيقية والتكنيك كأدواتٍ لـ"الهندسة الاجتماعية"، أي الأشخاص الذين يُوظفهم النظام بشكلٍ أكثر نشاطاً من قبل لأنهم في الواقع يُعززون التزايد السريع في "إنتاجية" الجهاز الإداري في أكثر مجالات نشاطه تنوعاً. انهم يُدبرون تقنياً، أكثر تنويعات الحلول الوظيفية فعاليةً لنظام المؤسسات القائمة. يصوغ تشارلز ريتش استياءه فيما يتعلق بالدور المُتزايد للخبراء في الولايات المُتحدة على النحو التالي: "لقد أصبحت هذه الأُمة تدريجياً تسلسلاً هرمياً إدارياً جامداً. وسُرعان ما فقدت الديمقراطية تأثيرها مع استيلاء المؤسسات العملاقة على السُلطة بشكلٍ مُتزايد... لقد صارت القرارت تُتخَذ من قِبَل الخُبراء والاختصاصيين والمُحترفين...(ص8). ان التصريحات النارية من هذا النوع (والتي نواجهها باستمرار في أعمال "اليسار الجديد") تحمل بصمة فيتيشية العلوم والتكنيك، والتي تتجلّى في تصنيم دور خبراء العلم والتكنيك الذي يُوظّف في الحياة الاقتصادية والسياسية في الولايات المُتحدة ومنظومة اتصالاتها الجماهيرية على نطاقٍ واسعٍ أكثر من أي وقتٍ مضى. يشعر الشباب المُتمرد في أذهانهم بمسألة مأسسة استخدام الخُبراء-وهي (المأسسة) مؤشر مُهم ونتيجة على مستوى تطور الثورة العلمية التكنيكية- باعتبارها السمة الموضوعية الرئيسية للنظام الاجتماعي، وبأنها العُنصر الرئيسي في تشكّل النظام. مرةً أُخرى، يُعيد "اليسار الجديد" هُنا اعادة انتاج نمط التفكير المُشوه الذي يتبناه عفوياً المُستشارين والتقنيين الأكثر تفاؤلاء. يعمل هذا النموذج في أذهانهم (أذهان اليسار الجديد) كصورةٍ نمطية، وغالباً ما يستبعد التفكير النقدي حول الدور الحقيقي للخُبراء في المُجتمع. يَقبَل "اليسار الجديد" ويأخذها كحقيقة، تلك العناصر الموجودة في أذهان الخُبراء والتي إما تُعبّر عن القناعات الصادقة لـ"الاختصاصيين" بأن العلم لديه امكانات هائلة للتأثير على حياة المُجتمع، أو أنه يتضمن وسائلاً أكثر اكتمالاً لتأكيد ذاته، والتي غالباً ما تؤدي وظيفةً تعويضيةً في أذهان الماختصاصيين المُحترفين.

مثل هذه الأفكار والمواقف من جانب الخُبراء لا تنشأ بشكلٍ عفوي في جميع الحالات. النُقطة المُهمة هُنا هي أن القُوى السياسية والاقتصادية طرحت شعارات "تكنوقراطية صرف" لفترةٍ طويلة، وكانت في كثيرٍ من الأحيان تُوضع بقدرٍ كبيرٍ من الاخلاص، في سعيها لإقناع الأمريكيين بأن عمل الاختصاصيين المُحترفين هو القيمة الغالبة والمُكتفية ذاتياً في المرحلة الحالية من التطور الاجتماعي. ولا شك أن الشكل المُميّز الذي تتخذه القيادة السياسية الآن مُهم لأنه يعكس تغيراتٍ حقيقية في نظام الادارة، وبالتالي يؤثر على الاختصاصيين. ومع ذلك، فإن لهذا الشكل طريقته الخاصة حتى في قمع فكر أكثر الأشخاص نقديةً، والذين يستمرون في اعتبار عناصر وجوانب النظام الاجتماعي بأنها "تكنوقراطية"، بالرغم من أنها سياسية في الحقيقة وتتضمن صراعاً سياسياً تُديره الطبقات والمجموعات التي تحتل بشكلٍ موضوعي مركزاً مُهيمناً في البناء الاجتماعي الأمريكي.

ان وصف التكنوقراطية وسُلطة الخبراء في كُتُب روزاك وريتش يكشف عن اختلاف بين اتجاهين في تفكير "اليسار الجديد". روزاك مُتحيّز ضد التحليل الاقتصادي. أما تشارلز ريتش، فيبدو لنا أنه يُمثل عُنصراً من عناصر الشباب المُحتج الذي يقبع أمامه أُفق أوسع. على عكس روزاك، يتجنب ريتش أحياناً الوصف السلبي القِيَمي المحض للتقدم العلمي التكنيكي. والنُقطة هُنا، كما يَفهم ريتش ليس فقط أنه لا يوجد في عصرنا الحاضر بديل للثورة المُستمرة في العلوم والتكنيك، بل أنه يُدرِك أيضاً أن هُناك أكثر من مُستقبلٍ مُحتمل، ومجموعة متنوعة من بدائل التنظيم "العقلاني" الاجتماعية، ويعترف، أنه من المُمكن من حيث المبدأ، أن يستخلص المُجتمع نتائج ايجابية من نشاط العُلماء من أجل الفرد الانساني. إنه مُجبرٌ على الاعتراف بأن تحسين الوجود المادي للبشر، والسيطرة على الطبيعة، وتحسين ظروف العمل، ما من شأنه أن يملأها بالابداعية، أمرٌ مُستحيل بدون تنظيمٍ عقلانيٍّ للانتاج والادارة، وبدون أشخاص مُختصين حصراً بتطوير التكنيك وتقنيات التحكم.

يرغب ريتش في الكشف عن الأسباب التي تجعل العلم والتكنيك ينقلبان على البشرية. وهو يسعى الى تحديد وتوصيف العناصر البُنيوية المتنوعة للنظام، المُختلفة في طبيعتها بأكبرِ قَدَرٍ من الدقة، والمسؤولة عن "الأزمة الأمريكية" وهي "الأزمة العضوية لبُنية مُجتمعنا نفسه"(ص9). انه يستخدم مفهوميّ "السُلطة الخاصة Private Power" و"الثروة الخاصة" في رغبته لتحديد ذلك العُنصر من النظام، الذي يُخضِع عملية تنظيم المُجتمع للمصالح الخاصة، والذي يمتلك السُلطة الكاملة في الولايات المُتحدة الأمريكية.

انه يُظهِر بشكلٍ مُقنع أن "السُلطة الخاصة" و"الثروة الخاصة" هي على وجه التحديد، ما تقف وراء العديد من سلوكات وقرارات التكنوقراطيين والخُبراء. هذه الحقيقة تُفسّر، حسب ريتش، التناقض المُروّع في أمريكا الحديثة بين الرفاهية والسُلطة المُطلقة ومجموعة وسائل الراحة والخدمات في قطب، والظروف المعيشية القاحلة (بما في ذلك الفقر المُدقع)-نسبةً لمستوى التطور الصناعي الأمريكي في القُطب الآخر(ص7). يرى رايتش بالاضافة الى ذلك، أن المسألة المطروحة ليست "ظاهرة عَرَضية" يُمكن القضاء عليها بسهولة عند مستوى التطور الصناعي التالي، بل تتعلق بنظام توزيع ثروات وامتيازات اجتماعية وسُلطات مُعيّن، مخفي عن الأنظار، والذي يقوم التكنوقراطيون والخُبراء والمديرون نيابةً بتنظيمه وتخطيط اقتصاده وحياته الاجتماعية بأكملها.

