الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فضاء السجن في رواية لا رياح ولا مطر لمحمود يعقوب

محمود يعقوب

2023 / 11 / 21
الادب والفن


مجلة كلية الكوت الجامعة للعلوم الإنسانية
عدد خاص ( 2 ـ 3 مايو / آيار 2023 )

أ. د. ضياء غني العبودي ( كلية التربية الإنسانية ، جامعة ذي قار ، العراق )

المستخلص :

يُعد السجن واحداً من الموضوعات التي تتّصل بالواقعية ، لا سيما تلك التي تستمد مقوماتها من التاريخ ، ولعل أغلب الصور التي ارتبطت بالسجن تلك الصور المتعلقة بالظلم المسلّط من قوى تمثّل السلطة ، فيكون الفرد تحت ظلم لا يمكن ردّه أو تغييره ، في بيئة يشترك فيها الفضاء السردي من مكان كان هو المسرح الرئيس لبناء أحداث الرواية ، وزمان يكسب أبعاداً أخرى غير الأبعاد الفيزيائية ،فضلاً عن العوامل النفسية التي تحيط بأبطال الرواية موضع البحث ، معتمداً على المنهج الوصفي التحليلي .
المقدمـــــــــة :
تعتمد الرواية على بطل مركزي ـ أبو فاطمة ـ الذي تلعب فيه الأقدار دوراً محورياً ، تلك الأقدار التي تعتمد على ثنائية التشاؤم والتفاؤل ، أو ما يُعرف في الجاهلية بالسانح والبارح : « لكنه لم يكد يخطو ماشياً ، حتى توقّف فجأة ، تذكّر ، في الحال ، أنه خطا بقدمه اليسار ، وهذا فأل سيء لا يوحي باليمن والبركة ، بقدر ما يوحي بالشؤم والمتاعب . فكّر أن يعود أدراجه إلى داخل الدار ، ويرجئ السفر إلى وقت آخر ، غير أنه كان قد ملّ بحق ، إرجاء هذا الموعد ، لمرّات عديدة » (1) ، ليكون خروجه منها بقدمه اليسار ، الذي عدّه نذيراً لفأل سيئ ، في استشراف لما يحدث في قادم الأحداث . حين ينتقل من البادية الفضاء الواسع الحُر إلى المدينة التي تأسره في بداية الأمر بجمالها ، ولكن سرعان ما تفضي به إلى حياة قسرية في سجن يمتد عبر التاريخ ، ليترك بصمة لا يمكن نسيانها في التسلط والقهر والاستلاب متمثلاً في سجن ( الديماس )، ذلك السجن الذي جعل من الرواية تلتصق بواقع المكان . في نص روائي أدت فيه عتبة العنوان دوراً مركزياً تبتدئ فيه الرواية على الغلاف وتنتهي به في آخر جملة ينطقها البطل ( لا رياح ولا مطر ) (2) في لوحة يبدو عليها الخواء العاطفي والحزن والفقد . حيث تبدو الأشجار عارية عن أوراقها لم يبق منها إلا الأغصان المتيبسة ، يتقاسمها لونان الأسود والرمادي ، وما يحملان من دلالات الخسارة والاكتئاب والظلام ، لا سيما اللون الرمادي خليط من الظلام والضوء ، الحزن مع الأمل ، فيمنحنا شعوراً بالتساوي ، وهو ما عاشته شخصية البطل ( أبو فاطمة ) في حالة التساوي بين الحرية والسجن .
فكانت لوحة الغلاف تمهيداً للدخول في عالم يسوده القهر والظلم والضياع من جهة والتحدي والصبر ولا مبالاة لواقع الحياة من جهة أخرى . فهو على الرغم من خروجه من السجن بعد موت الأمير إلا أنه سرعان ما يعود إلى السجن ، فقد سار بلا إدراك ليرى سجناً آخر وعند سؤاله لشخص سبق وأن حذره من شرطة واسط قال له « هذا سجن المدينة ، أنصحك بأن تسير في ذلك الشارع ، وتبتعد عنه » (3) . إلا أن التعب الذي أصابه جعله « على شفا الانهيار عيياً ، حتى إذا أمسى بمحاذاة البناء ، رمى بنفسه على جدرانه ، ليتوقى السقوط ، وقف معتمداً بظهره إلى جدار المبنى ، وكان يلهث ، ويسعل ، استطاع أن يشم رائحة ليست غريبة عليه ، لكنه لم يعد يتذكرها . عند بوابة المبنى ، وقف أحدهم يراقبه بانتباه » (4) ليكون مصيره السجن مرة أخرى ، وكأن هذه السجون مستمرة مع تغير السلطات « مضى حتى وجد نفسه في باحة واسعة ، تطلّ عليها من عدة جهات زنازين كبيرة ، اكتظّت بالسجناء ! ... كانت الزنزانة محكمة السقف والجدران ، ولها باب حديدي صلب . نظر إليها بعمق ، وخاطب نفسه قائلاً : هنا لا يمكن للسجين أن ينفذ ويحلّق خارجاً ، ففي هذا المكان لا رياح ولا مطر » (5) فلا شيء تغير سوى أن السجون أصبحت أكثر إحكاماً ، ليشير من طرف خفي إلى أن هذه السجون مثلت مكاناً لسحق الذات الإنسانية ، فضلاً عن الظلم والرعب والتسلّط ، فكانت الشخصيات في أغلبها تعاني القلق من القادم .
المكان السجن :

من المعلوم أن موضوعة السجن أخذت حيّزاً واسعاً في إطار المعالجة الأدبية ، لا سيما بعد توسّع حالات القهر والاستبداد الذي تعيشه الشعوب في ظل الأنظمة الحاكمة . وإن تباينت الاتجاهات للسلطات فالقهر يكاد يكون واحداً منذ بداية نشوء السلطات حتى يومنا هذا .من بيان طبيعة الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكومين ، وتفشّي الفساد وغياب العدالة . فلم تخرج الرواية عن المكان الواحد إلا ما ندر وهو سجن ( الديماس )* إلا في مواضيع قليلة يتطلبها الميتاسرد في النص ، فهو المكان المهيمن على النص . فجاء النص ليعبّر عن مرحلة دقيقة من التاريخ الإسلامي ، متمثلة بحكم الحجاج بن يوسف الثقفي ، وإن لم يصرّح به الكاتب ، إلا أن أحداث الرواية والمسميات لا سيما المكان تدل على تلك المدة الموغلة في الاعتقالات والتعذيب والحرمان والتحجّر في العواطف . فالتاريخ يعد واحداً من الروافد المهمة للرواية ، وقد استقى الروائيون منه مادتهم السردية التي ترتبط بالواقع الحالي الذي تعيشه الشعوب ، لا سيما أن الرواية والتاريخ يلتقيان في مشترك واضح وهو السرد ، وهذا ما اعتمد عليه الروائي ( محمود يعقوب ) في روايته ( لا رياح ولا مطر ) . من خلال طرحه لموضوعة مهمة ألا وهي السجن وعلاقته بالسلطة الحاكمة . مازجاً بين التاريخ وواقعه وبين الخيال الروائي .ولعل الإشكالية التي يطرحها البحث تقوم على ماهية العلاقة بين التاريخ والمتخيل السردي ، وكيف استطاع الروائي أن يشكّل الفضاء السجني ؟ وكيف أحيى التاريخ من خلال الرواية ؟ (( وما من شك في أن كل رواية تاريخية فيها تاريخ وفيها خيال يبدعه الروائي . ويجب أن يجتمع التاريخ والخيال معاً في الرواية التاريخية ، فلو كانت الرواية كلها أحداثاً ووقائعاً تاريخية ، لكانت تاريخاً وليست رواية تاريخية ، ولو كانت الأحداث كلها خيالية في الرواية لما صحّ تسميتها رواية تاريخية )) (6) وإذا كان التاريخ لم يقدّم صورة واضحة عن سجن الديماس فإن محمود يعقوب استغل كل معلومة تاريخية لبناء عالمه الخيالي ، مجسّداً حالة القمع لإثارة المتلقي وجعله يشعر بما يتعرّض له السجين من امتهان وسحق لكرامته منذ القدم وحتى وقتنا الحاضر ، معتمداً على الوصف في تصوير ذلك لينقل لنا هول المكان « وجد نفسه وجهاً لوجه حيال صرح عظيم ، يشمخ في صرامة وغموض ، كان هذا هو السجن الكبير ، الذي تحدّث رجال الشرطة عنه . وفي عاصفة من الذهول أخذ يتأمّل فيه ضائعاً . كان السجن مبنى هائلاً مترامي الأطراف ، شامخاً في موضع منعزل ، تحيط به أسوار شاهقة ، متينة ، تعلوها أبراج حراسة ، وعدد غفير