يطرح ريتش، وصفاً مُثيراً للاهتمام لظاهرةٍ جديدة نسبياً في بُنية الاقتصاد والسياسية الأمريكية، في نظام "دولة المؤسسات".

غالباً ما يرتدي تنافس وتصادم المصالح الخاصة في ظل الظروف الجديدة طابعاً مُميزاً من الشكل "الجماعي". وهُناك، على المُستوى الرسمي، رمزية شاعرية حقيقية، ولكن مُهمة للغاية في أمريكا اليوم، حاضرة بشكلٍ ثابت: "التكامل الخاص Private الاجتماعي، والتكامل الاجتماعي الخاص". يُبيّن ريتش أن تآكل الحدود بين "الخاص" Private والمُجتمعي يحدث الآن، ولكن في أغلب الأحيان يكون القطاع "الخاص" من الاقتصاد هو الذي يخدم "أو يستغل، من أجل توخي الدقة"، مصالح المجموعة أو المُجتمعي. القطاع "الخاص" هو الذي يتولى زمام المهام "الأكثر حكوميةً". يخلُص ريتش من هذا الى أنه "تم استغلال الدولة المؤسسية بنجاح من قِبَل المصالح الخاصة، وهي لا تزال خاضعة لركض القطاع الخاص وراء الربح"(ص110).
تُصبح مُحاججات ريتش حول "سُلطة" المُتخصصين والخبراء الذين يشغلون مناصب في نظام البيروقراطية الحاكمة أكثر أهميةً، عندما يشرَع في انتقاد ما يُسميه "المُلكية الجديدة". هذه "المُلكية الجديدة" هي "حيازة" منصب في نظام بيروقراطي. يقول ريتش ان الفرد الذي يرتبط مصير حياته بمثل هذا المنصب يُصبح مُجرّد ترس في آلة عندما تكون المسألة مُتعلقة باتخاذ قراراتٍ كُبرى لصالح المصالح الجماعية الحقيقية للمُجتمع كُلّه والمسؤولية عن مصير البلاد. ولكنه هو نفسه يخوض صراعاً نشطاً من أجل مصالحه الشخصية ومصالح الجماعة (الحاكمة أو الساعية الى السُلطة) التي ينتسب اليها بشكلٍ دائمٍ أو مؤقتاً. ونظام "دولة المؤسسات" البيروقراطي الشامل، يترك، على الرغم من تنظيمه العقلاني الوظيفي، المجال والعديد من الفُرَص للصراعات والاشتباكات بين أفراد حقيقيين، ومجالاً للتلاعب اللاعقلاني بالمشاعر وتوسيعاً للكراهية، والأهم من ذلك، يترك مجالاً واسعاً لتزبّل المزايا المُستمرة النابعة من حيازة منصبٍ في النظام البيروقراطي. هذا هو أصل الخوف المَرَضي الذي يشعر به البيروقراطي، بما في ذلك البيروقراطي التكنوقراطي المُتخصص، من فقدان منصبه، واستعداده للتضحية بكرامته الشخصية ومصير الآخرين في سعيه المحموم لتحقيق منصبٍ ومكانةٍ أعلى.

تعمل "القِيَم" الجماعية كوسيلةٍ مُلائمة لإخفاء صراعات المصالح الشخصية و"المافيات" البيروقراطية المُتنوعة. الجماعية الحقيقية هُنا غير واردة. هُنا، يختفي التضامن والعقلانية والسلوك الانساني المُتوجه نحو العلم. تختفي كُلها في مواجهة قسوة المُنافسة المحمومة داخل البيروقراطية. قد يخشى البيروقراطيون الأمريكيون الذين يشغَلون مناصب عُليا في بعض الأحيان الحكومة، "لكنهم في نفس الوقت يستخدمونها (أي الحكومة) لأهدافهم الشخصية، وبالتالي يزيدون من عدم قابلية السيطرة على دولة المؤسسات"(ص117).

يوضّح ريتش بشكلٍ صاخب كيف أن البُنى الشخصية الهَرمية للسُلطة، تلك التي تُشبه ما يتواجد في المُجتمعات "التقليدية"، تنشأ وتنمو بقوة، خلف الواجهة الأنيقة للصناعة المتطورة والعقلانية التكنيكية والعلمية الأمريكية المُعاصرة.

يتحدث رايتش، كما لو أنه يُفنّد أُطروحة روزاك حول مُطلقية سُلطة التكنوقراط والخُبراء، يتحدث، حول الاحساس الحقيقي بالعجز التام الذي يتعايش مع الثقة بالنفس في ذهن الشخص التكنوقراطي، الذي يعكس التناقض الحقيقي للاتجاهات الداخلية للتطور الاجتماعي الناجم عن المُستوى العالي للثورة في العلوم والتكنيك داخل حدود البُنية الاجتماعية لرأسمالية الدولة الاحتكارية. ويرى ريتش أن التكنوقراطي يُحب التهرب من اتخاذ القرارات الحاسمة المُتعلقة بالمُجتمع ككل مُتحججاً بأنه "مُتخصص صرف" وبمحدودية "كفاءته المهنية"، وهو يميل الى تحويل مهمة اتخاذ أهم القرارات الى من هُم "أعلى" منه(ص75). وفي الوقت نفسه، يوضّح ريتش بشكلٍ مُقنعٍ للغاية كيف يتلاعب التكنوقراطيين الذين يشغلون مناصب عُليا بـ"المصلحة العامة" و"احتياجات الناس". كان ريتش دقيقاً في نقدٍ آخر: يقول، تُواجَه كُل مُحاولة حقيقية لتدخل الجمهور ذو العقلية الديمقراطية في الشؤون الحكومية التي تتملقها النُخبة التكنوقراطية نفاقاً، تُواجه بعداءٍ واضح. يمتلئ الوعي المُتعجرف لهؤلاء الناس بالتوق الى الاسلوب "الأرستقراطي". "يُعبّر أعضاء هذه المجموعات عن نفاذ صبرٍ وموقفٍ مُتغطرس تجاه أفراد الطبقات التي يُحاولون مُساعدتها، أي تجاه الأشخاص الذين لم يتلقوا تعليماً كافياً، وقبل كل شيء العمال، الذين يُشيرون اليهم بالسر على أنهم "أغبياء يرتدون ياقاتٍ زرقاء"(ص72).

لا يُوافق ريتش الرأي الشائع كثيراً، والذي أيّده ماركوز بشكلٍ خاص، بأن الطبقة العاملة الأمريكية هي عُنصر مُندمج يتمتع بعقلية استهلاكية "سعيدة". يسعى رايتش الى إظهار مدى سَخَط واحتجاج الطبقة العاملة في بلاده. وبطبيعة الحال، بَذَلَت "السُلطة الخاصة" والتكنوقراط مجهوداً كبيراً لتطويع العامل و"فصل" عمله عن رغباته وخياله. "كثيراً ما نتحدث عن العامل الصناعي باعتباره عبداً مأجوراً"، ومع ذلك، لا ينبغي للمرء أن ينسى، كما يقول ريتش، مشاعر المرارة والهوان والغضب واليأس التي تتراكم عند الطبقة العاملة وتُهدد بتحويل "الخنوع المُتذمر" الى انفجار غاضب"(ص33).

- ضد "جيل الآباء"
يَطرَح روزاك باستمرار فكرة أن الصراع بين الأجيال غير القابل للحل، هو أساس ثورة الشباب. نظرياً، هذا التحوّل في التفكير، من الاعتماد على التحليل الدقيق لمُحتوى وشكل التناقضات الاجتماعية المُختلفة، نحو فكرة صراع الأجيال غير المُتبلورة وغير الدقيقة، هي خُطوة الى الوراء. وهُنا نرى في الواقع، صورةً نمطيةً أُخرى، وإن كانت صورةً ايديولوجية، الا أنها مُقنعّة بشكل خارجيٍّ تعبيريٍ مُعادٍ للايديولوجيا. ولكن، اذا أردنا أن نَعرِف بُنية تصوّر العالم، وأسباب تأثّر العقل "اليساري الجديد" الأمريكي الحالي، علينا أن ننتبه الى نقدهم الغنيّ والحيوي لاسلوب حياة وتفكير "جيل الآباء". والحقيقة أن الجيل الأصغر، يحكُم بكل حقٍّ على اولئك الموجودين في أدنى مراكز السُلطة في أمريكا المُعاصرة، وعلى اولئك الذين يخدمون السُلطة القائمة بخنوع.
يجد اليسار الجديد ما هو بغيض في حياة "الآباء" ووعيهم، في حقيقة أنهم يسعون نحو الحياة السعيدة وملذات "الاستهلاك الجليّ"، وهم مُتورطين في "سباق الفئران"، ويتملقون المؤسسات التي يكسبون منها لُقمة عيشهم"(روزاك ص31). صحيح أن الشباب يأكلون غالباً نفس الخبز الذي يأكله آبائهم، ولكن على عكس هؤلاء الأخيرين، فإنهم يُظهِرون بوتيرةٍ مُتزايدة استعدادهم للتخلي عن جميع السِلَع "الاستهلاكية" وجميع وسائل الراحة اذا كان ثمنها أن يبيع المرء كرامته واستقلال شخصيته وقناعاته.

يرى تشارلز ريتش انه حتى في وعي "جيل الآباء"، تكون ايديولوجية الفرد مُنهم مُصابةً بداء وعي التكنوقراط، وهو (وعي الآباء) منقسم داخلياً "حالة شيزوفرينيا عميقة" يُعبَّر عنها باخلاص مُتزامن لنوعين من القِيَم "العامة" و"الخاصة". ان قِيَم التكنوقراط "العامة" هي اعتبارات الكفاءة الصارمة، والتوجه نحو الأهداف، واشتغال الماكنة الهَرمية. تُؤخذ الاعتبارات الانسانية والنقدية " الى البيت والأسرة". يُفسّر الأبناء هذه الازدواجية على انها نفاق بسيط. إنهم لا يُكنّون أي تعاطف أو احترام لآبائهم، الذين أصبحوا، في نظرهم، مثالاً لحياة "الانسان ذو البُعد الواحد" الذي تحدّث عنه هربرت ماركوز. يرى روزاك الأُمور بنفس الطريقة، ولكن لدى ريتش فهماً أعمق للمُشكلة. انه يُحاول أن يُبيّن أن مجموعتي القِيَم لا تستثني أحدهما الآخر، وأن كلتيهما مقبولتان و"تتعايشان" في الشخصية، مما يؤدي بها الى انقسامٍ داخلي(ص78).
والحقيقة، أن المُتخصص التكنوقراطي يُشارك بالفعل في تطبيق الثورة العلمية التكنيكية التي تخلق المُتطلبات الموضوعية والامكانات الحقيقية لتوسيع الديمقراطية. تُدخَل الاعتبارات الانسانية في عمله اليومي بشكلٍ مُتكرر (وهذا الاستدخال ظاهرة موضوعية تماماً) لأن التطور اللاحق للعلم والتكنولوجيا أثبَتَ أنه يعتمد وظيفياً على "العُنصر البشري" (هذه الحقيقة يتجاهلها روزاك، لكن ريتش يعترف بها). ومع ذلك، بالنسبة لـ"الخبير التكنوقراطي"، بحُكم موقعه في الآلة البيروقراطية الحاكمة، يُمكن أن يكون جمود ولاعقلانية الآلة البيروقراطية واضحاً بالنسبة له، وأن يشعُرَ بعجزه، وأنه مُقيّد بمصالح البيروقراطية. لهذا السبب ينشأ الالتزام المُتزامن لنوعين من القِيَم من أجل أن يُحافظ الفرد على مبادئه من أجل "الاستهلاك المنزلي".

ما هي أهداف النضال التي يقترحها "اليسار الجديد" اليوم؟
-السعي الى "ثقافةٍ مُضادة"
ان توقعات "اليسار الجديد" وجهوده وقِيَمه تتجمع وتتبلور اليوم بوتيرة مُتزايدة في مفهوم واسع الا وهو "الثقافة المُضادة". ان "صناعة الثقافة المُضادة" وهو الشعار المركزي لـ"اليسار الجديد" الذي يُعبّر عن اطروحاتهم الايجابية وآمالهم في المُستقبل، يشمل: تشكيل علاقات شخصية جديدة، وتبنّي قِيَم جديدة، ووضع معايير ومُثُل ومبادئ جمالية وأخلاقية جديدة، وتطوير نمط جديد من الشخصية بأشكال جديدة من الوعي والسلوك.

لا يُمكن فهم منطق التطور الذاتي لفكرة "الثقافة المُضادة" وتناقضاتها الداخلية ومصادر شعبيتها، الا اذا أخذنا في الاعتبار الوضع الاجتماعي-التاريخي التي تشكّلت هذه الفكرة فيه وعبّرَت عنه. ان هذا الوضع مُفارقة بحد ذاته. فمن ناحية، تُدرَك طبيعة أزمة النظام الاجتماعي بشكلٍ مُباشرٍ وواضح، وتصبح الحاجة الى التغيير المطلوب واضحة كذلك. من ناحيةٍ أُخرى، صحيح أيضاً من الناحية التجريبية أن قسم السكان الذين يقفون صراحةً مواقف راديكالية في أمريكا الحديثة يعترفون بأنهم أقلية في مواجهة دولة مؤسساتية قوية. وهذه الأخيرة، كما يُلاحظ روزاك، تستخدم "القوة الوحشية الصريحة" لجهاز الجيش والشرطة المُتضخم ويلجأ الى "خرق القانون" وكذلك الى ال"الخنق الساخر للمُعارضة من خلال التغطية الاعلامية المُشبعة"، جاعلةً هذا الاحتجاج نوعاً من الانحراف"(ص37). ويتم مواجهة المُعارضين كذلك، بشريحة من الاستهلاكيين في "سباق الفئران" الاستهلاكي، كما أشرنا سابقاً.