من الرجال المسلّحين .. حينما أنزلوه عند أبواب السجن الخارجية ، كان السكون شاملاً ، يهزّ الروع ، ويغمر الأعماق بالتوتر . ما لبثوا أن دفعوا به عبر دهليز طويل ، مسقوف ، رصفت أرضه بالبلاطات البرّاقة ، وعلى جانبيه اصطفّت غرف كثيرة متجاورة . في إحدى تلك الغرف استنطقوه ثانية ً ، ثم دوّنوا اسمه وعنوان سكنه في جلد كبير . ما أفظع خشونة رجال الشرطة ، وما أقسى فظاظتهم ، تلك الفظاظة التي لم يألف مثلها يوماً من الأيام ، ومن خلال لجّتهم وجرجرتهم له علم شيئاً واحداً فقط .. شيئاً ألجم لسانه وشلّ أفكاره ، حينما أخبروه بأنه سجين ! جرّدوه من نعله القاسي ، السميك ، وفتحت له بوّابة السجن الداخلية ، في نهاية الدهليز ، وألقي به إلى الديماس )) (7) . فقد شكل المكان (( شبكة من العلاقات والروايات التي تتضامن مع بعضها لتشييد مواقع الأحداث ، وتحديد مسار الحبكة ورسم المنحى الذي يرتاده الشخوص )) (8) ، فهذا السجن لم يكن كبقية السجون المغلقة وإنما كان سجناً مفتوحاً إلى الفضاء ، وعلى الرغم من هذا الانفتاح إلا أنه شكّل عاملاً ضاغطاً على الشخصية وجعلها تواجه الطبيعة التي لم ترحمها ، بل تحوّلت إلى سلطة قاهرة أيضاً « في هذا الخلاء ليست هنالك واقيات تظلّل السجناء وتحميهم من الأنواء ، بل كانت أرض عارية ، مكشوفة للسماء تماماً ، تُرك فيها المساجين لرحمة السماء . أخبره ( الساقي ) « بأن الناس هنا إن لم يُقتلوا أو يُذبحوا فإنهم بلا شك يموتون جراء الحر ، أو البرد ، أو الجوع والمرض » (9) . والسارد في كل حين يؤكد على ثيمة الأجواء وما تفعله ليس في السجين العادي بل بهؤلاء الثّوار ليكون الشتاء وظروفه القاسية ما لا يمكن تحمّله « اصطدم الثوّار بأجواء السجن ، وظروفه القاهرة ، لم يتوقع أحد أن يجد السجن عراء ، كالبريّة تماماً ، وحينما جلسوا في مضاجعهم ، ونظروا إلى أسوار السجن وأبراجه العالية ، أخذتهم رعشة البرد ، وفقدوا آخر أمل لهم بالنجاة . سريعاً مرّت أيام الخريف ، هكذا تمر عادة ، وجدوا أنفسهم في شتاء قاس . بدأت السماء فيه تتلبّد بالغيوم مبكّراً ، وتكفهر ، فيما الرياح الصردة كانت تنفخ في رحاب السجن »(10) . ومثل هذا المكان يتساوى فيه كل من يدخله فلا فرق بين ثائر وبين لص ، كلهم يخضعون لتلك الظروف التي تمارس التعذيب إلى جانب رجال الشرطة ومن ثم لا فرار منه ، بل الأحكام متشابه ، إذ يُلقى السجين في ( الديماس ) ثم يُنسى من دون محاكمة ، فيكون مصيره الإهمال إلى أن يموت ، في إشارة لغياب العدل في الأحكام « لا يلوح في أفق الخلاص أي فتيل أمل ، العجيب في هذا السجن المترامي الأطراف ، والمتخم بآلاف البشر أن الجميع متساوون في القصاص ! .. الشحّاذون يتماثلون مع المجرمين ، والمفكّرون الثائرون يتساوون مع اللصوص وقطّاع الطرق ، ومسالمون من أتباع مذهب ما يتشابهون مع القتلة .. لا فرق في أحكام السجن وسننه » (11) . لذا عدّ الخلاص منه أشبه بالمعجزة ، ارتبطت بموت الحاكم ، ومجيء حاكم آخر ربما لا يختلف عن غيره ، بعد وفاة الأمير « اليوم فقط سقطت أسطورة ( الديماس ) ... أخبرهم فيه أن ( أمير المؤمنين ) أصدر أمره بإطلاق سراح جميع نزلاء ( الديماس ) ، وإن السجن سوف يهدم فور خلوه منهم . قاطعه صوت ، انفجر من بين جمع السجناء مفرقعاً : « لا أصدّق ذلك يا رب الكائنات »(12) فهو يصوّر الظلم والتعسّف من السلطات الحاكمة تاريخياً ، ولكنها في حقيقتها سلطات تمتد عبر التاريخ .
الأبواب :
شكّلت الأبواب أيقونة واضحة في السجن ، فإذا تحرّكت الأبواب والأقفال مدّت إليها الأعناق والأبصار « حينما شُرّعت بوّابة السجن هبّ واقفاً في غاية التوتّر ، وكل قطرة من دمه تجمّدت من هول الترقّب ، واصطخب قلبه بالوجيب ، ولكنه لم يرَ سوى رجلاً مُدمى من كل جزء في جسده ، رُمي به إلى السجن كما تُرمى القمامة ، نظر ( هلال الدارمي ) صوبه نظرة مفرطة الخيبة ، وقال ، كما لو كان يخاطبه ، في حمق ، وسذاجة ، وأنانية : " لا بارك الله فيك ، جعلتني أضطرب " . وحالما أوصد باب السجن دون ذلك السجين ، خرّ ( هلال ) في موضعه مثل من تفارقه الحياة »(13) . ولعل هذه المساحة التي شغلتها الأبواب ، في الحديث توحي بالحيرة والقلق ، إذ أن الأبواب تحمل مع فتحها أيقونة ذات بعدين ، الأول خلق المعجزة وتحوّل اليأس المميت إلى حياة جديدة عند الخروج منه ، والآخر ما تحمله من القلق والخوف والعذاب عند دخول السجّان ، وما يثيره في نفوس السجناء ، فكان الباب المرتكز الأساسي في حديث السجن ، فهو البداية / والنهاية ، الحياة / والموت ، ولعل إخفاء صفات المنعة والحجم الكبير على هذه الأبواب يعكس حالة اليأس القاتل في الخروج منه .(14 ) « لا تنفتح بوّابة السجن الداخلية عند المساء إلّا لأجل الموت . حينما تشرّع البوّابة بمصراعيها ، يندلق وهج الأضواء الباهرة التي تملأ دهليز السجن ، ويأخذ بالانتشار في مقدم باحة السجن ، ، على شكل سديم سحري مشع ، أبيض مصفر ، يقبض الأنفس ، ويغلّف مشاعر السجناء وأحاسيسهم بأكفان لا يطاق بياضها . كان تشريع بوّابة السجن ليلاً ، أقرب الشبه إلى فتح باب قفص طيور أليفة ، ومداهمتها من قبل هرّ متوحش ، جائع ، يمتشق براثنه ، ويغمدها في أجساد رخصة ، ولا يخرج من القفص إلّا وهو يحمل طيراً ، أو طيرين ، أو حتّى ثلاثة طيور !»(15) . فشكّلت بوّابة السجن في ( الديماس ) الموت المحتّم من خلال الصورة الوصفية مستخدماً مجموعة من الأوصاف والألوان من السديم الذي يتشّكل من الرطوبة والغبار والدخان والبخار ليشّكل غيمة شديدة الحرارة (16) ، ثم يأتي اللون الأصفر وما يحمل من دلالات الحزن والهم والذبول والموت والفناء (17) .لتكون تلك الألوان بمنزلة الأكفان ، ثم يأتي بصورة وصفية سردية متحرّكة تثير مشاعر الوحشة والنفور والشعور بالتعاطف مع السجناء ، ليشبه السجن بقفص لطيور أليفة والسجّان هر متوحش ينشب مخالبه في أجساد ليّنة ويسوقهم إلى الموت من دون رحمة أو شفقة . فهذه الأبواب تجلب معها الموت حين تفتح ، وتؤكد ثنائية الصوت والصمت الحركة والسكون ، فما أن يسمع صرير تلك الأبواب حتى تصمت الأفواه عن النطق وتتطلّع الأبصار إلى المصير المحتوم ، « انفرجت البوّابة عند الضحى ، ليدخل شرطيان وقد شهرا سيفيهما . شرّعا مصراعي البوّابة على وسعها ، ثم وقفا متأهبين على جانبي البوّابة ، واحد منهما انتصب على اليمين ، والآخر إلى الشمال ، وكانا يحدّقان في كل شيء من حولهما في منتهى اليقظة والصرامة . على إثر ذلك خبت أصوات اللغط ، الداوية في أركان السجن ، ثم انطفأت تماماً . كانت هذه المراسيم تنذر بالخطر عادة . شخصت جميع عيون السجناء صوبهما » (18) فهو يؤكد على الصورة الوصفية المتحركة لتشكيل المكان الذي تدور فيه الأحداث .