يتجلّى هذا الوضع ويُعاد انتاجه في حالاتٍ مُعينة من خلال العدمية ومشاعر "تدمير كل شيء" التي تُميّز بعض أشكال المُعارضة المتطرفة، والتي تُذكرنا حقاً، بتاريخ الفاشية الرهيب، والذي استفاد واستغل الحالات المزاجية المُماثلة عند الشباب المتمردين. هناك سمة أُخرى جديدة لذهنية "اليسار الجديد"، تتعلق بحقيقة أن بعضهم، مثل روزاك ووريتش، يُدركون بوضوح خطر الميول التدميرية العدمية ويتخذون موقفاً نقدياً تجاهها.

يؤكد روزاك، في حديثه عن الجماعات التي تميل نحو "العدمية المجنونة"، على أن الثقافة المضادة"، تُعارض كُلاً من "ثقافة الآباء" المُهيمنة والشعارات المتطرفة "المُعادية للثقافة". يقول روزاك، أن هذا النوع من السَخَط يُمكن تحويله الى تيارٍ جامحٍ من قِبَل القوى الاجتماعية التي تسعى نحو الفاشية. يؤكد كُلٌّ من روزاك وريتش أن الشعور بالكراهية العميقة لجميع أشكال الفاشية هو السائد بين غالبية الشباب المُحتجين.

وهكذا، يُحاول "اليسار الجديد" بمُساعدة شعار "الثقافة المُضادة"، التعبير عن تصوره لإمكانية قيام قُوى حركة ينظر قادتها والمشاركون فيها الى انفسهم على أنهم أقلية، بتغيير في الوضع الاجتماعي القائم. يُجادل "اليسار الجديد"، أنه سيكون من الوهم أن نأمل، أن تكون مثل هذه الحركة قادرة على تغيير الظروف الاجتماعية الموضوعية والأمزجة السائدة في البلاد اليوم أو غداً. ولذلك تُعتَبَر المهمة الأُولى لمُناصري شعار "الثقافة المُضادة" ضرورية تماماً، وفي نفس الوقت، ضمن قُدرة هذه المُعارضة، وهي تغيير أنفسهم، وهو شرط أساسي لحدوث تغييرات اجتماعية عميقة في مُستقبل العالم. كما أن "اليسار الجديد" في الولايات المُتحدة، لا يرفض أشكال الاحتجاج السياسية النَشِطة، وخاصةً النضال المُتواصل ضد الحرب في فييتنام، والنضال من أجل توسيع الحقوق الديمقراطية في بُلدانهم. الا أن الفكرة الأساسية لأعمالهم، هي ضرورة "اقتلاع" المُجتمع القديم من داخل الفرد نفسه ووعيه وسلوكه، وتكوين شخصية جديدة بدلاً عنها.

-من أجل شخصيةٍ "مُتكاملة" ومسؤولة
تُطرَح المُطالبة بـ"الثقافة المُضادة" من قِبَل "اليسار الجديد" أمام نفسه وأمام مجموعات الطلاب والمثقفين ذوي التوجهات المُعارضة. ولذلك، يتجلّى المُحتوى الأساسي لهذه المُطالبة بشكلٍ أكثر دقة وشمولية عندما يوضع في مُقابل معايير ورمز الثقافة الرسمية التي انشئت اليوم من أجل انتلجنسيا الولايات المتحدة، أي للكوادر الأكثر تعليماً، والتي (اي الثقافة الرسمية) تختلف عن نماذج "الثقافة الشعبية" التجارية المُبتذلة. يقول ريتش "دعونا نتخيل زوجين شابين وجذابين"، ولديهم العديد من الأطفال. كُلاً من الزوج و الزوجة مُتعلم ولديهما مهنة جيدة براتبٍ جيد (طبيب، باحث، مُحامٍ، الخ). لديهما منزل ذو تصميم رفيع ووسائل راحة حديثة ولوحات أصلية والعديد من الكتب، وهما يُحبان الرياضة والسفر. يهتم كليهما بالسياسة والموسيقى والمسرح. بعد أن رسَمَ صورةً تُمثل في الواقع ما يُعتبرُ "رمزاً للثقافة" الأمريكية، يسأل ريتش بشكلٍ غير مُتوفع: "ما الخطأ في هذه الصورة؟".

ان اجابة ريتش موحية للغاية ومُهمة لفهم بُنية وعي "اليسار الجديد" المُعاصر الذي يتم تحليله هُنا، وهو ينشأ عفوياً في ظروف أمريكا أو اوروبا الغربية الحديثة والذي ينبُع من تلك الظروف نفسها. تُثير حياة هذين الزوجين الجميلين احتجاجاً نشطاً من جانب ريتش ليس لأن أذواقهما واهتماماتهما وطُرق قضاء وقتهما سيئة أو مُبتذلة. "يستهلك" هؤلاء الناس الكُتب الجيدة حقاً، والموسيقى الحسنة، والأشياء الجميلة "التي تُشكّل جُزءاً من الثقافة الحقيقة". يقول ريتش أن الأمر السيء بطبيعة الحال، ليس أنهما يستمعان الى باخ أو موزارت. المُشكلة هي أن العديد من المُستمعين، ان لم يكن الأغلبية، لا يفهمون الموسيقى على الاطلاق، بل أنهم فقط "يُشيدون بـ"الموضة الفكرية" و"لياقة" ومُتطلبات "الاستهلاك البريستيجي". تكمن المُشكلة في حقيقة أن عملية استهلاك الثقافة لا تؤثر ولا تمس البُنى العميقة للشخصية، التي "لا تتأثر بشيء"(ص81).

نجد، في كتابات "اليسار الجديد" احتجاجاً حاداً، مُعبّر عنه بوضوح، ضد هيمنة مبادئ السوق التي تتغلغل في كامل مجال الوعي، وفي انتشار واستهلاك الثقافة الفكرية والمادية. وهذا في الوقت نفسه، احتجاج عاطفي ضد املاءات "الدولة المؤسساتية" التي تشتغل عبر وسائل الاتصال الجماهيري.

ومع ذلك، يُصبح احتجاج "اليسار الجديد" في كثيرٍ من الأحيان، ودون أن يُلاحظ هو (اليسار الجديد) نفسه ذلك، إدانةً لجميع السلوكيات المشروطة اجتماعياً. من الناحية النظرية، من الواضح أن مثل هذا الموقف طوباوي، لأنه لا يُمكن أبداً، تصوّر فرد "خارج المُجتمع": ان وعيه ومواقفه تكون دائماً مشروطةً اجتماعياً ويتخللها مُحتوىً تاريخي-اجتماعي، أي مُحتوىً "خارج عن الفرد" أصلاً، ان صح التعبير.