أسباب السجن :

ولعل معظم أحداث الرواية تدور حول الأسباب التي أدت بهؤلاء إلى السجن، وما يحمله من قهر وتعسف ، فضلاً عن تصوير الأحداث الأخرى التي تحدث بين مجاميع السجناء ، أو كما يسميها الأركان ، إذ كان لكل مجموعة منسجمة في توجهاتها ركن خاص بها ، فيصوّر الحياة اليومية فيها ، « أنظر يا أخ ، هذا الركن المقابل لنا هو ركن الزنادقة ، وذلك ركن البغال ، وإلى جواره ركن الحكماء ، ثم أشار إلى ركن قصي ، عظيم ، كانت تشغله جموع غفيرة من النساء ، وقال له : ذلك هو خدر الحريم . وهكذا عدّد له ( الساقي ) جميع المسميات ، ودلّه على ما يتوجّب عليه حفظه ومعرفته في السجن . وعندما انتهى ( الساقي ) من حديثه التفت إليه ( هلال ) وسأله : وركننا هذا ، ما اسمه ؟ ، إنه ركن الشحّاذين » (19) وعلى الرغم من الإذلال في السجن فقد تحوّل في كثير من الأحيان إلى مكان للتعارف بين السجناء والتسامر لتخفيف وطأة الانغلاق وبطء الزمن .
تتضح صدمة بطل الرواية باعتقاده بأن ما قام به من عمل يسير ولا يشكّل جرماً حقيقيّاً ، فكانت الأيام الأولى له في السجن يحدوها الأمل بالخروج . ولكن سرعان ما يتبدّد الأمل ليتحوّل إلى خوف من المجهول وترقّب القادم « عرض الشرطي مخالفة البدوي مباشرة . كانت مخالفة صريحة لأوامر وتعاليم حكومة واسط . تلك الأوامر التي نصّت فيما نصّت عليه أن يودع السجن كل من يتجرّأ على التبوّل في الأماكن العامة . وكانت تلك الأوامر جزءاً من جملة قوانين يقصد منها الحفاظ على نظافة وجمال المدينة . التي أفرط الأمير في تزيينها ، وتوشيحها بأبهى الحلل »(20) لا سيما بعد انقطاع الآمال بالحصول على الحرية ، فيكون التحوّل الشديد من الحرية إلى التقييد ، ومن ثم فقدان التوازن ، بفقدان الهوية المتمثلة بفقدان الاسم . فالسجن يفرض اشتراطات منها فقدان الاسم بالقوة التي تفرضها الجماعة ، كما في اللقب الذي أطلق على ( أبو فاطمة ) ( المتغوّط ) مما شكّل لديه ألماً نفسيّاً وضغطاً جعله يشعر بالانهزام « سوّد الله وجهك ، تخرأ في حدائق الأمير وتقول لا شيء غير ذلك ؟ .. منذ تلك اللحظة خلعوا عليه لقب ( المتغوّط ) ، مثلما يخلعون عليه ثوباً مبرقشاً ، ومثلما يمضي السيل جارفاً كل شيء ، مضى اللقب إلى كل رجل و امرأة في أركان السجن . فبلغ السيل جدران السجن ليلطمها ويعود منطلقاً ، عبر البوّابة ، إلى حرس الشرطة أنفسهم ، الذين تلقّفوا حلاوة هذا اللقب سريعاً وراحوا يتفكهون به »(21) ويتضح لنا أن الأسباب التي قادت السجناء إلى السجن لا تكاد تختلف كثيراً عن هذه الحادثة ، فهي تتراوح بين عدم النهوض من المجلس حين رؤية الأمير ، على الرغم من أن تلك الشخصية التي لم تنهض من الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية « اقتادوا صاحبه ( أشجع بن ذكوان ) إلى خارج السجن ، وحملوه بقيوده وسعاله إلى رئيس السجن . كان الرجل الذي اقتادوه ، شخصية مرموقة ، ومعروفة ، من شخصيات مدينة ( واسط ) ، ومن مياسيرها ، وينتمي إلى عائلة عريقة النسب ، وكان على درجة من الأنفة والكبرياء . يُقال أنه أودع السجن ، حينما تعمّد عدم النهوض من مجلسه ، عندما أقبل الأمير ذات مرّة على زيارة مجلس لأعيان واسط »(22) وبين السيطرة على أملاك الغير من دون وجه حق للتعبير عن فساد رجال الشرطة « هناك أمر أعظم آخر ، كيف تجرأ على دفع فدية لأولئك المجرمين ، وقد نهينا عنها عشرات المرّات ؟ ، أهي مكافأة ، أم تزيين وحض لهم على الإيغال في السرقة ؟.. أنت مقبوض عليك يا رجل . اقتادوا الرجل مكتّفاً ورموه عنوة في الديماس ، ومن يومها ذاك اعتلى ( صاحب الشرطة ) ظهر الفرس الطموح ، وصار فرسه »( 23) بل وصل الحال أن تكون تلك السجون جماعية ، إذ تؤسر جماعات من الأشخاص بتهمة الثورة على الأمير ، وتُلقى في سجن الديماس من دون محاكمة « في الأيام الأخيرة من موسم الخريف ، حُشرت في السجن جماعات أخرى ، غفيرة من الناس ، قيل أنهم ثوّار ( البصرة ) ، من أبنائها ونواحيها ، ممن رفعوا راية العصيان ضد إمارة ( واسط ) ، وأعلنوا الثورة عليه . كانت ثورتهم قد اندلعت بقوة كاسحة ، اضطرت السلطات إلى نهج سياسات تميّزت بالشدة ، والمناورة ، وأسلوب الإبادة من أجل قمع تلك الثورة ، وآلت الأمور إلى أسر عدد لا يحصى من الثائرين ، وسيقوا إلى الديماس في معقل مدينة ( واسط ) »(24) ولا فرق في ذلك بين الرجال والنساء والأطفال ، فالجميع يشترك في المكان والحكم في إشارة إلى غياب العدل والتجرّد من الإنسانية « وفي إثرهم شقّ موكب مؤثر ،عظيم ، من النساء والأطفال ، باحة السجن ، وسيقوا مباشرة إلى ( ركن الحريم ) .. وكان هؤلاء هم عوائل الثائرين ، الذين قُبض عليهم ، ليزجوا في السجن أيضاً »(25) فهذه العقوبات تتسم بالجماعية وتصل إلى تدمير الممتلكات ، ولا تكاد هذه الصور تختلف كثيراً عن ما عانته شعوب الأنظمة العربية لا سيّما العراق في ظل الأنظمة الشمولية «قالوا أنهم ابتلوا برجال العساكر ، الذين اتهموهم بالوقوف إلى صفّ الثوّار المنتفضين في مدينة ( البصرة ) ، وقد اجتاح العسكر جميع قراهم ، القريبة من المدينة .. اجتاحوا القرى بما يشبه الغزو تماماً ، نهبوها ، ثم أحرقوها ، قبل أن يسوقوا رجالها ونساءها مأسورين إلى واسط »(26) بل وصل السجن حتّى إلى من يسبّ الأمير (27) ومن يمارس التسوّل (28) وكلمة الحق على منابر الصلاة « خطبة خطبت بها ، وهاجمت العتوّ والاستكبار ، والظلم ، جرى تأويلها بأنها قيلت في ذم أمير ( واسط ) ، فلم ألبث بعدها أكثر من يوم واحد ، لتجئ الشرطة بي إلى هنا »(29) . ليتدخل الراوي العليم ويقرّر حقيقة مفادها « إن جميع التهم التي أوقعتهم في حبائل الديماس كانت تهماً في منتهى التفاهة والسخف .. صغيرة ، كان يمكن تفاديها بصورة أو أخرى »(30) ولعل كثير ممن سجن في زمن الحجاج وذكرته كتب التاريخ كان بريئاً (31) . وممّا يؤكد أن السجن شمل طفلاً نتيجة فحشه في القول لرجل شرطة حاول أن يأخذ عنوة تحفة من متجر والده « إنها تحفة نفيسة حقّاً ، وتستحق هذا الثمن الباهظ ، ولكنك ستبيعها إللى عمّك بنصف هذا الثمن ، أليس كذلك ؟ »(32) هذا الطفل الذي أصبح مح اهتمام البطل ورعايته « لم يتهاون ( أبو فاطمة ) في أمره كان بمثابة أبيه ، ولم يألُ جهداً لإسعاده ، وإدخال السرور إلى قلبه ويمحضه خالص عنايته . منع عنه الأذى تماماً ، وانهال عليه بالنصح والتهذيب ، وحفظه اشفاقاً عليه من الخطأ ، والزلل . حتّى بات الغلام يتصرّف بلباقة وإحكام ، كانت رفقته مع ( أبو فاطمة ) قد غيّرت مسار قدره ، أو هذا ما أحسّ به على الأقل ، بعد مدّة قصيرة على لقائهما »(33) .
إن العناية بالطفل والتضحية من أجل ذلك من قبل ( الرعاة ) لا سيّما منع الحراس التعرّض له وحمايته ، جعل من الطفل فيما بعد يتحوّل إلى رمز المقاومة . ولعل ما يؤكد ذلك هو حالة الشعور بالاندفاع من قبل الطفل والتضحية بالنفس من أجل الآخر ، حين وقف حائلاً دون قتل ( أبو فاطمة ) وضحّى بنفسه من أجله .
فالنص الروائي يعمل على نقل صورة من صور المجتمع في فترة عصف العنف فيها من خلال نقل أزمة الشخصيات ووقوعها ضحية الشبهات . عن طريق استرجاع الماضي وحفريات التاريخ من أجل إعادة تصوير مأساة مجتمع عاش في عالمين متناقضين . عالم السلطة المتنعم بملذاتها وعالم الطبقات الشعبية المسحوقة التي تعاني القهر والمعاناة . و « تقوم لغة الرواية في تكريس الواقعية وتعميقها لأنها أكثر مرجعية ( أي مطابقة للتجربة الإنسانية ) من لغة سائر الأنواع الأدبية ، من حيث أن تلك اللغة لا تغرق في التأنق الأسلوبي الذي يفقدها موثوقيتها »(34) .
حرّاس السجن :
تعيش الشخصية في السجن تحت الرقابة من قبل الحرّاس عند مراقبة السجن . أولئك الحرّاس الذين يعيشون في السجن « في صباح اليوم الثالث ، صرّ باب السجن ، وهو يفتح بروية وحذر ، ليطلّ منه حارس كبير السن ، أعزل من السلاح ، وكان هذا أحد أولئك اللذين يطلق السجناء عليهم اسم ( الجحوش ) ، وفي واقع الأمر ، كان السجناء يجدون في هؤلاء أشبه بالسجناء أيضاً ، لا يختلفون عنهم كثيراً ، لأنهم يمضون أغلب حياتهم يعملون بين جدران السجن ، في سكينة ، من غير أن يعبأ بهم أحد »(35) ويكون السجين تحت سطوتهم ، فالسجّان يجد المتعة من خلال إذلال السجناء ، وهو من ناحية أخرى يحاول أن يحقّق ذاته ووجوده في دولة تنظر إليه نظرة دونية ، وهم « لا يفقهون شيئاً ، وليست لهم قلوب »(36) .ما يزيد من الخناق على السجناء ، وفضلاً على ذلك هنالك الرقابة غير المعروفة وهي أشد تأثيراً من الرقابة المعروفة ، متمثل برفاق السجن لمعرفة تحركات السجناء ، ومن ثم يتحوّل بعض السجناء إلى عيون للسلطة : « وفي إثر ذلك سارع أحد خصومه إلى الوشاية به عند رجل عنيف الطباع من رجال الشرطة ، الذي كان برتبة عريف ، وكان شرطياً قاسياً ، متحجّر القلب ، ادعى الخصم أن ( الساقي ) طالما يروي أشعاراً بين السجناء في هجاء وذم الأمير .. هجاء فاحش إلى حدّ التجريح ، والقذف ، وكان هذا صحيحاً ، ويعلم به العديد من السجناء . حينما طرق هذا الخبر سمع العريف ، هلّل وكبّر له ، وسارع ليصبّه في أسماع مسؤول السجن ، الذي انتفخت أوداجه حنقاً ، لمثل هذه الخطيئة التي لا تغتفر ، فأوعز في الحال استدعاء ثلاثة من الشحّاذين ، القريبين إلى ( الساقي ) ، وجلدهم جلداً عظيماً بالسياط ، ثم عرض عليهم خبر صاحبهم ، فأيدوا الأقوال بحقّه ، وهكذا اقتادوا ( الساقي ) مكبّلاً بالقيود ، وقتلوه على الفور »(37) . لم يكن حرّاس السجن وعيونهم إلا تمثيلاً للسلطة ، وممارسة التعذيب الجسدي والنفسي من أجل الحصول على الاعترافات .
ونلحظ في الرواية ذكر لاسم السجّان ولقبه وكذلك ذكراً لأوصافه « كان هذا الرجل ، الذي زارهم برفقة شرطته ، أشهر من علم في ( الديماس ) ، ويشغل منصب معاون آمر السجن ، وكان آمر السجن الحقيقي هو ( صاحب الشرطة ) ذاته ، فهذا السجن هو أكبر وأخطر سجون الإمارة ، وأبرز دعائم سياستها ، ومن كان يعمل فيه كانوا أفضل رجالات الشرطة ، وأكثرهم عتوّاً . ولكن مشاغل ( صاحب الشرطة ) الجسيمة لم تكن تسمح له بالتفرّغ لإدارته مباشرة ، فكان يعهد بشؤونه إلى معاونه هذا في السجن ، الذي كانت جميع الأوامر والتوجيهات ، في واقع الأمر ، تخرج من أصابعه المزيّنة بأحلى الخواتم الثمينة . دأب رجاله يهابونه ، ويتسابقون لتنفيذ أوامره . كان هذا الرجل مشرقاً على الدوام . أمرداً جميل الطلعة ، كالشيطان ، وصاحب جسد رشيق ناعم ، يتبختر بملابس الأمراء . وعلى الرغم من تميّزه ، إلا أن السجناء كانوا يجهلون اسمه الحقيقي . عرفوه جميعاً باسم واحد لا غير هو ( الضبع ) ، ذلك الحيوان الدنيء الطباع »(38) . إن « الجلاد المتخصّص بالتعذيب الجسدي هو في الواقع نكرة أمام رؤسائه وزعيمه ، إنه مجرّد أداة في نظرهم تفقد قيمتها ومكانتها حين تصبح غير فعّالة . وهو ما يصعّد من ساديته كي يحتفظ بمكانته كأداة فعّالة لخدمة أسياده »(39) فهم يراقبون السجين خوفاً من التمرّد ، ويؤمنون بأن هؤلاء السجناء هم ضد السلطة ، وهم في حقيقتهم لا يختلفون عن السجناء فهم منبوذون أيضاً وسجناء بلا جدران « إن أكثر ما يؤذي الشرطة ويزدريهم هو وصفهم بالغرباء ، ذلك لأن جلّ شرطة ( واسط ) كانوا غرباء عنها في واقع الأمر ، إذ سبق أن جاء بهم الأمير من ولايات بعيدة ، ليتيسّر له قمع أهل البلاد بواسطتهم ، وكان من البديهي أن يتزاوج هؤلاء الغرباء مع بعض من أهل البلاد ، كتزاوج الخيول مع الحمير ، فتمخّض ذلك التزاوج عن البغال ؛ على حدّ وصف نزلاء السجن ، وقد أحرنت بعض تلك البغال ، فأودعت السجن ، وبالنتيجة صار لهم ركن لا يُستهان به في السجن ، هو ( ركن البغال ) ، وكان أولئك البغال يُكرهون أنفسهم على معاملة نزلاء السجن معاملة حسنة ، ويتظاهرون بالمودة والوئام معهم ، في سعي لدفع أي شبهة عنهم ، ولكن مّما يلاحظ أن الشرطة والحرّاس لم يقسوا عليهم في أي يوم من الأيام ، بل كانوا يتحاشونهم ، ويغضّون عنهم الأنظار في الواقع »(40) لذا فالسجّان ممثل السلطة ، تكون سيطرته مرعبة على السجناء ، لأنه مصدر التضييق ، والتعذيب ، والإهانة . ويعوّضون الشعور بالدونية ، فهم يفتقدون إلى أهم ما يعتز به العربي النسب الصريح ، ثم أن بعدهم عن الطابع العربي يجعلهم يتنصّلون عن أهم سمات العربي من الشجاعة والمروءة ، لذا جاء وصفهم بالحمير ووصف المرأة العربية المتزوجة منهم بالخيول ، وقطعاً تكون النتيجة خلق هجين ما يعرف بالبغال ، يتسمون بالقوة والصبر ، وبما أنهم من البغال فيكونون غير قادرين على الإنجاب في إشارة إلى عقمهم ونهايتهم وعدم قدرتهم على الاستمرار في هذا الطريق ، لذا ما أن يخرجون عن طريق السلطة يكون مصيرهم السجن أيضاً .