ومع ذلك، بما أننا نتعامل مع وعيٍ عفوي، فلا يُمكن الا أن نلاحظ، أن هذا الوعي العفوي، يُعيد انتاج التناقض الذي يُلاحظه باستمرار، بطريقةٍ أوليةٍ ومُتحولة، وهو تناقض عملية الانتاج الشامل (المُنظم صناعياً للغاية) وتوزيع واستهلاك مُنتجات الثقافة المُموضعة، بما في ذلك "الثقافة العُليا" (أفضل أعمال الموسيقى والرسم والأدب، والأشياء الجميلة وأشياء الحياة اليومية ووسائل الراحة). ان عملية استخدام شرائح جديدة من السكان لهذه النتاجات الثقافية العُليا تتطور بشكل مُكثّف من خلال وساطة آليات السوق والمُنافسة، وهي آليات غير شخصية وغير مُبالية بحياة الأفراد الداخلية الثقافية. وتستهلكها تلك الشرائح من خلال نظام الدوافع التي تزهر ضمنها المواضيع الثقافية بوصفها مقاييساً للبريتيج الاجتماعي المُغترب عن الشخصية، وكرموز لـ"وزن" ذلك الفرد في مجال المُنافسة على الاستهلاك. وبالتالي يتشكل نمط من "الأمر القاطع" categorical imperative في أذهان "اليسار الجديد" اليوم يُشكل انعكاساً للتناقض الموضوعي، تتمثل وظيفتها في التغلب على التأثير المُدمر للموقف المُتناقض على شخصية الانسان.
في حين أن الأمر القاطع الكانطي يُعلن أن الفعل الأخلاقي هو وحده الذي يفترض بالضرورة-في ظل شرط الالتزام الخالص بالواجب-القمع النشط لدوافع الفرد الحسية، فإن اليسار الجديد يعتبر الأفعال أخلاقية وأصيلة وانسانية اذا كانت تمس المساعي العاطفية والحسية الداخلية للشخصية، والرفض النشط لكل ما يتطلبه الواجب المفهوم بشكلٍ مُجرد باعتباره "اغتراباً شاملاً"، منها موضات ورغبات الذين هم في أعلى المُستويات، بعبارةٍ أُخرى، يجب رفض أي نوعٍ من الاكراه الخارجي.
ألن تكون الفردية الطليقة وازدراء المبادئ الاجتماعية بشكلٍ عام، عواقباً لهذا الموقف؟ ان القلق من ذلك ليس بلا أساس بأي حال، ويُناقشه "اليسار الجديد" بجدية تامة. يُمكن اختصار اجابتهم بايجاز الى ما يلي. هناك ضمانة واحدة بأن الاعتماد على استقلال الفرد والمُطالبة بأن يُعبر عن نفسه بشكلٍ كامل، لن تنحل الى مُعاداة للمُجتمع وفردية مُتطرفة. يجب تطوير تلك الصفات الفردية العميقة التي تضمن في الوقت نفسه التزاماً اجتماعياً "داخلياً" وليس سطحياً مُنافقاً: مسؤولية الفرد عن شؤون الجميع، وعن مصير المُجتمع، والاستعداد للتضحية من أجله. يؤكد روزاك أن على "الحقيقة، أن تحوز سياقاً ذاتياً فردياً، وليس مجرد سياقاً ايديولوجياً"(ص57). يُدرك "اليسار الجديد" جيداً أن أمريكا الرسمية المُعاصرة مُستعدة أيضاً لاعلان أنها تلتزم بالقِيَم الانسانية، وغالباً ما تحلفُ بها. يرى اليسار الجديد، انه عند مواجهة نظام الكذب هذا، أن يقوم الفرد باستيعاب القِيَم الانسانية الحقيقية وتحويلها الى نظام سلوك انساني داخلي، من خلال تطوير "حساسية جديدة". والحل كما نرى هُنا، فردي تماماً. ما هي "الحساسية الجديدة"؟
يقول ريتش، ان الانسان المُعاصر، في تواصله مع الآخرين وحتى مع ابنه أو في حديثه مع نفسه، يُعبّر عن أي نشاطٍ بمصطلحاتٍ غير شخصية، في مفاهيم مُجردة، ويقتصرها على دورها الخارجة عنه. والأسواء من ذلك انه يُحلها في عباراتٍ عامة ومُنافقة. "اسأل مثل ذلك الشخص عما فعله في الأشهر القليلة الماضية، وسوف يُجيب: لقد دافعتُ عن الحرية في جنوب شرق آسيا. اسأله مراراً وتكراراً، وربما سيُخبرك كيف قضى أيامه: أطلقَ النار من سلاحٍ آليٍ على النساء والأطفال، وأشعل النار في المنازل"(ص166-167). والاجابة الثانية في رأي ريتش لها ميزة كبيرة، اذ يبدأ الانسان في وصف شيءٍ يحدث بالفعل، وهو لا يُخفي، بل على العكس، يُعبّر تعبيراً دقيقاً عن عواطفه ومشاعره وأحاسيسه.

هذا المثال، يقول ريتش، قد يكون بمثابة ايضاح للتمييز الأكثر عموميةً بين نوعين من الوعي. وتتميز الثقافة السائدة ونمط "الحساسية" المُرتبطة بها باقصائهما العقلاني والمُغترب لأي أهمية مُباشرة للفرد ولما يحدث له، ولما يحدث لدواخله. يقول ريتش أن "الثقافة المُضادة" بطبيعة الحال، لا ترفض خصائص فعل الفرد الموضوعية، بل تتطلب أن يتم التعبير عنها في سياق الأهمية المُباشرة لكل ما يحدث للكائن الانساني الملموس المُعطى.

وكما نرى، فإن طرح مسألة "الحساسية الجديدة" هو قبل كل شيء منهجية لانتقاد تلك الآليات الايديولوجية كنِتاج للعملية التي بموجبها يخضع التقييم والتقييم الذاتي لأي فعل انساني بشكلٍ كاملٍ لمتطلبات نظام نظري مُغلق مُكون من مقولات الفكر الموضوعية، والتي بدورها هي تعبير مُجرّد مثال عن نظام العلاقات الاجتماعية الموضوعية القائم. انها، قبل كل شيء، وسيلة لنقد المعايير الموضوعية واطار العقلانية التي تعمل في اطار النظام الاجتماعي السائد، والتغلب عليها.

وهكذا، عند اثارتهم للمسألة القديمة المُتعلقة بالحساسية والعقل، يدمج اليسار الجديد مقولات الفلسفة التقليدية هذه في السياق الاجتماعي النقدي الشامل. يُذكرنا روزاك، أن التناقض بين العقل والحساسية معروف منذ زمنٍ طويلٍ في الثقافة الأوروبية. وان كان "اليسار الجديد" يؤكد اليوم على أهمية الحساسية الخاصة، فإنه لا يرغب أن يعتقد قارؤوه بأنه يُنكر العقل والفكر والعلم على حساب الدعوة لـ"التخريب البربري"(ص79). ويُتابع روزاك، اذا انتقدنا أيضاً العقلانية والوعي الموضوعي، فنحن نقصد تلك العقلانية التي تستخدمها المؤسسات المُهيمنة وتحولها الى "طريقة سلطوية في الاهتمام بالذات والآخرين وكُل واقعنا"(ص216).