التعذيب :
ويقسم في النص الروائي إلى قسمين :
1ـ التعذيب الجسدي :
شكّل التعذيب الجسدي ملمحاً واضحاً في الرواية ، وهو ما يلحق الجسد من ضرب وجلد وطعن بالأسلحة تصل حتّى الموت ، وكذلك الصلب .فقد شكّل الفقد عنصراً أساسياً في أحداث الرواية ، ففي كل فصل من فصول الرواية نلحظ الموت يخطف سجيناً نتيجة التعذيب أو القتل أو لمقاومة الحرّاس ، هذه المشاهد تدفع المتلقي ليشعر بالتعاطف والأسى للصور المؤلمة التي تضجّ فيها الرواية . « وصادف في هذه النوبة أن حدث احتكاك بين رجل عصبي المزاج ، معروف بينهم ، يُدعى ( رشاء بن سليم ) ، وبين رجل من الحرس ، فسارع الحرّاس ليلهبوا جسده بسياطهم ، وشجّ آخر خاصرته بسن رمحه ، فحُمل الرجل إلى موضعه ، وقد اهترأ ثوبه بأكمله ، وغطّت بدنه الدماء ، وعلى وجه العموم ، لم يعد ثوبه يصلح لستر جسده »(41) وكثيراً ما يتم التعذيب منذ اللحظات الأولى للسجين وقبل دخوله سجن الديماس « اقتحم لفيف من الشرطة المكان ، وهم يقودون ثلاثة رجال موثقين بالحبال . وبينما هم يمرّون عبر الدهليز أخذت سياط الشرطة تلهب أجساد أولئك الرجال بضراوة ، وشراسة لا يرفقان ، ولا يرحمان . كان صوت لسع السياط ، وهي تهوى على أجسادهم يشبه صوت سجادة يُنفض عنها الغبار بعنف ، فقد كان التراب يتطاير عن أجسادهم مع كل ضربة . كان هؤلاء الرجال يحتجّون بأصوات ممزّقة ، ومبحوحة . كان العرق الناضح من أجسادهم قد خالط الدماء ، ولوّث ملابسهم »(42) .
ويقدّم السارد صوراً وصفية مرعبة لمن يدخل غرفة ( صاحب العذاب ) التي يتم فيها ممارسة التعذيب . في تصريح صريح إلى مصير من يُساق إليها يكون الموت « عند المساء ، ذهبوا به إلى غرفة ( صاحب العذاب ) ، وجيء به مثخناً بالجراح والكدمات ؛ متأرجحاً بين الموت والحياة . كان قد عُذّب بطريقة تبدو وكأن الكلاب قد نهشته . كانت الجراح ، والكدمات ، والرضوض التي ملأت جسده ، تستدعي البكاء لأجله بدموع ساخنة . كان الرجل يتلوّى محتضراً ، وفي كل حين كان ( أبو فاطمة ) يهرع إليه ، ويقول له محذّراً : " ابق نائماً ، لا تتحرّك " في تلك الليلة سهر ( أبو فاطمة ) على رعايته . ولكن الرجل أدركه الموت قبيل الفجر ، وأسلم روحه بين أيدي الرعاة »(43) .
فالجسد في النصوص تعرّض للتعذيب وتحوّل إلى جسد منهك لا يقوى على الحركة ، فالتعذيب استخدم عبر مختلف العصور لقهر الجسد ، إلى حدّ العجز (44) . والتعذيب يصل إلى التصفية الجسدية حين استطاع السجناء ( الرعاة ) قتل أبرز قادة الحرّس المعروف بـ ( الضبع ) « ولكن قبل أذان الظهر ، دخلت مجموعة من رجال الشرطة ، واعتلت منصة الصلب ، وراحت تنشغل في تجهيزها ، وإبان ذلك دخلت مجموعة أخرى من الشرطة ، يحملون أشلاء جثث ممزّقة ، باشروا في تثبيتها على كلاليب الصلب ، ثم جرياً على العادة ، اعتلى المنصة شرطي هرم ، يحمل رقعة في يده ، وقف وجهاً لوجه مع السجناء ، وأخذ يثير انتباههم ببعض الكلام .شرع يقرأ بصوت مرتفع أسباب قتل فئة مستهترة ، ضالّة ، وطائشة من الرعاة ، من غير أن يأتي على ذكر موضوع ( الضبع ) »(45) . إن البطش الذي تعرّض له السجناء لا سيما ركن الرعاة الذي يقوده ( أبو فاطمة ) جعله يشعر بالإحباط ، لأن فقدانه لرفاقه في ركنه يدفعه إلى الانكسار والضعف الذي شكّل مرحلة من حياته في السجن .« حين قاد الشرطة هؤلاء الرجال الثلاث ، وقف رفاقهم يشيعونهم بنظرات مغرقة بالريبة والوجوم .. غاب الرجال الثلاثة خلف أبواب السجن ذلك اليوم بأكمله ، ولكنهم ظهروا في اليوم التالي ، جثثاً ممزّقة الأوصال ، جاء بهم الحرّاس لأجل تثبيتهم على أعواد الصلب ، أمام أعين السجناء جميعاً . أخذ هؤلاء الرجال غيلة ، ونُكّل بهم شرّ تنكيل ! كانت تلك نكبة أخرى للرعاة ! في الغسق ، لاح العمل أشبه بالعرض المسرحي ، الذي لم تألفه العرب في ذلك الأوان . أضيئت الفوانيس باكراً . وبدأ رجال الشرطة يحملون الجثث ، ويلقون بها على منصة الصلب »(46) . إن فقد الأصدقاء في السجن بسبب المرض أو الموت أو التعذيب يأتي بمزيد من الحزن في السجن ، لأن هؤلاء كانوا بمنزلة التسلية بما يحملون من حكايات تسير بالزمن سريعاً .
2 ـ التعذيب النفسي :
وهو ما يتصل بإهمال السجين وعدم محاكمته ، وتركه ينتظر النهاية من دون أمل ، وانقطاع الاتصال بالأهل ، فضلاً عن عدم وجود مكان للنوم ، أو قضاء الحاجة أمام الآخرين من أجل جعل السجين محط سخرية ، والحرمان من اللبس والعلاج والنظافة والشتم ، لكن أكثر ما ركّز عليه السارد هو الأنواء الجوية التي وقفت إلى جانب السلطات لتشكّل تحدياً كبيراً أمام السجناء ، فهم في سجن بلا سقف يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء ، وتقف الرياح في مقدمة تلك الأنواء « ذات ليلة نديّة ، نزلت فيها رياح أليمة ، لا تحتمل برودتها ، لم يغمض فيها للثوّار عين ولا جفن . جلسوا ملتزين إلى الجدران ، تهتزّ أجسادهم مثل خرق تزفّ فيها الريح ، وهم نهب للإرهاق والنعاس ، الذي لا يقاوم ، وقد اعدموا كل حيلة » (47) .ويقف إلى جانبها المطر الذي لا يمكن مقاومته « كان المطر بارداً ، ينزل رذاذاً ناعماً من سماء مكفهرّة . ثمة برق يخطف الأبصار ، ويترك سراب ضوئه على جدران السجن . تختفي رقاب السجناء في طيّات ياقات ثيابهم البالية . وينسحبون لائذين بالجدران العارية ، ويتجمهرون متكدّسين جوار بعضهم البعض » (48) . وكذلك السرد الشديد « مع اشتداد البرد ، اعتاد السجناء أن يفيقوا من نومهم صباحاً ليعثروا على بعض جثث زملائهم ، وقد تيبّست جراء حدّة البرد أثناء الليل » (49) . ومثل الصور الوصفية تكرّرت كثيراً من وصف الرياح والبرد والمطر (50) بل هم لا يجدون فرقاً بين الشتاء والصيف ففي الشتاء تكون الرياح الباردة والأمطار وفي الصيف تكون الشمس الحارقة « في الواقع لم يكن الصيف أو الشتاء يرحمان أحداً في سجن الديماس ، فإذا اشتكى سجين من الصيف يسارع آخر ليردّ عليه قائلاً : كن صبوراً ، بعد الحر سيأتيك شتاء قاتل » (51) .
ومن وسائل التعذيب الأخرى ، هو عدم وجود المياه الصالحة للشرب أو الطعام المناسب فقد « كانت حشود السجناء الكئيبة برمة بعيشها ، كانوا يعانون جميعاً من ملوحة المياه ، ومن تلويث زادهم بالرماد . لم يكن لهم شيء ينامون عليه ، ولا أغطية تقي أجسادهم من البرد والرياح ، تُركوا لعبث الأقدار ورحمتها » (52) بل وصل الحال بهم لمضغ نوى التمر لسدّ رمق الجوع « خذ تناول هذا النوى ، امضغه أولاً ، ثم امتص ماهيته ، قبل أن تبتلعه » . كان ضيفه يندهش ، وهو يحدّق بالنوى ، ما فائدة كل هذا النوى يا ( أبو فاطمة ) ؟ .. أكل النوى ، ينفخ البطن ، وهو يملأ النفس ، ويمنع من التشهّي ، هيا جرّب هذا الشيء لتبعد عنك شبح الجوع » (53) . إن التعذيب من قبل السلطة بهذه القسوة يشير إلى رغبة السلطة في النيل من السجناء الذين تعدهم خصومها ، ومحاولة كسر شوكتهم ، والجوع كما نلاحظ واحداً من وسائلها ، ويكون الرد بإيجاد الحلول التي يوفرها البطل في مقاومة السلطة بأيسر الأشياء . فما تلقيه السلطة ( الحرّاس )من نوى التمر الذي لا قيمة له يتحوّل إلى طعام يحمي السجناء من الجوع . فشخصية البطل ( أبو فاطمة ) تنتقل من الضعف والاستسلام في بداية رحلته في السجن إلى شخصية ذات قيادة تحاول أن تحافظ على إنسانية الإنسان ، ومن ثم الوصول إلى كسر تسلّط الدولة التي تحاول أن تصوّر أن أسطورة الديماس لا يمكن أن تهزم .
ولقد مثّلت الملابس البالية للسجناء علامة على الذل الذي يتعرّض له السجين ، فهي خرق بالية لا تستر شيئاً ، وإن كانت جديدة ، فإنها تتحوّل بسبب الأنواء الجوية حر الصيف وأمطار الشتاء إلى خيوط لا تكاد تستر شيئاً . ويقف إلى جانب الملبس الطعام الذي يكون عبارة عن خبز مداف بالرماد ، مّما يترك أثراً سلبياً على السجناء . « كان هنالك الكثير من المرضى ، الذين يفطر أنينهم القلوب ، وهم يصارعون الموت . اسودّت وجوه الكثير من الرجال وكلحت ألوانهم .. لا وجود للألوان الزاهية في باحة السجن ، كل شيء فيه ترابي ومغبر ، سجن صمّم لاجتذاب هواة الموت وحسب . كانت تستر أجسادهم خرق بالية ، رثّة ، ومتخشّبة ، تسمع لها قرقعة أثناء قيامهم أو قعودهم »(54) . فضلاً عن الألفاظ النابية التي تستخدم من رجالات السجن ـ السلطة ـ وهي ألفاظ تتصف بالذلة والإهانة ، كما في نعت ( أبو فاطمة ) « أيها البدوي الأجرب »(55) أو وصفه بـ ( المتغوّط )من قبل الشرطي وانتشار هذا اللقب الذي سبّب له ألماً و « شعر بوحشته ، ووحدته ، وهويفتقد اسمه » (56) فالسلطة تعمل على إضعاف روح التحدي عند السجين من خلال استخدام هذه الألفاظ لتحطيمه أمام بقية السجناء ، ليكون رد الفعل التزام الصمت وفقدان القوة والشعور بالضعف .
الزمــــــــــــــــــــــن :
لكل سرد زمنه الخاص به ، لأن الزمن بمثابة المركز الذي تدور حوله و فيه بنية السرد ككل . ورغم هذه المركزية إلّا أن الزمن السردي ليس شكلاً ثابتاً ، بل يختلف باختلاف طبيعة السرد ذاته ، فالسرد الذي يتحدث عن الواقع يختلف عن السرد الخيالي ، ومن غير الممكن أن يكون ثمة سرد بلا بنية زمنية ، لأن الزمن هو إطار كوني شامل ، ويمثل الحيّز الذي تجري فيه الأفعال والأحداث . ومن ثم فإن معظم الزمن في رواية ( لا رياح ولا مطر ) ينتمي إلى ما يعرف بالزمن النفسي لا سيما « في السجن فقط ، يدرك المرء أن الزمن ليس مجرّد ثوانٍ ودقائق ، وساعات ، كلا ، في الحقيقة إنه حجارة صغيرة ، وأخرى متوسطة الحجم ، وصخور كبيرة صمّاء ، ليس بوسع الإنسان دحرجتها أمامه » (57) فالزمن يكسب بعداً يختلف عن الواقع فيكون ثقيلاً بطيئاً « سنوات السجن طويلة جداً ، تلوح مثل سلاسل جبال وعرة ترزح على صدر العمر ، لم تكن السنة مجرد أربعة فصول يمكن أن تمرّ وتنقضي بالتعاقب ، بل كانت مواسم تنقلب فيها الدنيا ، وتنطبق السماء على الأرض ، وتقوم القيامة كل يوم ، أو ليس هو الديماس ! كان الرعاة يقطعون تلك الأيام في ذروة المرارة والشقاء ، ولم ينفع صبرهم العظيم في مداواة آلامهم المبرحة » (58) ليترك في نفوسهم وأجسادهم ، فعبد الملك مرتاض يصف الفضاء السردي أو ما يسميه بالحيّز بأنه عالم دون حدود وبحر دون سواحل وليل دون صباح ونهار دون مساء ، إنه امتداد مستمر مفتوح على جميع المتجهات وفي كل الآفاق ، وبتعدّد الفضاءات التي يرسمها الراوي فهو يحكي لنا مع كل من الفضاءات قصته الخاصة باعتماده مختلف المفارقات الزمانية (59) « بعد تلاحق المواسم والفصول ، من سنة لأخرى ، أضحت وجوههم المسفوعة بوهج الشموس ، ولسعات البرد القارس ، عابسة وكئيبة . كانت في الواقع أقرب إلى وجوه الحيوانات البرّية الشعثاء ، بينما افترس الشيب كبيرهم وصغيرهم على حدّ السواء » (60) .