ان موقف "اليسار الجديد" الأمريكي النقدي، لا يتحدى المعرفة العلمية نفسها، بل "أساطير الوعي الموضوعي" الخطيرة اجتماعياً، التي "تُستَخدَم وسيلةً لتبرير الأنظمة المُعادية للانسانية".
وهُنا، من الضروري التأكيد مرةً أُخرى، أنه يُمكن فهم النقد الذي يطرحه "اليسار الجديد" على أنه تعبير عفوي عن تناقضات حقيقية وحادة فقط في مُجتمعٍ تُهيمن فيه الميكانيزمات اللاشخصية التي تُهيمن موضوعياً (والتي يقع في أساسها علاقات السلعة-المال ومُستوى التطور العلمي التكنيكي الرفيع)، التي تُخضع النشاط البشري في مجالات الحياة لتطلبات الكفاءة العلمية والعقلنة الوظيفية، باستمرار. والمُجتمع الرأسمالي الأمريكي المُعاصر هو هذا المُجتمع على وجه التحديد.

لذلك، "العقل النقدي" الذي يدحض أساطير "العقل الموضوعي"، لا يكون حقيقياً وذو معنى الا في مُجتمعٍ أصبحت فيها تقاليد وعادات التجريبية "العملية" والعقلانية "العملية" مُتجذرةً بقوةٍ وتحتل مكاناً مُهيمناً في كل النشاطات الانسانية. وبالتالي، يُمكن فهم الوعي الذي ندرسه هنا، على انه استجابة انسانية فريدة لوضعٍ اجتماعيٍّ تاريخيٍّ مُتناقض. نشأ في هذا الوضع، عبادة "العقل المُموضع" والتي، من ناحية، قادرة أن تخدم كأداة لضمان فعالية أفعال الانسان العملية، ومن ناحيةٍ أُخرى، يؤدي اضفاء صفة الاطلاق على امكاناته (أي العقل المُموضع)، الى ظهور أنظمة من الأساطير الاجتماعية "المُعقلنة" التي تؤدي وظائف تعويضية وذات قُدرة تطويع سيكولوجية فيما يتعلق بالوعي "الساخط". يُمكن في هذا السياق فقط، فهم أسباب الشعبية الكبيرة المُنتشرة في الدول الرأسمالية المُتقدمة لنمط التفكير الذي يعتبر أن طرح مسألة تعزيز وتطوير تجربة الانسان الفردية الداخلية وحساسيته من أهم الأشياء.

ولإثبات الأهمية القُصوى للتغيرات التي من المُفترض أن تقود، وهي تقود، الى تشكيل "حساسية جديدة"، يستشهد روزاك بأمثلة تاريخية. أنه يُذكر القارئ بالفترة التي ظهرت فيها المسيحية الى الوجود، وبعصر النهضة أيضاً. ان هذه المُقارنات مع تجربة الماضي التاريخية مُثيرة للاهتمام. ان تلك المُقارنات تُمكننا، حسب روزاك، من اكتشاف تشابهٍ مُعين بين العمليات التي تفصل بينها فتراتٍ زمنيةٍ طويلة. على سبيل المثال، كان ما يُميّز حياة عصر النهضة الفكرية هو اعادة تنظيم ثقافة ذلك الزمن والتي كانت مفهومةً للغاية للانسان الحديث آنذاك: نحو نمط "واقعي" من الايديولوجيا الدينية، الذي يعزو أهميةً أساسيةً الى المقولات الشاملة (الله، الكنيسة المُقدسة، الخير، الخ)، والتي وُضِعَت بشكلٍ صريحٍ مُقابل التوجه "الاسمي" نحو الشخصية الانسانية الحية والفريدة من نوعها، بكامل طيف مشاعرها المُتنوعة. ويبدو أن شيئاً مُماثلاً يحدث في الثقافة الغربية اليوم. في التفكير النظري والوعي العفوي، ينتقل التركيز القِيَمي يوتيرةٍ مُتزايدةٍ من "المقولات الشاملة المُغتربة" بكُلياتها الفكرية التعبيرية الى عالم التجربة الحسية المُباشرة "للفرد". ومع ذلك، هذه المقارنات التاريخية، المُثيرة للاهتمام في حد ذاتها، لا تُصبح تحليلاً تاريخياً ملموساً في كتابات "اليسار الجديد"، ولا يُلحقونها ببحث سوسيولوجي للقيم والظواهر الايديولوجية في سياق أوضاع اجتماعية مُحددة.

لكننا سَبَقَ أن أكدنا أن ايديولوجيي "اليسار الجديد"، لا يرتقون في كثيرٍ من الأحيان فوق مُستوى الوعي العفوي. ومن المفهوم أنهم لا يدّعون أنهم يُجرون مثل هذا التحليل النظري، ولا يُمكنهم أن يُقرّوا بذلك. وفي الوقت نفسه، تؤدي أعمالهم وظيفةً مُحددةً ومُهمةً للغاية. إنها تُظهِر بوضوح حقيقة أن فكرة الحاجة الى "تحوّلٍ في الفرد" قد تغلغلت بُعمق في وعي الشباب العفوي. ويرى حاملو هذا الوعي العفوي أن التحول الفكري والايديولوجي له أُسس ومُقدمات اجتماعية موضوعية عميقة. أما ما هي هذه المُقدمات، فإن هذا لا يزال غير واضحٍ في كثيرٍ من النواحي، ليس بالنسبة لـ"اليسار الجديد" وحده، لأن عُقدة مشاكل وصعوبات تطور فلسفة وسوسيولوجيا أوروبا الغربية والولايات المُتحدة أصبحت مُرتبطة بهذا تماماً. ومع ذلك، تُشير ملامح المُتطلبات الاجتماعية الموضوعية وآليات التغير الفكري والايديولوجي، الى مساراتٍ مُعينة يُمكن أن يتخذها التحليل الاجتماعي-التاريخي.

ان التوجه الى عالم الفرد الشخصي والمُتطلبات المفروضة على حساسيته كانت مدعومةً بعملياتٍ مُرتبطةً بظهور وانتشار الأشكال الفردية للعمل الحِرَفي وممارسات المشاريع الخاصة. ومن الضروري أيضاً النظر في التناقض بين هذه العمليات الموضوعية والنظام البيروقراطي الاقطاعي، بما يتضمنه ذلك التنظيم الاجتماعي الحقيقي ومواقف القيمة التي عبّرَت عنها الايديولوجية الدينية السائدة والتي صيغت في شكل تسلسل هرمي من "المقولات غير الشخصية".

واليوم، في الولايات المُتحدة وبُلدان أوروبا الغربية، فإن التوجه نحو الفرد له مُقدمات موضوعية أُخرى. فهو مُرتبط بمُتطلبات الثورة العلمية التكنيكية وأشكال العمل الفردي في مجال الانتاج المادي والفكري الجديدة، بما في ذلك مجالات ادراتها. في هذه المجالات (خاصةً في "المُستويات العُليا")، يتطلب الاعتماد على نتائج العمل على جاذبية مُبادرة الشخصية الفردية وعلى تطوير امكاناتها الابداعية في المواقف الفريدة، يتطلب الاستفادة من اثراء المعارف والخبرات الشخصية المُباشرة للفرد التي تتمظهر بشكلٍ مُلحّ. ويعكس "التوجه نحو الفرد" أيضاً، تغيراً في التوجهات الفكرية، وبالتالي صراعات الاتجاهات الجديدة مع أنظمة القِيَم "الجماعية" البيروقراطية والانسانية الزائفة التي نشآت في النصف الأول من القرن العشرين ضمن حدود وعلى أساس "دولة المؤسسات" (والتي اكتسبت فيها مفاهيم "النظام الاجتماعي" و"المصلحة المُشتركة" طابع "المقولات اللاشخصية").

ان اخذَ المرء في الاعتبار المُقدمات الموضوعية والتناقضات المذكورة أعلاه، يُصبح من الضروري الاعتراف بأن البرنامج الذي يتضمن التوجه نحو التجربة الفردية الشخصية كعُنصر ذو أهمية قُصوى، مؤسس على تغيرات حقيقية، وبالتالي قد يكون له تأثير كبير على الحياة الاجتماعية.

ومع ذلك، لا تجد الميول الاجتماعية الحقيقية دائماً تعبيراً مُناسباً لها في الوعي. ومن أجل فهم الأشكال الملموسة التي يتخذها تحول الاهتمام نحو الفرد الانساني، في وعي الأشخاص ذوي العقلية المُعارضة، من الضروري توضيح طابع الاشتباكات الدائرة حول الايديولوجيا. ليس من قبيل الصدفة، أن تنشأ أشكال من الاحتجاج يضطر أصحابها الى بذلك كل طاقاتهم فقط من أجل تغيير النظام الداخلي ونفس عناصر "لُغة" الثقافة الرسمية القديمة. يحدث تحوّل بسيط ضمن حدود نظام "المقولات الشاملة" المُهيمن: تنتقل المقولة المُجردة المُسماة "الشخصية الفردية" الى الواجهة، في حين يُدفَع مفهوم "المُجتمع" الى الخلف. وحتى هذا التحوّلاات، والتي تستحيل الى مُمارساتٍ سكولائية، يُمكنها أن تكون هامة كونها مؤشراتٍ على عملياتٍ ايديولوجيةٍ حقيقية.

وهذا ليس غريب في ظل ظروف "الثقافة الجماهيرية" حول الانسانية الزائفة، طالما يُنظر الى "التوجه نحو الفرد"، في ظل الصراع الملموس بين قوى الطبقات الاجتماعية، على أنه مُحاولة لتغيير وانتقاد نظام القِيَم وتسلسلها الهرمي المقبول رسمياً، مما يؤدي الى رد فعل سريع واحد من جانب الأشخاص والمُنظمات التي تُدافع عن مصالح الجماعات الحاكمة ومواقفها القِيَمية.

قد يتمثّل"رد" الايديولوجيا الرسمية في نمطين من الاجراءات (ويمكن أن يكون الاجراء مُكوّنٌ من كليهما بطبيعة الحال). أولاً، هناك الاجراءات البوليسية، والحظر الصريح والادانة الايديولوجية وتشويه وتدمير أدنى مظاهر المُعارضة، وثانياً، التكيّف الديماغوجي الصرف للايديولوجيا الرسمية مع "مُتطلبات العصر". وفي الحالة الثانية، يُمكن أن تفقد الحركات الاجتماعية الضعيفة والمُشوهة قوتها ويفقد الوعي الاحتجاجي نفوذه بسهولة. يُعَد كتاب روزاك، في كثيرٍ من النواحي، نموذجاً لمثل هذه الأشكال من الاحتجاج الضعيفة والمُشوهة(7).

ان أفكار ريتش أعمق وأكثر جديّةً فيما يتعلق بهذه المسألة أيضاً. يؤكّد أن النضال ضد النظام الأمريكي السائد ليس فقط نضالاً من أجل اعادة توجيه نظام القِيَم الثقافية ومن أجل الدعاية لشعارات "الحساسية الجديدة"، ولكنه أيضاً فعل اجتماعي نَشِط يتم ضد البُنية الاجتماعية الأمريكية التي تأخذ شكلها الآن. يُحاول ريتش المُشاركة في عملية صياغة مطالب السياسة العملية الملموسة التي تتطور في الولايات المتحدة حالياً.

انه يقترح، قبل كُل شيء، وقف الحرب في فييتنام، وخفض الانفاق الحربي والقضاء عليه، وتقييد "منطق الاقتصاد" الذي أصبَحَ اليوم أكثر لاعقلانيةً من أي وقتٍ قد مضى، والذي يحمي مصالح "الثروة الخاصة"، ويدعو لانشاء ميكانيزمات اجتماعية واقتصادية تتكيف مع الحفاظ على "القِيَم الانسانية" التي "لم تؤخَذ بعين الاعتبار بعد": الصحة والعالم الفكري للفرد ومشاكل التعليم، وما الى ذلك.

صحيح أن المسارات التي حددها ريتش للقضاء على "الشرور" الاجتماعية ليست واضحة تماماً. لكن موقفه يتمتع بموقعٍ أفضل من روزاك، لأنه يلجأ الى النضال الاجتماعي الحقيقي ويُدرك أن الوعي المُعارض الجديد "ينشأ على أساس المُستوى التكنيكي الموجود، ولا يُمكن أن ينشأ من خارجه وأنه ناتج عن "التناقضات وهزائم وتطرف دولة المؤسسات نفسها"(ص18-19). ويقول أن كل علامات ورموز النضال الجديد "قد لا تعني الكثير ولن تؤثر كثيراً اذا كانت جهود المُحتجين نابعةً من أقلية تعمل ضد سُلطة الدولة. قد يشعر أعضاء حركة المُعارضة بالتعب والاحباط،، لكن الوقت يقف الى جانبهم"(ص394)(8).

***

ليس من قبيل الصُدفة أن يُشبّه روزاك حركة الشباب الاحتجاجية الأمريكية بالبراعم الخضراء التي اخترقت التربة للتو، والتي تهب عليها رياح مُعادية قوية. هل ستعيش هذه البراعم أم ستموت؟ وان نجَت هذه البراعم، فالى ماذا ستنمو؟ هذه الأسئلة تُثير قلق "اليسار الجديد" الأمريكي وتُثير اهتمام مجموعات وشرائع أُخرى من المُجتمع الأمريكي.

تُدرِك الدوائر الحاكمة الأمريكية، التي اعتمدت في البداية على الشرطة والاجراءات الادارية وحدها لكبح جماح الحركة الاحتجاجية الشبابية، أن الوضع خطيرٌ جداً الآن وأن هناك مشاكل اجتماعية تنضج بحدّة. ان مصائر الأحزاب الحاكمة في يومنا هذا تعتمد الى حدٍّ كبير على مدى نجاحها في "تقوية العلاقات" مع الشباب ذوي العقلية المُعارضة والمُتحدثين باسم الفكر النقدي الاجتماعي. لكن هذه العلاقات أصبحت متوترة بشكلٍ مُتزايد وصارت مُتعاديةً علناً. أصبَحَت أعراض استياء مُختلف طبقات السكان المُتزايد، واعراض الصراع داخل حدود تنظيم الدولة الاحتكارية، أكثر وضوحاً مما مضى.