وفي محاولة لكسر الزمن ورتابته يلجأ البطل ( أبو فاطمة ) في لحظة النوم أو السكون بالانتقال إلى دياره ، ومرد هذا الشعور هو تقنية الاسترجاع السردي من جهة والانتقال إلى لحظة زمنية مختلفة ، فهذا الانتقال أو التمهيد للانتقال خلق لدى المتلقي شعوراً تصاعدياً بالحركة الزمنية ، وإنه يترقى ضمن مستويات بنيتها الدالة على زمن الاختلاف في زمن السرد « في ليلة هادئة ، عمّ فيها شيء من الدفء ، جلس متفكّراً كعادته ، ولكنه ما لبث أن نهض منتصباً في موضعه ، وعيناه مشبوحتان على الأفق الغربي ، آنئذٍ عزم على أن يسري صوب منازله . وهذا ما حدث بالفعل . في طيّات الليل حلّق ( هلال ) فوق أسوار السجن ، وطار كالسهم إلى ( أم البرسيم ) ، وحطّ في داره . وقف مرتبكاً إزاء باب غرفته، الذي يطلّ مباشرة على فناء الدار ، ونقر عليه بهدوء . كان الصمت عميقاً . نقر ثانية ، ولم يأتِ الجواب ، ثم نقر ثالثة ، وجاءه هذه المرّة الصوت واهناً ، ومترعاً بالخوف : من هناك ؟ . ( أنا هلال ) . شقّت نبرة صوته الباب إلى نصفين في الحال ، ووجد نفسه وجهاً لوجه مع زوجته ، ليحتضن كل منهما الآخر في شوق عارم . أرادت أن توقظ ابنتها ولكنه منعها من ذلك ، مكتفياً بتقبيل الصغيرة في نومها ، وكان ينفك من النظر إليها بين برهة وأخرى . إنّدسا في الفراش معاً حتّى الربع الأخير من الليل ، وقبيل الفجر عرج ( هلال ) عائداً إلى السجن » (61) . في زمن لا واقعي أو لنقل هو زمن اللاوعي ، إننا هنا أمام علاقة متداخلة بين الزمن ونفسه فهو يتجه من الماضي إلى الحاضر ، ومن المستقبل إلى الماضي ، فالسجين في كثير من الأحيان يفقد في اللحظات الأولى لدخوله السجن الأهل ، مّما يؤثر سلباً على الشخوص ، فيكون الصراع بين الوضع الجديد في السجن ، وبين الخوف على الأهل في مواجهة الحياة بمفردهم و « مع ذلك فقد نجح الرجل في أن يسري إلى منازله خلسة ، في أوقات متباعدة ، وفي ذلك الإسراء كان يجد مؤاساة حقيقية ، ولكن لا يلبث أن يعقبها كرب عميق ، وحنين أشدّ» (62 ) . فلا يجد أمامه سوى الأمنيات في رؤية الأحبة بخلجات وجدانية ، وأحاسيس مرهفة ، تثير الأسى والندم والحسرة ، فلا يجد أمامه إلّا الإسراء للحبيبة ، وهو أشبه بالتعويض ، فهو يعوّض نفسه بقربه منها ، لينتهي إلى التمني ، والتمني رغبة خيالية في الغيب ، يأساً منه في كل ما هو خارج السجن . فلم يكن السجن إلّا بعداً مكانياً عن الأهل ، يمثّله الجسد ، أما روحه فكثيراً ما كانت تسري ليلاً إلى أماكن يحبها ، لا سيما مسكنه في البادية تلك الخيمة التي تضم زوجته وابنته ، فهو يهرب نفسياً لا جسدياً .
مقاومة الســــجن :
إن بطل الرواية ( أبو فاطمة ) عاش حالة من الصراع بين عالمين متناقضين ، عالم البداوة حيث الحرية والانفتاح ، وعالم السجن حيث الانغلاق والتقييد ، فيكون الصراع داخل الشخصية بين تقبّل هذا القيد وبين ماضي الشخصية الذي كان يمتاز بالعزة والتحدي والشموخ ، فلجأ إلى التكيّف وقيادة المجتمع في السجن ، لا سيما ( ركن الرعاة ) فهم على الرغم من تعرضهم لأنواع من القهر والعذاب ومحاولة النيل من كرامتهم ، فإنهم ظلوا متمسكين بتلك المبادئ والنفوس الأبية التي لا تقبل الهوان ، فكان صمودهم بوجه كل التحديات محط التقدير من السجناء ومن رجال الشرطة « ما فتئ البعض يراقبون رياضات ( أبو فاطمة ) ، تلك التي اعتبروها مجنونة في بادئ الأمر ، وهو يروّض نفسه على تحمّل مشاق السجن ، يوماً بعد آخر ، أفلح ( أبو فاطمة ) في تحطيم قيوده ، ودكّ جدران السجن في داخله . كان يحمل بين جنبيه تصميماً وعزماً على مواجهة أعتا الظروف القاهرة في هذا السجن مهما تكون » (63) وحين يتحوّل شعور السجين من القيود إلى الحرية وهو في داخل السجن ، فتتحوّل الهزيمة إلى الانتصار « وجد نفسه ، يقيناً ، لا يملك شيئاً ، ولذلك أحسّ بالتحرّر ، وكان عليه أن يحذر الوقوع فريسة اليأس والغم ، والكدر . فكّر بأن الحبس المؤبد الذي ابتلى به ، يحتّم عليه أن يجتث جذور اليأس ، والخيبة من أعماقه ، والحذر من الاصطدام بالعقبات ، من أجل أن يعيش حرّاً ، ويحيى ببساطة »(64) لقد شكّلت شخصية ( أبو فاطمة ) شخصية مركزية تدور حولها الأحداث ، وتستقطب الشخصيات الأخرى ، وتكون تلك الشخصيات في خدمة هذه الشخصية ، فكانت شخصية البطل قيادية يعمل على استقبال السجناء الجدد ، ويدفعهم للصمود بوجه الظروف القاسية في السجن ، ويجد الحلول للمشاكل التي يواجهونها ، فقد وحّد بينهم الحرمان والمبدأ والظلم « في اليوم الثاني أمطرتهما الصداقة الوليدة بفيض من الأحاديث العذبة ، وحينما أسهبا في الحديث ، واستعذبوه ، لاحت لهما باحة السجن وادياً معشباً . التفت ( أبو فاطمة ) بوجه طلق إلى صاحبه وقال له : اليوم فقط طاب لي السجن » (65) إن سجن الديماس حمل دلالتين مختلفتين ليشكّل مفارقة تجمع بين التقييد والتسلّط والضياع وبين الاتصال مع الآخر وتقديم العون والقيادة للموقف التي مارسها ( أبو فاطمة ) ، وهنا تتغير دلالة السجن من فضاء للعزلة إلى فضاء للعمل والتفكير .
إن النفس البشرية حين تؤمن بما تمتلكه من مبادئ فإنها قادرة على الصمود بوجه السجّان ، فتحقّق الانتصار بعد ذلك « صاروا ينعمون بالراحة في جمعهم ، وكان كل من زارهم في ركنهم يخبطه الذهول على أم رأسه في الحال ، وهو يرى ذلك الانشراح يعلو وجوههم ، ويتلمّس البهجة وهي تسري في أحاديثهم ، حتّى ليشكّ الإنسان أنهم يجلسون في مكان وجدوا العيش فيه رخيّاً ، وليس فوق تراب ( الديماس ) ! » (66) فالبطل وغيره من السجناء يلجئون إلى الحكي وقص الروايات لمقاومة الزمن ، ومواجهة الموت ، فكانت تلك الحوادث ملاذاً للخلاص من الشعور بالدمية وتخفيف وقع لزمن في نفوسهم .