ان حركة الشباب العفوية، وحركة الطلاب والمُثقفين ذوي التفكير النقدي، تُعبّر بوضوح عن سَخَطِها وضيقها العام. تتزايد هذه الحركة من حيث العدد، كما أن نطاق المسائل الاجتماعية التي تخضع للتفسيرات الايديولوجية (ظروف العمل، الاقتصاد القومي، السياسة والثقافة والعالم الداخلي للشخصية، الخ) آخذٌ في الاتساع أيضاً. انها حركة تتطور وتتمايز باستمرار، وتُشكّل فصائل وأطرافاً جديدة. وان كانت بعض هذه المجموعات تُفضل المظاهرات الأناركية والعَدَمية (في مجالات الثقافة والفن أيضاً)، والاندفاع الثوري الطوباوي، يسترشدُ آخرون في تحركاتهم النشطة في كثيرٍ من الأحيان بالشعور بالمسؤولية الاجتماعية، ويُظهرون القُدرة على النقد الذاتي ونُضج الفكر وحدّة الرؤية والقُدرة على ربط نضالهم بمشاكل البلاد الحقيقية. وبينما يتسم وعي أنصارها بآفاقٍ محدودة، فإن هذه العناصر تُشكل عاملاً هاماً في الصراع بين القُوى الطبقية، ويُساهم نشاطها في توسيع جبهة الحركة الديمقراطية عموماً والمُعادية للاستعمار والاحتكار والامبريالية. ولذللك، تولي الأحزاب الشيوعية (بما في ذلك الحزب الشيوعي الأمريكي) اهتماماً كبيراً للعمل الايديولوجي بين الطلاب وغيرهم من مجموعات الشباب ذوي التفكير النقدي.

* يوري اليكساندروفيتش زاموشكين 1927-1993، سوسيولوجي ماركسي سوفييتي، مُختص بحقل الفلسفة الاجتماعية، وتاريخ السوسيولوجيا، ودكتور في العلوم الفلسفية. عَمِلَ في أكاديمية العلوم السوفييتية عام 1967، وصار رئيس قسم معهد علم الاجتماع الغربي الأمريكي والكندي عام 1975. كان مُختصاُ بالمسائل الفلسفية والسوسيولوجية المُتعلقة بالشخصية والفرد، والوعي الاجتماعي، وقضايا الحقوق وحرية ومسؤولية الفرد، والأخلاق. كان أول من دَرَسَ بشكلٍ واسع القضايا السوسيوسيكولوجية للفرد في الاتحاد السوفييتي. كان يدرس قضايا الرأي العام الأمريكي والهوية القومية الأمريكية. كان زوجاً للدكتورة الماركسية الشهيرة نيللي فاسيليفنا موتروشيلوفا. من أعماله الرئيسية: (أزمة الفردانية والشخصية البرجوازية) 1966، (الموقف تجاه العلم والتكنولوجيا في المُجتمع الرأسمالي الحديث) 1976، (الشخصية، في أمريكا الحديثة: تجربة تحليل الاتجاهات والقيم السياسية) 1980.

** نيللي فاسيليفنا موتروشيلوفا 1934-2021، فيلسوفة ماركسية سوفييتية مُتخصصة بالفلسفة الأوروبية الغربية الحديثة. تخرّجَت عام 1956 من كلية الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية. دافعَت عام 1963 عن اطروحتها للحصول على درجة مُرشح في العلوم الفلسفية في معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم، حول موضوع (نقد النظريات المثالية حول نشاط الذات) ودافعَت عام 1970 عن اطروحتها لدرجة دكتوراة في الفلسفة بعنوان (المعرفة والمُجتمع-من تاريخ الفلسفة في القرنين السابع عشر والثامن عشر). عَمِلَت منذ عام 1962 في معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية ورئيسةً لقسم تاريخ الفلسفة الغربية، ورئيسةً لقسم البحث التاريخي والفلسفي منذ عام 1986. كانت زوجةً للسوسيولوجي المعروف يوري زاموشكين.
كانت مُختصةً بأفكار فلاسفة مثل: كانط وهيغل ونيتشه وهوسرل وهايدغر وسولوفيوف وبيرديائيف وشيستوف. نَشَرَت عشرات المقالات العلمية المُتعلقة بتاريخ الفلسفة البرجوازية الغربية المُعاصرة ونقدها.

1- See Voprosy filosofii, 1968, No. 10. [The authors refer to an article of theirs which was translated in our Summer 1969 issue - Editor, Soviet Studies in Philosophy.]
2- سيُشار الى هذين الكتابين في المقالة بعد ذلك، برقم الصفحة
3- يكتب ريتش: "لا أشعر أن هذا الكتاب هو كتابي، بقدر ما هو كتاب المُجتمع ونتاج أفكار العديد من الناس. لقد حاولت فيه أن أتحدث بالنيابة عن مشاعر وأفكار آمال اصدقائي الطلاب في جامعة ييل" ص399
4- هذه هي نظرية ماركوز بشكلٍ خاص.
5- يكتب روزاك: "أنا أعني بالتكنوقراطية الشكل الاجتماعي الذي يصله المُجتمع الصناعي في ذروة تطوره التنظيمي"(ص5).
6- انها الصورة النمطية لميكانيزم شامل، والذي يتمظهر في أذهان "اليسار الجديد" كنوع من الليفياثان الجديد، كوحش خارق ومهول وجشع وعدواني "يلتهم" السمات الشخصية للانسان وعقله وروحه وضميره. تمتد مجسات هذا الوحش لتصل جميع مجالات حياة الانسان ونشاطه دون استثناء، ويقتل بسُمّه أكثر أركان العقل حميميةً وخصوصيةً.
7- كُرّسَ روزاك جُزءاً كبيراً من كتابه لتغيير "لُغة الثقافة" ونشر "وسائل تطبيق الحساسية الجديدة"، ومن هذه الوسائل السحر والشعوذة و"العلاقات القائمة على الشعور الديني غير المُغترب"، وما الى ذلك. ان انخراط روزاك بشكلٍ مُباشرٍ في الترويج للسحر والشعوذة، يتناقض بشكلٍ حاد مع الجزء الأعظم من الكتاب، الذي يحتوي على ادانةٍ نقديةٍ واضحةٍ للمُجتمع الأمريكي. ليس من قبيل الصُدقة أن روزاك هو مُمثل تلك الفئات "اليسارية الجديدة" الأكثر تهوراً، ضد المُجتمع الرأسمالي القائم، والتي تستخدم، في الوقت ذاته، لهجة "السحر الخيّر" الخطيرة للغاية. وعلى الرغم من أنه رى مخاطر "الاستقطاب" الديماغوجي الايديولوجي البرجوازي في أمريكا المُعاصرة، الا أنه لا يستخلص استنتاجاتٍ متينةٍ بما فيه الكفاية من الحقيقة التي يعترف بها.
8- ريتش وروزاك على وجه التحديد، مُقتنعان بأن الأقلية المُعارِضة تتلقى المساعدة من "دولة المؤسسات" نفسها، لأنة الصحافة التجارية والاذاعة الوتلفزيون والناشرين، في سعيهم المحموم وراء الاثارة وصراعهم التنافسي من أجل البيع السريع لـ"مُنتجاتهم"، تعمل بشكلٍ موضوعي على تعزيز ونشر أفكار وأمزجة الشباب المُتمرد.

ترجمة لمقالة:
Iu. A. Zamoshkin & N. V. Motroshilova (1971) The "New Left" — Ideas and Attitudes, Soviet Studies in Philosophy, 10:2, 107-134








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): 80% من مشافي غزة خارج الخدمة وتأج




.. اعتقال عشرات الطلاب المتظاهرين المطالبين بوقف حرب غزة في جام