إن الروايات التي تتحدّث عن السجون تعمل على كشف المخفي من التاريخ ، وإظهار المأساة التي يعاني منها الإنسان المقموع خلف الجدران الموصدة ، وتمنحهم الحرية بالكلمة . فاستطاعت أن تصوّر مدى الظلم والتعسّف والممارسات اللا إنسانية في وقت انعدمت فيه وسائل التوثيق ، فالتاريخ كما معروف يُكتب بأقلام السلطة ومن ثم يغيّب الحقيقة . ولعل رواية ( لا رياح ولا مطر ) هي تسجيل فنّي لواقع سياسي مغيّب . وهي تعرّي مدة مظلمة لسجن تغاضت عنه كتب التاريخ ، فهو لم يكن سجناً كما يُعرف عن السجون ، بل كان جحيماً حقيقياً يفقد فيه الإنسان إنسانيته ، حيث لا سقف يقيه من البرد والمطر والحر والرياح ، ينقطع عن ذويه وعن الحياة ، ويفقد الإحساس بالزمن . فهو سور عالي بلا سقف ، وكل مجموعة من السجناء في زاوية معينة لها تسمية بحسب ساكنيها ، فراشهم الأرض ووسائدهم التراب ، وطعامهم خبز الشعير المخلوط مع الرماد ، ملابسهم متهرئة نتيجة الأنواء ، تعصف بهم الأمراض ، وكرامتهم مهدورة على أيدي الحرّاس .
الخاتــــمة :
ــ إن الرواية جاءت بتعبير دقيق عن السجن التاريخي ( الديماس ) مما جعلنا نتألم مع بطل الرواية في مكان قاس . ــ المكان بقساوته وقذارته والجدران وما تشكّله من حواجز بين الإنسان والعالم الخارجي ، جعل ( أبو فاطمة ) يشعر بأن الجدران تطبق عليه ليعيش الصراع بين ما عاشه سابقاً وما يعيشه الآن ، الصراع بين الفضاء الواسع والفضاء المحدود / فمجرّد أن يدخل البطل إلى المكان يجرّد من كل شيء . ــ وقد شكّل الليل عنصراً ضاغطاً على السجناء ، لأن الهدوء يسمح للسجين أن يفكّر بذويه ، ومسكنه ، فيقضي الليل تحت العذاب النفسي ، فيكون الصراع بينه وبين الهموم فيطول الليل ، فتعمل الشخصية على اختراق جدران السجن إلى الوطن والأهل حيث الذكريات التي قضتها الشخصية فيكون الشوق والإسراء إلى الحبيبة . ــ فالسجين يعمل على تحقيق نوع من الحماية لنفسه عن طريق الهروب من الحاضر إلى الماضي ومن الواقع إلى الحلم . واسترجاع الذكريات . ــ الحرّاس أشخاص يدافعون عن وجودهم داخل السلطة ، لأنهم مجرّد أداة تنفّذ متطلبات السلطة لتبقى في مكانها . ــ مُورس التعذيب الجسدي والنفسي للنيل من شخصية السجين ، والمراقبة التي يمارسها هؤلاء تعتمد على ما يجري داخل سجن الديماس . ــ لقد كانت آلام البطل النفسية فضلاً عن آلامه الجسدية متنوعة ، وصدمته بطبيعة الناس وغدر الزمان . ــ الرواية تطرح مأساة الإنسان العربي قديماً والذي لا يختلف عن الإنسان الحديث المقهور في وطنه ، والمسحوق من قبل السلطات ، ولكن هذا القهر يقابله نهوض من قبل شخص أو أشخاص قادرين على التغيير ، وخلق أجيال تأخذ على عاتقها مشعل التغيير . ــ لقد وصف الروائي المشاهد المؤلمة في السجن اعتماداً على الوقائع التاريخية ، من أجل محاكمة التاريخ وربطه بالحاضر . ــ إن الرواية تدين الواقع السياسي التاريخي المتعفن ، الذي لم يحترم إنسانية الإنسان ، فهي تقدّم لنا فترة مظلمة من فترات التاريخ . ــ فالسجن يعمل على المحافظة على السلطة ومصالحها ، ومعاقبة المعارضين والمتمردين ، ولكن سجن الديماس لم يكن كذلك إلّا في بعض جوانبه ، أما جانبه الآخر فهو لم يكن إلّا سجناً للأبرياء والفقراء الذين وقعوا ضحية أخطاء يسيرة .



الهوامش :
(1) الرواية : 5
(2) نفسه : 279
(3) نفسه : 274
(4) نفسه : 276
(5) نفسه : 279
* : بنى الحجاج مدينة واسط بين الكوفة والبصرة ( الأعلام الزركلي : 2 / 168 . وكان سفاحاً باتفاق معظم المؤرخين ، وكان له في القتل والعقوبات وغرائب لم يسمع بمثلها وأحصى من قتله صبراً فوجد مئة وعشرين ألفاً ، ومات الحجاج وفي حبسه خمسون ألف رجل ، وثلاثون ألف امرأة ، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد ، ولم يكن للحبس ستر يستر من الشمس في الصيف ولا من المطر والبرد في الشتاء . مروج الذهب المسعودي : 3 / 166 ـــ وكان يسقون الزعاف ويطعمون الشعير المخلوط بالرماد . ولا يجد المسجون المقيّد منهم ، إلّا مجلسه ، فيه يأكل ، وفيه يتغوّط ، وفيه يصلّي . الفرج بعد الشدة : 1 / 260 .
(6) الرواية والتاريخ .
(7) الرواية : 16
(8) بنية الشكل الروائي 60
(9) الرواية : 26 ـ 27
(10) نفسه : 81
(11) نفسه : 147
(12) نفسه : 201 ـ 202
(13) نفسه : 19
(14) ينظر : شعراء أمويون : 1/ 174 و 161
(15) الرواية : 95
(16) معجم اللغة العربية المعاصرة : مادة سدم مجلد 1/ 1051
(17) سيميائية الألوان في القرآن الكريم : 64
(18) الرواية : 107
(19) نفسه : 2
(20) نفسه : 15
(21) نفسه : 44 ـ 45
(22) نفسه : 68
(23) نفسه 74
(24) نفسه : 80
(25) نفسه : 80
(26) نفسه : 110
(27) : ينظر : نفسه : 103
(28) ينظر : نفسه : 122
(29) الرواية : 154
(30) نفسه : 148
(31)ينظر سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون 1/ 100
(32) الرواية : 168
(33) نفسه : 170
(34) المثقف والسلطة : 19
(35) الرواية : 242
(36) نفسه : 29
(37) نفسه :49
(38) نفسه : 137 ـ 139
(39) الإنسان المهدور :156
(40) الرواية : 118
(41) نفسه : 60
(42) نفسه : 92
(43) نفسه : 144
(44) ميشال فوكو ص71
(45) الرواية : 225 ـ 226
(46)نفسه :234
(47) نفسه : 81
(48) نفسه :107
(49) نفسه : 111
(50)ينظر نفسه : 197 و 198 و 204
(51)نفسه : 217
(52) نفسه : 33
(53) نفسه : 58
(54) نفسه : 28
(55) نفسه : 14
(56) نفسه : 47
(57) نفسه : 40
(58) نفسه : 147
(59) في نظرية الرواية ، سلسلة عالم المعرفة ، ص 157 .
(60) الرواية : 148
(61) نفسه : 59
(62) نفسه : 149
(63) نفسه : 64
(64) نفسه 65
(65) نفسه : 95
(66) نفسه : 99

المصـــــــــــــــــــــادر :
• الإنسان المهدور ، د. مصطفى حجازي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، بيروت ، 2000 .
• بنية الشكل الروائي ، حسن بحراوي ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، 1990 .
• الرواية والتاريخ ، عبد السلام أقلمون ، دار الكتب الجديدة المتحدة ، ليبيا ، 2010 .
• سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون ، مطبعة البابلي الحلبي ، القاهرة ، 1957 .
• سيميائية الألوان في القرآن الكريم ، كريم شلال الخفاجي ، دار مكتبة البصائر ، لبنان ، 2012 .
• شعراء أمويون ، نوري حمودي القيسي ، دار الكتب للطباعة والنشر ، الموصل ، 1976
• الفرج بعد الشدة ، القاضي بن علي التنوخي ، تح : عبود الشالجي ، دار صادر بيروت ، 1978 .
• في نظرية الرواية ، عبد الملك مرتاض ، سلسلة عالم المعرفة ، 1998 .
• لا رياح ولا مطر ، محمود يعقوب ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ، عمان ، 2021 .
• المثقف والسلطة ، د . سماح ادريس ، بحث في التجربة الناصرية ، 1992 .
• مروج الذهب ومعادن الجوهر ، المسعودي ، دار الأندلس ، بيروت ، 1981 .
• معجم اللغة العربية المعاصرة ، د. أحمد مختار عمر ، عالم الكتب ، القاهرة ، 2008 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب