الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب مصر بين الأصولية والعلمانية

عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)

2023 / 11 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


مِصرُ بينَ الأصُوليَّة والعلمانيَّة

(الصِّدَام القادِم)

مَجمُوعة دِراسَات

تأليف
عبد الجواد سيد عبد الجواد


دار كلمة للنشر والتوزيع/الإسكندرية
رقم الإيداع5311/2013
الترقيم الدولى8-25-5322-977-978







الإهدَاء

إلى مصر المُستقبل






شُكرٌ وتقدِير

إلى أسرتي الحبيبة: زوجَتي راتنا، وابنتِي ديفي، وابنِي جمال، وإلى أصدقاء العمر، وشركاء الرحلة الطويلة: دكتور رفعت رسمي، ودكتور رفعت بهجت، والأستاذ محمد أحمد إبراهيم، وجميع زملاء حركة مصر المدنية، وصالون زمرة الثـقافي على كلِّ ما قدَّمُوه جميعًا من عونٍ وتشجيع.










المَوضُوعَات


مقدِّمة الكتاب
الدِّراسة الأولى: ملحمة جلجاميش وجذور الفكر الديني.
الدِّراسة الثانية: فتح العرب لمصر .. غزو أم فتح؟
الدِّراسة الثالثة: مابعد الفتح- الحقيقة والوهم- عصر الولاة
الدراسة الرابعة:جامعة الدول العربية.
الدِّراسة الخامسة: ما بعد الدين والقومية.
الدِّراسة السادسة: آخر معارك الحرية.
الدِّراسة السابعة: مصر الثورة وإسرائيل.
الدِّراسة الثامنة: لماذا نجحت تركيا وفشلت مصر؟
الدِّراسة التاسعة: مصر بين الأصولية والعلمانية .. الصدام القادم.
الدِّراسة العاشرة: مصر والبحر المتوسط.





مُقدِّمة الكتَاب

نشرتُ هذه الدِّراسات على بعض المواقع الإليكترونية ، كما ألقيتُها في محاضراتٍ وندواتٍ بين الأعوام 2010-2012م، وقد أثارتْ جدلًا كبيرًا ما بين مؤيدٍ ومعارضٍ، بحيث إن بعضًا منها - برغم أنه قد مسَّ مناطق محرمة أو كانت على الأقل محرمة قبل زمن قصير- قد لاقى استحسان الكثيرين، كما أن بعضها الآخر قد جلب عليَّ نقمة الكثيرين، بل وتهديدهم أيضًا. وبرغم أن هذه الدراسات تعالجُ موضوعاتٍ متفرقةً، فإنَّ هناك فكرةً واحدةً تجمعها في النهاية، وهي نقد ثقافة الماضي تمهيدًا لصناعة ثقافة المستقبل الإنسانية التي يتجه إليها العالم في عصر العولمة؛ فمما لا شكَّ فيه أن عولمة الاقتصاد وتطور وسائل الاتصالات، سوف يؤديان بالضرورة - إن عاجلًا وإن آجلًا – إلى عولمة الثقافة أيضًا؛ ومصر لن تصبح أبدًا جزءًا من هذا العالم الكبير سريع التطور، دون أن تحقق الثورةَ الثقافيةَ أوَّلًا، وتنتقل من ثقافة الماضي إلى ثقافة الحاضر والمستقبل؛ ولذلك فكرتُ في أن أجمع هذه الدراسات في كتابٍ لعلها تُشكِّل مساهمة في الحوار العنيف الدائر الآن حول تحديد الطريق إلى المستقبل؛ ولقد اخترتُ لها عنوان (مصر بين الأصولية والعلمانية .. الصِّدام القادم) وهو عنوان الدراسة التاسعة من هذه الدراسات؛ لسببٍ موضوعيٍّ للغاية، هو أن هذا العنوان يعبر عن المحتوى العام لباقي الدراسات المنشورة، كما أنه يعبر عن موضوع الساعة المُلح، وعن اللحظة التاريخية الحرجة التي تمرُّ بها مصر من أجل اختيار طريق المستقبل، وهو الاختيار الذي ستَجني ثمارَه الأجيالُ القادمة من تقدُّم ورخاء ولَحاق بركب الحضارة، أو تدفع ثمنه غاليًا من فقر وشقاء وتخلف؟ أرجو أن تثير هذه الدراسات فكرَ القارئ، وأحلم حتى بأن يشاركَني حُلم انتصار ثقافة المستقبل على ثقافة الماضي الكئيب؟

عبد الجواد سيد عبد الجواد
الإسكندرية 2013م
الدراسة الأولى
ملحمة جلجاميش وجذور الفكر الديني
أنتج العراق القديم – الذي جرى على أراضيه في السنوات الأخيرة بعضُ أكبر المذابح الدينية في تاريخ الإنسان - معظمَ الأساطير الدينية التي مازالت تعيش في تراثنا الديني، والتي هي كالماضي الحي الذي لايموت، بل نموت نحن من أجله، وهو ليس سوى مجرد ماضٍ، وسوى مجرد أساطير.
ومن تلك الأساطير الشهيرة ملحمة جلجاميش (أو إذا صحَّ القولُ أسطورة "جلجاميش" أحد ملوك مدينة أوروك السومرية القديمة "حوالي الألف الثالث قبل الميلاد") التي تتحدث عن استحالة خلود الإنسان، وتفجع الروح الإنسانية أمام حقيقة الموت التي تعد بحقٍّ أحد أكبر الإنجازات الحضارية للعراق القديم، وإحدى روائع الأدب الإنساني على مر العصور، ولكنها أيضًا – وبصرف النظر عن قيمتها الأدبية والإنسانية – تكتسب أهمية كبرى لدى المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا؛ لأنها تحتوي على تفاصيل أسطورة الطوفان الكبير (الذي اجتاح العراق القديم في العصور السحيقة) التي نقلها الكاتب العبري في العهد القديم بعد ذلك، مع تغيير طفيف في الأسماء والتفاصيل، ثم انتقلت بعد ذلك إلى التراث الإنساني لتصبح من حقائق التاريخ الكبرى التي تأسَّسَتْ عليها ثقافة العالم وثقافتنا هنا في بلاد الشرق الأوسط بشكل خاص.
تقول الأسطورة أو الملحمة في نصِّها البابلي إن جلجاميش كان يتمتع بصفات بطولية غير عادية، وإنه كان ثلثي إله وثلث بشر، ولكن نبلاء مدينة أوروك اشتكوا للآلهة من غطرسته وجبروته، وطلبوا منها أن تخلق مخلوقًا يضارعه في القوة بحيث يمكن لهم أن يعيشوا في سلام، وبالفعل استجابت الآلهة لرجائهم، وخلقت لهم أنكيدو، وهو مخلوق بشري متوحش يعيش في السهول ويتمتع بقوة خارقة. وعندما سمع جلجاميش عن هذا المخلوق الوحشي، أرسل إليه إحدى غانيات المعبد، حيث أغوته وعاشرته وعادت به إلى أوروك بعد أن غيَّرت قليلًا من طبيعته الوحشية. وفي أوروك يلتقي جلجاميش بأنكيدو، ويسعد به رفيقًا قويًّا مثله، فيتصارعان قليلًا ثم يتعاهدان على صداقةٍ خالدة. ويقترح جلجاميش على أنكيدو أن يقوما معًا بمغامرةِ ذبح العملاق هواوا نافخ اللهب، وذلك من أجل محو كل الشرور من الأرض، ولكن أنكيدو يرفض ذلك ويحاول إقناع جلجاميش بالعدول عن هذا المشروع الخطير، لكنه يفشل، ويرضخ لإصرار جلجاميش، ويقوم معه بتنفيذ المغامرة في النهاية؛ وبعد صراع عنيف ينجحان في ذبح هواوا وقطع رأسه، لكن هذا الانتصار قد جلب عليهما الشقاء؛ فقد انجذبت الإلهة عشتار إلى جمال وقوة جلجاميش، وحاولت إغراءه، لكن جلجاميش رفض محاولاتها بازدراء، فتوسلت إلى الإله آنو أن ينتقم لها بخلق ثور سماوي وإرساله لتدمير مملكة جلجاميش. وبالفعل يُخلقُ ذلك الثور ويُرسَل لتدمير مملكة أوروك، ولكن أنكيدو يتصدي له ويقتله؛ وهنا تحكم الآلهة على أنكيدو بالموت، فيسقط مريضًا، وسرعان ما يموت وسط جزع وخوف صديقه جلجاميش الذي لم يستطع أن يتصور أن صديقه قد مات، وأنه هو نفسه سوف يموت يومًا ما، فيصمم على الذهاب للبحث عن الخلود لدى أوتنابـِشتم الإنسان الوحيد الفاني الذي نال الخلود. وأوتنابشتم البابلي هذا هو نفسه الذي يأتي ذكره في النص السومري الأقدم للملحمة باسم زيوسدرا، وهو نفسه الذي سيأتي ذكره بعد ذلك في سفر التكوين العبري باسم نوح.
ويبدأ جلجاميش رحلته للبحث عن أوتنابشتم، ويعبر سلسلة جبلية خطرة تسمَّى ماشو، يحرسها رجل عقرب وزوجته، ثم يصل إلى الإله شمس الذي يخبره - بدوره - بأن مطلبه عبث، وأن الإنسانَ فانٍ، ولا بد من أن يموت، لكن جلجاميش يصمم على المضي في رحلته بحثًا عن أوتنابشتم، ويمضي حتى يصل إلى مياه وساحل بحر الموت، وهناك يلتقي بالإلهة سيدوري التي تحاول بدورها جاهدة أن تثنيه عن عزمه في محاولة عبور البحر الميت، وتطلب منه أن يتمتع بالحياة طالما هو فيها الآن، في كلمات تتشابه بشكل غريب مع كلمات الواعظ في سفر الجامعة العبري في الآيات السابعة والثامنة والتاسعة من الإصحاح التاسع:
جلجاميش إلى حيثُ تذهب
فالحياة التي تبحث عنها لن تجدَها
فعندما خلقَت الآلهة البشر
فقد قرَّرَت الموت عليهم
واستبقوا الحياة في أيديهم فقط
أنت يا جلجاميش دع بطنك تمتلئ
وامرح نهارًا وليلًا
واجعل لنفسك عيدًا للسعادة في كل يوم
نهارًا وليلًا ارقص والعب
اجعل ملابسك متلألئة وجديدة
واغسل رأسك في الماء واستحم
واهتم بالصغيرة التي تمسك يدك
واجعل زوجتك تسعد في حِضنك
فهذه هي مهمة الجنس البشري
لكن جلجاميش يرفض الاستماع إلى النصيحة، ويندفع في اتجاه المرحلة الأخيرة من رحلته الخطرة، ويتمكن من عبور مياه الموت بمساعدة أورشانابي، الذي قاد قارب أوتنابشتم قبل ذلك، ويصل في النهاية إلى أوتنابشتم المخلوق الخالد الوحيد، ويسأله بإلحاح كيف نال الخلود الذي يبحث عنه هو أيضًا، فيجيبه أوتنابشتم بقصة الطوفان في تفصيل مشابه تمامًا لقصة طوفان نوح الواردة في العهد القديم.
يقول أوتنابشتم لجلجاميش إن القصة التي سيرويها له هي مسألة خفيَّة وإنها سرٌّ من أسرار الآلهة، ويصف نفسه بأنه كان رجلًا من (شورباك) أقدم مدن أكَد، وقد كشف له الإله إي من خلال جدار كوخه المصنوع من الغاب، أنَّ الآلهة قد قررت تحطيم بذرة الحياة بفيضان، برغم أن سبب هذا القرار لم يُذكر. ثم يستطرد بأن إي قد أمره بأن يبني سفينة، ويجلب إلى داخلها بذرة كل الأشياء الحية، ويخبره بأبعاد وشكل السفينة التي يبدو أنها كانت على شكل مكعب تمامًا.
ويسأل أوتنابشتم الإله إي عن كيفية شرح أسباب تصرفه ذلك لسكان شورباك، ويجيبه إي بأن عليه أن يقول أنه قد سبب غضب الإله إنليل، وأنه قد نُفِيَ من أراضيه، ثم يُخبرهم بأنه إلى الأعماق سوف ينزل ليسكن مع سيده إي، ثم يمضي ليخبرهم بعد ذلك بأن إنليل على وشك أن يمطرَهُم بفيضٍ بحيث يخدعون تمامًا عن نيات الآلهة.
ثم يتبع ذلك رواية بناءِ السفينة وحمولتها:
ومن أي شيء ملكت حملته عليها
من فضَّة حملته عليها
من ذهب حملته عليها
ومن كل الأشياء الحية حملته عليها
وكل عائلتي وأقاربي جعلتهم يركبون السفينة
ومخلوقات الحقل الضاربة وكل الحرفيين
جعلتهم يركبون السفينة
ثم يأتي وصفٌ حيٌّ للعاصفة:
ويرعد الإله أدد، وتحطم الإلهة نرجال أعمدة البوابات التي تحبس مياه المحيط الأعلى، وترفع الإلهة أنوناكي المشاعل جاعلةً الأرضَ تتوهج، فتشعر الإلهة نفسها بالخطر، وتنكمش مثل الكلاب على جدار السماء. أمَّا عشتار التي حثت الآلهة على تدمير الجنس البشري، فترفع صوتها، وتندب فعلتها بينما تبكي باقي الآلهة معها. وتستمر ثورة العاصفة لستة أيام وست ليالٍ، ثم تخفت في اليوم السابع. وينظر أوتنابشتم، فيرى أن الأرض قد استوت كسطح البحر، وأن الجنس البشري قد تحول إلى طمي. وتحط السفينة على جبل نيسير، وينتظر أوتنابشتم سبعة أيام ثم يُرسل حمامة صغيرة، فتعود حيث لا تجد لها مرتكزًا، ثم يُرسل عصفور السنونو، فيعود بنفس الطريقة، وأخيرًا يُرسل غرابًا فيجد طعامًا ولايعود.
وبناءً على ذلك يُطلق أوتنابشتم كل ما في السفينة، ويقدم قربانًا، وتشم الآلهة الرائحة الطيبة فتتجمع مثل الذباب حول القربان. وتصل عشتار، وترفع عقدها اللازوردي، وتقسم بأنها لن تنسى أبدًا ما حدث. وتوبخ إنليل على محاولات إهلاكِ البشر، ثم يصل إنليل إلى القربان غاضبًا على أنه قد سُمِح لإنسان بالنجاة، وتلوم الآلهة نينورتا الإله إي على خيانته لسر الآلهة، ويعترض إي على إنليل، ويتشفع لأوتنابشتم، فيهدأ إنليل ويبارك أوتنابشتم وزوجته، ويخلع عليهما الخلود مثل الآلهة، ويقرر أنه منذ ذلك اليوم فصاعدًا فإن عليهما أن يسكنا بعيدًا عند فم الأنهار. وهنا تنتهي قصة الطوفان. ويؤكد أوتنابشتم لجلجاميش أن الآلهة قد احتفظت بالخلود لنفسها، وأنها قد قرَّرَت الموتَ على الجنس البشري، وأنه لا مهرب من الموت، ويتأهب جلجاميش للعودة خائب الأمل لكن أوتنابشتم يخبره – كهدية وداع – بأن هناك نباتًا له خاصية إعادة الشباب، ولكن من أجل الحصول عليه فإن عليه أن يغوص إلى قاع البحر. ويفعل جلجاميش ذلك، ويُخرج النبات العجيب، ولكن في طريق عودته إلى أوروك يقف بجوار بركة ماء ليستحم ويغير ملابسه؛ وبينما هو يفعل ذلك، تشم الأفعى رائحة النبات فتأخذه بعيدًا سالخةً جلدها وهي تهرب. وهكذا يفشل مسعى جلجاميش وتختتم الملحمة بتصوير جلجاميش جالسًا بجوار الساحل نادبًا حظَّه، ثم يعود فارغ اليدين إلى أوروك.
وهكذا تعرفنا – وبطريق غير مباشر من خلال ملحمة جلجاميش- عن أصل قصة طوفان نوح؛ بل وتعرفنا على مصدر بعض الآيات المذكورة في سفر الجامعة العبري أيضًا، فكيف انتقل هذا القَصَص الأسطوري إلى التراث الديني؟
الإجابة - ببساطة - هي أن العبرانيين- أو اليهود كما نسميهم اليوم - هم في الأساس شعبٌ عراقيٌّ قديمٌ، هاجر من العراق إلى فلسطين بقيادة إبراهيم في حدود منتصف القرن العشرين ق.م. ومن فلسطين إلى مصر بقيادة يعقوب، ثم من مصر إلى فلسطين مرة أخرى بقيادة موسى في حدود القرن الثالث عشر ق.م. حيث أسس له وطنًا وملكًا استمر لعدة قرون قبل أن يقضي عليه الآشوريون خلال القرن الثامن ق.م. ومن بعدهم البابليون خلال القرن السادس ق.م. ليصبحوا بعد ذلك جزءًا من الإمبراطورية الفارسية الفسيحة التي شملت معظم الشرق الأوسط منذ أخريات القرن السادس ق.م. حتى بدايات القرن الرابع ق.م. عندما غزا الإسكندر الأكبر بلاد الشرق الأوسط القديم، وورث إمبراطورية الفرس.
حدث في تلك الحقبة الفارسية أن عاد اليهود من فترة النفي في بابل واستقروا في أورشليم مرة أخرى، وأعادوا بناء معبدهم، وقرروا كتابة تاريخهم منذ هجرة إبراهيم حتى تلك الساعة التي أمسك فيها الكاهن عيزرا بالقلم ليبدأ كتابة سطور العهد القديم، ولتتابع الأجيال اليهودية بعده كتابة فصول ذلك الكتاب الرهيب الذي يغطي عمليًّا فترة حوالي ألف سنة منذ زمن موسى حتى زمن المسيح. ولكن الكاتب العبري - سواء أكان عيزرا الكاهن أو غيره - أراد أن يبدأ كتابه بكتابة فصل عن أصل الخلق والخليقة، وأن يضع سلسلة للنسب الإنساني حتى يصل إلى إبراهيم؛ ولأنه ببساطة لم يكن يعرف أصلًا للخلق ولا للخليقة، فقد اعتمد على أساطير العراق (وطنه الأصلي) القديمة، وسجل منها سفر التكوين (السفر الأول من أسفار التوراة أو أسفار العهد القديم). هذا ببساطة هو ما حدث، وكما أوضحنا هنا أصل قصة الطوفان من أصل أسطورة جلجاميش؛ يمكننا أن نوضح بنفس الطريقة أنَّ أصلَ قصة الخلق الواردة في التوراة يعود إلى قصةُ الخلق البابلية (إينوما إليش) أو (حينما في العلى) وبطلها الإله البابلي مردوك الذي يساوي في النص العبري الإله العبري يهوه الذي خلق العالم في ستة أيام كما فعل الإله مردوك ثم كيف خلق يهوه جنة عدن ليعيش فيها الآلهة والخالدون من البشر والتي هي ليست سوى أسطورة جنة ديلمون السومرية البابلية موطن الآلهة، والتي خلقت فيها الإلهةُ نينهورساج ثمانيةَ آلهة لشفاء الأعضاء المريضة الثمانية من أعضاء الإله إنكي (ومنها ضلعه) والتي خلقت لمعالجته إلهة تسمى سيدة الضلع أو سيدة الحياة، والتي استلهم منها الكاتب العبري قصة حواء التي خُلقت من ضلع آدم، أما آدم نفسه فلم يكن سوى أدابا بطل ملحمة أدابا السومرية، وأول البشر، والذي رفض هدية الآلهة له بالخلود عندما رفض أن يقبل منها خبز وماء الحياة، وقبلَ بدلًا من ذلك رداءً وزيتًا لمسح الجسد، فأنزلته من الجنة إلى الأرض، وحرمته الخلود، وكتبت عليه الموت كسائر البشر.
وهكذا يمكن تحليل عناصر رواية العهد القديم عن أصل العالم والإنسان إلى أصولها الأسطورية العراقية القديمة بمنتهى البساطة، والتعرف على أصل قصة الخلق (إينوما إليش) وسقوط الإنسان من الجنة (أدابا) إلى قصة الطوفان (أوتنابشتم - زيوسدرا) وما أعقبها من تدمير للجنس البشري وخلق جديد للإنسان والشعوب حتى ظهور إبراهيم في أور الكلدان حيث تنتهي الأسطورة ويبدأ التاريخ؟
أهم المراجع:
أساطير شرق أوسطية
تأليف/ صموئيل هنري هوك
ترجمة/ عبد الجواد سيد عبد الجواد
منشأة المعارف/ الإسكندرية








الدراسة الثانية

فتح العرب لمصر / غزو أم فتح؟

1. قصة فتح مصر
روى الكاتب الإنجليزي بتلر قصة غزو العرب لمصر في كتابه الشهير (فتح العرب لمصر) اعتمادًا على مصدرين أساسيين هما حنا النقيوسي - الأسقف المصري الذي ولد حوالي زمن الفتح - في مذكراته عن تاريخ العالم، وابن عبد الحكم المتوفَّى في القرن الثالث الهجري في كتابه فتوح مصر وأخبارها؛ وسوف نوجز هنا ما رواه بتلر، ونعلق عليه في اختصار تقتضيه ظروف هذه القراءة السريعة.
بدأ غزو مصر أثناء حصار الجيوش العربية لقيسارية – آخر المعاقل الرومانية في فلسطين – وكان عمرو قد حصل على موافقة الخليفة عمر بن الخطاب المبدئية على فتح مصر أثناء قدومه الثاني إلى الشام سنة 17 هـ. وفي ظلام الليل انسلَّ عمرو من أمام قيسارية ومعه ما يتراوح بين ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة آلاف فارس، وشقَّ طريقه نحو مصر.
كان عمرو قد زار مصر تاجرًا قبل الإسلام، وخبر غناها ومواطن قوتها وضعفها، فتمنَّى أن يغزوَها وأن تكون له طعمة مدَى الحياة، وهو ما تحقق له بعد ذلك بالفعل أثناء الحرب الأهلية التي نشبت بين علي ومعاوية في أعقاب مصرع الخليفة عثمان بن عفان سنة 35هـ. وصل عمرو إلى العريش في ذي الحجة من سنة 18هـ أي في ديسمبر سنة 639م؛ وبعد أن أقام مع جنوده شعائر عيد الأضحى الذي تصادف حلوله في نفس التاريخ، تقدم معهم عبر الصحراء نحو مدينة بلوز القديمة (الفرما)، فوصلها في يناير سنة 640م وألقى عليها الحصار لنحو من شهر حتى تمكن من أحد أبوابها فدخلها وقتل من فيها، وأحرق ميناءها وكنائسها، ثم واصل مسيره نحو مصر حتى بلغ مدينة بلبيس حيث انتصر على البيزنطيين في معركة كبيرة أخرى، ومن هناك واصل زحفَه على جانب الصحراء حتى وصل مدينة هليوبوليس الواقعة إلى الشرق من حصن بابليون، ونصب معسكره هناك في انتظار وصول الإمدادات من المدينة. تجمع الرومان في حصن بابليون – أكبرحصون مصرالرومانية وكان يقع على الجانب الشرقي من الضفة الشرقية للنيل في مواجهة الصحراء - ومن هناك راحوا يخرجون لشن الغارات على قوات عمرو لمنع تقدمه إلى الضفة الغربية للنيل. استطاع عمرو صدَّ هذه الغارات، واستمر على حصار الحصن لحوالي ستة أشهر قبل أن تصله الإمدادات التي أرسلها له الخليفة عمر بقيادة الزبير بن العوام (ابن عمة محمد ص) والتي قُدِّرت بحوالي اثني عشر ألف فارس.
وبعد وصول تلك القوات أخذ عمرو يستعد لاقتحام الحصن، وتأهب الرومان بدورهم لمواجهة قوات العرب في معركة كبيرة فاصلة بقيادة تيودور قائد القوات الرومانية في مصر، لكن نتيجة هذه المعركة كانت انتصارًا كبيرًا آخرَ للعرب وهزيمة ساحقة أخرى للرومان فرُّوا على أثرها عائدين إلى الحصن مرة أخرى.
وبعد معركة هليوبوليس، قرَّرَ عمرو التحرك للاستيلاء على مدينة الفيوم، وكان قد هاجمها قبل وصول قوات الزبير وفشل في الاستيلاء عليها، لكنه هذه المرة تمكن من الاستيلاء عليها، ودخلتها قواته، وأحدثَتْ في أهلها وفي أهالي منطقة أبويط القريبة منها مذبحة رهيبة، واحتلَّ عمرو منطقة دلامي الواقعة إلى الشرق من الفيوم، وإتخذها قاعدة لقواته على الضفة الغربية للنيل في مصر الوسطى، وأخذ في تجميع قواته استعدادًا لغزو مصر السفلى (الوجه البحري). وذكر حنا النقيوسي أن عَمْرًا (أمر الناس بمساعدة العرب في بناء القناطر والجسور نظرًا لامتلاء أراضي الدلتا بالترع، وأن الناس أخذوا يساعدون العرب، إلَّا أن ذلك لم يكفهم، وأن عَمْرًا أمر بأن يؤتَى بالحكام من الرومان مجموعةً أيديهم في الأصفاد وأرجلهم في القيود، ثم أخذ من الناس أموالًا عظيمة، وضاعف عليهم الجزية، وأمرهم بأن يأتوا له بالأعلاف لخيله وظلمهم ظلمًا كبيرًا).
تقدم العرب بعد ذلك ففتحوا مدن الدلتا واحدة في أثر الأخرى، حتى وصلوا إلى مدينة نقيوس الواقعة على فرع النيل الغربي في منتصف الطريق إلى الإسكندرية؛ ويعلق حنا النقيوسي على تلك الأحداث قائلًا (وغلب الرعب على كل بلاد مصر، وأخذ الناس يفدون أفواجًا من كلِّ صوب إلى الإسكندرية تاركين أرضهم وبيوتهم وكل ما يملكون). لم يستطع عمرو تتبع هذه الأفواج الهاربة نظرًا لارتفاع النيل في ذلك الوقت، فاضطر إلى العودة لمحاصرة الحصن مرة أخرى؛ وفي نفس الوقت كان قيرس (حاكم مصر وبطريرك المذهب الملكاني "مذهب الدولة البيزنطية الرسمي المؤمن بطبيعتين بشرية وإلهية للمسيح بعكس مذهب المصريين المونوفيزيتي المؤمن بالطبيعة الواحدة للمسيح") الذي يسميه العرب بالمقوقس، قد حضر إلى الحصن من الإسكندرية ليشرف على مجريات الأمور بعد موقعة هليوبوليس، وليفتح باب المفاوضات مع عمرو، وكان ذلك في حوالي أكتوبر سنة 640م.
انتهت مفاوضات قيرس وعمرو إلى طريق مسدود؛ بسبب رفض أصحاب قيرس لشروط العرب في الإسلام أو الجزية أو الحرب، وقرَّر الجنود الرومان استئناف الحرب، فقاموا في اليوم الرابع بعد انتهاء مهلة الأيام الثلاثة - التي أعطاها لهم عمرو للرد على عرضه - بالخروج من الحصن والإغارة على معسكر العرب، إلَّا أن العرب لم تأخذهم المفاجأة، وتماسكوا، وكانت النتيجة انتصارًا آخر لهم وهزيمة أخرى للرومان. وعلى أثر تلك الهزيمة انهارت معنويات الحزب المناوئ لقيرس، وقرروا الإذعان لشروط العرب على أن يبعثوا بها إلى الإمبراطور هرقل في القسطنطينية، فإذا ما أقرها نُفِّذتْ على أن تبقى الجيوش أثناء ذلك في مكانها حتى يأتيَ ردُّ الإمبراطور.
وصل رد الإمبراطور بالرفض في نهاية سنة 640م، واستدعى قيرس إلى القسطنطينية، ووبخه واتهمه بالخيانة والانحياز للعرب، ثم حكم عليه بالنفي. وأخذ العرب – بعدما عرفوا بذلك – في تشديد الحصار على الحصن، وبدؤوا في شنِّ الهجمات على أسواره مرة أخرى. ويفهم من خطاب الإمبراطور هرقل إلى قيرس أن كثيرًا من المصريين كانوا قد انضموا إلى عمرو بالفعل كراهية في الرومان. وأثناء محاصرة الحصن، عرف عمرو أن تيودور قائدَ الجيش الروماني في مصر قد أعاد تجميع الجيوش الرومانية في الإسكندرية، وأخذ في استرداد مدن الدلتا التي كان عمرو قد استولى عليها، فأسرع عمرو على أثر ذلك (ومعه جزء من قواته تساعدها أعدادٌ كبيرة من المصريين) لمهاجمة تيودور أثناء زحفه على الدلتا، لكن الهزيمة كانت من نصيبه هذه المرة، وقُتل أعداد كبيرة من رجاله، منهم عدد كبير من المصريين الذين انحازوا إليه. قرر عمرو العودة إلى مواصلة حصار الحصن، ولم يسعَ تيودور إلى مطاردته بعد هزيمته له؛ بسبب قلة القوات التي كانت معه، وبسبب خوفه من الأعداد الكبيرة من المصريين التي ضمها جيشه أيضًا، والتي كانت قد أخذت تميل إلى العرب؛ بسبب الدعاية الناجحة التي استطاع عمرو بثها ضد الرومان بينهم. عاد عمرو بفلول قواته لمواصلة حصار حصن بابليون، وظل على حصاره حتى شهر مارس سنة 641م عندما وصل نبأ وفاة الإمبراطور هرقل الذي انهارت على أثره معنويات جنود الحصن، وسهل لعمرو فرصة اقتحامه، وكما يذكر ابن عبد الحكم (وكسر الله بموتِهِ الروم).
ومع ذلك فقد صمدت قوات الحصن لحوالي شهر آخر بعد وفاة هرقل، وعندئذٍ قرر العرب القيام بهجوم انتحاري - بالمصطلح الحديث – لاقتحام الحصن بقيادة الزبير بن العوام الذي تنسب إليه التواريخ الإسلامية كثيرًا من أعمال البطولة المشابهة. وبرغم فشل المحاولة التي قام بها الزبير، فقد بثَّت الرعب في نفوس جنود الحصن، فقرروا قبول الصلح على أن يخرج الجنود من الحصن خلال ثلاثة أيام، فينزلون بالنهر، ويحملون ما يلزم لهم من القوت لبضعة أيام، وأمَّا الحصن وما فيه من الذخائر وآلات الحرب، فيأخذه العرب غنيمة، ويدفع من يبقى من أهل مدينة بابليون الجزية للعرب.
بالمصادفة كان ذلك اليوم هو التاسع من أبريل الموافق لعيد الفصح لسنة 641م. ويذكر حنا النقيوسي أن الرومان قبل جلائهم عن الحصن قد أوقعوا بكثير من المصريين ممن كانوا في سجون الحصن، فضربوهم بالسياط وقطعوا أيديهم وعذبوهم كل عذاب قبل أن يطردوهم من الحصن؛ وربما كان هؤلاء السجناء من ضحايا الخلاف الديني مع الرومان، أو من أهالي القرى المجاورة الذين شك الرومان في ولائهم، واتهموهم بالتعاون مع العرب. وتوضح هذه الرواية التي وردت عن كاتب مصري إلى أيِّ حدٍّ كانت العَلاقات قد تأزمت بين المصريين والرومان، مما كان له أثر كبير في تحقيق هدف العرب في استمالة المصريين إلى جانبهم. وباستيلاء عمرو على حصن بابليون، ضمن لقواته أهم قاعدة استراتيجية في مصر في ذلك الوقت، وبدأ في الاستعداد لغزو مصر السفلى مرة أخرى، وفتح الإسكندرية.
تقدم عمرو نحو نقيوس، وفي الطريق اعترضته قوات الرومان عند موقع مدينة طرنوطة القديمة التي يسميها العرب الطرانة، إلَّا أن عَمْرًا تمكن من هزيمتهم، واستأنف سيره نحو نقيوس، وتمكن من إسقاطها ودخولها وإحداث مذبحة كبيرة في سكانها في الثالث عشر من مايو سنة 641م، وأصبح الطريق مفتوحًا أمامه إلى الإسكندرية.
تقدمت قوات عمرو نحو الإسكندرية، لكن قوات الرومان اعترضتها عند المنطقة التي سُميت بعد ذلك بكوم شريك، نسبةً إلى أحد رجال عمرو، ثم عند مدينة سنطيس جنوب دمنهور الحالية، لكن قوات عمرو استطاعت هزيمتها، واستمرت في تقدمها نحو الإسكندرية، حتى وصلت إلى حصن الكريون القريب من الإسكندرية، وكان آخر سلسلة الحصون الواقعة في الطريق بين الإسكندرية وبابليون، وهناك قرر الرومان بذل محاولتهم الأخيرة لصد العرب عن الإسكندرية، وقاتلوا وأتتهم الإمدادات من وراء البحر، ومن داخل مصر من سنطيس وخيس وسخا وبلهيب وغيرها من القرى المصرية واستمر القتال لعدة أيام، ولكن الهزيمة كانت من نصيب الرومان هذه المرة أيضًا، واقتحم العرب حصن الكريون، وارتد الرومان إلى مدينة الإسكندرية. ويمكننا أن نلاحظ هنا مرة أخرى اختلاف مواقف المصريين من العرب؛ فبينما هاجم عمرو قوات الرومان في الدلتا ومعه جموع كثيرة من المصريين، فقد هاجم تيودور بدوره مدن الدلتا بعد ذلك ومعه أيضًا جموع كثيرة من المصريين؛ وهنا نجد الإمدادات تأتي للروم من القرى المصرية في سنطيس وخيس وسخا وبلهيب وغيرها مما يزيد غموض عملية الفتح كلها؛ ومع ذلك فالتفسير قد يكون بسيطًا للغاية، وهو أن موقف المصريين قد اختلف من غزاتهم العرب؛ فبينما كان البعض يؤيدهم بقوةٍ، كان البعض الآخر يبغضهم بقوة أيضًا، وقد اتضح ذلك جليًّا من أقوال حنا النقيوسي الذي يبدو أنه كان من مبغضيهم لكنه مع ذلك لم يستطع إنكار أن كثيرًا من المصريين قد انضموا إليهم بالفعل، بل واعتنقوا عقيدتهم أيضًا. أما موقف العرب أنفسهم من المصريين بعد أن تمكنوا من بلادهم، فسوف يتضح في نهاية قصة الفتح.
فشِلَتْ محاولة عمرو الأولى في اقتحام أسوار الإسكندرية، فقرر أن يترك الجزء الأكبر من قواته على حصارها، وأن يعود بقسم من قواته إلى بابليون قبل ارتفاع النيل. وفي طريق عودته، أغار على بعض قرى الدلتا – التي لم تكن موالية للعرب بطبيعة الحال – ونهبها وأحرق مزارعها ترهيبًا للأهالي قبل أن يعود إلى بابليون. وبعد عودة عمرو إلى بابليون، أرسل السرايا لغزو الصعيد، ووصلت قواته إلى حدود مدينة طيبة التي سماها العرب بعد ذلك (الأَقصُر) لما رأوه من كثرة أعمدة معابدها الفرعونية؛ وتمكن عمرو من فرض سيطرته على هذه الجهات أيضًا. ويروي بتلر - نقلًا عن حنا النقيوسي - أنه في تلك الأثناء قدم قيرس على عمرو في بابليون ليتداولا في أمر الصلح مرة أخرى، وذلك بعد أن أعادته الإمبراطورة مارتينا (زوجة هرقل) من منفاه بعد وفاة الإمبراطورهرقل. وبعد مفاوضات دامت عدة أيام، توصل الطرفان إلى شروط الصلح الذي سُلِّمت به مصر للعرب، وكُتب به عقد في الثامن من نوڤمبر سنة 641م، وكانت أهم شروطه هي توقيع هدنة لمدة أحد عشر شهرًا، ليرحل فيها عن مصر من أراد الرحيل سواء من الرومان أو من المصريين، والاتفاق على جزية دينارين على كل رجل قادر، يدفعها كل من يقرر البقاء سواء من الرومان أو من المصريين، هذا بالإضافة إلى خراج معلوم يُفرَض على الأرض كان يمكن أن يُدفع عينًا بصفة مبدأية. وبرغم كل الخدمات التي أداها قيرس للعرب، فإن عَمْرًا لم يقدِّر له ذلك فيما بعد – كما فعل مع حلفائه المصريين بعد ذلك - وبعدما تأكد من سيطرته التامة على مصر، رفض شفاعته في أمر المصريين من أهالي القرى الذين فروا إلى الإسكندرية، ورفض السماح لهم بالعودة إلى قراهم، فأفقده بذلك احترامه بين المصريين وبين الرومان على السواء. ومات قيرس أثناء فترة الهدنة حزنًا وغمًّا على ما اقترفه في حق نفسه، وفي حق دولته.
وهكذا كانت معاهدة الإسكندرية هي المعاهدة الرسمية التي سُلِّمت بموجبها مصر للعرب؛ لأن الإسكندرية كانت عاصمة مصر الرومانية آنذاك، وكان من الطبيعي أن يعني تسليم العاصمة تسليم البلد كله؛ أما معاهدة بابليون فلم تكن أكثر من اتفاق محدود لتسليم الحصن والمناطق المجاورة له.
وأثناء فترة الهدنة عمل عمروعلى تخطيط وبناء مدينة الفسطاط حتى يتخذها قاعدة لقواته في مصر، كما عمل على إعادة حفر قناة تراجان القديمة التي كانت تربط النيل بالبحر الأحمر، بقصد تسهيل نقل أموال الجزية والخراج إلى المدينة. وبعد الانتهاء من ذلك تفرغ عمرو لإخضاع بعض بلدان مصر السفلى التي كانت قد ظاهرت الرومان على العرب، فوجه إليها الجيوش في ربيع سنة 642م ففتحوها وأخذوا منها أسارى كثيرة بعثوا بها إلى الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة. وفي التاسع والعشرين من شهر سبتمبر سنة 642م فتحت المدينة العظيمة أبوابها، ودخلتها جيوش العرب؛ وقد وصف عمرو مدينة الإسكندرية في كتابه إلى الخليفة وصفًا يدل على عظمة المدينة، وعلى دهشة البدويِّ من مظاهر الحضارة في نفس الوقت.
وبعد احتلال الإسكندرية، أمر عمرو البطريرك بنيامين رئيس الكنيسة المصرية (المونوفيزية) بالخروج من مخبَئِه بعد أن أمنه على نفسه وعلى دينه، مقابل أن يساعده في إدارة شؤون البلاد.
لكن الأمر لم يستتب للعرب عند هذا الحد؛ فقد كان الإمبراطور قنسطانز الثاني (642-668م) - الذي خلف هرقلوناس ابن مارتينا زوجة هرقل - مصرًّا على استرجاع مصر، كما كان الخليفة عمر بن الخطاب قد تُوفي في آخر سنة 644م، وتولى بعده عثمان بن عفان الذي عزل عمرو بن العاص، وولى بدلًا منه الوالي سيءَ الذكر عبد الله بن سعد أخاه من الرَّضاعة، فزاد الضرائبَ على المصريين، واشتد في معاملتهم، وظلمهم ظلمًا كبيرًا، مما دفع بجماعة من أهالي الإسكندرية إلى إرسال الكتب إلى الإمبراطور قنسطانز يستنجدون به لكي يخلصهم من ظلم العرب، فانتهز قنسطانز الفرصة، وأمر بتجهيز قوة كبيرة بقيادة القائد منويل؛ وبالفعل تمكن الأسطول الكبير الذي بعث به قنسطانز من مفاجأة الحامية العربية بالإسكندرية، والقضاء عليها، وإعادة الإسكندرية إلى ملك الرومان حوالي سنة 645م، مما اضطر الخليفة عثمان إلى إعادة عمرو بن العاص إلى قيادة الجيش العربي في مصر؛ بسبب خبرته السابقة في فتح مصر، وذلك بينما ظلت الولاية لعبد الله بن سعد. وبالفعل رجع عمرو إلى مصر، وتمكن من طرد الرومان، وأعاد فتح الإسكندرية مرة أخرى وأخيرة في صيف سنة 646م.
2. سياسة العرب في مصر
كان الخليفة عمر بن الخطاب، وبمجرد أن أحكم العرب قبضتهم على مصر (وغيرها من بلدان الشرق الأوسط) قد عمل على وضع تنظيمات إدارية واستعمارية، من شأنها أن تعزل العرب عن أهالي البلاد المفتوحة، حتى لا يفتر حماسهم الحربي، ولا يفقدوا خشونتهم البدوية، فأقام لهم المستعمرات الحربية في الكوفة والبصرة بالعراق، وفي الفسطاط بمصر، كما أسكنهم الثغور العسكرية التي خلفها الرومان بسوريا، ومنعهم من الزرع والاستقرار كي لا يذوبوا في جموع السكان الأصليين، ويظل عملهم محصورًا في فرض هيبة الحكم العربي، وفي تحصيل الجزية والخراج لصالح حكومة المدينة. وتوضِّح المراسلات التي دارت بين الخليفة عمر وقائده عمرو بن العاص بهذا الخصوص مدى حرص الخليفة على تحصيل أكبر قدر ممكن من الجزية من جهة، وعلى مراوغة عمرو ومحاولة التملص من إلحاح الخليفة من جهة أخرى، كما تلقي هذه المراسلات الضوء على السياسات التي اتبعتها حكومة المدينة في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ الدولة العربية الإسلامية والتي تبتعد تمامًا عن أي توجهات دينية مزعومة وتعمل- على العكس من ذلك – على استغلال الشعوب والبلاد التي فتحها العرب بأكبر قدر ممكن. وتوضح المراسلات – بشكل قاطع - أن الخراج كان هو الهدف الأكبر للخليفة عمر بن الخطاب من فتح مصر، فلا ذكر فيها لدعوة، ولا لنشر دين، ولا أي إشارة لتلك الدعايات الدينية التي أطلقها العرب كمبرر لحركة الفتوحات العربية الإسلامية، فهو يذكر فيها لعمرو صراحةً (ولم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك) ويمكن الرجوع إلى هذه المراسلات في فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم. والواقع أن الخليفة عمر بن الخطاب كان حريصًا على تحصيل الجزية والخراج إلى درجة المغالاة؛ إذ يذكر ابن عبد الحكم أنه كان يقاسم عماله أموالهم اعتقادًا منه بأنهم كانوا يسرقون أموال الجزية والخراج، كما يذكر أنه قد أمر بأن يُختم في رقاب أهل الذمَّة بالرَّصاص، حتى يمكن إحصاؤهم، ووضع الجزية عليهم بسهولة.
ويروي البلاذري في (فتوح البلدان) أن عمر بن الخطاب كتب في سنة إحدى وعشرين هـ إلى عمرو يعلمه ما كان فيه أهل المدينة من الجهد، ويأمره أن يحمل ما يقبض من الطعام في الخراج إلى المدينة في البحر، وكأنه بذلك قد أعطى إشارة البدء لعمرو بإعادة حفر قناة تراجان القديمة التي كانت تربط النيل بالبحر الأحمر (والتي أعاد تسميتها بقناة أمير المؤمنين) وسخر في إعادة حفرها أعدادًا كبيرة من المصريين دون أن يكون لهم في ذلك أي منفعة تذكر. ولئن كان البطالمة والرومان قد أعادوا حفر هذه القناة الفرعونية القديمة، فقد فعلوا ذلك من أجل تشجيع تجارة الإسكندرية التي كانت قد أصبحت – في تلك العصور – من أكبر موانئ البحر المتوسط التجارية بالفعل، أما العرب فلم يعيدوا حفر تلك القناة إلَّا لداعي نقل أموال وخراج مصر إلى المدينة، وهو هدف صغير ليس له عَلاقة بدعوة ولا بدين، وإنما مجرد رغبة في استغلال ونهب ثروات الشعوب التي فتحوها، مما يؤكد أنَّ الدافع الأكبر لحركة الفتوحات الإسلامية كان سياسيًّا اقتصاديًّا وليس دينيًّا أبدًا.
ومن مجريات الأحداث، يمكن الاستنتاج أن العرب لم يلتزموا بقدر الجزية الذي ورد في عهد الصُّلح الذي وقعه عمرو مع قيرس، وأن ما فرضوه عليهم من التزامات أصبح يزيد عما كان يفرضه عليهم الرومان، وقد ازداد الأمر سوءًا بمرور الزمن بحيث لم يعد تحصيل الجزية والخراج يخضع لأي قاعدة أو قانون، اللهم إلَّا إرادة الوالي والقبائل العربية التي استوطنت مصر، مما دفع بكثير من المصريين إلى التحول إلى الإسلام هربًا من جحيم الجزية والخراج، بالإضافة إلى ما كانوا يعانونه من وجوه الاضطهاد المادي والمعنوي الأخرى التي تركتهم في حالة أسوأ من تلك التي كانوا عليها في أخريات العصر الروماني. ولقد احتفظ لنا التاريخ بشهادة الأسقف والكاتب المصري حنا النقيوسي الذي قال فيها عن تلك الفترة (وكان نِيرُهم – أي العرب - على أهل مصر أشدَّ وطأة من نِير فرعون على بني إسرائيل، ولقد انتقم الله منه انتقامًا عادلًا بأن أغرقه في البحر الأحمر بعد أن أرسل صنوف بلائه على الناس والحيوان ونسأل الله إذا ما حلَّ حسابه بهؤلاء العرب أن يأخذهم بما أخذ به فرعون من قبل). ويؤكد تعليق حنا النقيوسي هذا، ما رواه البلاذري عن عروة بن الزبير في قوله عن مصر (أقمت بمصر سبع سنين وتزوجت بها، فرأيتُ أهلَها مجاهيد قد حُمل عليهم فوق طاقتهم).
وقد استنَّ عمرو أسلوبًا جديدًا من أساليب النهب الاستعماري لمصر، وهو نظام الارتباع الذي أطلق بموجبه جنودَه يعيشون في القرى على نفقة الأهالي كلَّ ربيع، وهو نظام ربما كان قد عُرف في العصر الروماني على نطاق محدود، ولكن عَمْرًا مضى به إلى حدود أبعد حيث أصبح يستغرق كل فترة الربيع من كل عام، وقد استمر هذا النظام السيء طيلة العصر الإسلامي، حيث وردت عنه إشارات في كتابات العصر المملوكي.
وبعد اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب، وتولي عثمان بن عفان الخلافة بعده، ازدادت أحوال مصر سوءًا؛ فقد كانت سياسة عثمان في مصر وغيرها من الأمصار الإسلامية ترمي أيضًا إلى انتزاع أكبر قدر ممكن من الجزية والخراج، فقام بعزل عمرو بن العاص عن ولايتها سنة24 هـ وولى بدلًا منه أخاه من الرَّضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فزاد قدر الجزية والخراج على المصريين حتى يُرضي الخليفة، مما جعل الأخير يعلق على ذلك قائلًا في مقولة شهيرة موجهة إلى عمرو بن العاص (لقد درت اللَّقْحَةُ بعدك يا عمرو) مشيرًا إلى زيادة أموال الجزية والخراج بعد أن خرج من مصر عمرو بن العاص الذي كان الخليفة عمر بن الخطاب يتهمه صراحة بسرقتها كما تشير المراسلات الواردة في فتوح مصر لابن عبد الحكم. كانت ولاية عبد الله بن سعد على مصر أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى نشوب الفتنة الكبرى، والتي أدت في النهاية إلى مصرع الخليفة عثمان؛ فقد استبدَّ ابن سعد بأهل مصر من العرب والمصريين على السواء، وأساء السيرة، وظلم الجميع دون استثناء، وقد ذكر بتلر أن قسوته في معاملة المصريين كانت هي السبب وراء ثورتهم واستنجادهم بالروم سنة 645م/25هـ (وهي الثورة التي اضطرت الخليفة عثمان لاستدعاء عمرو بن العاص لإخمادها). وعلى كل حال فقد تأزم الموقف في مصر نتيجةً لسياسات ابن سعد، وكما ثار المصريون فقد ثار العرب بعد ذلك سنة 35 هـ.
أرسل عرب مصر وفدًا إلى المدينة بقيادة محمد بن أبي بكر، ابن الخليفة أبي بكر، وأخي عائشة زوجة محمد (ص)، وذلك لعرض شكواهم من سلوك عبد الله بن سعد على الخليفة عثمان، ومطالبته بعزله، وبالفعل قابلهم عثمان ووعدهم خيرًا، حتى انصرفوا عائدين إلى مصر، لكنه - وفي نفس الوقت - أرسل في أثرهم رسولًا من قِبَله يحمل خطابًا إلى عبد الله بن سعد في مصر، يأمره فيه بقتل أعضاء الوفد إذا رجعوا إلى مصر؛ وكان من سوء حظ عثمان أن قبض أعضاء الوفد – في طريق عودتهم – على ذلك الرسول، وعثروا على الخطاب الذي يحمله، واطلعوا على محتواه، فعادوا إلى المدينة غاضبين، حيث التقوا بوفود أخرى جاءت من الكوفة والبصرة لنفس السبب، وهو عرض شكواهم من عمال عثمان الأمويين – وكان عثمان أمويًّا - لسوء سلوكهم وظلمهم، فحاصر الجميعُ منزلَ عثمان، وطالبوه بخلع نفسه، فرفض، فهاجم الثوار منزله، وقتلوه في ذي الحجة سنة 35هـ، وهذه هي الأحداث التي تُعرَف في التاريخ الإسلامي باسم الفتنة الكبرى، أو فتنة الأمصار، والتي لم تكن في الواقع سوى بداية للصراع الدموي الرهيب الذي بدأ بين الأمويين والهاشميين على زعامة العرب وميراث محمد(ص).
وبعد مصرع عثمان آلت الخلافة إلى علي بن أبي طالب – ابن عم محمد (ص) - فولى سعد بن قيس بن عبادة على مصر، ثم عزله بالأشتر النخعي، ثم عزل الأشتر بمحمد بن أبي بكر، ودخلت مصر في حوزته، لكن معاوية بن أبي سفيان الأموي والي الشام القوي، رفض الاعتراف بخلافة علي، واتهمه علانية في دم عثمان، واتخذ من ثأره حجة لمحاولة نقل الخلافة من البيت الهاشمي إلى البيت الأموي، وهو ما كان يسعى إليه الأمويون بالفعل منذ وصول عثمان إلى الخلافة. كان للأمويين عصبية قوية في بلاد الشام منذ ما قبل الإسلام. وإزاء هذا الموقف من معاوية عزم عليٌّ على غزو الشام للقضاء على تمرد معاوية وذلك بعد أن نجح في القضاء على تمرد طلحة والزبير وعائشة زوجِ محمد (ص) في موقعة الجمل سنة 37هـ والذين كانوا قد خرجوا على علي بدورهم واتهموه في دم عثمان لأسباب تخص كلًا منهم على حدة – فقد كان كل من طلحة والزبير يطمح في منصب الخلافة لنفسه، أما عائشة فقد كانت تكره عليًّا منذ حادثة الإفك التي أشار فيها عليٌّ على محمد (ص) بطلاقها، بالإضافة إلى إنقاصه العطاء الكبير الذي كان قد خصصه لها الخليفة أبو بكر وزاده الخليفة عمر بعده.
وأثناء تلك الأحداث، أشار بعض الأمويين على معاوية بالاستعانة بعمرو بن العاص الذي كان بعد عزله عن ولاية مصر معتزلًا السياسة بضيعة له في فلسطين. لبَّى عمرو النداء، وحضر مع ابنيه، وأبدى استعداده لمساعدة معاوية، بشرط أن يجعل له مصر – في حالة انتصاره – طعمة مدى الحياة، أي حق حكمها لنفسه مدى الحياة. وافق معاوية على شروط عمرو، ووضعه على رأس قواته التي واجهت قوات علي في صفين سنة 37هـ. وفي بداية المعركة رجحت كفة قوات عليٍّ على قوات معاوية، فلجأ عمرو إلى حيلة كان قد ادخرها لتلك اللحظة، فأمر الجنود برفع المصاحف على أسنة الرماح، والمناداة بتحكيم كتاب الله، وكان يهدف من وراء ذلك إلى إحداث الفرقة في معسكر علي، وبالفعل أصر كثير من جنود عليٍّ على إيقاف القتال وتحكيم القرآن، وذهبت تحذيراتُ عليٍّ لهم بأن عَمْرًا ومعاوية ليسا بأصحاب دين ولاقرآن عبثًا، وأصروا على قبول التحكيم، واختاروا أبا موسى الأشعري ممثلًا لهم – أي ممثلًا لأهل العراق - بينما اختار أهل الشام شيعة معاوية عَمْرًا ممثلًا لهم. وعلى هذا اجتمع الحكمان في دومة الجندل سنة 37هـ واتفقا على خلع عليٍّ ومعاوية، وترك الأمر شورى بين المسلمين، لكن عَمْرًا لم يكن يقصد بهذا الاتفاق سوى خديعة أبي موسى الأشعري؛ لإضعاف موقف عليٍّ، وتقوية موقف معاوية. وبعدما صعد أبو موسى منبر المسجد الجامع، وأعلن خلع علي ومعاوية، تبعه عمرو، وأكد خلع علي، وأنكر خلعه لمعاوية، وعندما حاول أبو موسى تكذيبه ردَّ عليه قائلًا (بل كذب عبد الله بن قيس) يقصد أبا موسى – قد خلع عليًّا، ولم أخلع معاوية، فانسلَّ أبو موسى من بين الناس، وهرب إلى مكة، وانصرف عمرو وأهل الشام، وسلموا على معاوية بالخلافة.
وبعد صدور قرار التحكيم على هذا النحو، أرسل معاويةُ عَمْرًا إلى مصر على رأس ستة آلاف مقاتل من أهل الشام، حيث تمكن - بالتحالف مع شيعة عثمان هناك - من هزيمة قوات محمد بن أبي بكر (عامل عليٍّ على مصر) ثم قتله وأحرق جثته بالنار في جيفة حمار، ودخلت مصر في سلطة معاوية، فولاَّها عَمْرًا، ومنحه حقَّ استغلالها مدى الحياة، تبعًا لاتفاقهما السابق، فظل يحكمها إلى أن توفي بها، ودُفِن بالفسطاط سنة 43هـ.
كانت مصر هي حلم عمرو بن العاص طيلة حياته السياسية، وكان قد دخلها تاجرًا قبل الإسلام، فعَرَفَ غناها، ومواطن قوتها وضعفها، وعندما جاء الإسلام انضم إلى دعوة محمد (ص) قبل فتح مكة مباشرة، واشترك بعد ذلك في حروب الردة، وحركة الفتوح الإسلامية، حيث استطاع إقناع الخليفة عمر بن الخطاب بفتحها، حتى فُتحت فعلًا على يديه سنة 21 هـ، وكان له مع المصريين حكايات ووقائع غريبة سجلها حنا النقيوسي وابن عبد الحكم في تاريخيهما المذكورين.
وظَّف عمرو كل ماعُرف عنه من مكر وحيلة في عملية فتح مصر؛ ففي البداية راح يبذل للمصريين الوعود بالأمن والعدل حتى ضمن ولاء قطاع كبير منهم، ثم بعد أن استتبَّ له الأمر وضمن سيطرته على البلاد، تنكر لكل تلك الوعود؛ وقد احتفظ لنا التاريخ بكثير من الأمثلة الدالَّة على إخلاله بعهوده مع المصريين؛ فقد روى ابن عبد الحكم قصة صاحب إخنا الذي طلب من عمرو أن يحدد له قيمة الخراج المفروض على قريته حتى يستعد له، فرفض عمرو قائلًا -- وهو يشير إلى ركن إحدى الكنائس - (والله لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك؛ إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم)؛ ويعتقد ابن عبد الحكم أنَّ ردَّ عمرو هذا هو الذي جعل صاحب إخنا يستنجد بالروم من ظلم العرب، ولو أن رواية بتلر من أن ظلم عبد الله بن سعد هو الذي دفعهم إلى ذلك هي الأقرب إلى المنطق والسياق التاريخي.
وقد روى ابن عبد الحكم قصة أخرى عن مصري من أهل الصعيد اسمه بطرس، كان قد أخفى ذهبًا له، فعَرَفَ عمرو ذلك فقبض على بطرس المذكور، ثم احتال عليه بحيلة عرف بها منه مكان الذهب، فاستخرجه ثم حكم بإعدام بطرس عند باب المسجد، فخاف المصريون، وأظهروا ما عندهم من ذهب خشية أن يصيبهم ما أصاب بطرس. وبالطبع تتعارض مثل تلك الحوادث مع عهد الأمان الذي بذله عمرو للمصريين - على النفس والمال – أثناء صراعه مع الرومان.
والواقع أن عَمْرًا بعد أن استتب له الأمر، أنكر كل عهوده مع المصريين، وراح يقول صراحة (لقد قعدت مقعدي هذا وليس لأحد عليَّ عهد؛ فإن شئت سبيت، وإن شئت قتلت، وإن شئت خمست). وأثناء محاولة الرومان إعادة سيطرتهم على مصر مرة أخرى سنة 645م، وأثناء تقدمهم من الإسكندرية عبر الدلتا باتجاه حصن بابليون، وإغارتهم على القرى التي ظاهرت العرب، نجده يرفض اقتراحَ قائدِه خارجة بن حذافة السَّهمي بالتقدم بسرعة نحو الدلتا لنجدة هذه القرى قائلًا (اتركهم لعل الله يخزي بعضهم ببعض) يقصد المصريين والرومان الذين لم يكن يفرق بينهم في الواقع، وذلك برغم كل ما قدَّمه له المصريون من عون!
وبعدما انتهى عمرو من إخماد ثورة الإسكندرية، وإعادة مصر إلى حكم دولة المدينة، اقترح عليه الخليفة عثمان أن يظلَّ واليًا بالمشاركة مع عبد الله بن سعد على أن يكون تحصيل الجزية والخراج من صلاحيات ابن سعد، فرفض ذلك قائلًا قولته المشهورة (إنني إذًا كماسك البقرة وغيري يحلبها)؛ فلم تكن مصر بالنسبة إليه، ولا بالنسبة للخليفة عثمان، ولا لمن جاء بعدهما في الواقع أكثر من بقرةٍ حلوبٍ كان عليهم أن يعتصروها لآخر قطرة من دمائها؟
وقد وصف حنا النقيوسي عَمْرًا صراحة بأنه رجلٌ لا عهد له؛ ولم يبتعد وصفه هذا عن معنى الأبيات التي قالها عبد الله بن الزبير أثناء مروره بقبر عمرو في الفسطاط:
ألم تـرَ أنَّ الدَّهـرَ أخـنتْ ريوبه
على عمرٍو السَّهْمِيِّ تُجبَى له مصرُ
فأضحَى نـبيذًا في العَراءِ وضلَّلَتْ
مـكـائده عـنهُ وأمـوَاله الدثـرُ
وَلـمْ يُـغنِ عنه جمعُه واحـتيالُه
ولا كـيدُه حـتَّى أنـاخَ به الدَّهرُ
فهل كان فتح العرب لمصر جهادًا في سبيل الله، أم كان مجرد غزو استعماري كأي غزو استعماري آخر مرَّ عليها عبر تاريخها الطويل؟

أهم المراجع:
1. فتح العرب لمصر – ألفريد بتلر
مكتبة مدبولي - القاهرة
2. فتوح مصر لابن عبد الحكم
دار الفكر - بيروت
3. تاريخ مصر لحنا النقيوسي
تعريب دكتور صابر عبد الجليل
الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة
4. تاريخ الدولة العربية – دكتور سيد عبد العزيز سالم
دار النهضة العربية - بيروت
5. تاريخ الرسل والملوك للطبري
دار الكتب العلمية - بيروت
6. فتوح البلدان للبلاذري
مؤسسة المعارف – بيروت



















الدراسة الثالثة
ما بعد الفتح
الحَقيقة والوَهم
عصرُ الولاة – الأموي والعباسي ( 40 هـ - 358هـ)
بعد وفاة عمرو بن العاص، آلت مصر إلى حكم الأمويين الذين استتب لهم ملك العرب بعد مصرع علي بن أبي طالب سنة 40هـ، وتنازل ابنه الحسن عن مَطْلب الخلافة فى السنة التالية، فنقلوا عاصمة الخلافة من المدينة إلى دمشق، وولَّوْا على مصر عُتبة بن أبي سفيان (أخا الخليفة معاوية) بدلًا من عبد الله بن عمرو الذي كان قد تولى مكان أبيه مؤقتًا. وظلت مصر بأيدي الأمويين إلى أن خرج عليهم عبد الله بن الزبير بالحجاز، وانتزع منهم مصر والعراق.
كان عبد الله بن الزبير قد أعلن نفسه خليفةً فى العراق بعد مصرع الحسين بن علي بن أبي طالب فى كربلاء سنة 61هـ على يد القوات الأموية التى أرسلها الخليفة يزيد بن معاوية بقيادة زياد بن أبيه. نجحت دعوة ابن الزبير، وتمَّتْ له البيعة فى الحجاز وتهامة وكذلك فى العراق وبعض مناطق الشام، كما بايعه عرب مصر، فولَّى عليهم عبد الرحمن بن جحدم الفهري فى شعبان سنة 64هـ، واجتمع الأمويون بعد وفاة الخليفة يزيد بن معاوية على مروان بن الحكم سنة 64هـ، وشرعوا على الفور فى محاولة استرجاع سلطانهم فى البلاد التى انضمَّتْ إلى دعوة ابن الزبير، واستطاعوا فى نفس العام هزيمة قوات عبد الله بن الزبير فى موقعة مرج راهط 64/65هـ ثم تقدَّمَ مروان بقواته إلى مصر، ونجح فى الاستيلاء عليها بعد أن أمَّنَ من بها من العرب، ودفع إلى عبد الرحمن جحدم مالًا وكسوة، ودخَلَهَا فى سنة 65هـ، وأسند ولايتها إلى ابنه عبد العزيز بن مروان الذى ظل يحكمها لحوالي عشرين سنة بعد ذلك.
وعاد الأمويون يُحكِمون قبضتَهم على مصر والشام والعراق وبلاد المغرب مرةً أخرى، وتشدَّدُوا فى طلب الجزية والخراج من الأهالي، وبالغوا فى ذلك، واتَّبَع الحجاجُ بن يوسف الثقفي واليهم على العراق سياساتٍ فى غاية القسوة تجاه الموالي، فرفض وضع الجزية عمَّنْ أسلم منهم، واعتبرهم عبيدًا، ومنعهم من مغادرة أراضيهم حتى يسهل إحصاؤهم وتقدير الجزية المستحقة عليهم، وكذلك فعل عبد الله بن الحبحاب واليهم على مصر والمغرب بعد ذلك. والواقع أنَّ ملوك بني أمية كانوا يعتبرون المصريين عبيدًا لهم، وأنكروا منذ أيام معاوية بن أبي سفيان (40-60هـ) أن يكون لهم أي عقد أو عهد مع العرب، وقد عزل معاوية مولاه وردان عن ولاية مصر بسبب رفضه أن يزيد الخراج على المصريين اعتقادًا منه بوجود عهدٍ لهم مع العرب، لكنَّ الأمويين شغلوا عن الشعوب التى فتحها العرب بصراعاتهم الداخلية حتى عهد عبد الملك بن مروان، ثم بعد أن استقرت لهم الأحوال مرة أخرى عادوا إلى سياسات القمع والتشدُّد مع المصريين وغيرهم من شعوب الإمبراطورية العربية.
وقد أورد المقريزي فصلًا خاصًّا فى كتابه الخطط عن اضطهادِ الدولة الإسلامية للمصريين منذ أيام الأمويين، وحتى أخريات عصر الدولة المملوكية الأولى الذى عاش فيه، فذكر أنَّ عبد العزيز بن مروان والي مصر(65-85هـ) قد أمر بإحصاء الرُّهبان، فأحصوا، وأُخذت منهم الجزية دينارًا عن كلِّ راهب، وهي أول جزية أُخذت من الرهبان؛ ولمَّا وَلِيَ مصرَ عبدُ الله بن عبد الملك بن مروان سنة 85هـ، اشتدَّ على النَّصارى (وهو الذي تمَّ فى عهده تحويل الدواوين من القبطية إلى العربية) واقتدى به قُرَّة بن شريك أيضًا فى ولايته سنة 90هـ، وأنزل بالنصارى شدائدَ لم يُبتلوا بمثلها.
وكذلك فَقَدْ اشتدَّ أسامة بن زيد التَّنُوخي (مُتولي الخراج فى ولاية عبد الملك بن رفاعة (96-99هـ)) على النصارى، وأوقع بهم، وأخذ أموالهم، ووسمَ أيديَ الرهبان بحلقة حديد فيها اسم الراهب، واسم ديره، وتاريخه، وكل من وجده بغير وسم قطع يده، وكتب إلى الأعمال بأنَّ من وُجد من النصارى وليس معه منشور أن يؤخذَ منه عشرة دنانير، ثم كبس الديارات (الأديرة) وقبض على عِدَّةٍ من الرهبان بغير وَسم، فضرب أعناق بعضهم، وضرب باقيهم حتى ماتوا تحت الضرب، ثم هُدمت الكنائس، وكُسرت الصلبان، ومُحيت التماثيل، وكُسرت الأصنام بأجمعها -وكانت كثيرة- فى ولاية حنظلة بن صفوان الأولى سنة 105هـ. وفى سنة 107هـ زاد عبد الله بن الحبحاب مُتولي الخراج فى ولاية الحر بن يوسف (105-108هـ) على المصريين قيراطًا فى كل دينار، فانتفض عليه عامة الحوف الشرقى منهم، فحاربهم المسلمون، وقتلوا منهم عدة وافرة، وكانت هذه أول انتفاضة مسلحة للمصريين منذ انتفاضة الإسكندرية سنة 25هـ، ثم توالت انتفاضاتُهم بعد ذلك طوال القرن الثاني الهجري، وبلا انقطاع تقريبًا حتى سنة 216/217هـ التى شهدت أكبر وآخر انتفاضاتهم.
وعندما قَدِمَ حنظلة بن صفوان أميرًا على مصر فى ولايته الثانية (119-121هـ)، تشدد على المصريين، وزاد فى الخراج، وأحصى الناس والبهائم، وجعل على كل نصراني وسمًا صورة أسد، وتتبَّعَهم، فمن وجده بغير وسم قطع يدَه. وفى ولاية حنظلة أيضًا سنة 121هـ، انتفض المصريون بالصعيد، فحوربوا، وقُتل كثيرٌ منهم. وفى ولاية عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير سنة 132هـ خرج رجلٌ مصري يُدعى يحنس بسمنود، وحارب وقُتل فى الحرب، وقُتل معه كثيرٌ من المصريين. وفى أخريات عصر الدولة الأموية، ثار المصريون برشيد أثناء لجوء مروان بن محمد إلى مصر، فبعث إليهم مروان، وهزمهم، وقبض واليه عبد الملك بن موسى بن نصير على البطريرك ميخائيل بطريرك الكنيسة المصرية، فاعتقله وألزمه بمال، فسار بأساقفته فى أعمال مصر يسأل أهلها، فوجدهم فى شدائد، فعاد إلى الفسطاط، ودفع إلى عبد الملك ما حصل له، فأفرج عنه، فنزل به بلاءٌ كبيرٌ من مروان، وبطش به وبالنصارى، وأحرق مصر وغلَّاتِها، وأسر عدَّة نساء من المترهبات ببعض الديارات، وراود واحدة منهن عن نفسها، فاحتالت عليه بحيلة قتلت بها نفسها حتى لا ينال منها؛ ومازال البطريرك والمصريون فى الحديد مع مروان إلى أن قُتِل ببوصير سنة 132هـ، فأُفرج عنهم. كان هذا ما ذكره المقريزى فى الخطط عن أحوال مصر والمصريين فى العصر الأموي، أما العصر العباسي فقد تدهورت فيه الأحوال أكثر فأكثر بسبب ثورات القبائل، وتنازع الولاة على المال والسلطة.
وقد بدأ العباسيون حكمهم لمصر بمصادرة بعض الأراضي، وتوزيعها إقطاعات على أنصارهم؛ وقد ذكر الكندي فى ولاة مصر أن صالح بن على (أول والٍ عباسي على مصر) قد وزَّع الأراضي هدايا على من ساند دعوة العباسيين فقال (وأقطَعَ صالحُ بن على الذين سُوِّدوا) - أي الذين لبِسوا السَّوادَ شعار العباسيين- فأقطع شرحبيل بن مذيلقة الكلبي، أقطعه منبوبة، والأسود بن نافع الفهري، أقطعه منية بولاق، ومنازل زبان بالإسكندرية، وأقطع عبد الأعلى سعيد قطائع بالميمون (فى الواحات الخارجة) وقرى إهناس بالصعيد الأدنى من أعمال البهنسا.
وقد كان من الطبيعي أن تستمرَّ ثورات المصريين فى العصر العباسي الذى تطورت فيه أوضاع المجتمع المصرى إلى الأسوأ، حيث غلب عليه الفوضى وانعدام الأمن؛ بسبب الخروج المستمر للقبائل العربية التى سكنت منطقة الحوف الشرقى (شرق الدلتا)، وصراع هذه القبائل مع حكومة الفسطاط من جهة، وإغاراتها المستمرة على القُرى المصرية من جهة أخرى.
وقد ذكر المقريزي في نفس الفصل الخاص بثورات المصريين في الخطط، أن أول ثورة للمصريين في العصر العباسي قد حدثت سنة 150هـ، حيث ذكر أن المصريين قد خرجوا بناحية سخا، وأخرجوا العمال، وصاروا في جمع، فبعث إليهم يزيد بن حاتم بن قبيصة أمير عسكر مصر، فأتاهم المصريون ليلًا، وقتلوا عدة من المسلمين، وهزموا باقيَهم؛ ويبدو أن المقريزي قد نَسِيَ ذكر ثورة أبي مينا القبطي بسمنود بالوجه البحري سنة 135هـ في ولاية أبي عون عبد الملك بن يزيد وكيل صالح بن عَلِي عَلَى مصر والتي ورد ذكرُها في وُلاة مصر للكندي.
ويستطرد المقريزي فيقول (واشتدَّ البلاءُ على النَّصارى، واحتاجُوا إلى أكل الجِيَف، فُهدمت الكنائس المحدثة بمصر، فُهدمت كنيسةُ مريم المجاورة لأبي شنودة، وهُدمت كنائس محارس قسطنطين، فبذل النصارى لعلي بن سليمان العباسي أمير مصر في تركها خمسين ألف دينار فأبى، فلمَّا ولي بعده موسى بن عيسى قبل المبلغ، وأذن لهم في بنائها، ثم يذكر المقريزي أحداثَ سنة 156هـ فيقول بأنه (في سنة 156هـ خرج المصريون ببلهيب، فبعث إليهم موسى بن علي أمير مصر وهزمهم). ويستطرد في نفس النص فيقول (وفي أيام فتنة الأمين والمأمون، انتهبت النصارى بالإسكندرية، وأحرقت لهم مواضع عديدة، وأُحرقت ديارات (أديرة) وادي هبيب، ونُهبت فلم يبقَ من رهبانها إلَّا نفرٌ قليل).
وفي سنة 216هـ اشتعلت أكبر وآخر ثورة في تاريخ مصر الإسلامية، وهي ثورة أسفل الأرض أو الوجه البحري بعربها وقبطها على السَّوَاء، ممَّا اضطرَّ الخليفة المأمون إلى الحضور بنفسه لقمعِها بمنتهَى العُنْف والقسوة. ونصُّ الكندي بهذا الخصوص أكثر وضوحًا وتفصيلًا من نصِّ المقريزي، فيقول الكندي (في بداية سنة 216هـ، انتفضت أسفل الأرض كلها بعربها وقبطها – أي العرب والمصريين على السواء- وأخرجوا العُمَّال، وخالفوا الطاعة، وكان ذلك لسوء سيرة العُمَّال فيهم، فعاد الإفشين – القائدُ التركي الذي كان المأمون قد أرسله لقمع الثورة في مصر – من برقة، وحاول القضاءَ على الثَّورة فلم يستطع، فاضطر المأمون إلى الحضور بنفسه في المحرم سنة 217هـ، وعزل الوالي عيسى بن منصور، ثم رحل إلى سخا وقاتل أهلها، ثم صار إلى البشرود، وقد أوقع الإفشين بأهلها القبط، فنزلوا على حكم أمير المؤمنين، فرفض فيهم أيَّ شفاعة، وحكم بقتل الرجال، وبيع النساء والأطفال، فبيعوا، وسبي أكثرهم، وأتى بالفهري أحدِ زعماء التمرد بالحوف - والذي كان قد هرب إلى الصعيد- إلى سخا فقتلَهُ، وتتبَّع كلَّ من يومئ إليه بخلاف فقتله، فقتل ناسًا كثيرًا، ثم رجع إلى الفسطاط، ومنها إلى حلوان حيث أقام ثلاثة أيام، ورجع إلى الفسطاط، ومنها خرج عن مصر في صفر سنة 217هـ، وتوفي بعد ذلك بفترة قصيرة بأرض الروم في رجب سنة 218هـ).
ويبدو أن أحداث تلك الثورة وأسلوب قمعها كان عنيفًا لدرجة جعلت المقريزي يعلق عليها بقوله (ومن حينئذٍ أذلَّ الله القبط في جميع أرض مصر، وخذل شوكتهم، فلم يقدر أحدٌ منهم على الخروج، ولا القيام على السلطان، وغلب المسلمون على القرى).
وعلى هذا تكون هذه الثورة هي نهاية المقاومة المسلحة للشعب المصري للغزو العربي، والبداية الفعلية لغلبة تيار العروبة والإسلام على مصر، أي بعد حوالي قرنين من تاريخ غزو العرب لمصر سنة 21هـ، ممَّا ينفي الاعتقاد الشائع بأن المصريين قد رحبوا بالعرب في كل الأحوال، ولم يبذلوا في مواجهتهم أي مقاومة؟
ولكن لماذا فشِلَت كل هذه الثورات التي قام بها المصريون على مدى أكثر من قرن تقريبًا؟ والواقع أن عدم التفافها نحو قيادة وطنية واحدة قد يكون أحد هذه الأسباب، ومع ذلك فحتى لو توفرت هذه القيادة، وانتشرت تلك الثورات في أي فترة من فترات اشتعالها في كل أنحاء مصر، فما كان يمكن أن تثمر أيٌّ منها عن شيءٍ بالنسبة للمصريين؛ فقد كان العصر عصر العرب وسيادتهم في الشرق الأوسط، وقد هُزمَتْ أمامهم شعوبٌ جبلية أشدُّ من المصريين، مثل بربر شمال إفريقيا الذين كانوا أندادًا للعرب، وأوقعوا بهم كثيرًا من الهزائم الكبرى، ومع ذلك فقد انهارت مقاومتهم في النهاية، وهُزموا أمام العرب، وأصبحت بلادهم جزءًا من إمبراطوريتهم الواسعة.
كانت حركة الفتوحات العربية الإسلامية موجة هجرة سامية ضخمة غمرت الشرق الأوسط كله، ولم تنحصر إلَّا بعد أن استقرت كثيرٌ من القبائل العربية في البلاد التي فتحتها وتحضرت وفقدت خشونتها البدوية وحبها الغريزي للقتال، تمامًا كما حدث في غرب أوربا الذي تعرَّض لغزوات بربرية مماثلة أدت في النهاية إلى سقوط روما قبل نهاية القرن الخامس الميلادي؛ ولم تستقر أحوال الغرب الأوربي بعد ذلك إلَّا بعد أن استقرت تلك القبائل وتحضرت، ومع ذلك فهناك فرق أساسي بين ما حدث في غرب الإمبراطورية الرومانية وبين ما حدث في شرقها، فالواقع أن القبائل البربرية التي غزت غرب الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي قد ذابت في نهاية الأمر في حضارته، فتكلمت بلغته، وتثقفت بثقافته، أما شرق الإمبراطورية الذي كان يشمل منطقة الشرق الأوسط وجنوب البحر المتوسط، وتعرض للغزو العربي، فقد كان هو الذي ذاب في ثقافة العرب، وتكلم بلغتهم، وتثقف بثقافتهم، وهذا بالتحديد ما خَلَق الفجوة الحضارية بين شمال المتوسط وجنوبه حتى اليوم؟
هذا باختصار عن أسباب تراجع المصريين أمام تيار العروبة والإسلام. لقد كان حكمًا عشوائيًّا أصدره التاريخ على مصر والمصريين وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط، ولم يكن أمرًا اختاره الشعب المصري بإرادته قَطُّ كما مازال البعض يردد ويدَّعي.
وبعد وفاة المأمون، بايع الناسُ أخاه أبا إسحاق المُعتصم بالخلافة، فاتخذ المعتصم واحدًا من أخطر قرارات التاريخ الإسلامي، وهو إسقاط العرب من ديوان الجند، وإحلال الأتراك محلهم؛ وأكثَرَ المعتصمُ من الأتراك، وبَنَى لهم مدينة سامراء لتكون مركزًا لهم إلى الشمال من بغداد، وأرسل إلى كيدر واليه على مصر، وأمره بإسقاطِ من في الديوان من العرب، وقَطْع أعطياتهم، ففعل ذلك كيدر. وقد أسقط ذلك القرار العرب عن منزلتهم كطبقة حاكمة تحترف الحرب والسياسة، ودفع كثيرًا منهم إلى الاستقرار في البلاد التي فتحوها، وإلى الانخراط في ميادين العمل المختلفة، والاختلاط والتزاوج بالسكان، مِمَّا أدَّى إلى سرعة تحول هذه البلاد إلى العروبة والإسلام منذ ذلك التاريخ فصاعدًا.
كان المعتصم من أم تركية، ولذا فقد فضل الأتراكَ على غيرهم لكي يكونوا جنودَ الدولة العباسية الجدد، ولكن يبدو أنه كان قد اقتنع أيضًا أن السلام والاستقرار لا يمكن أن يتحقق في الإمبراطورية العباسية في ظل ثورات القبائل العربية المستمرة، خاصة أنه كان قد حضر إلى مصر سنة 214هـ، واشترك في قمع ثورات أهل الحوف في عهد أخيه المأمون. ومهما كانت دوافع المعتصم فقد كان قراره هذا بمثابة البداية لنهاية دور العرب في قيادة الدولة الإسلامية، وصعود نجم الأتراك في التاريخ الإسلامي. ومنذ ذلك التاريخ أيضًا بدأ ميزان التركيبة السكانية في مصر يميل بشدة في صالح العرب المسلمين على حساب المصريين المسيحيين، وظلَّ هذا الاتجاه في تصاعد مستمر خلال العصر الإسلامي، وحتى عصر الحملة الفرنسية، عندما وُضعت بذور الوطنية المصرية الحديثة، وبدأ المصريون يجتمعون تدريجيًّا حول رابطةٍ من المواطنة قوامها الأرض وليس الدين، تأثُّرًا بالأفكار القوميَّة الليبرالية للقرن التاسع عشر الأوربي، كما إتضح في أحداث ثورة 1919م في بدايات القرن العشرين.
بدأ استعمار العرب لمصر بإنشاء مدينة الفسطاط وتقسيمها خططًا (أحياءً) بين قبائل الفتح بعد فتح الإسكندرية مباشرة، بهدف جعل المدينة معسكرًا لإقامة الجيش العربي في مصر بِناءً على تعليمات الخليفة عُمَر بن الخطاب، ثم توالى تدفق العرب على مصر خلال القرنين الأولين للهجرة بصفة خاصة وحتى النصف الأول من القرن الثالث الهجري، حيث هاجرت قبائلُ ربيعة إلى مِصر زمن الخليفة المتوكل سنة 240هـ. وقد اشتركت القبائل العربية في مصر في الصراعات السياسية التي عصفت بالدولة العربية الإسلامية في القرن الأول الهجري، وكان لها دورٌ ملحوظٌ في فتنة الأمصار والصراع بين علي ومعاوية، ثم في ثورة عبد الله بن الزبير، واستيلائه على الخلافة من الأمويين سنة 72هـ، ولكن - ومع استتباب الأمور لصالح الدولة الأموية في عهد عبد الملك بن مروان، هدأت حركة القبائل العربية في مصر، حيث كانت تتمتع بكافة الامتيازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فقد كانت الدولة الأموية دولة عربية قلبًا وقالبًا، قامت على أكتاف العرب، وكانت القبيلة العربية مرتكزها وقوامها الأساسي، ولذا - وباستثناء بعض ثورات العلويين في العصر الأموي - لم تذكر المصادر التاريخية شيئًا ملحوظًا عن ثورات القبائل العربية في مصر، لكن وبعد سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية على أكتاف الفرس، بدأ اضطراب القبائل العربية في مصر وغيرها من مناطق الإمبراطورية العباسية، وبدأت المصادر التاريخية تشير إلى الفتن والثورات وحالة الفوضى الشديدة التي أحدثوها في مصر وفي منطقة الحوف الشرقي بشكل خاص.
وتبعًا لرواية الكندي، فقد بدأت هذه الثورات حوالي سنة 165هـ في ولاية مصعب بن موسى الخثعمي، ومع ذلك فإن أبا المحاسن يشير في النجوم الزاهرة إلى ولاية يحيى بن داود سنة 162هـ، فيذكر أنه كان أحد من مهد الديار المصرية، وأباد أهل الحوف من قيس ويمن وغيرهم من قطاع الطرق، مما يدل على أن الفوضى وانعدام الأمن في منطقة الحوف حيث سكنت كثير من القبائل العربية كانت ظاهرة طبيعية في مصر الإسلامية. ويروي الكندي قصَّة الفوضى الرهيبة التي أثارها العرب في مصر منذ ذلك الوقت وحتى حضور المأمون إلى مصر سنة 216/217هـ في سَردٍ ربما يكون من الصعب تكراره في دراسة مختصرة كهذه، ولكن يمكن القول بشكل عام إنَّ هذه الفوضى تنفي تمامًا الصورة المثالية المرسومة للعصر الإسلامي في مصر، والأهم من ذلك أن هذه الفوضى سوف تظل ملمحًا رئيسيًّا من ملامح تاريخ مصر الإسلامية حتى عصر محمد علي.
كان رفض دفع خراج الأرض أو قبول أي تعديل يجري عليه من قبل حكومة الفسطاط هو السبب المباشر لثورات القبائل العربية في منطقة الحوف، لكن هذه القبائل وفي صراعها مع حكومة الفسطاط كانت تغير على القرى المصرية وتفرض عليها الخراج بدورها وتشيع حالة من الفوضى الشديدة في البلاد. وعندما نشبت فتنة الأمين والمأمون سنة 195هـ، اشتركت القبائل العربية فيها، فأخذت قبائلُ الحوف العربية جانبَ الأمين ضدَّ حكومة الفسطاط الفارسية المعينة من قبل المأمون، وظهر في هذه الأثناء بيتان متصارعان كبيران هما بيت عبد العزيز الجروي زعيم قبائل لخم وجذام في منطقة الحوف وبيت السري بن الحكم زعيم الجند الفارسية في مصر، وقد أعان كلاهما حكومة الفسطاط في بداية الأمر على إخماد ثورات أهل الحوف، لكنهما ما لبثا أن تصارعا، ثم استوليا على مصر واقتسماها فيما بينهما، فاستولى آل الجروي على الوجه البحري بينما استولى آل السري على الفسطاط والوجه القبلي، واستمر الصراع ناشبًا بين البيتين حتى وصول قائد المأمون عبد الله بن طاهر إلى مصر سنة 210هـ الذي تمكَّن من طرد عبد الله بن السري من مصر بالتحالف مع علي بن عبد العزيز الجروي.
وبعد رحيل عبد الله بن طاهر عن مصر سنة 212هـ، عين الخليفة المأمون أخاه الأمير أبا إسحاق (الخليفة المعتصم فيما بعد) على ولاية مصر سنة 213هـ، وفي ولايته تجددت ثورات أهل الحوف مرة أخرى مما اضطره للحضور إلى مصر بنفسه سنة 214هـ، وإخماد تلك الثورات، وقَتَل وأسَرَ كثيرًا من زعماء التمرُّد، ولكن بعد رحيله تجدَّدَتْ الثورات مرة أخرى، فقدم القائدُ التركي الإفشين، وتمكن من إخماد ثورات أهل الحوف بالتعاون مع علي بن عبد العزيز الجروي سنة 215هـ، لكنه طالبه بالأموال التي كانت عنده، والتي جمعها من تحصيل خراج الوجه البحري بعيدًا عن حكومة الفسطاط، لكنَّ عليًّا رفض تسليم الأموال، فقتله الإفشين بعد عيد الأضحى بثلاثة أيام من سنة 215هـ بناءً على أوامر المأمون.
ثم خرج الإفشين إلى برقة، ووُلِّي على مصر عيسى بن منصور الرافقي في بداية سنة 216هـ.
وفي عهد ذلك الوالي، انتفض الوجه البحري كله بسكانه العرب والمصريين على السواء، وأخرجوا العمال، وخالفوا الطاعة لسوء سيرة العمال فيهم، فعاد الإفشين من برقة وحاول القضاء على الاضطرابات إلَّا أنه فشل فاضطر المأمون إلى الحضور بنفسه في المحرم سنة 217هـ، وعزل الوالي عيسى بن منصور، وقمع الثورة بمنتهى العنف والقسوة، ورفض الشفاعة في كل من اشترك فيها عربيًّا كان أم مصريًّا كما أسلفنا. وقد مثلت انتفاضة 216/217هـ ذروة الأزمة التي وصل إليها المجتمع المصري في القرن الثالث من عصر الدولة العربية الإسلامية بمصر، تلك الأزمة التي ظلت مع ذلك في تفاقم مستمر طوال العصور الإسلامية وحتى عصر محمد علي.
وبعد وفاة المأمون، تولى أخوه أبو إسحاق المعتصم باستخلاف منه، واتخذ قراره الشهير بإسقاط العرب من ديوان الجند وإحلال الأتراك محلهم، ليبدأ بذلك عصرٌ إسلاميٌّ جديدٌ هو عصر الولاة الأتراك العباسيين.
قامت الدولة العباسية على أكتاف الفرس- في البداية - ولكن الخلفاء الأوائل كانوا أقوياء للدرجة التي مكنتهم من السيطرة على أمور الحكم في الإمبراطورية التي ورثوها عن الأمويين، وقد عَمَدُوا منذ البداية إلى التخلص من منافسيهم المحتملين، وحتى من حلفائهم الفرس الذين ساعدوهم على إقامة دولتهم مثل أبي سلمة الخلال - رئيس الدعاة العباسيين في الكوفة - الذي قُتل على يد أبي العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين ، وأبي مسلم الخراساني - قائد الدعوة في خراسان وصاحب الفضل الأكبر في إقامة الدولة العباسية- الذي قُتل على يد أبي جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسين، وأخيرًا أسرة البرامكة الفرس - يحيى بن خالد البرمكي وأبناؤه الفضل وجعفر - الذين وبرغم كل ماقدموه لدولته من خدمات، فقد قام الخليفة هارون الرشيد بالتخلص منهم بالحبس والقتل والمصادرة بعد أن تعاظم نفوذهم وأصبحوا مصدر تهديد لسلطاته. لكن قصة الأتراك أخذت منحى آخر لم يكن متوقَّعًا بحيث آل إليهم ميراثُ محمد (ص) على حساب أصحابه العرب في نهاية الأمر. فمن الواضح أن هدف المعتصم كان مجرد إدخال عنصر نَشِط جديد إلى التركيبة السكانية في الدولة العباسية يوازن به نفوذَ العرب والفرس، فاختار الأتراكَ لأن أمه كانت منهم، ولأنهم كانوا أيضًا جنودًا أشدَّاء، ولكن يبدو أنهم كانوا أشداء أكثر مما كان يظن، بحيث سيطروا في النهاية على مؤسسة الخلافة العباسية نفسها، وسيطروا بعد ذلك تدريجيًّا على العالم الإسلامي السُّني كله منذ عصر المعتصم، وحتى سقوط الإمبراطورية العثمانية التركية في أوائل القرن العشرين.
وبالطبع فقد كان لموقف المعتصم بإسقاط العرب من ديوان الجند أثره الفوري في مصر؛ فبعدما كتب إلى واليه كيدر بإسقاط العرب من ديوان الجند خرج يحيى بن الوزير الجروي في حوالي خمسمائة رجل من لخم وجذام وقال (هذا أمر لا نقوم في أفضل منه لأنه منعنا حقنا وفَيْأَنا) فخرج إليه الوالي التركي مظفر بن كيدر، وقاتله في بحيرة تنيس وأسره، فتفرق عنه أصحابه، وذلك في جمادى الأولى سنة 219هـ، وبذلك انتهت قصة آل الجروي من تاريخ مصر الإسلامية، وقضى عليهم بعد ذلك نهائيًّا، واستصفيت أموالهم في عهد الخليفة العباسي المتوكل (205-247ه). وفي سنة 238هـ، تولى على مصر عنبسة بن إسحاق الضبي، فكان آخر والٍ عربي عليها، وتولى بعده يزيد بن عبد الله التركي الذي يمكن اعتبار ولايته بداية عصر الولاة الأتراك لمصر.
لم تشهد فترة حكم الولاة الأتراك تغييرًا جوهريًّا في حياة المجتمع المصري في العصر الإسلامي؛ فقد ظل نفس المجتمع المتأزم الذي يعاني ثورات القبائل العربية الدائمة، واضطهاد أهل الذمة، والصراع الضاري على السلطة بين الأحزاب المتنافسة، بإلإضافة إلى القحط والفقر والغلاء وهي ظاهرة مصرية قديمة ارتبطت بانخفاض فيضان النيل، لكنها تفاقمت في العصور الإسلامية بسبب قلة اهتمام الدولة. لكن عصر الولاة الأتراك شهد في الواقع تطورًا في وضع مصر السياسي كان نذيرًا بما سيقع في المستقبل إذ استطاع بعض هؤلاء الولاة الأتراك الاستقلال بمصر واتخاذها قاعدة لدولة شبه مستقلة عن الخلافة العباسية في بغداد وهو ما ستؤدي إليه الأحداث بعد ذلك فعلًا في العالم الإسلامي بعد قيام الخلافة الفاطمية في المغرب ثم انتقالها إلى مصر، واتخاذها قاعدة لإمبراطوريتها الجديدة التي عاشت لأكثر من قرنين من الزمان.
وفي ولاية يزيد صدر أمر المتوكل ببناء المقياس الهاشمي (مقياس النيل)، وبعزل النصارى عن قياسه ( يقصد المصريين)، ووضع أسرة عربية على قياسه هي أسرة أبي الرداد، وكان المتوكل قد اتبع سياسة عامة في اضطهاد أهل الذمة، وأصدر بذلك مرسومًا إلى الولايات سنة 235هـ (يمكن الرجوع إلى نص المرسوم في صبح الأعشى). وفي ولاية يزيد أيضًا خرج رجل من العرب يدعى جابر بن الوليد المدلجي بأرض الإسكندرية في ربيع الآخر سنة 252هـ، وأحدث في مصر فوضى شديدة، وانضم إليه كثيرٌ من بني مدلج ومواليهم، وكثير من المجرمين والخارجين عن القانون، فلم يتمكن يزيد من القضاء على تمرده، فعُزل بمزاحم بن خاقان سنة 253هـ الذي اجتهد في محاربة جابر وأصحابه حتى تمكن من القضاء على تمردهم في أوائل سنة 254هـ. وبعد أن أتمَّ مزاحم بن خاقان القضاء على ثورة جابر بن الوليد شرع في القضاء على باقي العناصر العربية المناوئة للدولة. ويصف أبو المحاسن بن تغري بردي أحداث تلك الفترة في النجوم الزاهرة فيقول (وأخذ مزاحم في إظهار الناموس وإقماع أهل الفساد فخرج عليه جماعة كبيرة من المصريين (يقصد العرب) فتشمر لقتالهم وجهز عساكره وأنفق فيهم، فأول ما ابتدأ بقتال أهل الحوف من الوجه البحري، فتوجه إليهم بجنوده وقاتلهم، وأوقع بهم وقتل منهم وأسر، ثم عاد إلى الديار المصرية فأقام بها مدة يسيرة، ثم خرج أيضًا من مصر ونزل بالجيزة، ثم سار إلى تروجة (كوم تروجة) بالبحيرة، وقاتلهم وأوقع بهم وقتل منهم مقتلة كبيرة وأسر عدة من رؤوسهم، وعاد بهم إلى ديار مصر فلم تطل إقامته بها وخرج إلى الفيوم، وقاتل أهلها، ووقع له بها حروب كثيرة، وقتل منهم أيضًا مقتلة عظيمة، وأمعن في ذلك، وكثر بعد هذه الواقعة إيقاعه بسكان النواحي).
ويمكن أن نستخلص من ذلك أن ثورة جابر بن الوليد المدلجي لم تكن آخر ثورات العرب في مصر، وأن بعض الثورات قد استمرت بعد القضاء على ثورة جابر، لكن زمن ولاية مزاحم بن خاقان كان على أي حال هو آخر زمن ثورات العرب الكبرى في مصر، وقد تفرقوا على أثر ذلك فتمصَّر معظمهم، واستقر بين جموع المصريين، وامتهن الزراعة والتجارة وغيرها من وسائل الحياة، وظل بعضهم على حرفة الحرب والقتال تابعًا في جيوش الأتراك، بينما ظل البعض الآخر على حرفة الجريمة وقطع الطريق، وذلك حتى عصر محمد علي عندما بدأت قصة القبائل العربية في مصر في الاندثار النهائي.
وفي نفس السنة التي قضى فيها مزاحم بن خاقان على ثورة جابر بن الوليد المدلجي، مرض وتوفي بمصر وتولى بعده مؤقتًا ابنه أحمد ثم قائد الشرطة أزجور، حتى صُرف عنها بالأمير التركي أحمد بن طولون في رمضان سنة 254هـ.
تمكن أحمد بن طولون من الاستقلال بمصر عن الخلافة العباسية، حيث تمكن – بعد وقت قصير من قدومه - من شراء موافقة الخليفة المعتمد بالمال، وبمساندته في صراعه مع أخيه الموفق أحمد مستغلًّا في نفس الوقت ظروف ثورة الزنج في جنوب العراق التي شغلت الخلافة العباسية عما كان يجري في المناطق البعيدة من الإمبراطورية.
كانت ثورات العلويين هي أول تحدٍّ واجه أحمد بن طولون في مصر، ففي سنة 255هـ خرج رجل علوي يدعى بغا الأصغر بين برقة والإسكندرية بموضع يقال له الكنائس، ومعه ابن عم لجابر بن الوليد المدلجي، لكنَّ بهم بن الحسين أحد قواد ابن طولون استطاع هزيمته وقتله في شعبان سنة 255هـ. وفي نفس السنة خرج ابن الصوفي العلوي بصعيد مصر - وكان تمرده قد بدأ سنة 253هـ - ثم دخل إسنا في سنة 255هـ فنهبها وقتل أهلها، فبعث إليه أحمد بن طولون بقائد له يدعى ابن إزداد، فواجهه ببهو وهي بلدة قديمة بالقرب من قوص في ربيع الأول سنة 256هـ فانهزم ابن إزداد وجُرح ثم ظفر به ابن الصوفي فقطع يديه ورجليه ثم صلبه، فعقد أحمد بن طولون لقائده بهم بن الحسين على جيش آخر، فخرج إلى الصعيد في نفس الشهر، والتقى بابن الصوفي بناحية أخميم، فانهزم ابن الصوفي، وقُتلت رجاله، فهرب تاركًا جميع ما كان معه ومضى إلى الواحات، فأقام هناك سنتين، ثم خرج إلى الأشمونين في المحرم سنة 259هـ فبعث إليه ابن طولون بقائدٍ آخر يدعى أبا المغيث في خمسمائة رجل، فوجد ابن الصوفي قد سار إلى أسوان لمحاربة خصم له يدعى أبا عبد الرحمن العمري، وهو من أحفاد عمر بن الخطاب، فظفر به ابن العمري، وبجميع جيشه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، فرجع ابن الصوفي إلى أسوان، فقطع لأهلها ثلاثمائة ألف نخلة وأفسد بها، فبعث ابن طولون بقائد آخر يدعى بابن سيما مددًا لبهم بن الحسين، فاضطرب أمر ابن الصوفي، فترك أصحابه ومضى إلى عيذاب، وركب البحر إلى مكة، فأقام بها بعض الوقت إلى أن أعيد إلى مصر مرة أخرى، فسجنه أحمد بن طولون، ثم أفرج عنه بعد فترة قصيرة فرحل إلى المدينة فمات بها.
وفي شعبان سنة 256هـ توفي الخليفة المهتدي، فبويع المعتمد بن المتوكل، فأقر أحمد بن طولون على ولايته بمصر؛ ومع خلافة المعتمد بدأ نجم ابن طولون في الصعود؛ فعندما أرسل إليه المعتمد يطلب مزيدًا من الأموال أرسل إليه قائلًا (لست أطيق ذلك والخراج بيد غيري)، فأرسل إليه المعتمد تقليدًا بخراج مصر وكذلك بالولاية على الثغور الشامية، لكنَّ الموفق أحمد أخا الخليفة وصاحب النفوذ الفعلي في بغداد اعترض على ذلك، وطلب من قائده موسى بن بغا صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماجور التركي والي دمشق، لكن موسى توفي في صفر سنة 246هـ، ثم توفي ماجور التركي بعده بدمشق، فشجع ذلك ابن طولون على الخروج إلى الشام بعد أن استخلف ابنه العباس على مصر.
تمكن أحمد بن طولون من الاستيلاء على معظم مدن الشام، لكنه لم يمضِ في حملته إلى النهاية، واضطر إلى العودة إلى مصر بعدما بلغه خروج ابنه العباس عليه وهربه إلى برقة. حاول ابن طولون استرضاء ابنه وإعادته إلى مصر، لكن العباس رفض ودخل إلى تونس، ونزل بمدينة لبدة فنهبها، وقتل رجالها، وفضح نساءَها، لكن ثورته انتهت بالفشل، إذ اجتمع عليه حكام تونس وهزموه، وأرسل إليه ابن طولون جيوشًا هزمت ما تبقى من قواته وأعادته إلى مصر في رجب من سنة 268هـ حيث أمر ابن طولون بقتل من أسر من أتباعه على دكة عظيمة أعدها خصيصًا لذلك بعدما ضربوا بالسياط وقُطعت أيديهم، وحكم بحبس ابنه العباس.
وبعد تلك الأحداث تفرغ ابن طولون لأمر الشام مرة أخرى فبعث قائده لؤلؤ في جيش إلى هناك، لكن لؤلؤ خان وانضم إلى الموفق، فاضطر ابن طولون إلى الخروج بنفسه في صفر سنة 269هـ بعد أن استخلف على مصر ابنه خمارويه. وفي طريقه من دمشق إلى طرسوس وصله الخبر من الخليفة المعتمد بأنه هارب إليه فتوقف في انتظاره لكن الموفق أحمد أحبط خطط الخليفة، وتمكن قائده إسحاق بن كنداج من القبض على الخليفة المعتمد وإعادته إلى سامراء، فكافأه الموفق بأن ولاه على مصر بدلًا من ابن طولون. ردَّ ابن طولون على ذلك بعدما عاد إلى دمشق بأن أحضر القضاة والفقهاء وأمر بكِتاب خلع فيه الموفق أحمد من ولاية العهد لِمَا فعله بالخليفة المعتمد، فردَّ الموفق على ذلك بأن أمر بلعن ابن طولون على المنابر في كل أنحاء الإمبراطورية العباسية. وبعد ذلك حاول ابن طولون متابعة حملته الشامية، لكنه مرض في المصيصة، فأسرع بالعودة إلى الفسطاط حيث توفي في ذي القعدة من سنة 270هـ بعلة الكوليرا.
جمع أحمد بن طولون أموالًا هائلة من المصريين استطاع أن يحقق بها أهدافه في إشباع شراهة الخليفة المعتمد إلى الأموال لتحقيق الاستقلال بحكم مصر، وكذلك في تكوين جيش ضخم يحمي له ذلك الاستقلال. ويذكر المقريزي في الخطط أنه عندما قدم أحمد بن طولون إلى مصر سنة 254هـ، ألزم البطريرك ميخائيل بطريرك الكنيسة المصرية بحمل عشرين ألف دينار باع فيها رباع الكنائس الموقوفة عليها وأرض الحبش ظاهر فسطاط مصر، وباع الكنيسة بجوار المعلقة من قصر الشمع لليهود، وقرر الديارية (مساعدات للأديرة) على كل نصراني قيراطًا في السنة، فقام بنصف المقرر عليه. كما يذكر أبو المحاسن في النجوم أن ابن طولون أنفق على البيمارستان الذي أنشأه ستين ألف دينار، وعلى حصن الجزيرة الذي بناه تحسبًا لهجوم موسى بن بغا عليه سنة 264هـ ثمانين ألف دينار، وعلى قصره المعروف بالمدائن – الذي بناه على أنقاض مقابر اليهود والنصارى - خمسين ألف دينار، وحمل إلى الخليفة المعتمد في مدة أربع سنوات ألف ألف دينار، وهي مبالغ خيالية بحسابات ذلك الزمان، لدرجةٍ جعلت بعض المؤرخين يروِّج لقصة الكنز الذي عثر عليه أحمد بن طولون لتبرير حجم ثروته الكبيرة التي جمعها بالظلم والقسوة. ويمثل أحمد بن طولون الشخصية النموذجية للحاكم المسلم في العصور الوسطي؛ ويعلق أبو المحاسن في النجوم على شخصه وعصره بقوله (كان جميع خصال ابن طولون محمودة إلَّا أنه كان حادَّ الخلق والمزاج؛ فإنه لما ولي مصر والشام ظلم كثيرًا وعسف وسفك كثيرًا من الدماء، ويُقال إنه مات في حبسه ثمانية عشر ألفًا فرأى في منامه كأن الحق سبحانه قد مات في داره، فاستعظم ذلك، وانتبه فزعًا، وجمع المعبرين فلم يدروا، فقال له بعضهم: أقول ولي الأمان؟، قال: نعم، قال: أنت رجل ظالم، قد أمتَّ الحق في دارك، فبكى).
وبعد وفاة ابن طولون خلفه ابنه أبو الجيش خمارويه في ذي القعدة سنة 270هـ، وكان أول ما فعله هو التخلص من أخيه العباس بقتله، وذلك بعد أن رفض العباس مبايعته، ثم أرسل عساكره إلى الشام لتأكيد سلطانه عليها، لكن أبا العباس بن الموفق تصدى لهم وقاتلهم حتى هزمهم، ودخل دمشق، فاضطر خمارويه إلى الخروج إليه بنفسه سنة 271هـ، والتقى معه بنهر أبي فطرس بفلسطين، فتقاتلا، فهُزم خمارويه وهرب عائدًا إلى مصر، لكن قائده سعد الأعسر تمكن من تحويل الهزيمة إلى نصر، ودخل دمشق، لكنه طمع في ملك الشام لنفسه، فخرج إليه خمارويه وهزمه وقتله في ذي القعدة سنة 272هـ، ثم توجه لقتال إسحاق بن كنداج قائد العباس فهزمه وقتله أيضًا في المحرم سنة 273هـ.
ويذكر المقريزي أن عدد أفراد الجيش الذي خرج مع خمارويه إلى الشام بلغ حوالي أربعمائة ألف جندي معظمهم من الأتراك مع بضعة آلاف محدودة من العرب، مما يدل على عِظَم ثروة آل طولون التي سمحت لهم بتكوين مثل ذلك الجيش الضخم من جهة، وعلى مدى تزايد أعداد ونفوذ الأتراك بمصر مقابل اضمحلال مكانة العرب ونفوذهم السياسي من جهة أخرى.
وبعد تلك الأحداث كتب خمارويه إلى أخي الخليفة أبي أحمد الموفق يسأله في الصلح، فأجابه الموفق على ذلك، وكتب لخمارويه بولايته على مصر والشام والثغور ثلاثين سنة، فَسُرَّ خمارويه بذلك، وعاد إلى مصر، وأمر بالدعاء لأبي أحمد الموفق، وتَرْك الدعاء عليه.
وفي سنة 278هـ مات الموفق، ومات الخليفة المعتمد بعده في سنة 279هـ، وبويع المعتضد أبو العباس ابن الموفق خليفةً، فبَعث إليه خمارويه بتحفٍ وهدايا، فردَّ عليه المعتضد في سنة 280هـ بولايته هو وولده ثلاثين سنة من الفرات إلى برقة، وجعل إليه الصلاة والخراج والقضاء وجميع الأعمال، على أن يحمل إليه من المال في كل عام مائتي ألف دينار عما مضى، وثلاثمائة ألف دينار عن كل عام في المستقبل، ثم توَّج هذا التحالف السياسي بزواج الخليفة المعتضد من قطر الندى ابنة خمارويه سنة 282هـ. أرسل خمارويه ابنته إلى بغداد في جهاز أسطوري أنفق عليه بسخاء من أموال المصريين، فبنى لها على كل منزلة تنزل بها فيما بين بغداد ومصر قصرًا، فكانت في مسيرها إلى بغداد كأنها في قصر أبيها في مصر، وذلك حتى وصلت إلى بغداد في أول المحرم سنة 282هـ؛ ومن الغريب أن المصريين مازالوا يعتبرون هذا الزواج الاستفزازي من مفاخر تاريخهم الإسلامي حتى اليوم!
مات خمارويه في آخر تلك السنة، قتله خدمه في الحمام. ويذكر أبو المحاسن في النجوم عن مقتله أن خمارويه (كان كثير الفساد بالخدم، فدخل الحمام مع جماعة منهم، فطلب من بعضهم الفاحشة، فامتنع الخادم حياءً من الخدم، فأمر خمارويه أن يُضرَب، فلم يزل يصيح حتى مات في الحمام، فأبغضه الخدم). وكان قد بنى قصرًا بسفح ماسيون بالقرب من دمشق أسفل دير مران ليشرب فيه الخمر، فدخل في تلك الليلة الحمام فذبحه خدمه، وقيل ذبحوه على فراشه وهربوا، وقيل غير ذلك، وأن بعض خدمه كان يولع بجارية له فتهددها خمارويه بالقتل، فاتفقت مع الخادم على قتله. وكان ذلك في منتصف ذي الحجة سنة 282هـ.
تولى بعد خمارويه ابنه أبو العساكر جيش في نفس الشهر بدمشق، لكن قُواد أبيه كرهوا ماكان منه من قتل عمه نصر بن أحمد بن طولون ولإقباله على الشرب واللهو مع بعض العامة الذين جعل منهم بطانته وأصحاب الرأي عنده، فخلعوه في جمادى الآخرةة سنة 283هـ، وبايعوا أخاه هارون بن خمارويه، وقتلوا أبا العساكر في سجنه بعد ذلك بعدة أيام.
كان أول تحدٍّ واجه هارون في حكم مصر هو خروج عمه ربيعة بن طولون والي الإسكندرية، وهجومه على الفسطاط، لكن قواد هارون تمكنوا من أسره وقتله بعد ذلك في شعبان سنة 284هـ. وقد شهد عهد هارون أحداثًا حاسمة بعد موت الخليفة المعتضد صهر الطولونيين في ربيع الآخر سنة 289هـ ومبايعة ابنه المكتفي بالله.
كان المكتفي ينوي القضاء على ملك آل طولون بمصر، ولذا فقد انتهز فرصة عجز جيوش الطولونيين عن مواجهة القرامطة (وهم فرقة باطنية انتسبت في البداية إلى فرق الشيعة الإسماعيلية ثم انفصلت عنها قبل قيام الدولة الفاطمية بالمغرب، واحترفت القتل والسلب والنهب وأشاعت الفوضى في المشرق العربي لأكثر من قرن من الزمان قبل أن تقضي عليها جيوش العباسيين والفاطميين في المعارك المنفصلة التي خاضتها ضدَّها في حدود النصف الثاني من القرن الرابع الهجري) لتحقيق هدفه، فأرسل قائده محمد بن سليمان الكاتب إلى الشام لحرب القرامطة، فالتقى بهم محمد بن سليمان، وهزمهم في المحرم سنة 291هـ، وقتل زعيمهم يحيى بن زكرويه القرمطي، بينما هرب أخوه الحسن بن زكرويه، لكنه أُدرك وقُتل بعد ذلك أيضًا. بعد ذلك أمر الخليفة المكتفي محمد بن سليمان بالتوجه إلى مصر لقتال هارون بن خمارويه، وبالفعل سار محمد بن سليمان إلى مصر، وكتب إلى دميانة قائد الأسطول باللحاق به في مصر، كما كان كثيرٌ من قواد هارون قد انضموا إلى محمد بن سليمان، وسار الجميع نحو مصر.
تهيأ هارون للقتال، وجمع جيوشه في منطقة العباسة على حدود مصر الشرقية، ولكن بينما هو ذات ليلة في معسكره بالعباسة وقد شرب وثمل، وثب عليه بعض غلمانه وذبحوه، وعلى أثر ذلك دعا عمه شيبان إلى نفسه، فبايعه الناس في صفر سنة 292هـ. وعندما وصل ذلك الخبر إلى محمد بن سليمان، حثَّ السَّيرَ إلى مصر، ووصل إليه أيضًا قائدُ الأسطول دميانة في أسطول ضخم مشحون بالرجال والسلاح، فخرج إليهم شيبان، لكن محمد بن سليمان كتب إليه يؤمنه، فلما رأى شيبان قلة من معه استأمن، وجمع إخوته وبني عمه في الليل، وتوجهوا إلى محمد بن سليمان فحبسهم عنده، ثم دخل بعساكره مدينة الفسطاط بدون مقاومة في صفر سنة 292هـ، فطاف بها، وراح يقتل كل من وجده من المصريين ممن اشتبه في أنه هرب أو قاتل وأحرق مدينة القطائع سكن العسكر الطولونية وقتل كثيرًا من الجند السودان الذين كان أحمد بن طولون قد استكثر منهم مع الأتراك. ويقول أبو المحاسن في النجوم عن دخول محمد بن سليمان إلى مصر، وزوال دولة بني طولون (ثم دخلت الأعراب الخراسانية من عساكر محمد بن سليمان الكاتب إلى مدينة مصر فكسروا جيوشها وأخرجوا من كان بها ثم هجموا على دور الناس فنهبوها وأخذوا أموالهم، واستباحوا حريمهم، وفتكوا في الرعية، وافتضوا الأبكار، وأسروا المماليك والأحرار من النساء والرجال، وفعلوا في مصر ما لايحله الله من ارتكاب المآثم، ثم تعدوا على أرباب الدولة وأخرجوهم من دورهم وسكنوها كرهًا، وهرب غالب أهل مصر منها، وفعلوا في المصريين ما لا يفعلونه في الكفرة، وأقاموا على ذلك أيامًا كثيرة مصرين على هذه الأفعال القبيحة).
وبعد فتح مصر على يد محمد بن سليمان الكاتب، جاء أمر الخليفة المكتفي بتولية عيسى النوشري عليها، وخرج عنها محمد بن سليمان في رجب من نفس السنة، وأخرج معه كل من بَقِي من الطولونية، وعندما وصل إلى حلب، وافاه رسول الخليفة بأن يسلم ما كان معه من الأموال والغنائم مما حمله من مصر. ويبدو أن الخليفة لم يهتم بغير ذلك، إذ لم يأت ذكر للطولونيين الذين كانوا مع محمد بن سليمان، لذا فقد تركهم يذهبون إلى حيث شاءوا، فقرر بعضهم المضي إلى العراق، وقرر البعض الآخر العودة إلى مصر. وكان ممن رجع إلى مصر رجل يُدعى محمد بن علي الخليجي، وكان من جنود آل طولون، وقد حزن لِمَا آل إليه أمرُهم، وعزم على استرجاع ملكهم، فدعا الناس، فالتف حوله بقايا الطولونية، وتقدَّم إلى الرملة، وهزم قائد الحامية العباسية وقتله، ودعا هناك لإبراهيم بن خمارويه ثم لنفسه، وزحف على مصر.
ولمَّا بلغ ذلك عيسى النوشري، أرسل إليه جيشًا عند العريش، لكن الجيش هُزم وتقهقر إلى الفرما حيث هُزم مرة أخري، فتراجع النوشري إلى مصر، ثم أحرق جسري مدينة الفسطاط، وعبر إلى الجيزة خوفًا من الخليجي، وترك المدينة بلا حاكم عليها، فأصبحت مأوى للغوغاء، وعاثت فيها اللصوص فسادًا بدون رادع. ودخل الخليجي مصر في ذي القعدة من سنة 292هـ، وظلم الناس، وصادر أموالهم للوفاء باحتياجات العسكر، وأرسل رجلًا من أصحابه يُدعى خفيفًا النوبي في أثر النوشري، ثم أرسل إليه مددًا عليه رجل من أصحابه يُدعى محمد بن المجور في ستة مراكب مشحونة بالسلاح والرجال، فدخلوا الإسكندرية في ذي الحجة من نفس السنة، وأخذوا كل ما وجدوه بها لعيسى النوشري، وخلصوا الكتاب الذين كان النوشري قد حبسهم كي لايعرف ابن الخليجي بأمور الخراج وباقي شؤون الدولة، فهرب النوشري إلى كوم تروجة (في البحيرة)، وتتبعه خفيف النوبي إلى هناك، لكن النوشري هزمه، فعاد خفيف إلى مصر(الفسطاط). وأثناء ذلك وصل الخبر بمسير العساكر من العراق بقيادة فاتك المعتضدي، فلم يكترث ابن الخليجي، وجهَّز جيشًا آخر إلى النوشري الذي كان قد هرب إلى الصعيد بينما خرج هو لمواجهة فاتك عند العريش. ووقع لابن الخليجي مع جيوش العراق وجيوش النوشري وقائعُ كثيرة، هُزم فيها في النهاية، ولكن بعد أن خربت مصر، وعمَّ فيها الغلاء، وعدمت الأقوات، وكثرت الفتن، وانتشر الفساد؛ فلما رأى الخليجي أمره في إدبار، عاد إلى مصر، وقرر الهرب مع قائده محمد بن المجور في بعض مراكبه الحربية، لكن ابن المجور غدر به وتركه وهرب وحده، فرجع الخليجي إلى مدينة مصر، واختفى عند صاحب له يُدعي ثُريك، ولكن ثُريك خانه بدوره، وأبلغ الوالي فقبض عليه، وأرسله إلى الخليفة في بغداد حيث أُعدم هناك. ويذكر أبو المحاسن في النجوم عن فترة تسلط محمد هذا على مصر (وأمْرُ محمد هذا من العجائب؛ فإنه أراد أخذ ثأر بني طولون، والانتصار لهم غيرةً على ما وقع من محمد بن سليمان الكاتب من إفساد الديار المصرية، فوقع منه أيضًا أضعاف ما فعله محمد بن سليمان الكاتب).
ومع ذلك فإن ما فعله ابن الخليجي لا يخرج في نهاية الأمر عن سياق الصراع بين الأحزاب المتنافسة على السلطة الذي كان يؤدي في النهاية إلى كثير من الخراب والدمار في المدن الإسلامية، وقد أصبح ذلك الصراع أحد المظاهر الثابتة في تاريخ مصر الإسلامية، بل وفي التاريخ الإسلامي كله.
وبعد وفاة الخليفة المكتفي في ذي القعدة سنة 295هـ، تولى المقتدر جعفر، فأقر عيسى النوشري على عمله بمصر، وفي تلك الأثناء قدم على عيسى زيادة الله بن العباس بن الأغلب آخر أمراء الأغالبة بتونس هربًا من الفاطميين بعد هزيمته من داعيتهم أبي عبد الله الشيعي في رمضان سنة 296هـ، ويُمثِّل ذلك أول ذكر للفاطميين في تاريخ مصر الإسلامية بعد حلولهم في المغرب. ولم تطل أيام الأمير عيسى بعد ذلك، ومرض ومات في شعبان سنة 297هـ، وتولى من بعده ابنه أبو الفتح محمد بن عيسى مؤقتًا إلى أن وَلِيَها تكين الحربي. وفي ولاية تكين هذا قام الفاطميون بأول هجوم كبير لهم على مصر من المغرب، فسار قائدهم حباسة بن يوسف بجيوش عُبَيد الله المهدي،أول الخلفاء الفاطميين بالمغرب، حتى دخل برقة فالإسكندرية واستولى عليها في المحرم سنة 302هـ.
أرسل تكين إلى الخليفة يطلب المدد، فأمدَّه بجيش عليه مؤنس الخادم، وسار الجميع نحو الإسكندرية لمواجهة حباسة، وتمكنوا من هزيمته، فعاد بمن بقي معه من عساكر إلى المغرب في حال سيئة، حيث أمر عبيد الله المهدي بإعدامه بعد ذلك.
وفي ذي القعدة 302هـ، صُرف تكين عن ولاية مصر، وتولاها ذكا الأعور الرومي، فأخذ يتتبَّعُ كلَّ من اشتبه في تعاطفه مع الفاطميين، وأجلى أهل لوبية ومراقية (وهما مدينتان قديمتان كانتا تقعان بين الإسكندرية وبرقة) عن الإسكندرية خوفًا من الفاطميين. وأثناء ذلك قَدِمت عساكر المهدي عبيد الله الفاطمي مرة ثانية، ووصلت إلى لوبية ومراقية بقيادة أبي القاسم محمد بن عبيد الله المهدى،الخليفة القائم فيما بعد، ودخلت الإسكندرية في صفر سنة 307هـ، ففرَّ كثيرٌ من الناس من مصر إلى الشام برًّا وبحرًا، وهلك كثير منهم في فلسطين. وبينما كان ذكا يبني خندقًا ويستعد لمواجهة الفاطميين، مرض ومات في الجيزة في ربيع الأول سنة 307هـ، وتولى بعده أبو منصور تكين الحربي للمرة الثانية. وصل تكين إلى مصر، وتجهز بسرعة، ونزل بالجيزة وبنى عليها خندقًا ثانيًا غير الذي كان بناه ذكا، وانتظر حتى وصلت جيوش الفاطميين من الإسكندرية، فالتقى معهم، وتمكن من هزيمتهم، إلَّا أن القوات الفاطمية تمكنت من العبور نحو الصعيد، وسيطرت على الفيوم وجزيرة الأشمونين وعدة بلاد أخرى من الصعيد. ثم قَدِمَت على تكين النجداتُ من العراق بقيادة مؤنس الخادم في المحرم سنة 308هـ، وتمكنوا في النهاية وبعد حروب كثيرة من هزيمة محمد بن المهدي وإجباره على الرحيل إلى برقة.
شهدت مصر بعد ذلك فترة من الفوضى بسبب ثورات الجند وتصارع الولاة على الحكم، انتهت بتولي الأمير محمد بن طغج الإخشيد لولايتها – في عهد الخليفة الراضي - وتأسيس حكم وراثي فيها سنة 323هـ استمر حتى دخول الفاطميين مصر سنة 358هـ. ويذكر المقريزي في الخطط عن أحوال المسيحيين المصريين في تلك الفترة (أنه في سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة قَدِم الوزير على بن عيسى بن الجراح على مصر، فكشف البلد، وألزم الأساقفة والرهبان وضعفاء النصارى بأداء الجزية فأدوها، ومضى طائفة منهم إلى بغداد واستغاثوا بالمقتدر فكتب إلى مصر بأن لا يؤخذ من الأساقفة والرهبان والضعفاء جزية وأن يجروا على العهد الذي بأيديهم).
وبعد دخول محمد بن طغج إلى مصر، وقع بينه وبين أصحاب الوالي السابق أحمد بن كيغلغ فتنة أدت إلى القتال والحرب هُزم فيها أصحاب ابن كيغلغ وخرجوا من مصر إلى برقة ثم خرجوا من برقة إلى القائم بأمر الله بن المهدي الفاطمي بالمغرب، وحرَّضوه على أخذ مصر، وهونوا عليه أمرها، فأرسل معهم جيشًا عليه رجلٌ من كتامة اسمه يعيش، لكن محمد بن طغج تصدى لهم، وأرسل أخاه الحسن بن طغج على رأس جيوشه فهزمهم، واسترد منهم الإسكندرية، وأحضر كثيرًا منهم أسرى إلى الجيزة حيث قتلهم، وشُغل الإخشيد بعد ذلك بالصراع مع أمير الأمراء محمد بن رائق في محاولة استقلال الأخير بالشام وهجومه على مصر، فخرج إليه الإخشيد بأمر الخليفة الراضي، والتقى به في معركة كبيرة في العريش، قُتل فيها أخو الإخشيد، لكنها لم تسفر عن نصر حاسم لأي منهما، فاتفقا على أن يترك ابن رائق الرملة للإخشيد، مقابل أن يدفع له الإخشيد مائة وأربعين ألف دينار في كل سنة، ويظل باقي الشام في يد ابن رائق، وذلك في سنة 329هـ. وقد استمرت سياسة اضطهاد المسيحين المصريين في عهد الإخشيد أيضًا، إذ يذكر المقريزي في الخطط أنه (بعد موت بطريرك الملكان سعيد البطريك في سنة 328هـ، بعث الأميرُ أبو بكر محمد بن طغج الإخشيد أبا الحسين من قواده في طائفة من الجند إلى مدينة تنيس حيث ختم على كنائس الملكية وأحضر آلاتها إلى الفسطاط وكانت كثيرة جدًا، فافتكها الأسقف بخمسة آلاف دينار باعوا فيها الكثير من وقف الكنائس).
وفي سنة 329هـ مات الخليفة الراضي، وتولى أخوه المتقي، فأقرَّ الإخشيدَ على عمله بمصر، وبعد ذلك بسنة واحدة 330هـ لَقِيَ محمد بن رائق مصرعه في قتال مع بني حمدان بالموصل، فانتهز الإخشيد الفرصة، وخرج بجيوشه، واستولى على دمشق، لكن أثناء غيابه، انتهز رجل عَلَوي يُدعى ابن السراج الصوفي خلوَّ الفسطاط من الجند، فثار ومضى إلى الصعيد، واستولى على قرية شرونة بالصعيد الأدني شرق النيل، ونهب سمطًا بالقرب من البهنسا غرب النيل، ثم هرب إلى المغرب، ودخل في سلطان الفاطميين.
وبعد فترة قصيرة من تلك الأحداث 332هـ، بلغ الإخشيد خروج الخليفة المتقي إلى بلاد الشام مع بني حمدان هربًا من استبداد توزون التركي أمير الأمراء ببغداد، فأسرع الإخشيد بالخروج إليه، والتقى به في الرقة، وعرض عليه العودة معه إلى مصر هربًا من توزون التركي وبني حمدان على السواء. ولا شك في أن الإخشيد كان يقصد بذلك العرض - الذي يشبه تمامًا عرض ابن طولون للمعتمد - تحقيقَ مكسب سياسي كبير بنقل الخلافة من بغداد إلى مصر، لكن المتقي رفض عرض الإخشيد، وعاد إلى بغداد بعد أن استأمن توزون، لكن الأخير حبسه، ثم سمل عينيه كي لا يصلح للخلافة أبدًا بعد ذلك، ثم خلعه بالمستكفي بالله الذي أقر الإخشيد على ولايته بمصر والشام. وبعد ذلك بفترة قصيرة، خرج الإخشيد لحرب بني حمدان في الشام، ولكنه أثناء وجوده في دمشق مرض ومات بها في ذي الحجة سنة 335هـ، وتولى بعده ابنه أبو القاسم أنوجور باستخلاف أبيه له. وعاد أنوجور إلى مصر بصحبةِ خادمِ أبيه كافور الإخشيدي الذي أصبح صاحب النفوذ الفعلي في مصر، لكنه سرعان ما عاد إلى الشام مرة أخرى لقتال سيف الدولة الحمداني الذي استولى على دمشق بعد رحيل أنوجور عنها. والتقى الطرفان في وقعة كبيرة بالرملة هُزم فيها سيف الدولة، وهرب، ثم اتفقا على الصلح على أن يقتسم الإخشيديون والحمدانيون السلطانَ على بلاد الشام كما كان الحال سابقًا.
وأثناء غياب أنوجور بالشام، خرج مُتولي ريف الأشمونين المدعو غلبون في جموع كثيرة، فنهب مصر، واستولى عليها، ثم هرب عندما علم بعودة أنوجور من الشام، فتتبعته قوات أنوجور حتى قُبض عليه وقُتل. وأثناء تلك الفترة من غياب أنوجور، عاد أيضًا الثائرُ العلوي ابن السراج من المغرب، ولكن يُفهم من كلام الكندي أنه مات بعد فترة قصيرة من عودته.
استمر انوجور في ولايته على مصر إلى أن وقع بينه وبين كافور خلاف سنة 343هـ، فاحتجب فترة ثم عادت الأمور إلى ماكانت عليه، لكنه توفي بعد ذلك بمرض غامض في ذي القعدة سنة 349هـ، فأقام كافور أخاه عليًّا أبا الحسين ابن الإخشيد مكانه، لكنه لم يلبث أن اعتل بنفس علة أخيه، ومات في سنة المحرم سنة 355هـ، مما يرجح سمه بأمر كافور مثله مثل أخيه أنوجور، وظلت مصر أيامًا بغير والٍ حتى تولى كافور باتفاق أعيان البلاد، لكنه لم يعش كثيرًا بعد ذلك، ومات في سنة 357هـ، وتولى بعده أحمد بن على بن الإخشيد الملقب بأبي الفوارس، وأصبح ابن عم أبيه الحسن بن عبد الله بن طغج خليفته، وأبو الفضل جعفر ابن الفرات وزيره، فأساء أبو الفضل السيرة، وقبض على جماعة من الأعيان وصادرهم، ومنهم الوزير المشهور يعقوب بن كلس، فهرب إلى المغرب، وحرَّض المعز على أخذ مصر.
شهدت مصر في السنوات الأخيرة من حكم الإخشيدين حالة شديدة من الفوضي؛ ففي سنة 351هـ وقع غلاءٌ شديدٌ، واضطربت الأحوال بمصر والإسكندرية بسبب المغاربة أعوان الفاطميين الواردين إليها من المغرب، وتزايدَ الغلاءُ، وعزَّ وجودُ القمح بسبب انخفاض النيل، ثم هجم القرامطة على الشام سنة 352هـ، وأحدثوا بها خرابًا كبيرًا، وعجز الإخشيديون عن دفعهم لشغلهم بالغلاء والمغاربة الفاطميين، واشتد الاضطرابُ بالوجه القبلي أيضًا، وسار ملك النوبة إلى أسوان، ووصل إلى أخميم، وقتل ونهب وسبى وأحرق، واستمر الحال على ذلك الاضطراب إلى شهر رمضان سنة 358هـ حين دخل جوهر الصقلي قائد الفاطميين إلى مصر، ومعه جيوش البربر المغاربة من قبائل كتامة وزناتة، وانقرضت دولة الإخشيديين من مصر بعد أن حكمتها حوالي خمسًا وثلاثين سنة، وانتهى بذلك عصر الولاة الأتراك في تاريخ مصر الإسلامية، وبدأ عصرها الفاطمي ليمتد بعد ذلك تاريخها الإسلامي على نفس الوتيرة حتى عهد محمد علي .

أهم المراجع :

1. ولاة مصر – الكندي

دار صادر- بيروت

2. الخطط – المقريزي

دار الكتب العلمية – بيروت

3. النجوم الزاهرة – أبو المحاسن بن تغري بردي

دار الكتب العلمية - بيروت











الدراسة الرابعة
جامعة الدول العربية
ارتبطت فكرة إنشاء جامعة للدول العربية بفكرة القومية العربية التي ظهرت كرد فعل ضد السيادة التركية العثمانية على المشرق العربي على يد مفكرين سوريين من أمثال عبد الرحمن الكواكبي في القرن التاسع عشر وساطع الحصري في القرن العشرين. كانت مصر بعيدة تمامًا عن تلك التوجهات السياسية العروبية؛ بسبب تمسك قيادات الجيل الأول من قادة ثورة 1919م وعلى رأسهم سعد زغلول نفسه بفكرة القومية المصرية. ولكن بسبب التطور الذي كانت مصر قد حققته بالنسبة لسائر الدول العربية، وأيضًا بسبب تعذر قيام مشاريع الوحدة العربية المقترحة الأخرى، بقيادة الأسرة الهاشمية أو الأسرة السعودية، وفشل مشروع نوري السعيد في اتحاد فيدرالي عربي سنة 1942م، وربما لكل هذه الأسباب مجتمعةً، أخذت مصر تظهر كبديل لا غنى عنه لقيادة مشروع الجامعة العربية. وفي سنة 1936م صرَّح ساطع الحصري مستشار الملك فيصل الهاشمي في العراق، وأكبر منظري فكرة القومية العربية في القرن العشرين، بأن مصر قد حباها الله كل الصفات الطبيعية لقيادة العرب. وهكذا ابتلعت مصر السم وبدأت أفكار القومية العربية تتسرَّب إلى مصر على حساب أفكار القومية المصرية منذ ثلاثينيات القرن العشرين وبدأت تلقي تجاوبًا من قيادات الجيل الثاني من الوفد ومن الملك فاروق نفسه، كما أعطت الأحداثُ في فلسطين قوة دفع كبيرة لتيار القومية العربية، بحيث غلب على المجتمع المصري في نهاية الأمر. وهكذا احتلَّتْ مصر مركز التفوق في الجامعة العربية منذ تأسيسها سنة 1945م، وكان ذلك موافقًا لرغبة بريطانيا الدولة الاستعمارية الكبرى وصاحبة السيادة على مصر - آنذاك - في خلق تجمع عربي بقيادة مصر لتحقيق مصالح الغرب، ووقف المدِّ الشيوعي المحتمل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما أصبحت القضية الفلسطينية أهم قضايا الجامعة العربية - وربما قضيتها الوحيدة - منذ تأسيسها وحتى ظهور قضايا حديثة أخرى.
نصَّ ميثاق الجامعة على أن تكون القاهرة مقرًّا دائمًا لها، وأن يُنتخب لها أمينٌ عامٌّ مصريٌّ، وأن تعمل تلك المنظمة على تقوية الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية بين الدول العربية. تحقق الشق الأول من الميثاق، وظلت القاهرة – وباستثناء فترة قليلة – مقرًّا دائمًا للجامعة، كما ظل أمينها العام – وباستثناء فترة قليلة أيضًا – مصريًّا. لكن الشق الثاني من الميثاق الخاص بتدعيم الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية بين الدول العربية لم يتحقق في أي مرحلة من مراحل تاريخها، بل على العكس من ذلك فقد تحولت الجامعة - بمرور الزمن - إلى منتدى لمؤامرات الدول العربية ضد بعضها البعض، وكذلك فإن مركز مصر المتفوق فيها لم يعد مؤكدًا في ظل التطورات السياسية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة العربية فيما بعد.
انتهى حكم أسرة محمد علي في مصر بقيام حركة الضباط الأحرار في يوليو سنة 1952م، وفي حدود نهاية سنة 1954م أصبح جمال عبد الناصر رئيسُ الحركة يسيطر على مصر كلها بعد أن تمكن من طرد الملك فاروق، والقضاء على الأحزاب السياسية، وإبعاد منافسه محمد نجيب، وقمع تنظيم الإخوان المسلمين. بدأ جمال عبد الناصر تحدِّيَه الكبير للغرب، بتوقيع عقد صفقة سلاح مع تشيكوسلوڤاكيا الشيوعية في سبتمبر 1955م، ثم بتأميم قناة السويس في يوليو 1956م. ردَّتْ إنجلترا وفرنسا على ذلك بشنِّ هجوم على مصر، بالتحالف مع إسرائيل في أكتوبر من نفس العام، بهدف احتلال القناة، وهو ما عرف في التاريخ باسم العدوان الثلاثي. لم ترضَ الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوڤييتي - القوتان الكبيرتان الجديدتان - عن محاولة إنجلترا وفرنسا إخضاع مصر بالقوة، وضغطتا من أجل وقف القتال، وكانت النتيجة إيقاف إنجلترا وفرنسا لعملياتهما العسكرية، وانسحاب إسرائيل بعد ذلك من سيناء. وفي 4 نوڤمبر، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة تشكيلَ قوة طوارئ للإشراف على وقف إطلاق النار الذي دعت إليه، والذي قبلته إنجلترا وفرنسا في السادس من نفس الشهر. وهكذا خرج جمال عبد الناصر منتصرًا من معركة السويس.
جعلت معركة السويس من جمال عبد الناصر بطلًا قوميًّا لدى الجماهير العربية، فارتبطت به آمالها في تحقيق الوحدة العربية وتحرير فلسطين. توافق حماس الجماهير العربية مع رغبة جمال عبد الناصر في فرض إرادته على العالم العربي – كما فرضها على مصر – فدخل في محاولات وحدة غير مدروسة مع سوريا والعراق واليمن سرعان ما انتهت كلها إلى فشل ذريع.
وهكذا لجأ جمال عبد الناصر إلى استغلال القضية الفلسطينية - ومن خلال موقع الجامعة العربية في مصر – لمحاولة فرض إرادته على العالم العربي بوسيلة أخرى غير محاولات الوحدة الفاشلة، فانتهز ظروف المخاوف التي نشأت عن تحويل إسرائيل لبعض مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب، ودَعَا إلى عقد مؤتمر للقادة العرب في القاهرة في يناير سنة 1964م وتبعه بمؤتمر ثانٍ في الإسكندرية في سبتمبر من نفس العام. كانت نتيجة المؤتمر انتصارًا سياسيًّا لمصر عبد الناصر، إذ تقرر إنشاء قيادة عسكرية عربية مشتركة بقيادة مصرية، كما تقرر إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية؛ لتعمل كممثل للشعب الفلسطيني. وضع ذلك المؤتمر سابقة مؤتمرات القمة العربية التآمرية التي أصبحت هي السمة الأساسية للعمل العربي المشترك منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم. ففي ذلك المؤتمر حاول عبد الناصر أيضًا تحسين علاقاته مع معسكر اليمين العربي في السعودية والأردن وتونس، وذلك لعزل أعدائه البعثيين في سوريا والعراق الذين أفشلوا مشاريعه الوحدوية. تسارعت أحداث العالم العربي، وبدأ الفدائيون الفلسطينيون يشنون هجماتهم على أراضي إسرائيل انطلاقًا من الأردن وسوريا، وأصبحت سوريا بشكل خاص هدفًا للانتقام الإسرائيلي. ومرة أخرى وجد البعثيون في سوريا أنفسهم في حاجة إلى جمال عبد الناصر، فحاولوا توريطه في معاهدة دفاع مشترك، بحيث يكون ملزمًا بالدفاع عن سوريا دون أن يكون له أي سلطة عليها – بعكس الحال في تجربة الوحدة - ونجحوا في ذلك في نوڤمبر 1966م وانتهى الأمر بتورط مصر وهزيمتها في حرب الأيام الستة مع إسرائيل في يونيو سنة 1967م. ومنذ ذلك اليوم، أخذت مصر تفقد موقعها المتقدم في النظام الإقليمي (التآمري) العربي، وبرزت على مسرح الأحداث قوة سياسية جديدة هي قوة الدول العربية الخليجية النفطية (بقيادة المملكة العربية السعودية وملكها الجديد فيصل) التي أخذت زمام المبادرة في النظام التآمري العربي.
كان مؤتمر الخرطوم الذي عُقد في أعقاب هزيمة 1967م هو آخر مناسبة هتفت فيها الجماهير العربية باسم عبد الناصر، ومع ذلك ففي ذلك المؤتمر استطاع الملك فيصل إجبار جمال عبد الناصر على أن يسحب من اليمن قواتِه التي كان قد أرسلها إلى هناك لتأييد الانقلاب الذي قاده بعض عناصر الجيش اليمني الناصرية على الإمام بدر إمام اليمن سنة 1962م وكانت السعودية تناصر الملكيين ضد الناصريين. وفي سنة 1969م عُقد مؤتمر قمة آخر في المغرب، لم يستطع خلاله جمال عبد الناصر إجبار الدول البترولية الخليجية (التي تقودها السعودية) على تسخير مواردها من أجل معركة تحرير الأراضي العربية. وفي سبتمبر 1970م توفي جمال عبد الناصر على أثر أزمة قلبية نتيجة للإجهاد الشديد أثناء آخر مؤتمر قمة عربي دعا إليه في القاهرة لفض الاشتباك العسكري الذي نشب بين الجيش الأردني ومنظمات المقاومة الفلسطينية في الأردن، وبعد غيابه لم يعد هناك مجال للشك في أن المملكة العربية السعودية أصبحت هي الطرف المسيطر في الجامعة العربية. وظلت المملكة العربية السعودية - بملكها الجديد فهد - تسيطر على النظام التآمري العربي خلال فترة السبعينيات حتى ظهر لها منافس نفطي آخر- مختلف السياسة والتوجهات - ممثلًا في عراق صدام حسين الذي نجح في الوصول إلى حكم العراق في أغسطس سنة 1979م.
ساعدت الظروف السياسية في مصر ما بعد عبد الناصر على تأكيد الحقائق الجديدة في سيطرة الدول النفطية على النظام التآمري العربي، حيث لم يكن لأنور السادات – خلف عبد الناصر – أي تطلعات لقيادة العرب. أدرك أنور السادات من واقع التجربة السياسية - وليس من وحي الأفكار والنظريات - أن كل السياسات التي سارت فيها مصر الناصرية – والتي كان شريكًا فيها - كانت خطأ، وأن حال مصر المستعمرة البريطانية – التي عرفها بنفسه - كانت بلا شكٍّ أفضل مما وصلت إليه الأحوال في مصر الناصرية. وعلى هدي ذلك الاقتناع، اندفع أنور السادات في طريقه المحتوم من أجل استرداد أرضه، وعكس كل سياسات الحقبة الناصرية. وأخذ أنور السادات يسابق الزمن فقام – بالتحالف مع سوريا – بشن الحرب على إسرائيل في السادس من أكتوبر سنة 1973م بهدف استرداد الأراضي المصرية المحتلة، وتحريك أزمة الشرق الأوسط على المسرح الدولي مرة أخرى. وبرغم أنه لم ينجح في استرداد سيناء المحتلة كاملة – في ذلك الوقت - فقد نجح بالفعل في تحريك الأزمة، وتدخلت القوى الكبرى بكل ثقلها، وعملت على فضِّ الاشتباك بين الجيشين المصري والإسرائيلي، وبدأت العمل على إيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي مرة أخرى. لكن إسرائيل لم تنسحب مع ذلك من سيناء تمامًا، كما أن الأحوال المصرية الداخلية لم تتحسن، بل ازدادت سوءًا، وأدت إلى انفجار داخلي خطير في يناير 1977م، مما اضطره – في النهاية - لأن يلقي بكل أوراقه دفعة واحدة، ويقوم بزيارة القدس في 19 نوڤمبر 1977م في محاولة لتحقيق السلام العربي مع إسرائيل، ومنح الاقتصاد المصري فرصًا أكبر بجذب مزيد من استثمارات العالم الغربي. لكن الأحداث قادته بعد ذلك للدخول في اتفاقية سلام منفردة مع إسرائيل في كامب ديفيد في سبتمبر 1978م، تم التوقيع عليها في العام التالي في واشنطن في 26 مارس 1979م، استردت مصر بموجبها سيناء منزوعة السلاح، دون الربط بين القضيتين المصرية والفلسطينية، ففقدت بذلك – وبشكل نهائي – موقعها المتقدم في النظام الإقليمي (التآمري) العربي الذي تأسس على قضية مركزية واحدة هي القضية الفلسطينية.
وبناءً على ذلك، قرر العرب في مؤتمر بغداد الذي عُقد في نوڤمبر سنة 1978م نقلَ مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، واتفقوا على فرض عقوبات على مصر إذا ما مضت في طريق السلام المنفرد مع إسرائيل، ثم - وبعد توقيع الاتفاقية في واشنطن في مارس 1979م - أغلقت معظم الدول العربية سفاراتها، وقطعت العلاقات التجارية والدبلوماسية مع مصر، وتم انتخاب المحامي التونسي الشاذلي القليبي سكرتيرًا عامًّا لجامعة الدول العربية، وذلك كأول سكرتير عام غير مصري يحتل ذلك المنصب منذ تأسيس الجامعة. وهكذا طُردت مصر خارج العالم العربي، ولم تعد قائدة له مرة أخرى، وانقضت تلك الأيام التي كان فيها جمال عبد الناصر يبتز العالم العربي بالقضية الفلسطينية، وأصبحت مصر الآن هي الطرف المنبوذ الذي يعاني الابتزاز.
ومع ذلك فلم تكن طبيعة النظام التآمري العربي لتسمح بأن تظل مصر بعيدة لفترة طويلة؛ فنظامٌ لم يتأسس على أي مبادئ ثابتة وإنما على مجرد تحالفات وتحالفات مضادة ومواقف ومواقف مضادة، كان من الطبيعي أن يستدعي مصر مرة أخرى إذا ما احتيج إليها، وهذا هو ما حدث بالفعل. لم يكن عقد مؤتمر القمة الذي تقرر فيه طرد مصر من الجامعة العربية في بغداد وليس في الرياض مصادفةً، فقد واكب ذلك صعود المنافس النفطي الراديكالي - عراق صدام حسين - ومحاولته السيطرة على النظام التآمري العربي من خلال التصدِّي للخطر الإيراني الجديد – وليس للخطر الإسرائيلي كما جرت العادة – الذي نشأ عن قيام الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979م، وإعلان قائدها آية الله الخميني صراحةً عن رغبته في تصدير ثورته إلى العالم الإسلامي، مما بدا أنه تهديدٌ لكل دول الخليج النفطية. وهنا تراجعت السعودية كارهةً، وأفسحت المجال للبطل العراقي الجديد كي يلعب دوره. وفي سبتمبر 1980م، قام العراق بإلغاء اتفاقية الجزائر لعام 1975م الخاصة بتنظيم حدود شط العرب مع إيران، وقام – متذرعًا ببعض المناوشات الحدودية – بمهاجمة الأراضي الإيرانية. وفي نفس الوقت كان أنور السادات قد اغتيل في السادس من أكتوبر سنة 1981م، ولم يعد هناك ما يمنع من بدء الاتصالات مع خليفته حسني مبارك من أجل إعادة مصر إلى الجامعة العربية، كي تساعد في مواجهة ذلك العدو الإيراني الجديد، ولكن الأمر استغرق بعض الوقت، وارتبط في الأساس بتطورات الحرب العراقية الإيرانية؟
لم يحقق العراق نصرًا سريعًا كما كان يتوقع، وطال أمد الحرب، فترتب على ذلك نتائج سياسية هامة، كان أولها قيام دول الخليج النفطية (بقيادة السعودية) بتأسيس مجلس تكاملي فيما بينهم – استثني منه العراق – عُرف باسم مجلس التعاون الخليجي في مايو 1981م، وكان آخرها وأهمها هو الدعوة إلى إعادة مصر إلى الجامعة العربية مرة أخرى، وإلى إعادة المقر والأمانة العامة إليها أيضًا، وذلك للاستفادة من إمكاناتها في مواجهة الخطر الإيراني من جهة، ولتدعيم موقف دول الخليج المحافظة أمام نفوذ عراق صدام حسين المتصاعد من جهة أخرى. وهكذا جعلت الحرب العراقية الإيرانية الطويلة التي تأرجحت فيها كفتا النصر والهزيمة بين طرفي النزاع الخليجين - العربي والفارسي - من مصر لاعبًا أساسيًّا في لعبة التآمر العربي مرة أخرى. تم طرح الموضوع في مؤتمر قمة عمَّان في نوڤمبر سنة 1987م، وتمت الموافقة عليه في مؤتمر قمة الدار البيضاء في مايو سنة 1989م. وهكذا عادت مصر إلى جامعتها التآمرية ظافرة مرة أخرى.
كانت الحرب العراقية الإيرانية قد انتهت بشبه انتصار للعراق في منتصف سنة 1988م، عندما اضطر الإمام الخميني لقبول قرار مجلس الأمن رقم 589 الداعي إلى وقف جميع العمليات العسكرية بين المتحاربين، وفي يناير 1989م جعل موتُ الخميني انتصارَ العراق في حرب الثماني سنوات، يبدو كأنه واقعٌ حقيقيٌّ. احتفل صدام حسين بانتصاره المزعوم، وأخذ يعمل على فرض إرادته على دول الخليج العربية، في نفس الوقت الذي أخذ يعمل فيه على احتواء مصر التي خرجت مستفيدة من الحرب الطويلة في الخليج. كان العراق هو الداعي إلى إنشاء مجلس التعاون العربي (في مواجهة مجلس التعاون الخليجي) الذي قبلت مصر- التي أصبحت تحركها أحداث الخليج في كل اتجاه تقريبًا - الانضمام إليه مع الأردن واليمن، وأعلن عن قيامه في 16/2/1989م. ثم وفي مايو من سنة 1990م، دعا صدام حسين إلى مؤتمر قمة غير اعتيادي في بغداد، حاول خلاله أن ينتزع ثمن انتصاره المزعوم على العدو الإيراني، وإعلانه بطلًا جديدًا للعرب، لكن دول الخليج العربية (بقيادة السعودية) - التي ما كان يمكن أن تسلم بقيادة راديكالية للنظام التآمري العربي - خيبت آماله عندما رفضت عرضه بأن تكون بغداد مكانًا لاستضافة مؤتمرات قمة عربية سنوية، وفضلت بدلًا من ذلك أن تُعقد تلك المؤتمرات – في حالة الموافقة عليها – بمقر الجامعة بالقاهرة. كان رد صدام حسين سريعًا وحاسمًا، إذ قام بغزو الكويت في أغسطس من نفس السنة 1990م، متذرعًا ببعض المشكلات الحدودية، وذلك وسط دهشة وذهول العالم. ومرة أخرى ألقت الأحداث بدور خطير لمصر لتلعبه، ومرة أخرى تربعت مصر على عرش النظام التآمري العربي؟
دعت مصر إلى عقد قمة غير اعتيادية في القاهرة في أكتوبر سنة 1990م، حضرها معظم القادة العرب، تمكنت خلالها من أخذ زمام المبادرة في النظام العربي مرة أخرى، واستصدرت قرارًا بإدانة العدوان العراقي على الكويت، وأكدت سيادة الكويت، وشجبت التهديدات العراقية للدول الخليجية، ومهدت لتكوين التحالف الدولي الذي أخذ يتشكل ضد العراق.
وفي غمرة الحماس الذي تلا تحرير الكويت على يد قوات التحالف الدولي في أوائل سنة 1991م، وكمكافأة للدور المصري والسوري في حرب تحرير الكويت، قامت دول الخليج العربية بتوقيع معاهدة إعلان دمشق مع مصر وسوريا في العاصمة السورية دمشق في السادس من مارس سنة 1991م، تعهدت فيها بتقوية الروابط السياسية والاقتصادية والعسكرية مع دول المجلس ومصر وسوريا، كما وافقت على إنشاء قوة سلام عربية في الخليج تشارك فيها مصر وسوريا، وعلى تدعيم مشروعات التنمية والتكامل الاقتصادي مع هذين البلدين الشقيقين، ولكن سرعان ما تبخر كل ذلك. كان من أول القرارات التي اتخذتها حكومة الكويت بعد إعادتها إلى الحكم على أثر تحرير قوات التحالف للكويت الذي شاركت فيه مصر، هو طلب رحيل القوات المصرية عن الكويت بأسرع وقت ممكن، وبشكل ترك آثارًا سلبية على العَلاقات المصرية الكويتية لفترة طويلة بعد ذلك. وكذلك وبمرور الوقت، وبعدما انحسر الخطر العراقي، تبخرت أيضًا وعود الدول الخليجية التي نصَّ عليها إعلان دمشق في التعاون، وتنمية مشاريع الأوهام المشتركة، بل على العكس من ذلك فقد حدث بعد ذلك بوقت قصير أن هددت المملكة العربية السعودية بوقف توظيف العمالة المصرية بسبب هجوم الصحافة المصرية عليها (حوالي بدايات التسعينيات) بسبب حادث جلد طبيب مصري أمام تلاميذ مدرسة كان قد اتهم مديرها باغتصاب ابنه التلميذ فيها، وعندما تقدم بشكوى إلى الجهات المسؤولة، كانت النتيجة هي تحويله للمحكمة والحكم بجلده علنًا أمام تلاميذ المدرسة، بحجة تشهيره بمديرها السعودي. وقد استمرت تلك الأحداث المؤسفة بدون توقف حتى اليوم، وظلت مصر هي الطرف الخاسر فيها دائمًا. وهكذا أسفرت حرب تحرير الكويت عن خسارة مصر للعراق – آنذاك - في الوقت الذي لم تكسب فيه الكويت وشقيقاتها الخليجيات بشكل مؤكد أيضًا؟ ومع ذلك فقد دفعت التوجهات السياسية العامة المشتركة، وخطر استمرار نظام صدام حسين في حكم العراق – رغم الضربة الموجعة التي وجهتها إليه قوات التحالف في حرب تحرير الكويت - السعوديةَ ودولَ الخليج إلى الاستمرار في الاحتفاظ بموقع مصر على رأس النظام التآمري العربي، وشهدت حقبة التسعينيات من القرن الماضي تنسيقًا مشتركًا فيما بينهم فيما يخص القضايا الرئيسية في المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، حيث أخذت دول الخليج – بقيادة السعودية - في الإعلان عن تأييدها الصريح للتوجهات المصرية السلمية تجاه إسرائيل، وقد تأكد ذلك في مؤتمري القمة العربيين اللذَين عقدا - بالتتابع - في القاهرة سنة 1996 وسنة 2000م، وهكذا تجاوزت العلاقات المصرية الخليجية مرحلة الفتورِ التي أعقبت حرب تحرير الكويت، وتنصُّلِ الدول الخليجية من التزاماتها تجاه إعلان دمشق، وظل الدور المصري – مع ذلك - منحصرًا في ردود الأفعال التي يقوم بها تجاه الأحداث التي تطرأ حوله، خاصة في ظل عدم وجود أي اتجاه نحو إحداث أي تغيير داخلي في مصر، حيث بدت القيادة الجديدة – الممثلة في حسني مبارك - متمسكة بنفس النمط القديم من الحكم، وعدم الرغبة في إحداث ديموقراطية حقيقية، أو تداول للسلطة داخل مصر، وفشِلَ مشروع التحول الاقتصادي نتيجة لذلك. وعندما تغيرت القيادة في الولايات المتحدة، وجاء جورج بوش الابن إلى الحكم وأراد ضرب العراق مرة أخرى سنة 2003م، وإزاحة نظام صدام حسين نهائيًّا، حاولت القيادة في مصر أن تلعب نفس الدور الذي لعبته في حرب تحرير الكويت، وأن تظهر أهمية الدور المصري، ولكن الواقع أنه لم يكن لديها شيءٌ تقدمه هذه المرة؛ لأن الإدارة الأمريكية الجديدة قررت العمل بمفردها، ولم تكن في حاجة إلى خدماتها.
لم يحقق غزو العراق سنة 2003م الأمن الذي كانت دول الخليج تأمل فيه بإزاحة نظام صدام حسين من العراق نهائيًّا، بل على العكس قد أسفر عن ظهور خطرين جديدين أشد فتكًا من نظام صدام، هما تنظيم القاعدة وإيران. وهكذا منحت الأقدار مصر مرة أخرى – وربما أخيرة - الفرصة للبقاء على رأس النظام التآمري العربي، وأجَّلت - أو ربما أجهضت - التطلع السعودي الخليجي للقضاء على موقعها القيادي بشكل نهائي، بل - وعلى العكس من ذلك - دفعت بهم للتمسك بها على رأس النظام العربي، ومحاربة الاتجاهات التي بدأت تظهر في العالم العربي – الآن - لمحاولة إنزال مصر عن عرش العروبة بقيادة دول مثل قطر والجزائر.
وهكذا عدلت السعودية من مبادرة السلام السعودية التي كانت قد طُرحت للمرة الأولى في مؤتمر فاس الأول سنة 1981م، ثم أعيد طرحها في مؤتمر فاس الثاني سنة 1982م، وأخيرًا في مؤتمر بيروت سنة 2002م، كي تصبح مبادرة عربية بدلًا من مبادرة سعودية إرضاءً لمصر التي ساءها أن تأخذ السعودية دور المبادرة في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، كما تراجعت عن لعب أي دور رئيسي في ملف الانشقاق الفلسطيني بعد فشل اتفاق مكة سنة 2007م إرضاءً لمصر التي بدا أن التدخل السعودي المباشر يقلقها، كما أجهضت مؤتمر الدوحة يناير 2009م الذي عُقد للضغط على مصر أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة. وهكذا دفعت ظروف الأخطار الجديدة في الخليج السعودية – بقيادة ملكها الجديد عبد الله - ودول الخليج إلى التنسيق مع مصر بدلًا من المواجهة معها كما كان الحال في حقبة الستينيات والسبعينيات. لكنَّ كل ذلك التقارب السياسي لم يدفع – مع ذلك – في اتجاه إحداث تكامل اقتصادي حقيقي بين مصر والدول الخليجية؛ وبعكس الأهداف التي نص عليها ميثاق جامعة الدول العربية، فقد ظل ذلك التقارب مجرد تقارب سياسي، وظلت تلك الدول تستورد معظم عمالتها الأجنبية من دول خارج مصر والعالم العربي، كما فشِلَتْ كل المحاولات التي بذلتها مصر من أجل تأسيس سوق عربية مشتركة، وظلت الحواجز وتأشيرات المرور قائمة، وظلت حوادث الاعتداء على المصريين وسلب حقوقهم قائمة، وظلت المشاعر السلبية هي السائدة بين شعوب الدول الأعضاء في الجامعة العربية. وهكذا فإنه حتى في مثل هذه الظروف الإيجابية التقاربية، لم تتحقق الأهداف التي نصَّ عليها ميثاق جامعة الدول العربية أو بعض منها على الأقل، فمتى تتحقق؟
إن الحقيقة التي لا مفر من الاعتراف بها، هي أن تلك الأهداف قد عفا عليها الزمن، وأن الدول الخليجية النفطية الغنية قد أصبح لها أهداف أخرى غير تلك التي نص عليها ميثاق الجامعة العربية سنة 1945م، ويمكن اعتبار إنشاء مجلس التعاون الخليجي سنة 1981م إشارة واضحة إلى طبيعة تلك الأهداف الجديدة، وحقيقة هامة أخرى، هي أن موقع مصر المتقدم (رمزيًّا) في الجامعة العربية أصبح ناتجًا عن الظروف المحيطة بمنطقة الخليج، وليس عن أي عوامل قوة داخلية في مصر ذاتها – كما كان الحال في فترة الخمسينيات والستينيات - وأن ذلك الموقف قد لا يستمر إلى الأبد، خاصة في ظل الضغوط الداخلية والخارجية التي بدأت تتعرض لها إيران الثورة الإسلامية، والتي قد تعمل على تغيير توجهات النظام فيها أو إضعافه بضربة من الخارج، أو وصول قيادة سياسية غير مرضي عنها من السعودية ودول الخليج إلى حكم مصر، مما قد يدفع بتلك الدول النفطية القوية - في نهاية الأمر - إلى الاستغناء عن مصر وخدماتها، وتركها لمصيرها المحتوم، وربما حتى إلى أخذ زمام المبادرة في صناعة هذا المصير المحتوم؟ فماذا تنتظر مصر بعد ذلك؟ ماذا تنتظر من نظام إقليمي لم تستطع – عندما كانت في أوج قوتها – أن تدفع به إلى تكامل اقتصادي حقيقي، فهل تستطيع ذلك الآن وهي في أوج ضعفها خاصة بعد ثورة يناير2011م، وتدهور العلاقات المصرية الخليجية بسبب الإطاحة بنظام حسني مبارك الحليف، ووصول الإخوان المسلمين (الذين لن تغفر لهم الدول الخليجية أبدًا موقفهم المنحاز إلى صدام حسين أثناء غزوه للكويت) إلى حكم مصر؟ ماذا تنتظر مصر من نظام لم يبقَ منه سوى مجرد زعامة رمزية مرشحة لأن تسلب منها في أي وقت؟ يجب على مصر – وأقصد هنا القوى السياسية المدنية المصرية – أن تضغط بسرعة من أجل إقامة نظام إقليمي بديل، أو موازن للنظام التآمري العربي، يمكنها الاتكاء عليه والتفاعل الإيجابي معه، خاصة في ظل الأخطار المحيطة بها من جراء التدهور الاقتصادي المستمر، وخطر الجماعات الأصولية القادمة إلى سيناء عبر بوابة حماس في غزة، وذلك بالإضافة إلى الخطر الأكبر القادم من منابع النيل في الجنوب. ولكن هل يمكن أن يكون هناك نظام إقليمي بديل، أو موازن للنظام التآمري العربي؟ نعم يمكن، وسوف يكون هذا هو موضوع دراستنا (مصر والبحر المتوسط).
أهم المراجع:
1. تاريخ الشرق الأوسط / بيتر مانسفيلد
ترجمة /عبد الجواد سيد عبد الجواد
منشأة المعارف/ الإسكندرية
2.The Middle East, a brief history of the last 2000 years. By Bernards Lewis.
Published by. Simon and Schuster Inc. New York. U.S.A

الدراسة الخامسة
مابعد الدين والقومية
(دراسة في التطور الحضاري للعالمين المسيحي والإسلامي)
ظاهرتان كبيرتان صنعتا تاريخ الإنسان وتاريخ الإنسانية – على الأقل حتى اليوم – هما الدين والقومية. وإلى عهد قريب كان الاعتقاد الشائع هو أن كليهما قد ارتبط بتطور اقتصادي واجتماعي معين في حياة المجتمع الإنساني؛ فقد ارتبط الدين بالمجتمع الإقطاعي العبودي، بينما ارتبطت القومية بالمجتمع البرجوازي الليبرالي، لكن المراجعة الفكرية وتجربة التاريخ الحديث تثبتان أن هاتين القوتين، الدين والقومية، كانتا دائمًا ثقافتين تعملان في حياة الشعوب باستمرار، وبمعزل عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية، وإلا فبماذا نفسر سيادة الفكر الديني في دول لها كل ملامح الدول الرأسمالية كإيران والسعودية مثلًا، وسيادة الفكر القومي الليبرالي لدى شعوب قديمة لها كل ملامح المجتمعات الإقطاعية العبودية كبلاد اليونان القديمة وروما مثلًا؟
ففي البدء كان الدين للإجابة على السؤال الحاسم الخالد: من خلقنا ولماذا نموت؟ وهو سؤال سيظل يطرح نفسه دائمًا في حياة الإنسان، بصرف النظر عن طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه قديمًا كان أم حديثًا، إقطاعيًّا كان أم رأسماليًّا؛ ولأن السؤال صعب، والإجابة أصعب، فقد استولى الدين على حياة الإنسان منذ البداية، لكنه – بمرور الزمن - تحول من دين سلام إلى دين سياسة، وبدلًا من أن يمنح الإنسان السلام، منحه الحرب والصراع، واستمرَّ ذلك هو الحال حتى ثارت أوربا – قائدة التاريخ الإنساني - على الدين، وقدمت للإنسانية دينًا بديلًا هو الوطن، وهو عزيز على الإنسان أيضًا، لكن المشكلة لم تنتهِ، فقد كان الدين البديل دين سياسة بدوره، وتصارعت دول أوربا فيما بينها، وأفنت بعضها البعض بدافع التعصب الوطني في حربين عالميتين لم تعرف الإنسانية لقسوتهما مثيلًا.
عرفت الإنسانية ديانتين عالميتين هما المسيحية والإسلام؛ أما باقي الأديان الآسيوية الكبرى كالبوذية والهندوسية والكونوفوشية، فلم تتطور في أي لحظة من لحظات تاريخها إلى أن تصبح ديانة عالمية، وظلت عبر تاريخها الطويل محتفظة بدائرة انتشارها داخل البيئة الآسيوية فقط، باستثناءات قليلة بالطبع، كما أنها لم تتطور لتصبح ديانات سياسية تمامًا كالديانات الإبراهيمية الشرق أوسطية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام. ولسنا هنا بصدد الحديث عن لماذا أصبحت المسيحية والإسلام فقط ديانتين عالميتين، ولكننا نود الحديث عن ماذا حدث عندما أصبحتا كذلك؟
سسسسفلنبدأ بالمسيحية إذًا؛ لأنها الأقدم زمنيًّا. خرجت المسيحية من فلسطين على يد آخر أنبياء إسرائيل يشوع أو المسيح كما اشتهر في التاريخ. شاب إسرائيلي شديد التدين عظيم الهيبة والتأثير- بلاشك - أراد أن يحدث بعض الإصلاحات في الشريعة الموسوية، فرفض إصلاحاتِه كثيرٌ من اليهود، وأيدها كثيرٌ منهم أيضًا. وفي النهاية ضاق به الجميع، اليهود أصحاب الأرض، والرومان أصحاب السلطة، فحكموا عليه بالموت، ورفعوه على الصليب بعد أن أذاقوه مرَّ العذاب. وبمجرد أن لفظ أنفاسه وأسلم الروح إلى خالقه وهو يصيح (ربي ربي لمَ تركتني)، تحوَّل النبي اليهودي إلى مؤسس لدين جديد؛ ففي خلال القرن الأول الميلادي، كُتبت قصة حياة يسوع وتعاليمه في الأناجيل، وتحولت حركته الإصلاحية إلى ديانة مستقلة عن اليهودية هي المسيحية التي قُدر لها أن تكتسح كل العالم الروماني بمجرد أن اعترف بها الإمبراطور الروماني قسطنطين الكبير ديانة رسمية للإمبراطورية في حدود سنة 325م من ميلاد المسيح. ومن ديانةٍ مضطهَدَةٍ، تحولت المسيحية إلى ديانة ظافِرة، وبدأت تفرض نفسها على كل العالم الروماني شرقًا وغربًا.
لم تنحصر شهرة وإسهامات قسطنطين الكبير في التاريخ في مجرد اعترافه بالمسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، ولكن كان هو أيضًا الذي أمر ببناء مدينة بيزنطة على ساحل البسفور، ونقل مقر حكمه من روما إليها في الجزء الشرقي من الإمبراطورية في حدود نفس التاريخ الذي اعترف فيه بالمسيحية. وكما انقسم العالم الروماني – بمرور الزمن – إلى شرقي وغربي، كذلك انقسمت المسيحية الظافرة إلى شرقية أرثوذكسية وغربية كاثوليكية؛ وبينما ظلت المسيحية الأرثوذكسية خاضعة لسلطة الدولة الرومانية الشرقية (البيزنطية) خلال العصور الوسطى وحتى سقوط بيزنطة على يد العثمانيين سنة 1453م، فإن المسيحية الكاثوليكية كان لها شأن آخر وقصة أخرى. فبعد سقوط روما في يد البرابرة الجرمان سنة 476م، برزت البابوبة الكاثوليكية في إيطاليا كالسلطة الوحيدة الباقية من تراث الإمبراطورية الرومانية، فكان من الطبيعي أن تتحول إلى سلطة ودولة، وأن يلتف حولها الناس، ومن هنا بدأت المسيحية رحلتها في التاريخ لتقود السياسات والحروب، وتتحول من عقيدة المظلومين إلى عقيدة الظالمين.
وفي دراسة محدودة كتلك الدراسة ليس من السهل أن نتتبع رحلة المسيحية الغربية الطويلة مع السياسة والسلطة الدنيوية وحتى هزيمتها في النهاية وبروز القومية كبديل لها. لكنَّ القصة تستحق أن تُروى أو أن تُروى فصولٌ منها على الأقل لنتذكر ماذا يحدث عندما يتحول الدين إلى سلطة وسلطان، وكيف تضيع عندئذٍ الدنيا، ويضيع معها الدين؟ ولنتذكر أيضًا أن في بعض الهزيمة انتصارًا؛ فلعل المسيحية في هزيمتها السياسية ضمنت عودتها الحقيقية إلى حياة الإنسان، وضمنت لها بذلك دورًا محدودًا ولكن دائمًا في حياته، وهذا ما يجب أن يتعلمه الإسلام، الدين العالمي الآخر، الذي مازال يحاول أن يسيطر سياسيًّا على العالم.
برزت البابوية كقوة وأخذت مكانتها السياسية بعد سقوط الإمبراطورية في الغرب، وسيطرت على الحياة بمختلف جوانبها في العصور الوسطى الأوربية، ودخلت في صراع ضارٍ على السلطة والسلطان، كان أبرز مظاهره صراعها مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة (أي الجزء الغربي من العالم الروماني الذي كان قد سقط سنة 476م) بعد إحيائها على يد شارلمان سنة 800م وخلفه الإمبراطور أوتو الأول (936-973م)، فنرى البابا جريجوري السابع يصدر قرار الحرمان من رحمة الكنيسة على الإمبراطور الألماني هنري الرابع في يناير سنة 1077م – بسبب الصراع على حق تعيين الأساقفة ورجال الدين - ويتركه راكعًا أمام قلعة كانوسا في إقليم توسكانيا قبل أن يعفو عنه، ويكتب عن ذلك في تجبُّر يقول (لقد جاء بشخصه إلى كانوسا في إقليم تسكانيا ورمى بنفسه بباب القلعة حافي القدمين يرتدي بدلة صوف رثة راجيًا بخشوع العفو والغفران، واستمر على ذلك لنحو ثلاثة أيام، فأخذت الشفقة مأخذها ممن حولنا، وتشفعوا له بالدعاء والخشوع، وأخيرًا رفعنا عنه الحرمان، واستقبلناه إلى حضن الكنيسة الرؤوم).
لم يتوقف صراع البابوات مع الأباطرة من أجل السلطة على العالم المسيحي الغربي، فقام البابا إسكندر الثالث (1159-1181م) بإصدار قرار الحرمان من الكنيسة على الإمبراطور فردريك بارباروسا (قائد الحملة الصليبية الثالثة)، وذلك بسبب الصراع على النفوذ على المدن اللمباردية في إيطاليا، وكان ذلك في سنة 1177م حيث تكررت مهزلة كانوسا فدخل الإمبراطور فردريك الأول بارباروسا على البابا إسكندر الثالث في البندقية، حيث ارتمى بين قدميه باكيًا مستغفرًا طالبًا الصفح مثلما فعل سلفه هنري الرابع مع البابا جريجوري السابع قبل قرن من الزمان. وكذلك قام البابا جريجوري التاسع بإصدار قرار الحرمان على الإمبراطور فردريك الثاني في سبتمبر سنة 1227م بسبب تلكئه في الخروج على رأس الحملة الصليبية السادسة، ومرة أخرى سنة 1239م بسبب النزاع على النفوذ في إيطاليا أيضًا. والواقع أن نفوذ البابوات كان قويًّا على جميع ملوك أوربا، ولكن سطوتها على ملوك وأباطرة ألمانيا كان هو الأقوى مما قد يفسر انطلاق حركة الإصلاح الديني، ومحاولة التخلص من سيطرة البابوية على يد مارتن لوثر - فيما بعد- من ألمانيا أيضًا.
قادت البابوية الحروب الصليبية، وأراقت الدماء باسم المسيح – برغم كل ما نهى عنه المسيح من إراقة الدماء، فقتل الصليبيون - باسم المسيح- حوالي مائة ألف إنسان في معرَّة النعمان السورية أثناء الحملة الصليبية الأولى في ديسمبر 1098م، بل وأكلوا بعضهم أيضًا بسبب نقص المؤن، ثم قاموا بذبح سبعين ألف إنسان بين مسلم ويهودي عندما دخلوا القدس سنة 1099م، كما ذبحوا كلَّ أسرى عكا بعد استسلامها في يونيو سنة 1191م أثناء الحملة الصليبية الثالثة، ولم تكتفِ البابوية بحروبها على العالم الإسلامي شرقًا وغربًا في أسبانيا – والتي قد تبدو مبررة – بل إنها قادت الحروب الصليبية ضد المسيحين أنفسهم في جنوب فرنسا سنة 1209م أثناء الحركة الإلبيجنسية، وقتلتهم وصادرت أملاكهم، وأصدرت قرار الحرمان على ريموند السادس أمير تولوز نصير الحركة الإلبيجنسية التي قادها سان برنار ويواقيم الفلوري التي كانت تحاول التحرر من سيطرة وطغيان البابوية.
واضطهدت البابوية التنويريين، وعذبتهم وقتلتهم أثناء عصر النهضة الأوربي، ووصل الأمر إلى إنشاء محاكم خاصة بمحاكمة أصحاب الأفكار والآراء الخارجة عن تعاليم الكنيسة، عُرفت بمحاكم التفتيش التي مثلت أهم مؤسسات الرعب الديني على مر التاريخ، وقد أنشئت في أوائل القرن الثالث عشر بقرار من البابا جرينوار التاسع، وذلك سنة 1233م، وكان هدفها محاربة الهرطقة في كل أنحاء العالم المسيحي. وقد كُلف بها رجالُ الدين في مختلف البلاد. وكانت الناس تساق سوقًا إلى محاكم التفتيش عن طريق الشبهة أو عن طريق الوشاية، حيث كانوا يتعرضون للتعذيب الشديد حتى ينهاروا ويعترفوا بأفكارهم، وعندئذ كان يحق للمحقق أن يعفو عنهم إذا تابوا، أو يلقي بهم إلى النيران إذا رأى أنهم لا يستحقون العفو. وقد قُتِل خلق كثير بهذه الطريقة الوحشية التي أصبحت علامة على العصور الوسطى. ويُقال إنَّ عدد الذين ماتوا بهذه الطريقة يتجاوز عشرات الألوف، ومن أشهر الذين ماتوا حرقًا المصلح التشيكي المشهور يان هُوس، حيث حُكم عليه بالموت حرقًا في يوليو سنة 1415م. وكذلك الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو، فقد أعدم حرقًا. ومن أهم الذين مثلوا أمام محاكم التفتيش أيضًا العالم الشهير جاليليو، وكوبرنيكوس القائل بدوران الأرض حول الشمس، لكن الأخير نجا منها بسبب حذره وتأجيله نشر كتابه الذي يحتوي على نظريته الجديدة حتى يوم وفاته بالضبط. وأما العالم الشهير جاليليو، فقد كان مهددًا بنفس المصير لولا أنه استدرك الأمر في آخر لحظة، وقبل بالتراجع عن نظريته المشهورة، وهكذا عفَوْا عنه، ولم ينفذوا فيه حكم الإعدام، ثم أحيل إلى الإقامة الجبرية في ضواحي فلورنسا، وأتيح له أن يكمل بحوثه وهو تحت المراقبة. وقد استمرَّتْ محرقة محاكم التفتيش موقدة حتى القرن السابع عشر، بل وحتى القرن الثامن عشر أيضًا، والمثال على ذلك تلك الحادثة الشهيرة التي حدثت في عصر التنوير لشخص يدعى جان فرانسوا لابار (1747-1766م)، فقد قطعوا يده لأنه كسر الصليب، واقتلعوا لسانه ثم أحرقوه أخيرًا وكان شابًّا مراهقًا لا يتجاوز عمره التاسعة عشرة. ومن الأمثلة الأخرى، ما حدث للفيلسوف ميشيل سيرفيه الذي أحرقوه حيًّا في جنيف بتهمة التشكيك بعقيدة التثليث، وهي من العقائد الأساسية في المسيحية، فبمجرد أن شكك بصحتها ألقي طعمة للنيران بلا رحمة.
وبعد قيام حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، أصبح هناك عدو جديد للفاتيكان غير التنويرين هو مارتن لوثر، رائد حركة الإصلاح الديني التي انطلقت من ألمانيا ضد استبداد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وسيطرتها على حياة الناس الروحية والمادية في ألمانيا، وضد صكوك الغفران بشكل خاص، وقد هاجم مارتن لوثر مفاسد الكنيسة الكاثولكية في منشور علقه على باب كنيسة ويتنبرج عبر فيه عن عقيدته الدينية الجديدة التي تعني (التبرير بالإيمان) أي إن الله وحده هو الذي يملك الحكم على إيمان الناس من عدمه، وأنه وحده من يملك الغفران لهم من عدمه. وقد ردت الكنيسة الكاثوليكية على حركة لوثر بأن أصدر البابا ليو العاشر قرارَ الحرمان من الكنيسة ضد لوثر في ديسمبر 1520م، وكان رد مارتن لوثر أن أحرق قرار البابا علانية أمام جميع الناس في ساحة ويتنبرج، وتفاقم الأمرُ حتى طلب البابا من الإمبراطور شارل الخامس أن يلقي القبض عليه وينفذ قرار الحرمان الصادر ضده بإعتباره مارقًا خارجًا عن الكنيسة. وبالفعل استُدعي مارتن لوثر للمثول أمام مجلس يمثل الإمبراطورية في مدينة فورمس لمحاكمته في يناير 1521م، ولما ناقشه المجمع في آرائه أصرَّ على كل كلمة نطق بها أو كتبها من قبل. وعندئذٍ اعتُبر خارجًا عن القانون، وحُكِم بإهدار دمه، وحرمانه من الحقوق المدنية في الإمبراطورية، إلَّا أن فردريك أمير سكسونيا وآخرين من أمراء شمال ألمانيا وضعوه تحت حمايتهم، وبذلك نجا من العقوبة. وسرعان ما اكتسحت اللوثرية معظم الطبقات في ألمانيا ومنها انتشرت – ولو في أشكال جديدة – إلى معظم أنحاء غرب أوربا.
وبدءًا من تلك اللحظة، انقسم العالم المسيحي في غرب أوربا إلى قسمين؛ قسم كاثوليكي، وقسم بروتستانتي (أي معترض)، ودارت بينهما المعارك والحروب على مدار مائتي سنة تقريبًا. وهي حروب الأديان الشهيرة التي اختلط فيها الدين بالسياسة تمامًا، وذهب ضحيتها مئات الآلاف من القتلى. وبلغت هذه الحروب ذروتها في الأراضي المنخفضة الواقعة تحت سيطرة التاج الإسباني آنذاك، وفي فرنسا في الفترة الواقعة بين عامي 1562-1598م، فقد هاجت الجماهير الكاثوليكية على أفراد الأقلية البروتستانية في مختلف المدن والأرياف الفرنسية، وكان أن حصلت تلك المجزرة الشهيرة باسم مجزرة سانت بارتيليميو التي ذهب ضحيتها أكثر من خمسة آلاف شخص. وكذلك شهدت بريطانيا موجة اضطهاد كبيرة للبروتستانت في عهد الملكة ماري ابنة هنري الثامن (1552-1558م) والتي لُقبت بماري السفاحة (الدَّمويَّة) لكثرة ضحاياها من البروتستانت. وقد تجددت تلك الحروب الدينية الرهيبة في حرب الثلاثين عامًا التي اجتاحت أوربا سنة 1618م (في بوهيميا والدنمارك والسويد وفرنسا) وراح ضحيتها مئات الآلاف من الناس قبل أن تنتهي بصلح وستفاليا سنة 1648م. وكان من أبشع المذابح التي شهدتها تلك الحروب مذبحة مدينة مجدبرج الألمانية التي حاصرها جيش الإمبراطور الألماني الكاثوليكي فرديناند الثاني، ثم اكتسحها وقتل نحو عشرين ألفًا من سكانها البروتستانت. ومن ضحايا الاضطهاد الديني من بروتستانت فرنسا وإنجلترا، هاجرت الموجات الأولى من الأوربيين الذين استعمروا أمريكا الشمالية، وأسسوا الولايات المتحدة الأمريكية على قيم ومثل عليا إنسانية جديدة تم فيها فصل الدين عن الدولة وإرساء مبدأ حرية العقيدة.
وظلت البابوية - في سعيها المحموم نحو السلطة والتسلط - تدفع بأباطرة وملوك أوربا إلى اضطهاد البروتستانت وكل من يجرؤ على الخروج عن سلطانها حتى قيام الثورة الفرنسية (1789-1799م)، ونشرها للقيم المدنية في المجتمعات الأوربية من خلال حروب نابليون في أوربا، حتى تمكن العالم الغربي – في نهاية الأمر - من إزاحتها عن المشهد السياسي تمامًا، ونفيها في دولة الفاتيكان الصغيرة سنة 1929م بعد أن اختار له مثلًا أعلى جديدًا في الحياة انبثق من الثورة على استبداد البابا الكاثوليكي في روما، هو الوطن والقومية، ولم يعد الإنسان الغربي يجتمع تحت راية المسيح مرة أخرى، ولكنه أصبح يجتمع تحت راية الأرض التي ولد وعاش عليها، وهكذا تخلقت فكرة القومية التي صاغت تاريخ الإنسان الغربي في العصر الحديث من رحم ثورة الإصلاح الديني.
حققت القومية طفرة كبرى في حياة الشعوب الأوربية وتطورها؛ فقد ارتبطت بتطور النظم الديموقراطية، وفصل الدين عن الدولة، وحكم القانون، وانتشار مبادئ العدل والمساواة وحرية الفكر والعقيدة، وأضعفت من روح الكراهية الدينية الرهيبة، ووحدت الشعوب الأوربية، وحفزتها على النهضة والتقدم، وألهمتها مثلًا عليا ونظمًا أكثر واقعية وأكثر فائدة من المثل الدينية، إلَّا أنها – مع ذلك - وفي تطرفها على المدى البعيد، وتمامًا كما حدث في عصور الدين، قد أثارت النزاعات والحروب الدولية التي سقط فيها من البشر أكثر مما سقط منهم في الحروب الدينية. ولم يتحقق السلام في أوربا بل اتسعت الحروب الأوربية القومية لتشمل العالم كله بعد ذلك.
ويمكن تحديد بداية الحروب القومية الأوربية في العصر الحديث بحرب المائة العام بين إنجلترا وفرنسا (1337-1453م) التي أعقبتها سلسلة من الحروب المستمرة الطويلة - عبر القرون - بين مختلف القوى الأوربية من أجل التوسع والاستعمار وفتح الأسواق وحراسة الأمن القومي، حتى وصلت ذروتها في الحربين العالميتين الأولى (1914-1918م) والثانية (1939-1945م) التي ألحقت بالبشرية كثيرًا من الدمار والشقاء بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ بسبب التطور العلمي الذي حققته أوربا، وانعكس على صناعة الأسلحة المتطورة الفتاكة، وخاصة سلاح الطيران، فهدمت فيهما كثير من المدن، وسقط ملايين من القتلى، وخسرت الحضارة الإنسانية كثيرًا من منجزاتها وثرواتها.
لكن أوربا - بعد أن حلت بها تلك الكارثة التي أزهقت أرواح أبنائها، ودمرت منجزاتها وثرواتها، وأفقدتها مركز الزعامة في العالم لصالح القوى الصاعدة الجديدة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوڤييتي - أخذت تراجع نفسها، وأخذت دول أوربا الغربية تسعى لحل مشكلات ما بعد الحرب. وفي سنة 1949م تكون المجلس الأوربي، وكان الهدف منه ترابط الدول الأعضاء ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، وأنشئت المجموعة الأوربية للفحم الحجري والفولاذ سنة 1951م بهدف تطوير صناعة الفحم الحجري والحديد والفولاذ في بلجيكا وفرنسا وإيطاليا ولوكسمبرج وهولندا وألمانيا الغربية. وفي عام 1957م كون الأعضاءُ الستة لهذه المجموعة الجماعةَ الاقتصادية الأوربية بهدف إزالة الحواجز والقيود التي كانت تعوق حرية حركة السلع والعمالة ورأس المال والخدمات بين الدول الأعضاء، وهي الجماعة التي عُرفَتْ بالسوق الأوربية المشتركة فيما بعد. وفي عام 1973م انضمَّت إلى السوق كلٌّ من بريطانيا والدنمارك وأيرلندا، وفي عام 1981م انضمَّت اليونان. وفي عام 1986م انضمَّت البرتغال وإسبانيا، وفي سنة 1990م انضمَّت ألمانيا بعد توحيد شطريها. وفي ديسمبر سنة 1991م تم إعلان تسمية الاتحاد الأوربي بدلًا من السوق الأوربية المشتركة، بموجب معاهدة ماسترخت. وفي عام 1999م اتخذ الاتحاد من اليورو عملة مشتركة للدول الأعضاء، وتم تداول اليورو رسميًّا بدءًا من عام 2002م؛ وفي عام 2004م انضمَّت عشر دول أخرى للاتحاد الأوربي.
وأخيرًا هدأت أوربا، وخفتت روحها الدينية، وهدأت نزعتها القومية، وعمَّها السلام والرخاء والحريات الدينية والفكرية، واتَّحدَ أبناؤها في كيان واحد كبير، يتحركون بحرية بين أرجائه دون حواجز أو قيود أو مخاوف، ولم يعد سوى حادث هنا أوهناك في يوغوسلافيا السابقة أو أيرلندا أو إقليم الباسك الأسباني أو دعوات اليمين المتطرف في بعض الدول الأوربية، مجرد صحوة الموت لنزعات الدين والقومية، واكتمل مسار التاريخ في القارة العجوز، وأصبح كتابًا مفتوحًا للبشر يتعلمون منه عبثية التاريخ الإنساني، وعبثية الصراع والكراهية بين البشر؛ فأين هؤلاء الذين تحاربوا وتقاتلوا أمس على الدين والحدود والمستعمرات وصنعوا أكبر المجازر في تاريخ البشرية؟ فهاهم يقفون اليوم تحت راية الاتحاد الأوربي وطنهم الواحد الرحب الجديد يفتحون للعالم آفاقًا جديدةً نحو ثقافة ما بعد الدين والقومية .. نحو ثقافة إنسانية واعدة بالسلام والحرية لجميع البشر.
* * *
كان هذا عن العالم المسيحي؛ أمَّا العالم الإسلامي فقد كانت رحلته -ومازالت- أشد شقاءً وأكثر ألمًا. ولد الإسلام منذ البداية في بيئة قبلية عنيفة، ولم يستغرق طويلًا قبل أن يكشف عن طبيعته السياسية؛ فبعد ثلاثة عشر عامًا فقط من الدعوة السلمية في مكة، وبمجرد هجرته إلى المدينة، تحول إلى عقيدة عسكرية راحت تحاول فرض نفسها على العالم بالقوة منذ ذلك التاريخ حتى اليوم. وربما يمكن تفسير الطبيعة السياسية للإسلام بنمو الشعور القومي لدى قبائل الجزيرة العربية، وبرغبة محمد (ص) ومعه تجار مكة - بعد أن ملكوا الثروة واطلعوا على ميراث اليهودية والمسيحية - في توحيد عرب الجزيرة العربية في دولة قومية واحدة وغزو العالم؟ فهو دين ودولة في آن واحد. وبرغم ما في ذلك القول من بهاء ظاهري، يتباهى به المتشددون الإسلاميون، ففي هذا القول نفسه تكمن نقطة ضعفه؟
ومنذ البداية كان هناك فارقٌ أساسيٌّ بين المسيحية والإسلام، فلم تكن المسيحية ديانة سياسية قَط، بل إنها قد اكتسبت تلك الصفة فقط عندما اعترفت بها الإمبراطورية الرومانية، واتخذت منها ديانة رسمية، ومن ثم سخَّرتها لتحقيق أهدافها السياسية، وكان من الطبيعي أن تحاول المسيحية وراثة الإمبراطورية الرومانية بعد سقوطها. إن ذلك قد يفسر لماذا كان من الممكن تنحية المسيحية عن المشهد السياسي حينما حان الوقت بسهولة، بينما مازال ذلك صعبًا على الإسلام الذي خُلق منذ مولده سياسيًّا، فطبع الشرق الأوسط كله بصبغة ثقافة دينية سياسية يصعب التخلص منها.
إن قصة الخلافة الإسلامية منذ نشأتها في المدينة حتى نهايتها في استانبول، يمكن أن تروي تاريخ الإسلام السياسي العنيف. كانت الخلافة الإسلامية تجربة فريدة في التاريخ، فقد كان الخليفة المسلم حاكمًا دنيويًّا ودينيًّا في آن واحد، وبعكس البابوية التي احتكرت السلطة الرُّوحية بينما تصارعت على السلطة الدنيوية مع الملوك والأباطرة، فقد كان الخلفاء بابوات وملوكًا في وقت واحد منذ البداية، وبدون منازع.
عمل الخلفاء الأوائل في المدينة على إكمال محاولة غزو العالم التي كانت قد بدأت في عهد محمد (ص) نفسه، وأكمل الخليفة أبو بكر وعمر بعده تلك المهمة، وتم في عهدهما اكتساح العرب لمنطقة الشرق الأوسط القديم شرقًا وغربًا، مع ما صاحب ذلك من آلام وشقاء حلت بسكان تلك المناطق. ومن مصر انساح العرب إلى المغرب، ومن المغرب انساحوا إلى إسبانيا، ومن إسبانيا حاولوا اختراق أوربا، ولكنهم فشلوا، وتم ردعهم بشكل نهائي من جنوب فرنسا على يد شارل مارتل في معركة سهل بواتييه التي يسميها العرب معركة بلاط الشهداء، وسُحق الجيش العربي عن آخره، وقُتل قائدُه عبد الرحمن الغافقي، وذلك سنة 732م. كما كانت محاولاتهم لاختراق أوربا من الشرق قد فشلت بسبب وقوف الإمبراطورية البيزنطية عائقًا صُلبًا أمامهم في سبيل تحقيق ذلك، إلَّا أنهم كانوا قد انساحوا باتجاه الشرق حتى وصلوا إلى حدود بلاد الترك شرقًا في أواسط آسيا. استغرقت تلك المرحلة حوالي قرن من الزمان، وشغلت تقريبًا كل عصر الدولة الأموية التي سقطت سنة 750م، وانتهى بسقوطها عصر الفتوحات العربية الإسلامية، وهجرة واستقرار العرب على جانبي جزيرة العرب شرقًا وغربًا، ونجاحهم في تعريب وأسلمة تلك المناطق بسب دخول الناس في الإسلام من جهة، وبسبب اختلاط وتزاوج القبائل العربية مع شعوب تلك المناطق من جهة أخرى. لم تكن تلك رحلة سهلة أو بسيطة، فبالإضافة إلى عداء العرب للعالم المحيط بهم، ونزف الدماء الهائل الذي تسببوا فيه آنذاك، فقد كانوا قد انقسموا بدورهم إلى ثلاثة مذاهب رئيسية، أخذت تصارع بعضها بعضًا منذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم تقريبًا، وهي السنة والشيعة والخوارج. ظل الصراع والحرب هما السمتان المميزتان لكل عصور الخلافة التي تلت خلافة الأمويين كالعباسيين في بغداد – الذين ورثوا الخلافة من الأمويين في ثورة دموية - والفاطميين في مصر، والأيوبيين والمماليك بعدهم، حتى خلافة العثمانيين في بدايات القرن السادس عشر الميلادي، وذلك بالإضافة إلى الممالك الصغيرة التي انشقت عن الخلافة العباسية، وتكونت في بلاد المغرب العربي، وفي غرب آسيا.
كان ذلك زمنًا من الحرب التي لا تهدأ. حرب على المخالفين في الدين، وحرب على المخالفين في المذهب، وحرب على المنافسين على السلطة، وحرب حتى على الأعداء المفترضين. ففي مصر والشام والعراق وبلاد المغرب - مثلًا - لجأ العرب إلى سياسة التسامح في بادئ الأمر، لكنهم سرعان ما كشفوا عن وجههم الحقيقي؛ فبعد أن استتبَّ الأمر للأمويين، وقضوا على منافسيهم، راحوا يحكمون قبضتهم على تلك البلاد، وتشددوا في طلب الجزية والخراج من الأهالي، وبالغوا في ذلك، واتبع الحَجَّاج بن يوسف الثقفي واليهم على العراق سياسات في غاية القسوة تجاه الموالي، فرفض وضع الجزية حتى عمن أسلم منهم، واعتبرهم عبيدًا، ومنعهم من مغادرة أراضيهم، حتى يسهل إحصاؤهم، وتقدير الجزية المستحقة عليهم، وكذلك فعل عبد الله بن الحبحاب واليهم على مصر والمغرب بعد ذلك. واستمر ضغط الولاة الأمويين – والولاة العباسيين من بعدهم - على المصريين، حتى بدأ الشعب المصري في الثورة منذ سنة 107هـ وحتى سنة 216هـ، وهي السنة التي قمع فيها المأمون ثورة الشعب المصري فيما يشبه مذبحة جماعية خضع المصريون بعدها فقط واستسلموا لتيار العروبة والإسلام. وكذلك كان الحال في المغرب، فقد اشتدَّ ظلم الولاة الأمويين للسكان من ذبح قطعانهم وسبي بناتهم، حتى اشتكوا إلى الخليفة هشام في دمشق، ولمَّا لم يستطيعوا مقابلته، ولم يستجب أحدٌ إلى توسلاتهم، ثاروا وأوقعوا بالعرب في وقعة الأشراف بالقرب من طنجة سنة 122 هـ، حيث قُتِل معظم الجيش العربي، ومرة أخرى أوقعوا بهم في موقعة بقدورة على وادي سبو بالقرب من تاهرت سنة 124هـ، وكانت تلك الهزائم من أكبر الهزائم التي لحقت بالعرب أثناء عصر الغزوات الإسلامية، ومع ذلك فقد تمكن العرب من الانتقام بعد ذلك في معركة الأصنام التي قادها حنظلة بن صفوان والي مصر، وقتلوا من البربر نحو مائة وثمانين ألف نفس. وهكذا استسلم البربر أيضًا في نهاية الأمر لتيار العروبة والإسلام.
وبعدما عبر العرب إلى أسبانيا في أخريات العصر الأموي، قاموا بنفس أعمال القسوة من هدم الكنائس وسرقة كنوزها وخطف النساء، مما حدا برهبان أسبانيا إلى القيام بعمليات انتحار جماعي احتجاجًا على الظلم الذي ألحقه بهم العرب، وذلك دون أن يلتفت أحدٌ إلى شكواهم. لكنَّ إسبانيا لم تستسلم لتيار العروبة والإسلام، فقد كانت بلادهم بعيدة عن جزيرة العرب، فلم يستطيعوا أن يطبعوها بطابعهم، وظلت إسبانيا محتفظة بطابعها الأوربي المسيحي، حتى تمكنت من طرد العرب من غرناطة سنة 1492م، وبدأ العرب بعد ذلك ينزحون إلى شمال إفريقيا، وأخذ تاريخ العالم كله يدخل مرحلة جديدة أخذ فيها العالم المسيحي زمام المبادرة في محاصرة العالم الإسلامي.
لم تكن الخلافات الإسلامية التي تلت خلافة الأمويين استثناءً في تعسفها وفي حروبها الدينية الشرسة، فقد أنشأ الخليفة العباسي المهدي ديوانًا يشبه محاكم التفتيش المسيحية يسمَّى بديوان الزنادقة، كان الهدف منه محاربة وقتل الثائرين من الفرس على السلطة العباسية بحجة خروجهم على الدين. وحتى مع الإقرار بالطبيعة المتسامحة للخلافة الفاطمية، فإن ما فعله الحاكم بأمر الله الفاطمي بمسيحيي مصر، يكفي لوصم تلك الخلافة بالقسوة أيضًا مثل سائر الخلافات، وقد فعل المماليك بعدهم أكثر وأكثر، وفعل الخوارج والقرامطة المسلمون بالمسلمين أنفسهم أكثر وأكثر. لقد كانت عصور الدين الإسلامية مثلها مثل عصور الدين المسيحية مجرد حروب ودماء.
لقد كانت الحروب الدينية الإسلامية المتواصلة هي التي جلبت الحروب الصليبية المدمرة إلى الشرق المسلم؛ فبسبب الهجوم المتواصل للأتراك السلاجقة في بغداد على أراضي الدولة البيزنطية، وأسرهم للإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع بعد معركة ملاذكرد سنة 1071م، قام البيزنطيون بالاستنجاد بالعالم المسيحي الغربي الذي انتهز الفرصة، وأرسل جحافله على الشرق المسلم في سلسلة حروب طويلة مدمرة جلبت على العالم الألم والشقاء لقرون طويلة، ومازال موروثها النفسي يعيش بيننا حتى اليوم.
وبعد سقوط بغداد، انتقلت زعامة العالم الإسلامي إلى مماليك مصر الذين واصلوا سياسات الحروب الدينية في الخارج، والعسف مع رعاياهم من مسلمين وأهل ذمة في الداخل.
وعندما وصل العثمانيون إلى حكم العالم الإسلامي بعدما تمكنوا من إسقاط القسطنطينة عاصمة الدولة البيزنطية سنة 1453م وانساحوا إلى داخل أوربا من الشرق، فقد ساروا على نفس طريق العنف والدماء، فجلبوا معهم الخازوق وسياسة خطف الأطفال من أحضان أمهاتهم لتجنيدهم في جيوش السلطان، وسواء أكان الطرف الخاضع مسيحيًا أوربيًّا أم مسلمًا شرقيًّا، فلم يعرف الحكم العثماني معنى للرحمة مع المغلوبين، وأجلس الجميع على الخازوق. وكما لم يعرف الحاكم العثماني معنى للرحمة مع رعاياه، فلم يعرف معنى للرحمة حتى مع أهل بيته نفسه، فاستنَّ أسوأ عادات السياسة في التاريخ، وهي سياسة قتل الأخ والأقارب؛ فبمجرد اعتلاء أي سلطان للعرش، كان يقوم بالقبض على جميع إخوته وأقاربه ممن يجد فيهم منافسين محتملين ويقوم بقتلهم - أو سجنهم على الأقل - جميعًا تجنبًا للفتنة. هكذا كانت عصور الإسلام السياسي مجرد حروب ودماء، مثلها مثل عصور المسيحية الغربية الكاثوليكية.
لكن الزمن بدأ يتغير بوصول طلائع الاستعمار الأوربي إلى الشرق المسلم في العصر الحديث مع أخريات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، بأفكاره الليبرالية القومية الجديدة التي بدأ العالم الإسلامي يتأثر بها، ومن ثَم بدأ ينتقل تدريجيًّا من عصور الدين إلى عصور القومية، مثلما حدث في أوربا المسيحية.
كانت الدولة العثمانية (مركز العالم الإسلامي) نفسها هي أول من بدأ يأخذ عن العالم الأوربي المسيحي الأوربي أفكاره ونظمه الجديدة، وذلك بالتحديد في عهد السلطان المصلح محمود الثاني (1808- 1839م)، وفي نفس الوقت تقريبًا كانت مصر- مركز الثقل التالي – تسلك نفس الطريق بعد أن وصل محمد علي باشا إلى حكم مصر سنة 1805م؛ ومنذ ذلك التاريخ فصاعدًا، ومع الانفتاح المستمر على العالم الأوربي، بدأت الأفكار العظيمة للقرن التاسع عشر الأوربي في القومية والليبرالية والديموقراطية وفصل الدين عن الدولة والحرية الدينية وتحرير المرأة تخترق العالم الإسلامي، وأثبت الشرق الإسلامي أنه قادر على التطور أيضًا، فبدأ يتغير ويهدأ، وبرغم أنه قد ظل متمسكًا بإيمانه العقيدي الإسلامي القوي، فقد بدأت روحه الدينية العنيفة التي ارتبطت بالسياسة في الهدوء والخفوت تدريجيًّا. استمر ذلك الاتجاه طوال القرن التاسع عشر؛ وفي بدايات القرن العشرين كان قد أتى ثماره، والذي تمثل في إلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة الإسلامية، وإعلان تركيا جمهورية قومية ديموقراطية سنة 1924م، وفي قيام ثورة 1919م بمصر وإعلان مبدأ الدين لله والوطن للجميع وتحرير المرأة، وصدور دستور 1923م ووصول حزب الوفد المصري إلى رئاسة الحكومة في أول انتخابات تشريعية في تاريخ مصر الطويل. قطعت تركيا الرحلة إلى آخرها، واجتازت القرن التاسع عشر والعشرين بقيم الغرب الليبرالية القومية، حتى خرجت على العالم في بدايات القرن الحادي والعشرين أمة قوية تستعرض قوتها أمام العالم؛ أما في مصر فقد تغير الحال، وانتكست القومية الليبرالية المصرية بظهور أفكار القومية العربية في الثلاثينيات من القرن العشرين - التي هي ليست سوى الوجه الآخر للإسلام السياسي في الواقع – وبدأت مصر تتشرب بأفكار القومية العربية، وتعود معها وبها - دون أن تدري - إلى عصور الدين السياسي مرة أخرى.
لم ترتبط القومية العربية – التي خرجت من بلاد الشام - بأي مثل إنسانية عليا كما كان الحال بالنسبة للقومية الليبرالية الأوربية، ولكنها ارتبطت بالتاريخ والأمجاد العربية وبالعداء الهستيري للعالم الغربي المحيط بها، فكأنهاكانت صورة محدثة فقط للإسلام السياسي وعدائه الهستيري للعالم المسيحي المحيط به. وبدأ فكر الإنسان المصري يتغير مرة أخرى في الاتجاه إلى عداء وكراهية العالم المحيط به، بعد أن كان قد بدأ يتعلم التسامح أثناء الحقبة الليبرالية، وكان من الطبيعي أن تكون أفكار القومية العربية هي العباءة التي ارتدتها الأنظمة العسكرية التي ورثت الحكم في أعقاب خروج الاستعمار من العالم العربي سواء في مصر أو في معظم الدول العربية الأخرى لتبرر بها وجودها على رأس السلطة بلا منازع كمدافع وحيد عن شعوبها ضد الاستعمار الغربي وأعوانه، تمامًا كما كان الخلفاء يبررون سلطانهم المطلق بأنهم كانوا المدافعين عن الإسلام والمجاهدين الوحيدين في سبيل الله؛ ولم يبقَ لكي يكتمل مشهد الانتكاسة الحضارية التي منيت بها الشعوب العربية سوى أن تتلقي تلك الشعوب وأنظمتها ضربة موجعة كي تنتكس إلى عصور الدين السياسي كلية مرة أخرى، وكانت تلك الضربة القاصمة هي نكسة يونيو 1967م في الحرب مع الدولة العبرية الصغيرة في فلسطين. وكان من السهل أن تنقلب العملة على وجهها الآخر من القومية العربية إلى الإسلام السياسي، فبدلًا من أن تدرك تلك الشعوب أن سر انتكاساتها العروبية كان هو الغياب الكامل للديموقراطية في قيم وممارسات القومية العربية، فإنها قد فسرت ذلك بالابتعاد عن الدين السياسي (أي ربط الدين بالدولة مرة أخرى) واختارت العودة إلى فكرة الدولة الإسلامية كطرح بديل في مواجهة الفشل الحضاري المزمن الذي تعاني منه. هكذا عاد الإسلام السياسي إلى الوجود مرة أخرى، بعد أن كان قد هدأ وخفت طوال الحقبة الاستعمارية. وربما يمثل ذلك التفسيرُ الخلافَ الجوهري الكبير بين التاريخ الغربي المسيحي والتاريخ العربي الإسلامي، فالأول يسير إلى الأمام دائمًا منتقلًا من عصر إلى عصر أعلى – من الدين السياسي إلى القومية ثم إلى الوحدة الإنسانية - بينما ينتكس الثاني ويدور في حلقة مفرغة، فمع الانتكاسة الحضارية من عصور القومية إلى عصور الدين السياسي، بدأت انتكاسة أخرى إلى عصور القبيلة والطائفة، وبدأ العالم العربي والإسلامي ينقسم إلى قبائل وطوائف، وأصبح عرضة للزوال والتفكك.
بدأت حركة الجهاد الإسلامي في السبعينيات من القرن الماضي، وقد تضافرت عدة عوامل في خلق ذلك المد الإرهابي، ربما كان أهمها إطلاق أنور السادات قيادات جماعة الإخوان المسلمين من سجون عبد الناصر، وإعطاءهم حرية العمل السياسي مرة أخرى، وكذلك ثورة النفط وما جلبته من ثروة إلى المملكة العربية السعودية ذات الفكر الإسلامي الوهابي المتشدد، ثم كان غزو الاتحاد السوڤييتي لأفغانستان، وما أثاره من رد فعل جهادي في العالم الإسلامي. وهكذا انطلقت الأفكار الإخوانية من مصر لتلتقي بالفكر الوهابي السعودي، وبالمال السعودي على أرض السعودية، ومن هناك انتقل الجميع لجهاد السوڤييت على أرض باكستان وأفغانستان – أشد مناطق العالم الإسلامي تخلفًا والتي لم تستفد كثيرًا من منجزات الحقبة الاستعمارية – والتقى هؤلاء جميعًا في النهاية مع الثورة الإسلامية في إيران – أكبر خطأ في التاريخ – ليصنعوا معا جميعًا تراجيديا إرهاب الإسلام السياسي والانتكاسة الحضارية للعالم العربي والإسلامي في القرن الحادي والعشرين.
لم يعد المجاهدون العرب من أفغانستان بعد خروج السوڤييت، فقد أدمنوا الحرب والقتال، واستلهموا أمثلة البطولة من التاريخ الإسلامي، وأرادوا الجهاد في سبيل الله، وإكراه العالم على اتباع النظم الإسلامية، وكانت الحجة كالعادة هي الاستعمار المسيحي الصهيوني لفلسطين العربية الإسلامية، لكن الواقع أن التاريخ السياسي الإسلامي – وليست فلسطين – هو الذي كان فاعلًا في نفوسهم ملهمًا لهم ودافعًا بهم إلى طريق الحروب الدينية التي كان العالم على وشك الانتهاء منها. كان حادث سبتمبر 2001م في الهجوم على مبنى التجارة العالمي في نيويورك هو بداية الهجوم على العالم، ثم وبعد أن بدأت الولايات المتحدة حربها على أفغانستان وتلت ذلك باحتلال العراق، رد الإسلام السياسي من قواعده في أفغانستان وباكستان بكل قوة، واخترق كثيرًا من البلاد الإسلامية كالعراق وفلسطين ومصر ولبنان والسعودية واليمن والصومال وشمال إفريقيا، بينما ظلت مجتمعات أخرى تقاوم كماليزيا وإندونيسيا وتركيا. وكرد فعل على انتشار حركة إرهاب الإسلام السياسي، بدأت الأقليات الدينية المسيحية في العالم العربي تتشرب بنفس الفكر المتشدد وترد بالمثل، ولو في حدود الفكر فقط حتى الآن - كما هو الحال في لبنان ومصر مثلًا- وهو شيء غير مضمون أن يظل هكذا إلى ما لا نهاية؟
وهكذا انزلق العالم العربي والإسلامي إلى ذلك المأزق في التاريخ، ففي نفس القرن الذي يتجه فيه العالم المسيحي ومعه العالم كله إلى تحقيق أكبر إنجازاته الحضارية، والانتقال إلى عصر الوحدة الإنسانية – عصر العولمة الاقتصادية والثقافية - وجد العالم العربي الإسلامي نفسه ينزلق تدريجيًّا عائدًا إلى عصور الدين السياسي؟ وربما يكون من الصعب تفسير ما يحدث، فلماذا يتقدم العالم أجمع بينما يتخلف العالم الإسلامي فقط، وبالطبع فلا يمكن تبرير ذلك إلَّا بغياب القوى الفاعلة القادرة على التغيير في ذلك العالم المتجمد بشكل استثنائي غريب؟
والمشكلة الآن أن الإسلام السياسي يبدو كأنه يستعد لدورة عنف جديدة في التاريخ .. دورة عنف ربما لن يستطيع العالم أن يتحملها مرة أخرى؛ فإذا لم يغير العالم الإسلامي نفسه، وينجح في فصل العقيدة عن الدولة، وقبول مبدأ حرية العقيدة، فإن العالم كله قد يهادنه أو يحاول مصالحته في البداية، لكنه سيضطر إلى الاتحاد ضده في نهاية الأمر، وسوف يجبره على التغيير والانتقال من حياة العصور الوسطى الغارق فيها إلى حياة العصور الحديثة الغافل عنها.
أهم المراجع:
1. تاريخ أوربا في العصور الوسطى / الدكتور محمد محمد مرسي الشيخ
رقم الإيداع بدار الكتب المصرية 13356/1999
2. التاريخ الأوربي الحديث/ الدكتور عبد الحميد البطريق والدكتور عبد العزيز نوار
دار النهضة العربية - بيروت
3. تاريخ أوربا المعاصر/ الدكتور عبد العزيز نوار والدكتور عبد المجيد نعنعي.
دار النهضة العربية – بيروت
4. موسوعة الخطط/ المقريزي
دار الكتب العلمية - بيروت
5. موسوعة النجوم الزاهرة/ أبو المحاسن بن تغري بردي
دار الكتب العلمية - بيروت
6. تاريخ الإسلام/ الدكتور حسن إبراهيم حسن
مكتبة النهضة المصرية - القاهرة
7. تاريخ الدولة العربية/ الدكتور السيد عبد العزيز سالم
دار النهضة العربية - بيروت
8. تاريخ المغرب والأندلس/ الدكتور السيد عبد العزيز سالم
دار النهضة العربية - بيروت
9. تاريخ المغرب والأندلس/ الدكتور مختار العبادي
دار النهضة العربية - بيروت
10. العصر العباسي والعصر الفاطمي / الدكتور مختار العبادي
دار النهضة العربية – بيروت




الدراسة السادسة
آخر معارك الحرية
(النازية والشيوعية والإرهاب)
واجهت البشرية ثلاث أيديولوجيات استبدادية كبرى في القرن العشرين، ألحقت كثيرًا من الضرر بالحضارة الإنسانية، هي النازية والشيوعية والإرهاب. وترتبط قصة النازية بالحرب العالمية الثانية (1939-1945م) ارتباطًا وثيقًا أما الشيوعية فترتبط بقصة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتي التي بدأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة وانتهت بسقوط الاتحاد السوڤييتي سنة 1990م بينما ارتبط الإرهاب بمحاولات بعض الأحزاب والجماعات الإسلامية فرض نفسها على العالم بالقوة منذ سقوط الاتحاد السوڤييتي وحتى يومنا هذا.
مثلت النازية صعود الروح القومية الألمانية إلى أكثر أشكال القومية الأوربية تعصبًا حيث افترضت تفوق الجنس الآري الذي ينتمي إليه الألمان على سائر أجناس البشر. وقد بدأ صعود ألمانيا في التاريخ الأوربي، عندما تمكنت من تحقيق وحدتها السياسية في يناير سنة 1871م بعد التخلص من سيطرة النمسا وفرنسا، وذلك بهزيمة النمسا في موقعة سادوا سنة 1866م، وهزيمة فرنسا في معركة سيدان في سبتمبر سنة 1870م. وفي سنة 1884-1885م عُقِد على أراضي ألمانيا مؤتمر برلين الشهير الذي وزع التركة الاستعمارية الإفريقية على الدول الأوربية، واستطاعت ألمانيا أن تحصل على نصيب كبير من هذه التركة، وهكذا وفي سنوات قصيرة، تحوَّلت ألمانيا من مجرد مقاطعات متفرقة إلى دولة، ومن دولة إلى إمبراطورية، وبدأت تسيطر منذ ذلك التاريخ على مجرى الأحداث في التاريخ الأوربي. ولقد كان لذلك أثره الكبير في أن يصاب الشعب الألماني بمركب من مركبات الغرور القومي العنصري، وأخذ بعض مفكريه يتصورون ويصورون أن ألمانيا هي القائد الطبيعي للحضارة الإنسانية، وكانت تلك الروح هي التمهيد الطبيعي للحرب العالمية الأولى، ولظهور النازية الهتلرية في الحرب العالمية الثانية.
فقد أدى وجود ألمانيا وصعودها السريع في السياسة الأوربية إلى تكوين حلفين يتربص بعضهما ببعض، (دول الوسط) ألمانيا ودولة النمسا والمجر بالإضافة إلى إيطاليا – المترددة - و(دول الوفاق) فرنسا وروسيا وبريطانيا – المترددة بدورها - ولم يعد يبقى سوى ظهور أزمة تُشعل نيران الحرب بينهم. وكما كان البلقان دائمًا في ذلك الوقت هو برميل البارود الذي تقف عليه أوربا، فقد كانت حادثة اغتيال فرانز فرديناند ولي عهد النمسا وزوجته في سراييڤو في يونيو سنة 1914م على يد صربي متعصب، هي الأزمة التي أشعلت نيران الحرب العالمية الأولى، حيث ردت النمسا صاحبة السيادة على البوسنة والهرسك بإعلان الحرب على الصرب في يوليو 1914م، فتدخلت روسيا لمساعدة الصرب وأيدتها حليفتها فرنسا، فوقفت ألمانيا إلى جانب النمسا، وأعلنت الحرب على روسيا وفرنسا في أغسطس 1914م، وهكذا لم يبق من الكتلتين خارجًا عن الحرب الكبرى سوى بريطانيا وإيطاليا، وما لبثت بريطانيا أن أعلنت الحرب على ألمانيا بمجرد تحرك الألمان باتجاه بلجيكا لغزو فرنسا خشية من سيطرة ألمانيا على أوربا، أما إيطاليا فقد حسمت موقفها المتردد بين الجانبين وانضمت - برغم تحالفها السابق مع ألمانيا والنمسا - إلى جانب دول الوفاق (فرنسا وروسيا وبريطانيا سنة 1915م) وذلك بعد أن سمحت لها فرنسا باحتلال ليبيا، وبسبب تطلعاتها الاستعمارية في منطقة البلقان الخاضعة للنمسا. ولم تلبث الحرب أن اتسع نطاقها، وشاركت فيها عدة دول أخرى انضمت إلى هذا الجانب أو ذاك. فقد دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب إلى جانب النمسا وألمانيا في نوڤمبر 1914م، وكذلك فعلت بلغاريا سنة 1915م. أما بالنسبة لدول الوفاق، فقد دخلت اليابان الحرب إلى جانبها سنة 1914م، واليونان سنة 1916م، ورومانيا سنة 1917م، والولايات المتحدة سنة 1917م.
وهكذا بدأت أول حرب عالمية في تاريخ الجنس البشري، واستمرت تزهق الأرواح وتدمر الممتلكات وتنشر الخراب على مدى أربع سنوات تقريبًا (1914-1918م)، حيث فشلت سياسة الحرب الخاطفة التي كانت ألمانيا تعتمد عليها، وطال السجال بين الأطراف المتحاربة بين نصر وهزيمة، ولاح شيء من الأمل لدول الوسط ألمانيا والنمسا بقيام الثورة الشيوعية وخروج روسيا من الحرب في مارس 1918م، ولكن دخول الولايات المتحدة الحرب إلى جانب دول الوفاق في أبريل 1917م كان قد بدد هذا الأمل، وبدأت مصائر الحرب تحسم في النهاية لصالح دول الوفاق، بعد أن ألقت الولايات المتحدة الأمريكية بثقلها في الحرب، وكان إصدار الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون لنقاطه الأربع عشرة للتسوية المنتظرة من أكبر العوامل التي شجعت دول الوسط على إلقاء السلاح، حيث إن هذه النقاط الأربع عشرة كانت كفيلة – كما تصور زعماء الدول المهزومة – بأن تحافظ على كيان دولهم على الأقل وخاصة المبدأ الخاص بحق تقرير المصير. وفي النهاية، أعلنت ألمانيا الاستسلام، وطلبت عقد الهدنة بواسطة الرئيس ويلسون أملًا في أن يتوسط لها في شروط صلح مشرفة، ولكن ويلسون فرض على ألمانيا أن يعتزل الإمبراطور والقيادات التي تولت أمر ألمانيا خلال الحرب كي تفسح الطريق أمام حكومة ديموقراطية تتولى التفاهم على الصلح مع الديموقراطيات الغربية المنتصرة، وتم لويلسون ما أراد، وتنازل الإمبراطور ولهلم الثاني، وفر من البلاد، واستقالت القيادات العسكرية والسياسية، وعقدت الهدنة فعلًا في نوڤمبر 1918م. وفي يناير عُقد مؤتمر الصلح في باريس بدون حضور الدول المهزومة، واستمر حتى يناير 1920م، وخلال المؤتمر تم فرض صلح فرساي على ألمانيا في يونيو 1919م، وبموجب ذلك الصلح انتُزعت الإلزاس واللورين من ألمانيا وأعطيت إلى فرنسا، كما حصلت فرنسا على حق استغلال فحم إقليم السار الألماني لمدة خمسة عشر عامًا، كما حصلت بولندا على مساحات هامة من الأراضي الألمانية، بينما حصلت بلجيكا وتشيوكوسلوڤاكيا على مناطق أصغر، وجردت ألمانيا من مستعمراتها، واقتسمتها بريطانيا وفرنسا بشكل أساسي، كما فُرض عليها أن لا يزيد تعداد جيشها عن مائة ألف مقاتل، وتحريم التجنيد الإجباري، وعدم استخدام الدبابات والطائرات، وتسليم أسطولها الحربي، وأن لا يزيد أسطولها مستقبلًا عن ست قطع كبيرة، وعدد محدود من القطع الصغيرة، وتدمير القاعدة البحرية الألمانية في هليجولاند فى سسسبحر الشمال، وذلك بالإضافة إلى تعويضات مالية كبيرة على أساس أنها كانت الطرف الرئيسي المتسبب في الحرب، وكضمان لتسديد هذه التعويضات، فقد تقرر احتلال أراضي منطقة الراين لحين إتمام السداد.
وهكذا خرجت ألمانيا من تلك الحرب التي أرادت بها السيطرة على العالم وقد فقدت الكثير من قدراتها العسكرية، ومُنعت من تطويرها مستقبلًا، وفقدت نحو عشر سكانها، وجانبًا كبيرًا من مناجم الفحم والحديد، وأصبحت مدينة للحلفاء بمبالغ خيالية لا تعرف إلام تصل قيمتها، ولا كيف يمكنها سدادها. لكن هذه الشروط المذلة قد زرعت أيضًا رغبة الألمان في الانتقام، وكانت السبب الرئيسي في ظهور النازية، وفي قيام الحرب العالمية الثانية بعد نحو عشرين عامًا من ذلك التاريخ.
تشكلت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وتسوية فرساي، حكومة برئاسة الاشتراكي إيبرت، عُرفت باسم حكومة فيمار، لكن تلك الحكومة عجزت عن معالجة مشاكل ألمانيا المعقدة، فكان ذلك تمهيدًا لظهور هتلر وحزبه النازي. كان أدولف هتلر مواطنًا نمساويًّا عاديًّا، لم يتلقَّ تعليمًا عاليًا، وكان يعمل بحرفة النقش وبيع الصور، ثم التحق بالجيش أثناء الحرب العالمية الأولى، وبعد خروجه من الجيش التحق بحزب العمال الاشتراكي؛ وفي سنة 1920م تم تغيير اسم الحزب إلى حزب العمل القومي الاشتراكي (نازي) بناءً على اقتراح هتلر الذي أصبح رئيسًا للحزب سنة 1921م. وفي كتاب كفاحي وضع هتلر نظريته النازية القومية العنصرية المتطرفة التي قسم فيها العالم إلى أجناس، وضع فيها الجنس الألماني الآري في المقدمة، بينما وضع العرب واليهود والزنوج في آخر القائمة. وعبَّر هتلر عن ضرورة أن يقود الألمان العالم نتيجة لذلك التفوق العنصري. ومن هنا أتى عداؤه لليهود الذين كانوا يعتقدون أنهم شعب الله المختار، وللشيوعيين الذين كانوا يعتقدون أنهم أصحاب الرسالة الأسمى في التاريخ آنذاك، كما عبر عن رفضه للنظم الديموقراطية، وأكد على ضرورة أن تتولى النخب القوية من الرجال الحكمَ، وقد لاقت هذه الأفكار العنصرية الاستبدادية رواجًا كبيرًا لدى قطاعات واسعة من الشعب الألماني، وخاصة الشباب؛ بسبب ظروف الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، وما أثارته من رغبة في الانتقام، مما مكن هتلر في نهاية الأمر بعد محاولة انقلابية فاشلة قام بها سنة 1923م من الوصول إلى منصب مستشار الرايخ الألماني سنة 1933م، ومن ثم تصفية خصومه والانفراد بالحكم المطلق في العام التالي مباشرة في أغسطس 1934م بعد وفاة الرئيس هندنبورج ثم بداية العمل على تحقيق حلمه في فرض إرادة ألمانيا على العالم.
بدأ هتلر بإعادة تنظيم ألمانيا إداريًّا، وجعل منها دولة مركزية واحدة خاضعة لحكمه المطلق كما بدأ في تنفيذ سياسته العنصرية في طرد اليهود من مراكزهم وإحلال الألمان محلهم، وأعلن انسحابه من عصبة الأمم سنة 1933م حتى يتحرر من التزامات ألمانيا الدولية، ونجح في استغلال ارتباك المواقف الغربية بين الشيوعية والنازية، وتمكن من استرجاع الأراضي التي خسرتها ألمانيا في الحرب العالمية الأولى في السار والراين، كما تمكن من إعادة تسليح ألمانيا بسرعة برغم استياء الدول الكبرى من ذلك، وتمكن من توقيع اتفاقيات تحالف مع إيطاليا الفاشية سنة 1936م سُمِّي بالتحالف الصُّلب، أو التحالف الفولاذي، وكان موجهًا ضد الدول الأوربية الاستعمارية الكبرى إنجلترا وفرنسا وذلك نظرًا للتشابه الأيديولوجي بين النظامين الإيطالي والألماني، حيث كان موسوليني الزعيم الفاشي لإيطاليا يتطلع إلى إعادة أمجاد روما في البحر المتوسط على حساب إنجلترا وفرنسا، تمامًا كما كان هتلر يطمح في السيطرة على أوربا والعالم على حساب نفس القوتين، وكذلك استطاع توقيع اتفاقية تحالف مع اليابان موجهة ضد الشيوعية وضد نفوذ الاتحاد السوڤييتي في آسيا الذي كان يعارض التوسع الياباني في الصين، ثم بدأ الخطوة الحاسمة في العمل على ضم الأقليات الألمانية في أوربا إلى الوطن الأم، فبدأ بضم النمسا اعتمادًا على قوة الحزب النازي فيها، فأخذ يضغط من أجل أن يصل سايس أنكورات الزعيم النمساوي النازي إلى كرسي رئاسة الوزراء في النمسا، وبمجرد أن تحقق ذلك، أسرع هتلر بإعلان ضم النمسا إلى ألمانيا؛ وحتى يقطع الطريق على تدخل الدول الكبرى ضد هذه الخطوة، أجرى استفتاءً تمخض عن موافقة 97% من أصوات النمساويين على الانضمام إلى ألمانيا. وكانت الدول الأوربية الكبرى بدورها مهتمة بتحويل اهتمام هتلر إلى الشرق لضرب الشيوعية السوڤييتية الصاعدة، ولذا لم تعترض بشكل جدي على خطوة هتلر بضم النمسا.
وبضم النمسا أصبحت تشيكوسلوڤاكيا – الهدف التالي للوحدة الألمانية – مفتوحة أمام جيوش هتلر، ومرة أخرى انتهز هتلر نمو التحرك الألماني النازي من داخل تشيكوسلوڤاكيا نفسها بزعامة كونراد هنلن زعيم حزب السوديت الألماني حتى يبدو تدخله دفاعًا عن ألمان منطقة السوديت فقط وليس عدوانًا على تشيكوسلوڤاكيا كلها، وهذا ما تصورته الدول الأوربية الكبرى، فتساهلت مع هتلر هذه المرة أيضًا مباركة اندفاعه باتجاه الشرق بعيدًا عنها، وأعلن هتلر لتشمبرلن رئيس وزراء بريطانيا أن مطالبه في ضم السوديت هي آخر ما سيطلبه من أوربا، وأنه لو تحققت مطالب ألمانيا في منطقة السوديت التي تسكنها أغلبية ألمانية فسوف يسود السلام أوربا طويلًا، وقد وافق تشمبرلن على مطلب هتلر بضم السوديت. وفي سبتمبر 1938م عُقد مؤتمر ميونخ بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا دون دعوة تشيكوسلوڤاكيا أو الاتحاد السوڤييتي، وتقرر فيه تحطيم تشيكوسلوڤاكيا وضم السوديت إلى ألمانيا. لكن هتلر لم يكن صادقًا في وعده لتشمبرلن بأن يكون ذلك هو آخر المطالب، إذ اندفع بعد ذلك في تحقيق هدفه الثالث بضم بولندا، معتمدًا على وجود حركة نازية قوية في إقليم دانزيج، وباسم إنقاذ ألمان بولندا من الاضطهاد العنصري البولندي؛ وهنا فقط انتبه العالم الغربي إلى أن هتلر كان يخادع، وأن خطوته التالية بعد الانقضاض على بولندا هي العودة لضرب الدول الأوربية الغربية، ولذا بمجرد أن تحركت الجيوش الألمانية باتجاه بولندا في سبتمبر 1939م بدأت الحرب العالمية الثانية.
وبشكل عام، كانت الحرب العالمية الثانية حربًا على سيادة العالم بين الدول الديموقراطية إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية - ومعهم الاتحاد السوڤييتي - التي عُرفت بدول الحلفاء، والدول الديكتاتورية التي سيطرت عليها أفكار تفوُّق عنصرية متشابهة، ألمانيا وإيطاليا واليابان التي عُرفت بدول المحور؛ وقد كانت أكبر حرب في تاريخ الإنسان، حيث اشترك فيها نحو مائة مليون جندي من نحو سبعين دولة، وقد استغرقت حوالي ست سنوات من 1939 إلى 1945م؛ وقد وصلت الحرب ذراها عندما قامت ألمانيا بغزو فرنسا سنة 1940م والاتحاد السوڤييتي في يونيو 1941م، وعندما هاجمت اليابان الولايات المتحدة في بيرل هاربور في جزر هاواي في ديسمبر من نفس السنة 1941م، مما دفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى دخول الحرب.
وفي سنة 1942م، وبعد الانتصار المبدئي، بدأت قوات المحور في التراجع والانهزام، وذلك بعد هزيمة اليابان في عدة معارك بحرية، وهزيمة قوات المحور في شمال إفريقيا في موقعة العلمين وفي ستالينجراد السوڤييتية. وفي سنة 1943م، وبعد عدة هزائم لحقت بالألمان في أوربا الشرقية، وغزو قوات التحالف لإيطاليا الفاشية، وانتصارات الأمريكيين في المحيط الهادي، بدأ المحور في الانسحاب على جميع الجبهات. وفي سنة 1944م، نجحت الولايات المتحدة في القيام بإنزال ناجح في نورماندي في شمال فرنسا، وتمكن الحلفاء من طرد الألمان من فرنسا، وبدؤوا التقدم نحو حدود ألمانيا من الغرب، كما استطاع الاتحاد السوڤييتي استعادة كل الأراضي التي استولى عليها الألمان، والتقدم نحو حدود ألمانيا من الشرق. وانتهت الحرب في أوربا بسيطرة قوات الاتحاد السوڤييتي على برلين، والاستسلام غير المشروط من قبل الألمان في مايو 1945م. كما هزمت الولايات المتحدة الأمريكية البحرية اليابانية، واستسلمت اليابان بعد ضرب الولايات المتحدة لجزيرتي هيروشيما ونجازاكي بالسلاح النووي في أغسطس 1945م؛ أما إيطاليا فكانت قد أعلنت استسلامها، وخرجت من الحرب مبكرًا بعد هجوم الحلفاء عليها من جزيرة صقلية سنة 1943م، ثم نجاحهم في القضاء على مقاومة موسولني في شمال إيطاليا ودخول روما في يونيو سنة 1944م.
خلفت الحرب العالمية الثانية وراءها عالمًا من الخراب والشقاء .. اثنين وستين مليون قتيل .. عشرات الملايين من الجرحى والمشوهين والمشردين .. مدنًا محروقة، وقرى خربة، وعائلات ثكلى فقدت رجالها، واقتصاديات مهدمة، ومستقبلًا مظلمًا للبشرية التي تعرضت لمحنة كبرى جلبها عليها كبرياء وصلف وجنون بعض الأفراد الذين تصوروا خطأ أنهم ينتمون لجنس أسمى من سائر أجناس البشر، وحاولوا فرض سيطرتهم على العالم، فكانت النتيجة دمارهم، ودمار العالم معهم؛ ففي تلك الحرب المريرة تهدَّمت مدنٌ بكاملها كلندن وبرلين وستالينجراد وهيروشيما ونجازاكي، وأُبيدت أجناس بأكملها كيهود أوربا، وخسرت شعوب خيرة شبابها كالاتحاد السوڤييتي الذي دفع الثمن الأكبر للحرب وخسر نحو سبعة وعشرين مليون قتيل وحده، وتغير العالم بعد الحرب وخسرت إنجلترا وفرنسا مكانتهما الدولية لصالح الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتي، وانقسم العالم إلى معسكرين، شرقي بزعامة الاتحاد السوڤييتي، وغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وحلت منظمة الأمم المتحدة محل عصبة الأمم في محاولة جديدة لحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية، لكن نذر حرب جديدة (ربما أكثر شراسة) كانت تلوح في الأفق الدولي في أثناء الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية، هي الحرب الباردة التي نشبت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة بين الاتحاد السوڤييتي بنظامه الشيوعي والولايات المتحدة الأمريكية بنظامها الرأسمالي. وهكذا بدأت رحلة معاناة جديدة في تاريخ الجنس البشري.
ظهرت الأفكار الشيوعية الأولى في ألمانيا على يد كارل ماركس الذي التقى بزميله فردريك إنجلز في فرنسا بعد ذلك ليضعا معًا الأصول الفلسفية الكاملة للشيوعية الدولية التي انعكست في البيان الشيوعي الأول الذي صدر سنة 1848م، وفي كتاب رأس المال الذي أصدره ماركس بعد ذلك. والفكرة الشيوعية ترتكز على نظرية التطور الاقتصادي للتاريخ، أي من المجتمع الإقطاعي العبودي إلى المجتمع البرجوازي، ثم إلى المجتمع الاشتراكي الذي تسيطر عليه الطبقة العاملة، وتسوده العدالة والمساواة، حيث يمتلك فيه الأفرادُ جميعًا وسائل الإنتاج الخاصة بالمجتمع، ويديرونها بشكل جماعي يحقق لهم العدالة والرفاهية.
كانت روسيا في بدايات القرن العشرين مهيأةً لاستيعاب الأفكار الشيوعية؛ وذلك بسبب طبيعة المجتمع الإقطاعي، والتخلف النسبي الذي كانت تعيش فيه بالمقارنة مع الدول الأوربية البورجوازية الأخرى؛ ولذا وجدت تلك الأفكار لها تربة خصبة في روسيا في ذلك الوقت ثم هيأت ظروف الحرب العالمية الأولى والمعاناة التي نتجت عنها، الفرصة لقيام الثورة الشيوعية الروسية بزعامة ڤيلاديمير لينن في أكتوبر 1917م، وخروج روسيا من الحرب العالمية التي كانت طرفًا فيها آنذاك، ثم شروع لينين في إنشاء الاتحاد السوڤييتي على أنقاض روسيا السابقة بموجب دستور جديد وُضع سنة 1918م، ومن ثم بداية عملية نهضة وتصنيع ضخمة تحت إشرافه ثم إشراف خليفته ستالين، تمكنت من وضع الاتحاد السوڤييتي في مصاف الدول الأوربية الكبرى، ولعب الدور الأكبر في هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، حيث خرج الاتحاد السوڤييتي عملاقًا مسيطرًا على أوربا الشرقية، ومزودًا بأيديولوجية شيوعية تبشيرية راح يبشر بها كأنها دين جديد يحمل شعار الاشتراكية هي الحل، ويدعم أنصارها في كل أنحاء العالم فيما عرف في نصف القرن التالي بالحرب الباردة التي واجهته فيها الولايات المتحدة الأمريكية – وحلفائها - بأيديولوجيتها الرأسمالية الديموقراطية، وذلك بمجرد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها مباشرة.
وبالإضافة إلى سباق التسلح الرهيب الذي أثارته الحرب الباردة، ومحاولات السيطرة على الفضاء والدعاية والدعاية المضادة وحروب التجسس، فقد شهدت فترة الحرب الباردة كثيرًا من الأزمات الدولية مثل أزمةِ حصار برلين 1948-1949م التي انتهت بتقسيم ألمانيا إلى شرقية تابعة للسوڤييت وغربية تابعة للحلفاء، والحربِ الكورية 1950-1953م التي فشلت فيها الولايات المتحدة في غزو منطقة النفوذ الصيني السوڤييتي في كوريا الشمالية، وأزمةِ برلين الثانية سنة 1961م التي انتهت ببناء السوڤييت لسور يفصل برلين الشرقية عن برلين الغربية، وأزمةِ الصواريخ الكوبية سنة 1962م التي كادت أن تتسبب في مواجهة نووية بين الاتحاد السوڤييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وحروب الشرق الأوسط 1967م - 1973م التي تمكنت فيها الولايات المتحدة في نهاية الأمر من طرد السوڤييت من مصر في عهد الرئيس المصري أنور السادات وحرب فيتنام 1959-1975م التي هُزمت فيها الولايات المتحدة في النهاية، وطردت من ڤيتنام بمساعدة صينية سوڤييتية أيضًا، والغزو السوڤييتي لأفغانستان في ديسمبر 1979م الذي استغرق حوالي عشر سنوات تمكنت في نهايتها الولايات المتحدة من طرد السوڤييت من هناك بالتعاون مع حلفائها من الدول الإسلامية؛ وكانت آخر أزمة هي تلك التي حدثت أثناء تدريبات قوات الناتو سنة 1983م، حيث فهم السوڤييت خطأ أن الغرب كان على وشك القيام بهجوم نووي عليهم، فقاموا بدورهم بوضع سلاحهم النووي على أهبة الاستعداد، وأصبح العالم كله في مهب الريح، لولا عنصر الصدفة الذي أنقذ البشرية من هذا المصير الرهيب. واقتربت الحرب الباردة من نهايتها في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، بوصول الرئيس الأمريكي رونالد ريجان إلى السلطة، ومضاعفة الولايات المتحدة ضغوطها السياسية والعسكرية والاقتصادية على الاتحاد السوڤييتي. وفي النصف الثاني من الثمانينات قدم الزعيم الجديد للاتحاد السوڤييتي ميخائيل جورباتشوف مبادرة لإصلاح الاتحاد السوڤييتي تحت عنوان البريستوريكَا بمعنى الإصلاح والجلاسنوسْت بمعنى المصارحة. وفي سنة 1991م انهار الاتحاد السوڤييتي وتفكك، وتخلى عن أيديولوجيته الشيوعية، وتبنى النهج الديموقراطي في عصر روسي جديد.
أدى سقوط الاتحاد السوڤييتي إلى نوع من الصدمة الشديدة والفراغ الرُّوحي السياسي العميق في معظم دول الشرق الأوسط الإسلامية التي كانت قد اعتادت طوال العقود السابقة التي أعقبت خروج الاستعمار الأوربي على أن الاشتراكية هي الحل، ومن هنا بدأ الطرح الإسلامي السياسي الذي كان يحاول أن يأخذ له مكانًا منذ سبعينيات القرن الماضي - بسبب ظروف الثورة الإيرانية وظروف عصر النفط والنشاط الإخواني الوهابي في مصر والسعودية - ينمو ويتعمق بين شباب تلك المجتمعات، حتى أصبح تيارًا دوليًّا يعمل على نشر القيم والنظم الإسلامية بالقوة تمامًا كما كان الحال مع الشيوعية. وقد أدى ذلك في النهاية إلى انصهار معظم جماعات العنف الإسلامية، كجماعة الجهاد الإسلامي، والجماعة الإسلامية وغيرها في تنظيم واحد كبير يجمع شتات هذه الجماعات المتطرفة هو تنظيم القاعدة.
نشأ تنظيم القاعدة في ظل ظروف غزو الاتحاد السوڤييتي لأفغانستان، حيث أثارت تلك الحرب شعورًا من الحماسة الدينية في نفوس كثير من الشباب في البلاد العربية، فرغبوا في الاشتراك فيها، والانضمام إلى المجاهدين الأفغان في حربهم ضد السوڤييت، وهكذا أسس عبد الله عزام مع أسامة بن لادن مكتبًا للخدمات في بيشاور في باكستان سنة 1984م، بهدف استقبال وتدريب المجاهدين القادمين من البلاد العربية، أو الأفغان العرب كما أصبحوا يعرفون. ومع نهاية المهمة العسكرية السوڤييتية في أفغانستان، أراد بعض المجاهدين توسيع نطاق عملياتهم لتشمل مد الجهاد الإسلامي إلى أجزاء أخرى من العالم؛ ولتحقيق تلك الطموحات تشكلت عدة منظمات متداخلة ومتشابكة، منها تنظيم القاعدة الذي أنشأه أسامة بن لادن مع عبد الله عزام، وعقد أول اجتماع له في أغسطس 1988م. وبعد اغتيال عزام في عام 1989م انقسم مكتب خدمات بيشاور وانضم عدد كبير إلى تنظيم ابن لادن.
وبعد انسحاب الاتحاد السوڤييتي من أفغانستان، عاد أسامة بن لادن إلى المملكة العربية السعودية؛ وعندما وقع الغزو العراقي للكويت سنة 1990م عرض ابن لادن خدماته الجهادية على الملك فهد في حماية الحدود السعودية، لكن الملك فهد رفض عرضه واستنجد بدلًا من ذلك بالأمريكيين وحلفائهم، مما اعتبره ابن لادن انتهاكًا للأراضي المقدسة. وبعد أن انتقد علنًا الحكومة السعودية لاستقبالها الجنود الأمريكيين، نُفِي إلى السودان، وسُحبت منه الجنسية السعودية في أبريل 1994م كما أعلنت عائلته تبرؤها منه.
ارتكز أسامة بن لادن والقاعدة في السودان بين عامي 1992 و1996م بناءً على دعوة من حسن الترابي - زعيم التيار الإسلامي السوداني - وهناك التقى بأيمن الظواهري، وجماعة الجهاد الإسلامي المصرية، حيث شكلا معًا الأساس لتنظيم القاعدة. وفي سنة 1995م، قامت جماعة الجهاد الإسلامي بمحاولة فاشلة لاغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في إثيوبيا، فقامت الحكومة السودانية بطردها في مايو 1996م، فعاد الجميع إلى أفغانستان مرة أخرى، حيث رحبت بهم حركة طالبان التي كانت تسيطر على أفغانستان في ذلك الوقت، وظلوا هناك حتى سقوط طالبان سنة 2001م، ثم تفرقوا في المناطق القبلية الواقعة بين حدود أفغانستان وباكستان.
تأثر فكر القاعدة بكتابات المفكر المصري سيد قطب الذي كان يرى ضرورة إعادة تأسيس الدولة الإسلامية بالقوة، وقتل المرتدِّين، ومحاربة الكفار، وكذلك بكتابات الكاتب الباكستاني أبي الأعلى المودودي؛ وعلى هذه الأسس بدأت القاعدة نشاطها الإرهابي، فقامت بكثير من العمليات الإرهابية، مثل محاولة تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك سنة 1993م، وتفجير السفارات الأمريكية في نيروبي ودار السلام سنة 1998م، والهجوم على المدمرة الأمريكية يو إس إس كول في اليمن سنة 2000م، ووصلت تلك العمليات الإرهابية ذروتها في تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في سبتمبر 2001م الذي أسفر عن مصرع نحو ثلاثة آلاف إنسان بريء من مختلف الجنسيات.
ويعتبر حادث تفجير برجي مركز التجارة العالمي منعطفًا حاسمًا في تاريخ القاعدة؛ لأن ذلك العمل دفع الولايات المتحدة لأن تلقي بثقلها في محاربة تنظيم القاعدة، فقامت بغزو أفغانستان مباشرة، وأسقطت نظام طالبان الذي كان يؤوي تنظيم القاعدة، ودخلت في حرب بلا هوادة مع طالبان والقاعدة منذ ذلك التاريخ حتى تمكنها من قتل أسامة بن لادن في 2 مايو سنة 2011م، وظلت تقاتل تنظيم القاعدة الذي انتخب أيمن الظواهري قائدًا له بعد مصرع ابن لادن. وبالطبع خفتت حركة الإرهاب التي قادها تنظيم القاعدة بمصرع أسامة بن لادن، لكنها لم تنتهِ، ولن تنتهي بسهولة، ومع ذلك فمثلها مثل الأيديولوجيات الاستبدادية السابقة سوف تنتهي يومًا ما.
ومما سبق يمكن لنا أن نستخلص بعض الحقائق الملفتة للنظر في تاريخ البشرية، منها أنه مازال هناك خطأ جسيم في الفكر الإنساني بحيث نجده ينتج مثل تلك الأيديولوجات القهرية في قرن واحد على التوالي، وأن فكرة الحرية التي هي الهدف الأكبر للإنسان لم تدرك بعد، وندرك أيضًا - بلا شك - الدور الكبير الذي تلعبه دول العالم الحر في مواجهة أخطار التسلط التي تواجه الإنسانية والإنسان. إن تأملًا سريعًا لأعداد الذين قتلوا في الحربين العالميتين، وللمدن التي هُدمت، وللمليارات التي أنفقت على سباق التسلح في الحرب الباردة، والأرواح البريئة التي أزهقت في عصر الإرهاب، سيجعلنا ندرك عبث التاريخ البشري؛ لأن مثل هذه الأموال والمجهودات التي ذهبت سدى، كانت كفيلة بإسعاد الجنس البشري كله، وبنشر الرفاهية والسلام على الأرض لو كان قد أحسن استخدامها، لكن الإنسان كان مدفوعًا دائمًا – عبر تاريخه - إلى الحرب والخراب والتدمير بحجة الجنس الأسمى، أو الفكرة الأسمى، أو العقيدة الأسمى. والخلاصة التي يجب أن ندركها من وراء كل ذلك، هي أن الحرية هي الحل، وفي ترجمتها السياسية الثقافية تصبح الديموقراطيَّة العلمانيَّة هي الحل. لا يمكن لجنس أن يتفوق على جنس، ولا فكرة على فكرة، ولا دين على دين؛ لأن كل تلك الأشياء مرهونة باختيار الإنسان، وما يريده لنفسه؛ وليس لنفس أخرى أن تفرض عليه ما يريد، وهذا هوما نعنيه بالديموقراطية وبالعلمانية. ولكنَّ الديموقراطية والعلمانية - مع الأسف - ليستا مجرد نظام يمكن استيراده بسهولة كالتكنولوجيا مثلًا، ولكنها معركة شرسة وطويلة من أجل إرساء ثقافة إنسانية راقية تعلي من قيمة الإنسان، وتبرز الروابط المشتركة بين البشر، وذلك لكي تصبح الديموقراطية العلمانية حقيقةً، وتكون المعركة مع الإرهاب هي آخر المعارك.
أهم المراجع:
1. دراسة ما بعد الدين والقومية
2. التاريخ الأوربي الحديث – من عصر النهضة إلى مؤتمر ڤيينا
للدكتور عبد الحميد البطريق والدكتور عبد العزيز نوار
دار النهضة العربية - بيروت
3. تاريخ أوربا المعاصر – من الثورة الفرنسية إلى الحرب العالمية الثانية
للدكتور عبد العزيز نوار والدكتور عبد المجيد نعنعي
دار النهضة العربية - بيروت








الدراسة السابعة
مصر الثورة وإسرائيل
الصدام أم التطبيع؟
بعد ثورة يناير مباشرة، برز على مسرح أحداث الحياة السياسية المصرية اتجاه يدعو إلى إلغاء إتفاقية كامب ديفيد المبرمة مع إسرائيل، والدخول في صدام مباشر معها. وقد قاد هذا الاتجاهَ العروبيون أحيانًا والإسلاميون أحيانًا أخرى في محاولتهما السيطرة على الشارع المصري الذي تتحكم فيه المشاعر الدينية والقومية العروبية؛ وقد غذت هذا الاتجاهَ أحداثُ الحدود المتلاحقة التي كان يُقتل فيها جنود مصريون وتتهم فيها إسرائيل دائمًا، بينما يتم تبرئة جانب حماس والجهاديين في غزة دائمًا، كما غذته استراتيجية حماس الدائمة باستفزاز إسرائيل بإطلاق صواريخها على المدن الإسرائيلية القريبة من غزة بين الحين والآخر لاضطرار إسرائيل إلى الرد العنيف، على أمل إثارة الشارع المصري في اتجاه المطالبة بإلغاء إتفاقية السلام، والدخول في صدام مباشر معها. ولأن هذا الاتجاه السياسي قد أصبح أحد معضلات السياسة المصرية خاصة بعد وصول الإسلامين إلى الحكم واحتمال اضطرارهم - في نهاية الأمر - لإرضاء الناخب المتطرف الذي وصل بهم إلى الحكم من جهة، أو الخضوع لابتزازِ حماس لمشاعر الشعب المصري الدينية من جهة أخرى، وذلك بالدفع بمصر إلى طريق المواجهة المباشرة مع إسرائيل في الوقت الذي تعاني فيه من مشكلات داخلية مزمنة وخطيرة، مما قد يؤثر في مستقبلها تأثيرًا كارثيًّا بالفعل؛ فقد قمت بإعداد هذه الدراسة الموجزة عن هذا الموضوع الشائك، وكالعادة كان مدخلي تاريخيًّا يبدأ القصة من بدايتها، وليس من لحظتها الراهنة.
بدأت العلاقات المصرية الإسرائيلية منذ فجر التاريخ تقريبًا؛ ونحن نعلم من التاريخ أن النبي إبراهيم أبا الشعب العبري، قد تزوج من هاجر المصرية في مراحل الاحتكاك الأولى بين القبائل العبرية ومصر في خلال عصر الدولة الوسطى الفرعونية، حوالي القرن العشرين قبل الميلاد. ونعرف أن مصر قد سقطت بعد ذلك، وبالتحديد الوجه البحري، خلال القرنين الثامن عشر والسابع عشر قبل الميلاد في يد شعوب الهكسوس التي يُفترض أن شعوب العابيرو أو الشعوب العبرية كانت أحد فصائلهم الرئيسية. ونعرف أن هذه الشعوب قد تم إجلاؤها من مصر على يد أحمس الأول مؤسس الأسرة الفرعونية الثامنة عشرة خلال القرن السادس عشر قبل الميلاد، لكن بقايا هذه الشعوب ظلت تعيش في مصر كمهاجرين وأسرى حروب حتى تم إجلاؤها نهائيًّا عن مصر خلال عهد رمسيس الثاني وابنه الفرعون مرنبتاح خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد حسب الروايات التاريخية، أو هربها من مصر في حدود نفس الفترة بقيادة النبي موسى حسب الروايات الدينية.
وهكذا رحلت الشعوب العبرية – وقد أصبحت تسمى الآن بشعب إسرائيل نسبة إلى أبيها يعقوب - من مصر إلى فلسطين، واستولت عليها من الشعوب السامية الأخرى التي كانت تسكنها، ومن الفلسطينين الإغريق سكان السواحل. ودون الدخول في تفاصيل تاريخية كثيرة، فقد أسست هناك دولتين هما إسرائيل ويهودا، استمرت الأولى حتى قضى عليها الآشوريون في أخريات القرن الثامن ق.م. واستمرت الثانية حتى قضى عليها البابليون في بدايات القرن السادس ق.م. ولكن وجود الشعب الإسرائيلي في فلسطين استمر بشكل أو بآخر إلى ما بعد مولد المسيح، وانتهى بالتحديد مع تدمير الإمبراطور الروماني تيتوس لأورشليم سنة 70م، ثم سحق الإمبراطور هادريان لثورة اليهود نهائيًا سنة 135م، لتبدأ بعد ذلك - أي بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنًا من الاستقرار في فلسطين - هجرة اليهود على نطاق واسع من فلسطين إلى الجزيرة العربية ودول البحر المتوسط المحيطة بفلسطين. وخلال هذه الفترة التاريخية الطويلة، عاصر اليهود كل أحداث الشرق الأوسط القديم، وشاركوا فيها بإيجابية، وسجلوا كل ذلك في التوراة أو العهد القديم، وتحولت علاقات العداء مع المصريين إلى علاقات صداقة وتحالف أحيانًا، وذكروا في التوراة (لا تؤذِ مصريًّا لأنك كنت غريبًا في بلاده). وقد تزوج الملك سليمان بأميرة فرعونية، كما تحالفت مصر وإسرائيل في مواجهة الخطر الآشوري والخطر البابلي بعده خلال القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد، وفي العصر الفارسي عاشت جالية كبيرة منهم في أسوان في جنوب مصر حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، كما أن البطالمة الذين حكموا مصر بعد فتوحات الإسكندر الأكبر خلال القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد قد نقلوا كثيرًا من اليهود من فلسطين إلى مصر، وبالتحديد إلى مدينة الإسكندرية التي عاشوا فيها كأكبر جالية بعد الجالية الإغريقية. وقد استمر استقلال اليهود النسبي في فلسطين خلال العصر الفارسي والعصر الإغريقي إلى أن فقدوا هذا الاستقلال تمامًا في العصر الروماني، وبدأوا رحلة شتاتهم في العالم كما أسلفنا، ولكن ظلت جالية كبيرة منهم تعيش في فلسطين.
وبهذه المقدمة نستطيع على الأقل أن نثبت أن اليهود ليسوا ظاهرة طارئة على الشرق الأوسط، بل هم شعب من شعوبه الأصلية، تراوحت العلاقات معهم بين العداء والصداقة، وأن علاقتهم الحديثة بالشرق الأوسط ما هي في الواقع سوى استمرار لعلاقتهم القديمة به. ونستطيع أيضًا أن نثبت - وهذا هو الأهم - أن هناك في فلسطين الآن مشكلة شعبين وليس مشكلة شعب واحد. مشكلة الشعب اليهودي الذي يعتقد أن فلسطين هي وطنه وحده منذ الأزل، ومشكلة الشعب الفلسطيني الذي يعتقد أن اليهود قد سرقوا منه هذا الوطن، بينما التاريخ يقول بأن فلسطين كانت – في الواقع - وطنًا لكليهما منذ فجر الحضارة؟
انتهى العصر الروماني بانتزاع العرب لكل منطقة الشرق الأوسط وجنوب المتوسط من يد الرومان خلال القرن السابع الميلادي، وفي ظل العصر الإسلامي عاش اليهود على حد الموسى، شأنهم في ذلك شأن باقي الأقليات الدينية، حياة تتراوح بين الرحمة أحيانًا والقسوة أحيانًا أخرى؛ وبينما نسِيَت معظم شعوب المنطقة تاريخها وتعربت، ظل شعب واحد فقط محتفظًا بهُويته وبذاكرته التاريخية حالمًا بالعودة إلى فلسطين، وذلك هو الشعب اليهودي أو شعب إسرائيل. ومع اضمحلال الخلافة العثمانية آخر خلافة إسلامية، وصعود الغرب الأوربي، بدأت قصة اليهود تأخذ منحى آخر، وبدأ يهود أوربا - الذين كان الكثيرون منهم قد وصلوا إلى مراكز مرموقة في المجتمعات الأوربية في ظل القيم الليبرالية الأوربية الحديثة - يفكرون في العودة إلى فلسطين، وفي سنة 1896م نشر الصحفي النمساوي اليهودي تيودور هرتزل كتابه (الدولة اليهودية – محاولة حديثة لحل المشكلة اليهودية). وفي سنة 1897م نظم هرتزل المؤتمر اليهودي الأول في بازل، حيث دعا الحاضرين إلى استعمار فلسطين بعمال صناعيين وزراعيين يهود، وبتنظيم وتوحيد كل الملة اليهودية. وقد وافق ذلك رغبات الدول الاستعمارية الكبرى التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى، وورثت أملاك الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط، وبدأت تعيد رسم خريطة سوريا الكبرى العثمانية في دول قومية حديثة آخذة في الاعتبار حقوق الأقليات الدينية في المنطقة، واتخاذها بمثابة مواقع أمامية لنشر قيم الحضارة الغربية في المنطقة والحفاظ على مصالحها، فعملت من ثم على إعادة توطين اليهود في فلسطين - والمسيحيين في لبنان فيما بعد - وهكذا صدر وعد بلفور سنة 1917م، وبدأت قصة عودة اليهود إلى فلسطين بعد شتات ثمانية عشر قرنًا من الزمان تتحول من مجرد حلم إلى حقيقة.
بدأ اليهود النزوح إلى فلسطين فورًا بعد استيلاء الإنجليز على القدس من الأتراك في الحرب العالمية الأولى، ففي ديسمبر سنة 1917م وصل حاييم ويزمان على رأس وفد المنظمة الصهيونية العالمية، وأسسوا مقارَّ للمنظمة هناك؛ وفي مايو 1920م قرر المجلس الأعلى لعصبة الأمم وضعَ دولة فلسطين الحديثة تحت الانتداب البريطاني، وكان هذا يعني إمكانية الالتزام بتنفيذ وعد بلفور. وبالفعل، ففي ظل الانتداب البريطاني على فلسطين ازدادت الهجرة اليهودية بشكل كبير أدى في النهاية إلى إخلال كبير بمصالح السكان العرب برغم المحاولات التوفيقية الكثيرة التي قامت بها بريطانيا؛ وفي سنة 1936م اشتعلت انتفاضة وطنية عربية شاملة في فلسطين اضطرَّت الحكومةَ البريطانية إلى إرسال لجنة لتقصي الحقائق. وفي سنة 1937م وصلت لجنة اللورد بيل إلى استنتاج بأن التزامات بريطانيا تجاه العرب واليهود كانت متناقضة، وأنه لا يمكن تنفيذ الانتداب، ومن ثم اقترحت - للمرة الأولى - تقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية، على أن تبقى القدس تحت الانتداب البريطاني، وعلى تحديد الهجرة اليهودية السنوية، وعلى أن تُضم الدولة العربية الصغيرة إلى الأردن برئاسة الملك عبد الله، لكن العرب واليهود رفضوا هذه الاقتراحات، كما أن اللجنة الفنية التي شكلتها عصبة الأمم، أوصت في العام التالي بأنها اقتراحات غير عملية، وغير قابلة للتنفيذ.
وافقت بريطانيا التي كانت معنية بخطر نشوب الحرب العالمية الثانية، وبأهمية كسب تأييد عرب فلسطين، ودعت إلى عقد مؤتمر مائدة مستديرة سنة 1939م للتشاور بين العرب واليهود، لكن المؤتمر فشل، فحاولت مرة أخرى في مايو من نفس السنة 1939م بإصدار ورقة بيضاء طالبت فيها بأن تصبح فلسطين دولة مستقلة ذات قوميتين عربية ويهودية، وحددت فيها الهجرة اليهودية إلى فلسطين، لكن اليهود رفضوها، كما أن العرب لم يهتموا بها حيث لم يكن لديهم ثقة في بريطانيا. ومع اقتراب شبح الحرب العالمية الثانية، ظل الموقف كما هو .. رفض عربي للانتداب البريطاني ولوعد بلفور ولمجمل الوجود اليهودي في فلسطين، وإصرار من الجانب اليهودي على استعمار أكبر جزء ممكن من فلسطين، تمثل في تضاعف ملكية الأرض اليهودية إلى أكثر من الضعف، وتأسيس الجامعة العبرية سنة 1925م في أورشليم القدس، وازدياد المستعمرات اليهودية من سبعة وأربعين سنة 1922م إلى مائتين سنة 1939م، وتأسيس الهاجاناه، الجيش السري اليهودي.
شهدت سنوات الحرب العالمية الثانية توترًا شديدًا في علاقات اليهود ببريطانيا، واعتبر اليهود بريطانيا المسؤول الأكبر عن مذابح هتلر ضد اليهود في أوربا بسبب تقييد بريطانيا لهجرة اليهود إلى فلسطين بموجب الورقة البيضاء؛ وقد وصل هذا التوتر أقصاه في قيام اليهود باغتيال اللورد ميون وزير الدولة البريطاني في القاهرة في نوڤمبر سنة 1944م، وأيضًا شهدت سنوات الحرب إنتقالًا نهائيًّا لمقر الصهيونية العالمية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا حصلت القضية اليهودية على قوة دفع أكبر من القوى الكبرى الجديدة التي ورثت مركز بريطانيا في العالم، فبمجرد أن انتهت الحرب، طلب الرئيس الأمريكي ترومان من الحكومة البريطانية السماح بدخول مائة ألف يهودي إلى فلسطين. وبالفعل تكونت لجنة إنجليزية أمريكية لتقصي الحقائق ودراسة هذه المطالب في نوڤمبر1945. وفي أبريل 1946م، طالبت تلك اللجنة باستمرار الانتداب، وبدولة واحدة متحدة، وبإلغاء القيود على بيع الأراضي، وبالسماح الفوري لمائة ألف يهودي بدخول فلسطين، لكن بريطانيا رأت هذه التوصيات غير عملية، واستمرت في محاولة منع الهجرة اليهودية غير الشرعية، فزادت الجماعات الصهيونية من نشاطاتها الإرهابية التي وصلت ذروتها في حادث تفجير فندق الملك داود في القدس في يوليو 1946م الذي كان يضم المكاتب العسكرية والمدنية البريطانية.
واجهت الحكومة البريطانية معضلة، وانقسم الرأي العام البريطاني بين مؤيد ومعارض للقضية اليهودية، كما أصبحت المصالح البريطانية نفسها في الشرق الأوسط معرضة للخطر إذا ما سمحت باستيلاء اليهود على فلسطين، ولكن بريطانيا كانت تتعرض لضغط كبير من الولايات المتحدة من أجل السماح بهجرة يهودية كبيرة إلى فلسطين، خاصة أنها قد أصبحت معتمدة عليها اقتصاديًّا بعد الحرب. وهكذا وبعد محاولة عقيمة من أجل الحصول على موافقة العرب واليهود على خطة مشتركة، سلمت بريطانيا المشكلة إلى الأمم المتحدة في فبراير سنة 1947م. وفي نوڤمبر 1947م صدر قرار الأمم المتحدة (الجمعية العامة) رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية وتدويل القدس (55% لليهود تشمل صحراء النقب والباقي 45% للعرب). وقد قبل اليهود بهذا القرار بينما رفضه العرب. وعلى الفور اشتعل اقتتال طائفي سرعان ما تطور إلى حرب أهلية شاملة، ارتكبت فيها الجماعات اليهودية المسلحة كثيرًا من الفظائع في سبيل السيطرة على معظم فلسطين وطرد السكان العرب، وذلك بينما كانت الإدارة البريطانية – التي رفضت التدخل - تتأهب للرحيل. وفي 14 مايو1948م غادر آخر مندوب سامٍ بريطاني فلسطين، وانتهى الانتداب رسميًّا، وأعلن اليهود على الفور قيام دولة إسرائيل؛ وفي خلال ساعات قليلة كان الاتحاد السوڤييتي والولايات المتحدة قد أعلنا اعترافهما بالأمر الواقع في فلسطين. وفي 15 مايو1948م عبرت الجيوش العربية من سوريا والأردن ومصر حدود فلسطين على أمل رد الموقف لصالح عرب فلسطين، وهكذا بدأت الحرب الأولى بين العرب ودولة إسرائيل الوليدة التي انتهت بهزيمة القوات العربية، وحصول إسرائيل على مساحة من الأرض الفلسطينية أكبر من تلك التي نص عليها قرار التقسيم، حيث ظل 21% فقط من الأرض بأيدي السكان العرب.
وبعد ذلك، وفي ظل حكم الضباط الأحرار في مصر، وفي ظروف الحرب الباردة والاستقطاب الدولي بين المعسكرين الشرقي والغربي، شهدت المنطقة ثلاث حروب عربية إسرائيلية أخرى هي حرب 1956م وحرب 1967م وحرب 1973م. كانت حرب 1956م حربًا مصرية إسرائيلية بشكل أساسي؛ فبسبب تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس بعد سحب البنك الدولي عرضه بتمويل مشروع السد العالي، قامت إنجلترا وفرنسا بغزو مصر بمساعدة إسرائيل، لكن مشروع الغزو فشل بسبب اعتراض الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتي (القوى الكبرى الجديدة). أما حرب 1967م، فكانت بسبب سوريا بشكل أساسي، ولسماحها بانطلاق العمليات الفدائية الفلسطينية من أراضيها. ولأن السياسات الناصرية العروبية كانت تتخذ من القضية الفلسطينية والتهديد الإسرائيلي ذريعة لقيادة الأمة العربية، فقد كان على النظام الناصري أن يبادر بحماية سوريا، فقام في شهر مايو سنة 1967م بطلب سحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء، وقام بإغلاق مضايق ثيران في وجه الملاحة الإسرائيلية، وبإدخال الجيش المصري– الذي كان معظمه غائبًا في اليمن - إلى سيناء، فردت إسرائيل على ذلك بضرب المطارات المصرية في يونيو 1967م، وقامت باجتياح سيناء والجولان السورية، واستولت على القدس وما تبقى من أراضٍ فلسطينية.
مات عبد الناصر سنة 1970م، وخلفه أنور السادات الذي أخذ ينظر للأمور بمنظور وطني مصري وليس بمنظور قومي عربي، كما أخذ يراجع كل سياسات عبد الناصر في الاشتراكية العربية. وبناءً على هذه النظرة الجديدة للأمور، رأى أنور السادات أن مصر قد تورطت في قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأخذ يبحث عن مخرج منفرد من الأزمة، وعندما فشلت محاولاته الدبلوماسية المتكررة للتوصل إلى حل مع الإسرائيليين، قرر القيام بحرب محدودة لتحرير الأرض المصرية، وتحريك الأزمة على المستوى الدولي. قام أنور السادات بشن الحرب على إسرائيل في أكتوبر 1973م بالمشاركة مع سوريا، ونجح في تحقيق هدفه بالفعل في عبور قناة السويس، وتحرير الشريط الملاصق للقناة، وذلك برغم الانتكاسة العسكرية التي تعرضت لها القوات المصرية نتيجة لعملية الثغرة الإسرائيلية، أو الهجوم المضاد الإسرائيلي الذي بدأ في 14 أكتوبر 1973م، حيث تدخلت الولايات المتحدة لفض الاشتباك بين الجيشين المصري والإسرائيلي، وبدأت على أثر ذلك المفاوضات من أجل تحرير سيناء التي أدت في النهاية إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد سنة 1978م، والتي تم التوقيع عليها رسميًّا في مارس من العام التالي في واشنطن.
وخلال كل هذه الفترة الطويلة - وحتى اليوم - صمدت اتفاقية كامب ديفيد لكل الاختبارات القاسية التي تعرضت لها، بل إنها قد أعطت قوة دفع كبيرة لعملية السلام العربي الإسرائيلي في المنطقة بشكل عام، بحيث لحقت الأردن بمصر ووقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل سنة 1994م، كما دخلت القيادة الفلسطينية الشرعية في مباحثات سلام طويلة مع إسرائيل بعد اتفاقية أوسلو سنة 1993م، أصبحت فيها قاب قوسين أو أدنى من تحقيق سلام شامل مع إسرائيل في إتفاقية كامب ديفيد الثانية سنة 2000 م في عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون والرئيس الفلسطيني الراحل ياسرعرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك. وفي تلك الاتفاقية، وافق الجانب الإسرائيلي - بضغط أمريكي - على التنازل عن أكثر من تسعين بالمائة من أراضي الضفة الغربية لصالح الفلسطينيين، وتقسيم القدس إلى قدس عربية وقدس يهودية على أن تؤجل قضية اللاجئين لتبحث في مرحلة أخرى. ولكن الجانب الفلسطيني رفض ذلك الاقتراح، وانهارت عملية السلام في الشرق الأوسط منذ ذلك اليوم فصاعدًا، حيث وصل اليمين المتطرف في إسرائيل إلى الحكم، وأخذ يشدد من مطالبه، وفي المقابل انقسمت الحركة الوطنية الفلسطينية بعد وفاة ياسر عرفات سنة 2004م، ووصلت حماس إلى رئاسة الحكومة الفلسطينية سنة 2006م، ثم انقلبت عليها واستقلت بغزة سنة 2007م، وأخذت تشدد من مطالبها رافضة كل مساعي السلام بدورها. وفي خضم كل ذلك صمدت اتفاقية كامب ديفيد أمام كل المحاولات لإلغائها، وإعادة حالة المواجهة المباشرة مع إسرائيل بحجة استعادة الدور القيادي العربي والإسلامي لمصر، ومع ذلك فقد ظلت المعاهدة صامدة حتى الآن، ولكن هل تستطيع الصمود إلى الأبد في ظل الظروف الجديدة التي أعقبت ثورة يناير؟
والإجابة هي نعم ستصمد، أو نعم يجب أن تصمد. وذلك لأسباب كثيرة أهمها أن ثورة يناير لم تقم أصلًا لإلغاء المعاهدة مع إسرائيل، وإنما من أجل تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، وليس في هذه المطالب ما يتعارض مع المعاهدة، بل إن العكس هو الصحيح؛ فالحفاظ على حالة السلام مع العالم هي شرط أساسي لتركيز الجهود على عملية التحول الديموقراطي والتنمية. والواقع أن ما يجب أن تقوم به مصر الآن هو الضغط من أجل تغيير الملاحق الأمنية الملحقة بالمعاهدة التي تجاوزها الزمن، ولم تعد ملائمة للظروف الحالية، بسبب وجود خطر حماس والجماعات الجهادية في غزة وسيناء. وفي نفس الوقت فعلى مصر أن تستمر في جهودها من أجل دفع عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، كما أنها يجب أن تستفيد من تجربة التاريخ، وتتعلم أن الأدوار الإقليمية والمراكز الإقليمية لا تُكتسب بالمواقف الإعلامية، بل بالتحول إلى الديموقراطية والعمل على التطور الاقتصادي والثقافي. ولننظر حولنا لنرى ماذا فعلت الأنظمة القومية العروبية بشعوبها في العراق وسوريا وليبيا، ولننظر ماذا فعلت الاتجاهات الإسلامية بشعوبها في أفغانستان وباكستان والعراق والصومال وغيرهم. ولننظر ونتأمل كيف أن تركيا التي تنال إعجابنا اليوم قد نشأت وتطورت بقيم العلمانية والديموقراطية والوطنية التركية، والتخلي عن ميراث الخلافة الإسلامية، والانفتاح على العالم الغربي؛ ولو كان جمال عبد الناصر أتاتورك تركيا، لتغير وجه تاريخ مصر الحديث كله. يجب أن نتعلم من فشل نظام عربي عمره أكثر من نصف قرن فشل حتى في أن يلغي تأشيرات المرور بين بلدانه أو أن يصنع لها سوقًا تجارية مشتركة أو حتى أن يخلق بين شعوبه بعض التعاطف والاحترام الحقيقيين. مصر الثورة الجديدة يجب أن تنفتح على العالم كله بصرف النظر عن الدين أو الجنسية. إن أي مشاكل بين الدول يمكن معالجتها بالحكمة والنوايا الحسنة؛ ولو كان الأمر مستحيلًا لما ظل آلاف المصريين يعيشون في إسرائيل في سلام حتى اليوم. إن العلاقات بين الشعوب لا تتوقف ولا تنقطع لمجرد اختلاف في العقيدة أو في الثقافة، وإن البطولة الحقيقية هي في تحقيق السلام بين البشر وليس في إذكاء الصراع بينهم؛ ولو لم يكن في إسرائيل أناس يؤمنون بالسلام مثلما يؤمن به بعضنا لما قتل رجل مثل إسحاق رابين من أجل إيمانه بالسلام، ولكن المتطرفين عندما يصلون للحكم في أي بلد فإنهم يجعلون من الحروب أمجادًا متجاهلين أن العكس هو الصحيح؛ فالسلام هو المجد والحروب هي العار. مصر يجب أن تصمد وتتحلى بالصبر والحكمة .. مصر لا يجب أن تنقاد لدعاوى الحرب، والصراع ليس من منطلق الضعف، ولكن من منطلق الإيمان بالمصيرالمشترك للإنسان .. ليست العبرة في الحياة بمن يشاركني الدين أو اللغة، ولكن العبرة بمن يشاركني المصالح المشتركة والمشاعر الإنسانية المشتركة. لقد صمدت علاقتنا مع إسرائيل على مدى أكثر من ثلاثين سنة، وسوف تصمد أكثر. ولابد للإنسان المصري من أن يتجاوز نقطة ضعف الكراهية الدينية التي أصبحت تتحكم فيه، وأن يفتح قلبه للعالم ويتعامل معه، وأن يتحرر من سجن العروبة ويعود إلى قوميته المصرية وتسامحه المصري المعروف ليرى العالم بعيون محايدة إنسانية كما كانت نظرته عبر التاريخ. ولا يعني هذا أن نتخلى عن إخواننا في فلسطين، فعملية التطبيع الكامل مع إسرائيل لايمكن أن تتحقق قبل إقامة الدولة الفلسطينية؛ فحل الدولتين هو الحل الصحيح منذ البداية. يجب أن يسود صوت الحكمة في مصر وفي إسرائيل، وأن ينتصر دعاة السلام في نهاية الأمر على دعاة المقاطعة والمواجهة.
لقد تغيرت الظروف الدولية التي نشأ فيها الصراع العربي الإسرائيلي، وانتهت الحرب الباردة التي كانت فيها مصر وإسرائيل خصمين في معسكرين متعاديين، شرقي وغربي؛ فمن الحكمة أن يكونا الآن في خندق واحد يواجهان التطرف الديني الذي يجتاح المنطقة. إن الديموقراطية والتنمية هما هدف شعوب المنطقة العربية التي حُرمت طويلًا من حقوقها الإنسانية، وإن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلَّا من خلال نظرة جديدة على العالم يكون السلام قوامها الرئيسي وسلاحها الرئيسي. وبكلمات أخرى وأخيرة، فإن نجاح الإنسان المصري في تلك اللحظة الحاسمة من تاريخه في عبور حاجز الكراهية مع إسرائيل سوف يعني نجاحه في عبور ذلك الحاجز مع العالم كله، وفشله سوف يعني فشله مع العالم كله. إنه تحدٍّ مصيري آمُل أن ينتصر فيه العقل المصري في النهاية.
سأهم المراجع:
1. تاريخ مصر القديمة/نيقولا جريمال
ترجمة/ماهر جويجاتي
دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع - القاهرة
2. تاريخ الشرق الأدنى القديم/ دكتور أبو المحاسن عصفور
دار النهضة العربية - بيروت
3. تاريخ الشرق الأوسط/بيتر مانسفيلد
ترجمة/عبد الجواد سيد عبد الجواد
منشأة المعارف/ الإسكندرية
4. The Middle East, a brief history of the last 2000 years.By Bernard Lewis
Published by. Simon and Schuster Inc. New York. U.S.A



الدراسة الثامنة
لماذا نجحت تركيا وفشلت مصر؟
بدأت حركة النهضة الحديثة في كل من تركيا ومصر في نفس الوقت تقريبًا، في بدايات القرن التاسع عشر على يد السلطان سليم الثالث والسلطان محمود الثاني بعده، وعلى يد محمد علي وخلفائه في مصر، ولكن بينما نجحت تركيا في مسيرة نهضتها، وأصبحت في نهاية الأمر دولة علمانية ديموقراطية متقدمة سياسيًا واقتصاديًّا وثقافيًّا، تعثرت مصر وسقطت قبل أن تبلغ غايتها، فلماذا حدث هذا وكيف؟ يحاول هذا البحث المختصر الإجابة على هذا السؤال.
في القرن التاسع عشر أصبحت الإمبراطورية العثمانية رجلَ أوربا المريض بسبب ضعفها المتزايد، وتخلفها عن ركب الحضارة الأوربية الصاعدة، ولكن في عام 1789م وقع حدثان ساعدا على كسر عزلة العثمانيين، هما قيام الثورة الفرنسية، وصعود السلطان المصلح سليم الثالث إلى العرش. كان سليم الثالث مهتمًّا بالأفكار الخارجية الجديدة، وكان شديد الإعجاب بالثقافة الفرنسية، وبمبادئ الثورة الفرنسية، فأخذ بإدخال النظم الفرنسية الحديثة إلى الإمبراطورية. وفي سنة 1798م غزا نابوليون بونابرت ابن الثورة الفرنسية مصر، وبذلك بدأت مصر بدورها تتعرض للمؤثرات الفرنسية في نفس الوقت تقريبًا الذي كانت فيه هذه المؤثرات تخترق قلب الإمبراطورية العثمانية في تركيا.
بدأت قصة تركيا الحديثة مع سليم الثالث، ولكن في سنة 1807م قام الانكشارية - في احتجاجهم على الإصلاحات والتحديثات الأوربية التي أدخلها بموجب نظامه الجديد - بخلع السلطان، وإحلال ابن عمه مصطفى مكانه والذي ما لبث أن ألغى جميع الإصلاحات. وبعد أربعة عشر شهرًا من ذلك التاريخ، اغتيل مصطفى، وخلفه أخوه الذي تسمى بمحمود الثاني. كان محمود الثاني مصلحًا مثل سليم الثالث، وفي النهاية مضى حتى أبعد من سليم أثناء حكمه الطويل الذي بلغ إحدى وثلاثين سنة. ولكن في العقد الأول من حكمه، كان عليه أن يتحرك بحذر حتى يستطيع تدعيم سلطته الشخصية، ولم يستطع إلَّا في سنة 1826م مواجهة مشكلة الانكشارية، وقضى عليهم في مذبحة استطاع بعدها فقط أن يمضي في إصلاحاته التحديثية - تمامًا كما فعل محمد علي مع المماليك في مصر - وذلك باستيراد الخبرات الأوربية، وإصلاح الجيش ونظام التعليم، وإرسال بعثات الطلاب إلى جامعات أوربا. هكذا بدا أن حركة النهضة الحديثة في كل من تركيا ومصر قد بدأت في نفس الوقت تقريبًا.
وبعد وفاة السلطان محمود الثاني، تولى السلطان عبد المجيد الذي حكم من سنة 1839م إلى سنة 1861م، تابع أثناءها مواصلة إصلاحات أبيه. وفي بداية عهده، عين وزير الخارجية مصطفى رشيد باشا ليكون مسؤولًا عن البرنامج الإصلاحي، وفي نوڤمبر 1839م، تمَّ إعلان الخط الشريف التاريخي الذي سمي بخط (الغرفة الحمراء)، وكان الأول في سلسلة من المراسيم التي عرفت بشكل عام في مجموعها باسم (التنظيمات)، وكانت تهدف إلى تحديث القوانين في الإمبراطورية على غرار النماذج الأوربية. كانت المعارضة الدينية لإصلاحات التنظيمات قوية؛ لأن الإصلاحات كانت ثورية في الهدف والمضمون. وكان اثنان من هذه التغييرات ثوريين فعلًا، وكان مجرد إعلانهما صادمًا للرأي العام التقليدي المحافظ. كان واحد منها يقول بأن كل المواطنين العثمانيين يجب أن يتساووا بالكامل أمام القانون، بصرف النظر عن جنسهم أو عقيدتهم، والآخر كان هو إدخال نظام قانوني جديد يتميز عن نظام الشريعة الإسلامية الذي يشرف عليه القضاة المسلمون. كانت مساواة جميع المواطنين أمام القانون مبدأ علمانيًّا غير إسلامي نبع من حركة الاستنارة الأوربية، والمثل القومية للثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، وكان أمرًا مختلفًا تمامًا عن النظام الملي السائد في الإمبراطورية العثمانية آنذاك. لم يكن التغيير فوريًّا، فقد حاربته الجهات الدينية ومع ذلك فإن عملية علمنة القوة الإسلامية الكبرى في العالم كانت قد بدأت. وتبع ذلك إطلاق مشروع كبير لإنشاء جامعة وطنية- تم افتتاحها بالفعل في أخريات عهد السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1900 - وشبكة مركزية من المدارس الابتدائية والثانوية، وأنشئت وزارة للتعليم، وبدأ نظام من التعليم العلماني يتأسس تدريجيًّا.
أعطت حرب القرم التي نشبت بين روسيا وتركيا سنة 1854م وانتهت سنة 1856م بتدخل إنجلترا وفرنسا إلى جانب تركيا، قوةَ دفع أكبر لإصلاحات التنظيمات. فقد نشبت الحرب أساسًا بسبب رغبة القيصر الروسي في فرض حمايته على الرعايا المسيحيين الأرثوذكس في الإمبراطورية العثمانية، وعندما رفض السلطان العثماني ذلك نشبت الحرب، ولذا عندما انتهت الحرب بمعاهدة باريس في مارس 1856م، كان عليه أن يقدم شيئًا مقابل تأييد الدول الأوربية الكبرى له ضدَّ روسيا، فأعلن عن مرسوم امبراطوري جديد كمقدمة للمعاهدة، معيدًا التأكيد على إصلاحات التنظيمات ماضيًا بالإصلاحات إلى مرحلة أبعد. فقد أعاد ذلك المرسوم الإمبراطوري في بنودٍ أقوى وأوضح، التأكيد على المساواة الكاملة لكل الرعايا العثمانيين بدون تحيز للطبقة أو للعقيدة، وذلك في كل ما يتعلق بالضرائب والملكية والتعليم والعدالة، وأدخل المرسوم قوانين تِجارية وبحرية وقوانين عقوبات جديدة كانت مؤسسة على القانون الفرنسي إلى حدٍّ كبير، وانتهت بذلك سيطرة الشريعة الإسلامية على كثير من مناحي الحياة.
توفي السلطان عبد المجيد في عام 1861م وخلفه أخوه عبد العزيز. كان عبد العزيز ذا شخصية قوية، وبرغم أنه مبدئيًّا كان قد أعلن نفسه مصلحًا، فسرعان ما أظهر تعاطفه مع الرجعيين. ومع ذلك فقد كان عاجزًا عن إيقاف عملية الإصلاح التي أسفرت عن ظهور طبقة هامة من شباب الأتراك المثقفين بثقافة عصر الاستنارة في أوربا والذين كانوا يفهمون حاجات بلادهم فهمًا حقيقيًا ولم يعد المصلحون مجرد حفنة صغيرة من الرجال المعزولين. وقد خلص بعض هؤلاء الشباب إلى أن الضرورة الأولى لا تكمن في مجرد إدخال بعض النظم والقوانين الأوربية، وإنما تكمن في إدخال المبادئ الغربية للحكومة الدستورية. وفي سنة 1860م اتفق مؤيدو هذا الاتجاه على الحاجة الملحة لتقليص السلطات المطلقة للسلطان. وفي عام 1865م تكونت جماعة سرية ثورية عرفت باسم (الشباب العثماني) كانت في الواقع أول حزب سياسي في الإمبراطورية العثمانية. وفي الجزء الباقي من القرن التاسع عشر، تعرضت الإمبراطورية لسلسلة من النكبات – خاصة في منطقة البلقان - جعلت من عملية إصلاح وتحديث الإمبراطورية مسألة حياة أو موت. وقد جعل ذلك مدحت باشا – أعظم رجال الدولة الأتراك في أخريات القرن التاسع عشر- يشارك الشباب العثمانيين قناعاتهم في ضرورة إدخال المبادئ الغربية الدستورية، وجعل وزراء السلطان مسؤولين أمام مجلس وطني حقيقي، يخلو من التمييز الطبقي والديني. نجح مدحت باشا في عزل السلطان عبد العزيز واستبدل به مراد - الذي كان يحظى بسمعة جيدة كمؤيد للاتجاهات الدستورية الليبرالية- ولكن مراد كان يعاني اضطرابًا عصبيًّا، فتم عزله بأخيه الأصغر عبد الحميد. كان عبد الحميد الثاني آخر سلطان ذي أهمية في التاريخ العثماني، وقد أدى حكمه البالغ ثلاثة وثلاثين عامًا (1876-1909م) إلى المراحل النهائية للإمبراطورية العثمانية، وظهور تركيا العلمانية الحديثة.
وبمجرد توليه الحكم – وفي مواجهة المشاكل التي كانت تثيرها روسيا ضد الإمبراطورية في البلقان - أصدر السلطان الشاب دستورًا جديدًا. نص ذلك الدستور الذي أوصى به مدحت باشا، وأُسس على الدستور البلجيكي لسنة 1831م على إنشاء برلمان منتخب، ونص على مبدأ معاملة كل الرجال من مختلف العقائد بالتساوي، وكان الأول من نوعه في أي دولة إسلامية. لكن السلطان عبد الحميد لم يكن مخلصًا في إصلاحاته الدستورية، فسرعان ما أبعد مدحت باشا، وأرسله إلى المنفى. وفي سنة 1878م عينه حاكمًا على سوريا، ولكن في سنة 1881م تم إبعاده مرة أخرى. وبعد السماح له بالعودة إلى تركيا بعد ضغط بريطاني، قُدِّم للمحاكمة بتهمة التآمر ضد السلطان، وحُكم عليه بالسجن المؤبد، لكنه قُتل بعد ذلك في سجنه بالجزيرة العربية. وبعد ذلك قام عبد الحميد بحل البرلمان، وتعليق الدستور. وقد استمر هذا التعليق لحوالي ثلاثين سنة. وبذلك سُحقت مؤقتًّا حركة الإصلاح العلمانية التي قادها الشباب العثماني. ومع ذلك فلم يكن من الممكن بعد كل هذه الرحلة الطويلة عزل تركيا عن الأفكار الثورية العلمانية التي كانت قد ترسخت في وجدان الطبقة الوسطى المثقفة، والتي عادت إلى الظهور حوالي نهاية القرن في حركة ثورية عرفت باسم (تركيا الفتاة)، وقد انتشرت تلك الحركة بسرعة بين الطلاب في الكليات الطبية والقانونية في العاصمة والولايات. وقد قام هؤلاء بتأسيس جمعية سرية أطلقوا عليها اسم (جمعية الاتحاد والترقي) أكدت على مبدأ الوحدة والمساواة لكل الأجناس والمعتقدات داخل الإمبراطورية. وفي سنة 1896م حاول الأتراك الشباب القيام بانقلاب لكن تم قمعه بسهولة، ولكن ضعف الإمبراطورية المخزي في علاقتها مع الدول الأوربية جعل بعض ضباط الجيش أمثال أنور بك وجمال باشا ومصطفى كمال (أتاتورك فيما بعد) يلتحقون بالحركة الجديدة واضعين قيادة الوحدات العسكرية في الجيش المقدوني تحت أمرتها. وفي سنة 1908م، رفع الأتراك الشباب لواء الثورة في سالونيك - العاصمة المقدونية - التي أصبحت المقر الرئيسي لجمعية الاتحاد والترقي، ومنها انتشر التمرد إلى جميع أنحاء البلاد، وطالب الشباب الأتراك – يقودهم أنور بك - باسترداد الحكم الدستوري، واضطر السلطان للتراجع عندما اكتشف أن شيخ الإسلام، وأغلبية وزرائه كانوا يتعاطفون مع الثوار، وقبل باسترجاع الدستور قصير العمر الذي كان قد سبق وألغاه قبل حوالي ثلاثين عامًا. لكن عبد الحميد لم يكن صادقًا في قراره؛ فقد راح يشجع سرًّا العناصر الرجعية الغاضبة التي عارضت النظام الجديد. وفي أبريل عام 1909م، تمردت قوات حامية إسطنبول، وذبحت ضباطها، واقتحمت البرلمان؛ وعندما عفا عبد الحميد عن قادة الثورة، وشكل مجلس وزراء جديدًا، أرسل الأتراك الشباب جيشًا من سالونيك لإعادة النظام ومعاقبة المتمردين واسترجاع سلطة جمعية الاتحاد والترقي. وبعد ثلاثة أيام من ذلك التاريخ، اجتمع البرلمان، وأعلن خلع عبد الحميد عن الحكم، ثم أُعلن أخوه رشاد سلطانًا حاملًا لقب محمد الخامس. وكان رشاد البالغ من العمر 64 سنة مستعدًّا لأن يقبل بدور الملك الدستوري.
وقد قام السلطان عبد الحميد بمحاولة انقلاب غير ناجحة أخرى سنة 1909م أصبحت بعدها جمعية الاتحاد والترقي منفردة السيادة في الإمبراطورية، لكن الغريب أنها أخذت تنفذ سياساتها التحديثية بالقوة، فعملت على إحياء الروح الوطنية التركية على حساب الروح الإسلامية، وعلى عثمنة الإمبراطورية، وتتريك التعليم، وأغلقت نوادي وجمعيات الأقليات، وقضت على تجمع الاتحاد الليبرالي الذي تشكل في مواجهة استبداد جمعية الاتحاد والترقي. لكن الجماعة نجحت مع ذلك في وضع تركيا على طريق الحداثة، وكانت أكبر نجاحاتها في مجال التعليم؛ فقد قاموا بقطع شوطٍ أبعد في خلق نظام تعليمي حديث متقدم على كل المستويات بما في ذلك تأسيس كليات جديدة لتدريب المدرسين ومعاهد متخصصة، كما كانوا أول حكام لدولة إسلامية مستقلة يعملون على خلق نظام تعليمي وطني يفتح أبوابه للبنات. وفي نوڤمبر 1914م، وبعد موقف متردد، قررت جمعية الاتحاد والترقي الانحياز إلى ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وأعلنت الحرب على الحلفاء.
كانت نتيجة الحرب كارثة على الإمبراطورية العثمانية، لكنها كانت البداية الفعلية لخلق تركيا الحديثة. فقدت الإمبراطورية العثمانية كل أملاكها في أوربا والمشرق العربي، والتي تم توزيعها على الحلفاء المنتصرين، لكنها تمكنت من الاحتفاظ بأملاكها في الأراضي التركية المركزية داخل هضبة الأناضول، وفي الجزء التركي من أوربا، وذلك بقيادة مصطفى كمال أتاتورك الذي قاد الحرب ضد الحلفاء، وتمكن من الحفاظ على استقلال تركيا بموجب معاهدة لوزان في يوليو 1923م.
كان مصطفى كمال قوميًّا علمانيًّا خالصًا، وقد اعتقد أنه يجب هجر كل تراث الإمبراطورية العثمانية، وأن تركيا يجب أن تتحول إلى دولة أوربية عصرية. ولم يبدُ أن ذلك كان انفصالًا مفاجئًا عن الماضي. كانت إصلاحات التنظيمات 1839م قد وضعت الأسس لدولة علمانية، كما كان الأتراك الشباب - حتى وهم يحاولون الحفاظ على الإمبراطورية - قد أعطوا قوة دفع كبيرة لقضية القومية التركية. وأثناء سنوات الحرب ازدادت علمنة التعليم، كما فُتحت أبواب الجامعات والمناصب العامة للنساء، ووضعت بعض المحاكم التي كانت تخضع للسلطات الدينية تحت سلطة وزارة العدل، كما ساعد قانون صدر في عام 1916م على تحديث قوانين الزواج والطلاق. وقد حمل مصطفى كمال عملية التحديث إلى حدود أبعد. وفي نوڤمبر 1922م تقرر إلغاء السلطنة، وفي أكتوبر 1923م أعلنت تركيا جمهورية وكمال رئيسًا لها، وفي مارس 1924م تم إلغاء الخلافة الإسلامية وحل نظام قانوني جديد تأسس على تنويعات من الأنظمة القانونية الأوربية محل الشريعة الإسلامية. وفي سنة 1924م أصبح الدستور رسميًّا علمانيًّا وحُذفت منه – فيما بعد - الفقرة التي تنص على أن الإسلام هو عقيدة الدولة التركية، واعتبر فصل الدين عن الدولة واحدًا من المبادئ الرئيسية للدولة، وضمن الدستور المساواة أمام القانون، وحرية التفكير والكلام والنشر والاجتماع، كما استُبدلت بالحروف العربية التي كانت تستخدم في تركيا العثمانية، أبجدية ترتكز على اللاتينية؛ وبسبب تأثير مصطفى كمال القوي على شعبه، كانت هذه الإصلاحات عميقة وبعيدة الأثر. وفي عام 1924م جمع مصطفى كمال مؤيديه في حزب الشعب الجمهوري الذي سيطر تمامًا على الحياة السياسية في تركيا، وظل يحكم لمدة سبع وعشرين سنة تمكن خلالها من ترسيخ الثقافة العلمانية في قطاع كبير من الشعب التركي، وتمكن من القيام بالعديد من المشروعات الاقتصادية الكبرى ذات الطابع القومي، كما تمكن من القضاء على المعارضة الإسلامية التي أثارها الشيخ سعيد بيران وتلميذه بديع الزمان النورسي، وذلك بإعدام الأول ونفي الثاني. ولكن وبعد وفاة أتاتورك سنة 1938م، قويت حركة المعارضة ضد احتكار حزب الشعب الجمهوري للسلطة، فسمح خليفته عصمت إينونو بتأسيس نظام متعدد الأحزاب، فظهر الحزب الديموقراطي كمنافس رئيسي لحزب الشعب الجمهوري مناديًا بحرية النشاط الاقتصادي، وبالنظام المتعدد الأحزاب. وبدأ يكتسب شعبية بشكل ثابت حتى حصل على نصر كبير في انتخابات سنة 1950م، وظهرت أصالة الديموقراطية العلمانية التركية عندما سمح إينونو بالانتقال السلمي للسلطة. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، صمدت الديموقراطية العلمانية التركية في مواجهة التحديات الكثيرة التي واجهتها والتي كان أهمهما قيام الجيش بالقضاء على محاولة رئيس الوزارء عدنان مندريس بإحياء تيار الإسلام السياسي في البلاد وإعدامه سنة 1960م، ثم مواجهة الجيش لحزب السلامة وحزب الرفاه الإسلامي الذي أسسهما نجم الدين أربكان في السبعينيات والثمانينيات، ونجاحه بعد ذلك في الحفاظ على علمانية الدولة أثناء حكم حزب العدالة والتنمية الحالي بقيادة رجب طيب أردوغان.
لم تختلف قصة مصر الحديثة كثيرًا عن قصة تركيا؛ فبعد خروج الفرنسيين من مصر استطاع محمد علي الوصول إلى حكم مصر في مايو 1805م وبدوره كان محمد علي معجبًا بالنظم وبالثقافة الفرنسية وبنابوليون بونابرت شخصيًّا، فأخذ يستورد الخبرات الفرنسية خاصة في مجال إصلاح الجيش، كما قام بإرسال عدة مئات من الشباب المصري إلى باريس، وعدد أقل إلى العواصم الأوربية الأخرى وذلك لدراسة الصناعة والهندسة والطب والزراعة، كما ساعد مستشاروه الفرنسيون على تأسيس نظام تعليمي وطني جديد. وبذلك بدأ غرس بذور مصر العلمانية الحديثة، وتابع خلفاؤه نفس السياسات على مدى نحو قرن ونصف، وساعد افتتاح قناة السويس على ربط مصر بالعالم الخارجي، وازدياد نزوح الأوربيين إليها، كما جعل وجود الإنجليز في مصر منها محورًا لسياسات الدول الأوربية في الشرق الأوسط، فازداد تأثر مصر بثقافة العالم المتقدم وخاصة في عهد إسماعيل، حيث أنشأ مجلس شورى النواب في نوڤمبر 1866م، وفي مايو تم إقرار دستور يخول للمجلس سلطة البرلمانات الحديثة، وفي سنة 1908م تأسست الجامعة المصرية. ولذا اصطبغت ثورة 1919م بصبغة قومية ليبرالية تأثرًا بالثقافة القومية الليبرالية الأوربية، وعلى نحو ما حدث في تركيا تمامًا، وقد تم تكريس هذه الثقافة الوطنية الليبرالية في دستور 1923م الذي جعل من مصر رسميًّا دولة وطنية علمانية، ولكن مصر العلمانية الحديثة واجهت تحديات خطيرة لم تستطع مواجهتها بعكس ما حدث في تركيا. ففي سنة 1928م أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين ردًّا على حركة التحديث المصرية، لكن حزب الوفد بقيادة مصطفى النحاس استطاع السيطرة على قوة دفع تيار التحديث، وعلى الثقافة الديموقراطية الليبرالية التي اصطبغ بها المجتمع في أعقاب ثورة 1919م، لكن الضربة القاصمة جاءت بعد ذلك مع انقلاب الجيش سنة 1952م بقيادة جمال عبد الناصر الذي تصرف – برغم حسن نياته - بعكس ما فعل مصطفى كمال وخلفاؤه في تركيا؛ فبدلًا من المضي بالنظام الليبرالي إلى حدود أبعد، فقد قام بالقضاء على ذلك النظام برمته والذي كان قد تأسس خلال نحو قرن ونصف من الإصلاح والتحديث، وألغى معه كل منجزاته الكبرى، وعلى رأسها تأصيل الديموقراطية، ومبدأ تداول السلطة، وثقافة حرية الرأي، وأسس لنظام الحزب الواحد وحكم الفرد الواحد، واستبدل بالقومية المصرية التي واكبت حركة التحديث قومية أخرى عربية لا تعدو أن تكون – في الواقع – سوى الوجه الحداثي للقومية الإسلامية، فقضى بذلك على منجزات عصر كامل، وأفسح المجال – برغم صراعه الشرس مع حركة الإسلام السياسي - لعودة الثقافة الأصولية العروبية الإسلامية مرة أخرى بعد هزيمة تجربته السياسية ورحيله سنة 1970 .. تلك الثقافة التي تسيطر على المجتمع المصري الآن، وتدفع به إلى حافة الهاوية. وهكذا وفي حدود هذا التحليل، يمكن الإجابة على ذلك السؤال الملح .. لماذا نجحت تركيا وفشلت مصر؟ ففي نفس اللحظة التاريخية التي قررت فيها تركيا الحفاظ على الديموقراطية والعبور إلى المستقبل سنة 1950م، قررت مصر قتل الديموقراطية والعودة إلى الماضي سنة 1952م.
أهم المراجع:
1. تاريخ الشرق الأوسط / بيتر مانسفيلد
ترجمة/عبد الجواد سيد عبد الجواد
منشأة المعارف/ الإسكندرية
2. تاريخ مصر الحديث والمعاصر
دكتور عمر عبد العزيز عمر
دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية
3. The Middle East, a brief history of the last 2000 years. By Bernard lewis
Published by Simon and Schuster Inc. New York. U.S.A



















الدراسة التاسعة
مصر بين الأصولية والعلمانية
(الصدام القادم)
لا ينفصل صراع الأصولية والعلمانية القادم والحتمي في تاريخ مصر الحديثة عن ذلك الصراع في المجرى العام للتاريخ الإنساني. الفارق فقط يأتي في التوقيت وفي الظروف؛ فقد حسمته أوربا في أعقاب عصر النهضة مباشرة في صالح العلمانية، وحسمته تركيا الإسلامية في أوائل القرن العشرين في صالح العلمانية أيضًا، وحسمته إيران الإسلامية في أخريات القرن العشرين- وبعكس حركة التاريخ - في صالح الأصولية، وتأجل حسمه في مصر حتى قيام ثورة يناير 2011م، وما أسفرت عنه من تداعيات ونتائج. ولكن حتمية الصراع – وانتصار العلمانية - لا يمكن إنكارها أو تجاوزها، إذ هي من حتميات تطور التاريخ الإنساني مع اعتبار الحالة الإيرانية حالة استثنائية قابلة للانهيار في أي لحظة مستقبلية. وسأحاول هنا أن أفسر حتمية ذلك الصراع، وحتمية انتصار العلمانية فيه، ولماذا تأجل حسم هذا الصراع في مصر؟ وذلك من خلال استعراض سريع للتجربة التاريخية للإنسانية.
ربما يستطيع البعض أن يزعم أن الأصولية ضاربة في أعماق التاريخ الإنساني، وأن الحضارات القديمة قامت على أساس إله ودين تُشن من أجله الحروب، ويحكم بواسطته البشر. ولكن هذا ليس حقيقيًّا تمامًا؛ فقد كانت العصور القديمة أكثر تسامحًا، وقد تعددت فيها العقائد والآلهة التي كثيرًا ما تصارعت، ولكنها كثيرًا ما تعايشت أيضًا، سواء في مصر القديمة أو في بابل وآشور أو في اليونان وروما، ففقط عرف التاريخ الإنساني الأصولية مع المسيحية والإسلام، حيث سيطرت هاتان العقيدتان على جميع مناحي الحياة الإنسانية خلال العصور الوسطى.
وهكذا أصبحت الأصولية هي لغة القرون الوسطى، سواء في الغرب المسيحي أو الشرق الإسلامي، وذلك على أنقاض الحضارات القديمة في الشرق والغرب، فأصبح الحكم للإسلام شرقًا، وللمسيحية غربًا. استغرقت تلك الفترة الأصولية في حياة البشرية نحو عشرة قرون برؤية التاريخ الأوربي (من القرن الخامس الميلادي حتى القرن الخامس عشر) وكانت تسمى بالعصور الوسطى، ولم تكن فترة سعيدة في حياة الإنسانية قَط، وكثيرًا ما أطلق عليها المؤرخون تسمية (عصور الظلام). وبينما انتهت تلك العصور في العالم الغربي بل وفي العالم كله، فإنها مازالت مستمرة هنا في الشرق الإسلامي، وربما باستثناء الدولة التركية الحديثة التي يحكمها الآن حزب إسلامي فشل في أن يغير من طبيعتها العلمانية الظافرة؟
وسنبدأ باستعراض نشأة الأصولية المسيحية ونهايتها رسميًّا سنة 1929م، وننتهي باستعراض نشأة الأصولية الإسلامية واستمرارها حتى اليوم، وحتمية صدامها القادم مع العلمانية، مع التركيز على الحالة المصرية.
نشأت المسيحية في فلسطين، ومنها انتشرت إلى جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية في البحر المتوسط؛ وفي سنة 325م، اعترف بها الإمبراطور الروماني قنسطنطين الكبير ديانة رسمية للإمبراطورية، وهكذا بدأ اختلاط المسيحية بالسياسة، حيث لم تكن ديانة سياسية منذ البداية (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله). بنى الإمبراطور قنسطنطين عاصمة جديدة للإمبراطورية على ضفاف البسفور سميت ببيزنطة، ونقل إليها مقر ملكه، وهكذا انقسمت الإمبراطورية عمليًّا إلى جزأين شرقي وغربي؛ وبينما أصبحت بيزنطة عاصمة الجزء الشرقي، ظلت روما عاصمة الجزء الغربي؛ ومع هذا الانقسام انقسمت العقيدة المسيحية أيضًا - وبمرور الزمن - إلى كنيستين، كنيسة أرثوذكسية شرقية، وكنيسة كاثوليكية غربية. عاشت الكنيسة الأرثوذكسية في ظل الدولة البيزنطية التي استمرت في الوجود حتى أسقطها العثمانيون سنة 1453م، لكن الحال اختلف في الجزء الغربي من الإمبراطورية، فقد سقطت روما سنة 476م أمام جحافل البرابرة الجرمان، وهنا برز دور الكنيسة الكاثوليكية الغربية كبديل عن الدولة.
ومنذ ذلك التاريخ بدأت الكنيسة الكاثوليكية تسيطر على كل مناحي الحياة في غرب أوربا، على الفكر والسياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية للأفراد، وصارعت الملوك، وقادت الحروب، وملكت الإقطاعات الواسعة، وفرضت الضرائب في كل أنحاء أوربا الغربية، واضطهدت المخالفين لها في الفكر والعقيدة، وأنشأت محاكم التفتيش الرهيبة لمحاكمة المخالفين لها حتى في الشؤون الدنيوية؛ وإزاء هذا الوضع المستبد للكنيسة الكاثوليكية، بدأت حركة الإصلاح الديني في ألمانيا في القرن السادس عشر بقيادة مارتن لوثر للتخلص من سيطرة الكنيسة، وسرعان ما انتشرت حركة الإصلاح الديني في كل أنحاء غرب أوربا والتي عرف أصحابها بالبروتستانت أي المعترضين. وانحاز معظم ملوك أوربا الغربية للكنيسة الكاثوليكية، وقاموا بمذابح رهيبة ضد رعاياهم البروتستانت، مما اضطر كثيرًا منهم - خاصة من الإنجليز والفرنسيين - إلى الهجرة من أوربا إلى الأراضي الأمريكية الجديدة هربًا بعقيدتهم وبحريتهم الدينية. وقد تأثر هؤلاء البروتستانت المضطهدين بأفكار الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704م) الذي - ومن خلال تأمله لتجربة الصراع الديني المرير في أوربا - وضع البذور الأولى لفكرة الدولة العلمانية في مؤلفاته ورسائله الكثيرة التي يعتبر كتاب الحكومة المدنية ورسالة التسامح أهمها. وهكذا حمل هؤلاء المهاجرون بذور الفكرة العلمانية معهم، وأدركوا من خلال التجربة الإنسانية المباشرة قيمة وأهمية تلك المثل العليا الجديدة التي تقضي بضرورة فصل الدين عن الدولة، وإرساء مبدأ حرية العقيدة ومساواة جميع المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن عقائدهم، فعملوا على إرسائها في إعلان الاستقلال الأمريكي الذي وضعه توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية سنة 1776م، وذلك بعدما قرر هؤلاء المهاجرون إنشاء دولتهم الأمريكية الجديدة ووضع دستور لها.
كانت أفكار جون لوك والتجربة الأمريكية إلهامًا لمفكري الثورة الفرنسية العظام روسو وفولتير ومونتسكيو، وبناءً على ذلك رفعت الثورة شعار الحرية والإخاء والمساواة، وأسقطت القوانين الكنسية، وأدخلت القوانين المدنية، وحملتها من خلال حروب نابوليون إلى جميع أنحاء أوربا، ووصلت حتى إلى مصر مع الحملة الفرنسية.
تأصلت الفكرة العلمانية في أوربا، وأصبحت الأرض وليس الدين هي الرباط الذي يجمع الأفراد، وانتهى بذلك عصر الحروب الدينية في أوربا؛ وفي سنة 1929م تم تحديد سلطة البابا وممتلكات الكنيسة الكاثوليكية في قطعة صغيرة من أرض إيطاليا هي دولة الفاتيكان الحالية التي أصبحت مجرد كيان روحي، وجردت من أي صلاحيات سياسية. وهكذا أمكن للإنسان الأوربي أن يندفع إلى آفاق أوسع في مسيرته الحضارية، حقيقي أن الحروب والصراعات الجديدة لم تتوقف لكن الحروب الدينية كانت قد انتهت إلى الأبد.
اختلفت الأصولية الإسلامية عن قصة الأصولية المسيحية تمامًا؛ فقد نشأ الإسلام سياسيًّا منذ البداية، ولذا فقد كان من الصعب تأصيل الفكرة العلمانية في العالم الإسلامي، وذلك على الرغم من شيوع نفس المظالم التي نتجت عن الأصولية المسيحية في القرون الوسطى؛ فقد شرَّع الإسلام الحرب من أجل نشر العقيدة، وهكذا ارتبط بالحروب منذ بدايته، وغزا العرب العالم، وأحدثوا مظالم لم تنكرها حتى كتب التاريخ الإسلامي. وما لبث الإسلام أن أصبح إمبراطورية تصارعت مع العالم ومع بعضها البعض من خلال الخلافات الإسلامية المتعاقبة والمذاهب الإسلامية المتناحرة. وقد عانت الأقليات الدينية في ظل الحكم الإسلامي ما عانت، واستبدت الأكثرية بالأغلبية، وأخذت الحياة لونًا رماديًّا حزينًا على نحو ما حدث في غرب أوربا في العصور الوسطى تمامًا. غلبت الأصولية الدينية على الخلافات الإسلامية المتعاقبة من الأموية العربية التي قادت حركة الفتوح العربية الإسلامية الأولى، فالعباسية فالفاطمية فالأيوبية ثم التركية المملوكية وأخيرًا الخلافة العثمانية التي وصل بها التاريخ الإسلامي إلى نهايته.
وكما أشرنا، فقد كانت أوربا المسيحية قد بدأت نهجًا جديدًا للحياة، وعرفت معنى العلمانية، والدولة المدنية، وفصل الدين عن الدولة، وحرية العقيدة، وبدأت صعودها الكبير في التاريخ الإنساني بينما أصبح العالم الإسلامي الممثل في إمبراطوريته العثمانية في تدهور مستمر بعد أن كان يحتل كل المشرق العربي وأجزاء كبيرة من شرق أوربا. كان من الطبيعي أن تتطلع الإمبراطورية العثمانية الآخذة في الانهيار إلى أوربا الصاعدة لتتعلم منها، وحدث في نفس الوقت أن وصل إلى حكم مصر رجل عظيم هو محمد علي باشا الذي أراد أن ينهض بها من سبات العصور الوسطى إلى حياة العصور الحديثة؛ وكان من الطبيعي أن يتطلع إلى أوربا أيضًا ليتعلم منها؛ وهكذا أخذت القيم العلمانية الأوربية تخترق العالم الأصولي المسلم.
بدأت نهضة تركيا الحديثة في القرن التاسع عشر، وواجهت كثيرًا من التحديات، لكنها استطاعت في النهاية أن تؤسس للعلمانية وفصل الدين عن الدولة وتأصيل قيم الديموقراطية، وأثبتت من خلال تجربتها الظافرة أن الإسلام يمكن أن يعيش ويستمر كعقيدة فقط دون الحاجة إلى أي دعم أو ارتباط سياسي بالدولة؛ وقد مكنها ذلك من أن تحتل أخيرًا مركزًا متقدمًا بين دول العالم بينما اختلف الحال مع مصر التي ظلت تدور في حلقة مفرغة من أجل تحقيق علمانية الدولة، وتأصيل القيم الديموقراطية، والخروج من قيم العصور الوسطى إلى قيم العصور الحديثة. وبالطبع كان لذلك قصة لا بد من روايتها ولو بإيجاز شديد لتفسير ما حدث من انكسار حركة التاريخ المصري، واستكشاف آفاق الصراع الحتمي القادم بين الأصولية والعلمانية على أرض مصر.
حققت مصر القرن التاسع عشر نهضة ثقافية كبرى على نحو ما حدث في تركيا، ومع بدايات القرن العشرين بدأت مصر الحديثة في الظهور بكل ملامحها العلمانية الليبرالية، وجاءت الثورة الوطنية الأم، ثورة 1919م ثورة وطنية علمانية ديموقراطية، وظهر حزب الوفد كقائد لمسيرة التحديث، وتمكن من حماية الثقافة العلمانية الديموقراطية في ظل دستور 1923م الذي قرر صراحة فصل الدين عن الدولة، ومساواة جميع المواطنين أمام القانون. لكن مصر واجهت حركة أصولية رهيبة مضادة للقيم العلمانية الديموقراطية هي حركة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا سنة 1928م، ومن هنا في الواقع بدأ الصدام الطويل بين الأصولية والعلمانية في التاريخ المصري الحديث.
أخذت حركة الإخوان المسلمين بمبادئها وقيمها الأصولية في النمو والانتشار بين الجماهير المصرية، وحققت تقدمًا كبيرًا في الواقع، لكن طبيعة الدولة المصرية الحديثة العلمانية الليبرالية ظلت ثابتة في مواجهة تيار الأصولية النامي، وظلَّ حزب الوفد الليبرالي هو الحزب المسيطر على الساحة السياسية المصرية، وظلَّ قادرًا على هزيمة العناصر الأصولية في أي انتخابات برلمانية. واستمر ذلك الوضع حتى قيام ثورة 1952م بقيادة جمال عبد الناصر.
لم يكن جمال عبد الناصر أتاتورك تركيا، وكان يكره الغرب وحضارته، ولم يكن يرى فيه سوى استعماريته، وكان لقيام دولة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني سنة 1948م أثرٌ كبيرٌ في دفع التيار السياسي الجديد الآخذ في الظهور على الساحة - وهو تيار القومية العربية - للانتشار بين الجماهير. وفي نفس الوقت، فقد تأثر جمال عبد الناصر بصعود الاشتراكية العالمية في مواجهة الدول الرأسمالية الاستعمارية، ومن هذين التيارين تشكل فكر جمال عبد الناصر الاشتراكي القومي العربي. عمل جمال عبد الناصر على هدم كل ميراث العصر الليبرالي وقيمه العلمانية، فقضى على الديموقراطية، وألغى الأحزاب، وأجهض الرأسمالية الوطنية الوليدة، وأمم ممتلكات الأجانب، فرحلوا عن مصر، كما عرب التعليم، وألغى الفكرة القومية المصرية، واستبدل بها الفكرة القومية العربية التي لم تكن في الواقع سوى الوجه الآخر من القومية الإسلامية. وخلال حوالي العقدين اللذان حكمهما جمال عبد الناصر، كان كل ميراث العصر العلماني الليبرالي قد انتهى تقريبًا، كما كان الإخوان المسلمون الأصوليون في السجون، لكن جذور العروبة، والتاريخ الإسلامي كانا مازالا ضاربين في التربة المصرية.
وبعد وفاة جمال عبد الناصر سنة 1970م، أخرج خلفُه أنور السادات الإخوان المسلمين من السجون ليضرب بهم تيار الناصرية الذي كان قد تأصل في المجتمع، وبعد حرب أكتوبر 1973م ارتفعت أسعار البترول ارتفاعًا خياليًّا، بدأت معها سيطرة المملكة العربية السعودية، وثقافتها الأصولية الوهابية على المنطقة، وفي سنة 1978م قامت الثورة الإسلامية الإيرانية، فأعطت قوة دفع أكبر لتيار الأصولية في المنطقة، وذلك في الوقت الذي ظلت فيه المشاعر المعادية للغرب العلماني متأصلة في قلوب الجماهير المصرية بسبب تحيزه المفترض لإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني؛ وهكذا ازداد رصيد الأصولية، بينما ظل الفكر العلماني الليبرالي حبيس قطاع صغير من عقول المثقفين المصريين حتى سقوط الاتحاد السوڤييتي سنة 1990م، حيث بدأت العلمانية تأخذ فرصة جديدة كطريق لبناء الدولة العصرية في مواجهة الأصولية الإسلامية التي بدأت تطرح نفسها كبديل عن الرأسمالية والاشتراكية من خلال شعار (الإسلام هو الحل).
وخلال حكم حسني مبارك الذي خلف أنور السادات - بعد اغتياله على يد الجماعات الأصولية سنة 1981م - شهدت مصر خلال الثمانينيات والتسعينيات هجمة أصولية مسلحة شرسة على المجتمع المصري سال فيها كثير من الدماء البريئة، لكن حسني مبارك استطاع التصدي لها بالقوة المسلحة، وبالقوانين الاستثنائية وليس بأي مشروع حضاري بديل، كما أنه قد ساوى بين كل التيارات المعارضة لحكمه علمانية كانت أم أصولية، فاضطهد الجميع، فظلت فرصة الفكر العلماني الليبرالي في الانتشار ضعيفة بين الجماهير، بينما استمر التيار الأصولي من خلال منابره العديدة كالمساجد والجمعيات الإسلامية، وجذوره التاريخية في صعود مستمر. وخلال السنوات الأخيرة من عهد حسني مبارك، سيطرت أسرته على المسرح السياسي في مصر فازداد تدهور المجتمع المصري سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا إلى حدٍّ لم يعد يُحتمل، حتى انفجر الشعب المصري في ثورة تلقائية عنيفة مطالبًا بالحرية وبالعدالة الاجتماعية في يناير 2011م.
لم تكن ثورة يناير 2011م ثورة إسلامية بأي حال من الأحوال، فقد كانت ثورة علمانية بكل المقاييس، إذ كانت ترفع من لحظاتها الأولى شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والمطالبة بتأسيس دولة مدنية يتساوى فيها جميع المصريين أمام القانون، وليس شعار الإسلام هو الحل، لكن الذي حدث – وحتى الآن على الأقل – كان انتصارًا للأصولية الإسلامية على الثورة ذات الطابع العلماني، وذلك من خلال انتخابات مجلس الشعب المنحل، ثم وصول محمد مرسي، المرشح الإخواني، إلى حكم مصر في الانتخابات الرئاسية التي أعقبت ذلك.
كان موقف الجيش المرتبك سببًا حاسمًا في تلك الهزيمة التي مني بها التيار العلماني – مؤقتًا على الأقل – في المعركة على مستقبل مصر؛ فمنذ البداية رفض مطلب الدستور أولًا، الذي كان من شأنه أن يعني الكثير في لعبة الصراع بين الأصولية والعلمانية. كان يمكن لدستور مدني ينجزه الجيش في لحظة انتصار الثورة - عندما كان مازال قريبًا إلى الجماهير - أن يجنب مصر تأسيس أحزاب سياسية دينية، كما كان يمكن له أن يؤسس لمركز الجيش كحامٍ لذلك الدستور ولمدنية الدولة كما هو الحال في تركيا مثلًا، لكنه لم يفعل ذلك، وكان ذلك في صالح الأصولية الإسلامية، فلم يكن هناك تيارٌ سياسيٌّ غيرها مستعدًّا للسيطرة على الشارع المصري، واكتساح الانتخابات البرلمانية والرئاسية عندما حان موعدهما.
كذلك كان لارتفاع نسبة الأمية، وحالة الفقر الاقتصادي والاجتماعي، وانخفاض مستوى الوعي السياسي بين الجماهير والسرعة والارتباك الذي تمت به عملية الانتخابات، بالإضافة إلى تفتت التيار العلماني وعدم توحده في جبهة واحدة تأثير كبير على خسارته لجزء كبير من رصيده في الشارع المصري أمام الأصولية.
وهكذا بدت مصر كأنها تدور في حلقة مفرغة منذ أكثر من قرن من الزمان؛ فبينما هي تبحث عن تأسيس الدولة المدنية العلمانية منذ ثورة 1919م وحتى ثورة يناير 2011م، نجدها مهددة بالوقوع في مستنقع الأصولية، وذلك إذا ما نجح الأصوليون في وضع دستور ذي طبيعة إسلامية يؤسس لفاشية دينية على حساب الدولة المدنية العلمانية.
وهكذا فإن استمرار الصراع بين التيارين الأصولي والعلماني هو أمر حتمي؛ لأن مصر لن تحقق الدولة العصرية في ظل الأصولية أبدًا، ولذا فسوف تظل تنتفض وتثور حتى تدرك في النهاية أن العلمانية هي الحل. ولكن قبل أن يتحقق ذلك، ويلتقي الفكر بالأمانيِّ، فإن الصدام بين الأصولية والعلمانية سوف يشتد ويزداد شراسة، وقد يستغرق عقودًا طويلة حتى تستطيع مصر في النهاية أن تدرك أن العلمانية هي الحل.
وفي ظل الظروف الحالية، تبدو فرص الأصولية هي الأقوى؛ ففي مجتمع تصل فيه نسبة الأمية إلى أكثر من أربعين بالمائة من نسبة السكان، ويعاني من الفقر والفساد وغياب الوعي السياسي، وذلك في الوقت الذي تحيط به دول أصولية جعل لها البترول بأسًا وقوة كإيران والسعودية، وفي مجتمع دولي بدا كأنه يميل إلى مصالحة الأصوليين أو احتوائهم على الأقل، فإن المعركة تبدو محسومة لصالح الأصوليين مؤقتًا، ويصبح دور المثقفين العلمانيين في التبشير بالعلمانية أكثر صعوبة، لكن تلك الظروف ذاتها هي ظروف مؤقتة؛ لأن الأصوليين- الذين يحكمون الآن - سيفشلون حتمًا في إقامة دولة مصرية عصرية ذات قيم إنسانية ومستوى معيشة مقبول، كما أن القوى الأصولية في المنطقة تبدو غير آمنة بدورها؛ فهناك ثورة متجددة من أجل الحرية لدى الشعب الإيراني، وهناك حركات علمانية تنويرية آخذة في الظهور في المجتمع السعودي والمجتمعات الخليجية الأخرى، وكذلك فإن موقف المجتمع الدولي المهادن للأصوليين لايمكن اعتباره موقفًا نهائيًّا بالضرورة، والأهم من كل ذلك، هو أن حركة التاريخ الإنساني تصب في صالح انتصار العلمانية في نهاية الأمر؛ لأن بذلك فقط يتحقق سلام العالم. ولذا فإن على القوى العلمانية أن تشحذ قواها، وتتوحد في معركة الصدام القادم الحتمي والكبير بين الأصولية والعلمانية.
أهم المراجع:
1. دراسة (ما بعد الدين والقومية)
2. دراسة (آخر المعارك)
3. دراسة (لماذا نجحت تركيا وفشلت مصر)
4. تاريخ أوربا في العصور الوسطى للدكتور محمد محمد مرسي الشيخ
رقم الإيداع بدار الكتب المصرية13356/1999
5. تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم حسن
مكتبة النهضة المصرية - القاهرة
6. تاريخ الشرق الأوسط/ بيتر مانسفيلد
ترجمة عبد الجواد سيد عبد الجواد
منشأة المعارف/ الإسكندرية
7. تاريخ مصر الحديث للدكتور عمر عبد العزيز
دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية
1. التاريخ الأوربي الحديث للدكتور عبد الحميد البطريق
والدكتور عبد العزيز نوار
دار النهضة العربية - بيروت
2. The Middle East, a brief history of the last 2000 years. By Bernard lewis
Published by Simon and Schuster Inc. New York. U.S.A











الدراسة العاشرة
مصر والبحر المتوسط
(دراسة في تاريخ ومستقبل العلاقات المصرية المتوسطية)
1. العصر القديم:
تقع مصر بين ثلاث دوائر جغرافية أساسية، هي الشرق الأوسط وأفريقيا والبحر المتوسط، ومن العَلاقة مع هذه الدوائر الثلاث تكوَّن تاريخ مصر الطويل. ولا شك في أن العلاقة مع الدائرة الشرق أوسطية، كانت هي الغالبة على معظم التاريخ المصري، كما ارتبطت الدائرة الإفريقية بمنابع النيل بشكل أساسي، بينما تأثر تاريخ مصر الحضاري بشكل كبير بالتفاعل مع الدائرة المتوسطية خاصة في العصر اليوناني الروماني، وفي عصر أسرة محمد علي الذي حققت فيه مصر نهضة حضارية متميزة بين دول الشرق الأوسط، مما يؤكد أهمية استمرار التفاعل مع هذه الدائرة، ذلك التفاعل الذي خفت منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952م حتى اليوم. وفي هذه الدراسة الموجزة نحاول إلقاء الضوء على تاريخ ومستقبل العلاقات المصرية المتوسطية.
تعود العلاقات المصرية المتوسطية إلى بداية التاريخ الفرعوني تقريبًا مع عهد الملك مينا مؤسس أول أسرة فرعونية حوالي بداية الألف الثالث ق.م. وبالتحديد مع جزيرة كريت موطن الحضارة المينوية (نسبة إلى مينوس ملك كريت)، حيث عُثر في تلك الجزيرة على كثير من الآثار والمؤثرات المصرية التي يرجح أنها انتقلت مع مهاجرين مصريين أثناء هجوم الملك الفرعوني على الدلتا في محاولة توحيد القطرين، وقد تجلى ذلك في العثور على كثير من الڤازات الحجرية المصرية التي تعود إلى عصر الملك مينا، والتي أثرت في صناعة الأواني الحجرية الكريتية بعد ذلك؛ وقد تعدى ذلك التأثير المصري إلى حدود التأثير في الكتابة الكريتية المينوية نفسها التي عُرفت باسم الكتابة الخطية الأولى، وكانت علاماتها تأخذ أشكال الصور كما كان الحال في الكتابة الهيروغليفية، وكذلك إلى عادات الدفن، وعمارة المقابر، وتقديم القرابين، وعبادة الحيوانات. وقد تطورت تلك العلاقة الثقافية إلى علاقات تجارية عُثر على أول دلائلها في مقبرة الملك أوسركاف من الأسرة الخامسة في أخريات القرن الثالث ق.م. حيث عُثر على آنية يونانية في معبده الجنازي؛ وفي حدود الألف الثاني ق.م. بدأت المؤثرات اليونانية الكريتية تظهر في مصر بشكل أكبر، استنتاجًا من العثور على محاولات مصرية لتقليد الأواني الكريتية بزخارفها النباتية، بل والعثور على كثير من الأواني الكريتية الأصلية أيضًا، وأكثر من ذلك بوصول أعداد من العمال الكريتيين للمساعدة في بناء منشآت أحد فراعنة الدولة الوسطى في بدايات الألف الثاني ق.م.
وبانتهاء الفترة الأولى من الحضارة المينوية في كريت حوالي القرن السابع عشر ق.م. – ربما نتيجة لزلزال أو غزو أجنبي – وظهور الحضارة الميكينية (نسبة إلى منطقة ميكيني) في بلاد اليونان الأصلية (حوالي 1600-1100 ق.م.) أخذت العلاقات المصرية اليونانية دورًا أكثر تطورًا، حيث يرجَّح أن مصر قد استعانت بكثير من المرتزقة اليونان الميكينيين على طرد الهكسوس كما تدل على ذلك كميات الذهب المصري الكثيرة التي وُجدت في أماكن تلك الحضارة ببلاد اليونان، وكما تؤكد المؤثرات المصرية الأخرى التي وجدت هناك كعادات الدفن المصرية، وعادة اتخاذِ الأسد رمزًا للقوة، وجعلِهِ حارسًا على قلعة الحكم فيها.
وفي حدود القرن الثاني عشر ق.م. دخلت بلاد اليونان في مرحلة تدهور واضمحلال نتيجة لغزوات القبائل الدورية التي اجتاحت جنوب بلاد اليونان وجزر بحر إيجة، ودفعت أمامها سكان تلك المناطق إلى الهجرة إلى شواطئ المتوسط؛ وقد استمر ذلك إلى حوالي منتصف القرن الثامن ق.م. حيث هدأت حركة تلك الشعوب، وأخذت الملامح الأساسية لحضارة الشعوب اليونانية في الظهور. ومرة أخرى تظهر بين مصر والشعوب اليونانية التأثيرات المتبادلة التي بلغت أقصاها في عهد الفرعون أبسماتيك الأول الذي حرر مصر من الآشوريين والسودانيين، وأسس الأسرة السادسة والعشرين الفرعونية سنة 664 ق.م. بمساعدة مرتزقة يونانيين. ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا بدأ اليونانيون يفدون على مصر بالآلاف ليتاجروا ويقيموا بين المصريين، أو في معسكرات خاصة بهم، واستمر ذلك الاتجاه في عصر نكاو الثاني خلف أبسماتيك الأول، إلى أن جاء الفرعون أحمس الثاني (أماسيس) حوالي سنة 570 ق.م. وأسس لهم مدينة خاصة يقيمون فيها هي مدينة نكراتيس الساحلية (شرق الإسكندرية) التي كانت قائمة بالفعل قبل زمن ذلك الفرعون. وقد وصلت ثقة أماسيس في الجنود اليونانيين إلى أن جعل منهم الميمنة في جيشه، وعلم أولاده اللغة اليونانية، وثقفهم بها، وقد وصل حبه للحضارة الإغريقية حدًّا جعله يقوم بتمويل إعادة بناء معبد أبوللو في دلفي بعد أن أتى عليه حريق في سنة 548 ق.م. وقد استمرت العلاقات المصرية الإغريقية في نمو مستمر حتى احتلال الفرس لمصر في عهد أبسماتيك الثالث سنة 525 ق.م.
كان الفرس قد ظهروا كقوة جبارة في الشرق الأدنى بعد أن وحدهم قورش الثانى الكبير، وتمكنوا في خلال القرن السادس ق.م. من وراثة أملاك البابليين والآشوريين، وبسطوا سيادتهم على العراق وسوريا ومصر – مكونين الأسرة السابعة والعشرين في تاريخ مصر الفرعونية - وذلك في الوقت الذي كانت فيه الشعوب الإغريقية بميراثها الحضاري المتميز تظهر بدورها على مسرح تاريخ الشرق الأدنى تعرض تجارتها وتبيع ذكائها وقوتها البدنية لمن يدفع الثمن. ومن صراع هاتين القوتين، تكون تاريخ الشرق الأدنى في القرون القليلة التالية، وكما في التاريخ الحديث كان الحال في التاريخ القديم، حيث دخلت مصر وشعوب الشرق الأدنى القديم بين شقي رحى القوى الكبرى لذلك الزمن، حتى انتهى الأمر باحتلال الإسكندر لمصر، وطرد الفرس منها سنة 333 ق.م. وهو التاريخ الذي يحدد نهاية تاريخ مصر الفرعونية وبداية تاريخها اليوناني أو المتوسطي إذا صحت التسمية.
كان من الطبيعي أن يزداد انفتاح الحضارتين المصرية والإغريقية على بعضهما البعض بعد غزو الإسكندر لمصر، وذلك برغم تعصب طبقة الكهنة المصريين ضد كل ما هو أجنبي، وأيضًا برغم القوانين الملكية الإغريقية – والرومانية وبعدها – والتي كانت تحظر زواج الإغريق والرومان بالمصريين، فإن تفاعلًا حضاريًّا شاملًا سرعان ما ظهر بين المصريين – وغيرهم من شعوب جنوب البحرالمتوسط - وبين الإغريق والرومان بعدهم – ليشكل جزءًا بارزًا من تاريخ حضارة يمكن تسميتها بحضارة البحر المتوسط.
كان الإسكندر صاحب مشروع حضاري كبير في توحيد الشرق بالغرب، لكنه مات شابًّا قبل أن يحقق حلمه، وانقسمت إمبراطوريته المترامية الأطراف إلى ثلاث ممالك رئيسية، هي مملكة مقدونيا ببلاد اليونان، والمملكة السلوقية في سوريا والعراق، ومملكة البطالمة في مصر، التي أصبحت من خلالها مصرُ جزءًا من عالم شرق المتوسط الإغريقي، وهو الوضع الذي استمر حتى ظهور الرومان، وتمكنهم من إسقاط الممالك الإغريقية الثلاث، وبسط سيادتهم على غرب وشرق المتوسط، وتوحيد شعوبه في إمبراطورية واحدة شملت كل عالم البحر المتوسط لتصبح مصر – بعد ذلك – جزءًا من العالم المتوسطي الروماني الكبير حتى فتح العرب لها سنة 641م، وفصلها – وكل جنوب المتوسط – عن ذلك العالم حتى الآن.
إن قصة ذلك التفاعل الحضاري الذي نشأ بين شمال البحر المتوسط وجنوبه واستمر لنحو ألف سنة، ظلت قصة ملهمة لكثير من أبناء ذلك الجزء من العالم، كما ظل حلم إعادة الوحدة الحضارية لحوض البحر المتوسط قائمًا على مر العصور. لقد عاش سكان هذا الجزء من العالم على تلك المساحة الكبيرة من المكان والزمان وتفاعلوا وتصادقوا ورحلوا في طلب الرزق وطلب العلم بدون عوائق أو حواجز وتصادقوا وتصاهروا وتكاملت اقتصادياتهم وثقافتهم وأديانهم حتى تركوا لنا ميراثًا حضاريًّا خالدًا لا يموت. إن نظرة سريعة على قصة ذلك العصر سوف توضح لنا كيف عاشت مصر وتفاعلت في حضن حوض البحر المتوسط، وكيف تأثرت وأثرت فيه.
بعد ضم الإسكندر لمصر مباشرةً، تدفق آلاف من المستوطنيين الإغريق على مدن مصر وريفها، وحدث التصاهر والتلاحم بينهم وبين المصريين، فتعلم الإغريق اللغة المصرية، كما تعلم المصريون اللغة الإغريقية، وبرز منهم فريق أجاد اللغة الإغريقية، وكتبوا بها تاريخ مصر القديم، لكي يعلموا مواطنيهم الجدد بحضارة مصر القديمة، ولا شك في أن أشهرهم هو مانيتون السمنودي الذي مازال منهجه في تقسيم تاريخ مصر القديمة إلى أسرات متعاقبة هو المنهج المعتمد في دراسة تاريخ مصر الفرعونية حتى الآن. كما تأثر المصريون بالأدب الإغريقي، وعرفوا كتابة الملاحم على غرار الإلياذة التي شكلت أساس التعليم الإغريقي في مصر مثل ملحمة أوزيريس، وملكها البطل الأسطوري إيناروس؛ وكذلك عرفوا كتابة البشارات والنبؤات وأسفار الرؤيا – تأثرًا بالأدب الديني العبري بشكل أكبر – ففي ذلك التفاعل الحضاري الكبير، تأثر المصريون أيضًا بثقافات الشعوب التي شملها ذلك النطاق الحضاري الضخم كالبابليين والعبرانيين، فقد تأثروا بعلم التنجيم البابلي، وأجادوه، وأصبحوا أشهر عرافي البحر المتوسط، وظهر منهم أسماء كبيرة مثل نخبسو وبيتوزيريس، وذاع صيت العرافين المصريين في البحر المتوسط، وأصبحوا مقصد الطالبين لمعرفة مستقبلهم. كما تأثروا بالأدب الديني العبري خاصة بعد ترجمة التوراة إلى اليونانية في عهد بطليموس الثاني فيلادلفوس (284-246ق.م.) وهي الترجمة التي اشتهرت بالترجمة السبعينية، نظرًا لاشتراك سبعين عالمًا في ترجمتها، ولقد كان لهذه الترجمة تأثيرها في كل شعوب البحر المتوسط، كما كانت تمهيدًا طبيعيًّا لرسالة المسيح بعد ذلك، كما أثر الفكر الديني الإغريقي في رفضه لعبادة الحيوان على العبادات المصرية بدوره، وكان ظهور الإله سيرابيس الإله الرسمي لدولة البطالمة خيرَ مثال على ذلك، فقد أدرك بطليموس الأول سوتير مؤسس الدولة البطلمية (323-284ق.م.) أهمية جمع المصريين والإغريق على إله واحد يجمع بين التراث الديني المصري والفكر الإغريقي، فعهد إلى ثلاثة من كبار علماء اللاهوت منهم مانيتون السمنودي بتحقيق ذلك، ومن تفكير هؤلاء ولدت عبادة أوزيرآبيس أو سيرابيس اليوناني الذي كان عبارة عن إحياء لديانة أوزيريس زوج إيزيس وأبي حورس الثالوث الرسمي للديانة المصرية في عصور الفراعنة، ولكن ذلك الإحياء جاء في قالب إغريقي الفكر والفلسفة والصورة (حمل سيرابيس صورة بشرية)؛ وبرغم أن المصريين قد رفضوا قبول ذلك الرب المهجن، واعتبروا ذلك تشويهًا لتراثهم الديني، وظلوا يعبدون ربهم العتيق أوزيريس، فقد انتشرت عبادة سيرابيس في البحر المتوسط، وغزت حتى إيطاليا نفسها.
ولا شك في أن أكبر نتاج لتفاعل الثقافة الإغريقية والمصرية كان هو اللغة الوطنية المصرية الجديدة، أي اللغة القبطية التي ظهرت إلى الوجود في العصر الروماني بعد ذلك، وكُتبت بالحروف اليونانية بعد إضافة سبعة أصوات مصرية إليها، وبهذه اللغة كتب المصريون آدابهم، وأرخوا لتاريخهم في العصر المسيحي.
ولا شك في أن مدينة الإسكندرية بمينائها ومدرستها ومكتبتها ومنارتها وكنيستها كانت هي أعظم ما أهداه العالم اليوناني الروماني إلى مصر. فقد أصبحت تلك المدينة أعظم موانئ البحر المتوسط بفضل جهود البطالمة المتوالية من أجل تنشيط تجارة مصر الخارجية، والبعثات الكشفية التي أرسلوها، ونشاط علماء مدرسة الإسكندرية في مجال الدراسات الجغرافية، فكانت ترد إلى أسواق الإسكندرية منتجات إفريقيا مثل العاج والأبنوس والذهب والتوابل، وكذلك منتجات الهند والصين، ومنتجات بلاد اليونان مثل زيت الزيتون والنبيذ والعسل والسمك المملح واللحوم والإسفنج. وكان يوجد في الإسكندرية مندوبون تجاريون من بلاد كثيرة مثل فرنسا وإيطاليا وشمال إفريقيا وفارس. كما كانت الإسكندرية مصدرًا لتصدير منتجات مصر، وأهمها القمح الذي كان يُنقل من سائر أنحاء البلاد عن طريق القوارب في النيل، ويتم تجميعه في سوق القمح العظيمة في الإسكندرية، كما كانت الإسكندرية تقوم بتصدير بعض المنتجات التي اشتهرت مصر بصناعتها مثل الزجاج ونسيج الكتان وأوراق البردي.
وكذلك فقد احتلت الإسكندرية مركز الصدارة في الحياة العلمية والثقافية للبحر المتوسط حتى تفوقت على أثينا نفسها، ولا شك في أن إنشاء الموسيون (دار إلهات الفنون والعلوم السبع) والمكتبة في عهد بطليموس الثاني فيلادلفوس، كان له أكبر الأثر في اجتذاب العلماء والدارسين من شتى أرجاء العالم. ففي مجال العلوم والرياضيات بلغت مدرسة الإسكندرية شأنًا كبيرًا، واشتهر من علمائها إقليدس الذي وضع كتابًا في أصول الهندسة، كما عُرف أرشميدس صاحب قانون الطفو، وفي مجال الدراسات الطبية برع علماء الإسكندرية في التشريح والجراحة، كما ساعد وجود حديقة الحيوان التي أقامها بطليموس الثاني على تقدم علم الحيوان. وقد أولت مدرسة الإسكندرية اهتمامًا كبيرًا للدراسات الجغرافية، وتوصل أرستارخوس إلى نظرية دوران الأرض حول الشمس، كما نجح إراتوستينس في قياس محيط الكرة الأرضية، ولم يختلف تقديره عما توصلت إليه الدراسات الحالية إلَّا بخمسين ميلًا فقط. كما لقيت الدراسات التاريخية نفس الاهتمام، وكانت ثمرة ذلك الاهتمام الكتاب الذي وضعه الكاهن المصري مانيتون عن تاريخ مصر القديم باللغة اليونانية. وقد شهد الأدب ازدهارًا كبيرًا، حتى إن الأدب اليوناني كله في هذا العصر كان يطلق عليه تسمية الأدب السكندري، واشتهر من شعراء هذا العصر كاليماخوس وثيوكريتوس، ويمكن القول بأن علماء مدرسة الإسكندرية هم الذين وضعوا أسس النقد الأدبي، وعكفوا على دراسة الأدب اليوناني القديم، وكانت أعظم إنجازاتهم نشر ملاحم هوميروس وتاريخ هيرودوت، وكذلك أعمال كبار شعراء الدراما الإغريقية.
وقد استمرت أهمية الإسكندرية التجارية في العصر الروماني نتيجة للنشاط الذي شهدته التجارة الشرقية، وهو النشاط الذي لعبت فيه الإسكندرية دورًا كبيرًا، فقد استطاعت بفضل موقعها المتوسط في قلب الإمبراطورية الرومانية أن تحتل مكانة عظيمة في اقتصاديات العالم القديم، وأيضًا رغم الأضرار التي لحقت بالمدرسة (الموسيون) في أخريات العصر البطلمي في حريق الميناء أثناء حرب الإسكندرية سنة 48 ق.م. بين قيصر والجيش البطلمي، فقد ظلت الإسكندرية تحتفظ بمكانتها العلمية والثقافية في العصر الروماني، ولعبت دورًا كبيرًا في التاريخ الروماني المسيحي بعد ذلك.
وبدوره كان التأثير الروحي لمصر على ذلك العالم المتوسطي الجديد الذي تشكل من غزوات الإغريق والرومان كبيرًا، فعلى أيدي الإغريق المتمصِّرين بدأت الثقافة والأفكار المصرية تأخذ طريقها إلى بلدان البحر المتوسط لأول مرة، وبشكل منظم، وخاصة في مجال العقيدة؛ فمثلًا كان معبد آمون في واحة سيوة بصحراء مصر الغربية يستقبل مئات الزوار من كافة أقطار وبلدان البحر المتوسط، حيث آمنت شعوب البحر المتوسط المتأغرقة بصدق النبوءة التي يعطيها ذلك الرب لمن يقصد معبده، بما فيهم الإسكندر نفسه سيد ذلك العالم الجديد. وكذلك نجد مئات الكتابات المحفورة على حوائط معبد الرب المصري بسّ الذي بناه الفرعون سيتي الأول في أبيدوس، وهذه الكتابات مكتوبة بكافة لغات شعوب البحر المتوسط الذين جاءوا من كل مكان، ومن كل الطبقات كي يتوسلوا إلى الآلهة المصرية كي تحقق لهم أمانيَّهم أو تهبهم الشفاء أو تعيد السكينة إلى نفوسهم المهمومة. ولقد تطورت فكرة جديدة لإعطاء المشورة الربانية في العصرين البطلمي والروماني، وهو تفسير حركات العجول المقدسة، سواء عجل آبيس في منف أو عجل بوخيس في قرية المدامور بالقرب من الأقصر. وأيضًا فقد انتشرت عبادة إيزيس وسيرابيس في كثير من أنحاء البحر المتوسط وخاصة إيزيس التي ظلت متربعة على عرش الديانة حتى انتشار المسيحية، وكانت صورتها هي نفس الصورة التي حولها الفن المسيحي بعد ذلك إلى العذراء مريم وهي ترضع المسيح.
وبرغم عمق التأثير الروحي والديني المصري في ثقافة البحر المتوسط، فإن التأثير الحاسم للجنوب على الشمال قد جاء في نهاية الأمر من إسرائيل في فلسطين على يد المسيح الناصري. كانت المسيحية هي النتاج المشترك الأكبر لحضارة البحر المتوسط، وقد نشأت فلسطينية إسرائيلية، لكنها سرعان ما انتقلت إلى مصر وسائر بلاد البحر المتوسط. ولد المسيح خلال عهد الإمبراطور أغسطس في بداية عصر الإمبراطورية الرومانية، وأُعدم في عهد خلفه تيبريوس؛ وبرغم أنه قد عاش سنوات قليلة فقط فقد خلف للبشرية ميراثًا ضخمًا ساهم في الحفاظ عليه وتطويره كل شعوب البحر المتوسط.
كانت المسيحية أساسًا حركة إصلاحية داخل اليهودية، ولكن رسالة المسيح حققت نجاحًا محدودًا بين الشعب اليهودي، ولذا سرعان ما تم توجيهها إلى العالم اليوناني الروماني الذي رحب بها واعتبرها تصحيحًا وإكمالًا للفلسفة الإغريقية الرومانية، ووجد فيها الخلاص من معاناة العصر الروماني بكل ضرائبه والتزاماته وحروبه، وبذلك التقت فيها أفكار وثقافة الشرق بأفكار وثقافة الغرب اليوناني الروماني. فبعد موت المسيح تحولت قصة حياته ومماته إلى ديانة كبرى ساهمت كل ثقافة العالم القديم في صنعها، ووفرت لها البيئة الرومانية التي شملت كل حوض البحر المتوسط سبلَ الانتشار السريع.
وفي ذلك التراث المسيحي المتوسطي ساهمت مصر مساهمة كبيرة. دخلت المسيحية إلى مصر حوالي منتصف القرن الأول على يد القديس مرقس الذي تروي التواريخ المسيحية أنه قد حضر إلى مصر في حدود ذلك الزمن مبشرًا بالإنجيل، لكن الدلائل المسيحية بدأت تظهر في مصر خلال القرن الثاني، وفي القرن الثالث تأسست كعقيدة، وأصبح لها كنيسة ومدرسة تعليمية في الإسكندرية. وكما هو معروف، فقد كانت مدينة الإسكندرية قد اكتسبت شهرة في العالم القديم بأنها مركز للعلم والثقافة، ولكن وبنهاية العصر البطلمي أصبحت الفلسفة هي أهم النواحي الثقافية لذلك العصر. وفي وقت ظهور المسيحية، ظهرت بالإسكندرية حركة فلسفية عُرفت بالغنوصية كانت تدعو إلى الزهد والتقشف، ونبذ الديانات الوثنية القديمة، والبحث عن ذات إلهية واحدة تتمثل فيها كل المثل الإنسانية العليا. وبالطبع قد ساعد انتشار هذا المذهب الفلسفي على انتشار المسيحية بعد ذلك. وقد كان لمدرسة الإسكندرية التعليمية التي تأسست في القرن الثالث أن تضطلع بمهمة ذلك التمييز بين الغنوصية والمسيحية، وأن تحدد المعالم الرئيسية للعقيدة الأرثوذكسية المسيحية. ويُرجع التاريخ المسيحي الفضلَ في هذا إلى عالمين سكندريين بارزين هما كليمنت السكندري (160-215م) وتلميذه أوريجن (180-253م)، ويعود إلى أوريجن بالتحديد الفضل في وضع كثير من الأدبيات المسيحية الهامة، أشهرها عمله في اللاهوت المنهجي المعروف باسم (في المبادئ الأساسية). وهكذا تحولت مدرسة الإسكندرية الفلسفية إلى مدرسة للمسيحية تلقي بظلالها الفكرية على كل عالم البحر المتوسط، واستمرت هكذا لزمن طويل بعد ذلك.
وفي خلال القرن الرابع، ظهرت بالإسكندرية واحدة من أكبر الحركات الخلافية في تاريخ المسيحية، وهي الحركة الآريوسية التي تزعَّمها رجل دين سكندري من أصل ليبي، وكانت حول العلاقة بين الآب والابن في الثالوث العقيدي الموحد المسيحي، حيث نادى بأن الآب أقدم من الابن، وأن الابن مخلوق، ولذا فلا يمكن أن يتساوى مع الآب، ولا بد من أن يأتي في مرتبة تالية له، وقد صدمت هذه الآراء القناعات التي كانت قد ترسخت في العقيدة المسيحية بأن الآب والابن من طبيعة واحدة، وأن كلًا منهما قديم وخالد. وقد قامت مصر بالتصدي لهذه الآراء وخاصة خلال العهد الطويل للأسقف أثناسيوس (328-373م) الذي بذل جهودًا كبيرة في محاربة الآريوسية برغم تشيع كثير من الأباطرة البيزنطيين لها، واعتمد في معركته على تأييد الرهبان، كما وضع كثيرًا من المؤلفات، حتى خفتت الحركة الآريوسية بالفعل في مصر والبحر المتوسط بعد وفاته بسنوات قليلة.
كانت حركة الرهبنة من أكبر المساهمات التي قدمتها مصر للتاريخ المسيحي. وقد ظهرت الرهبنة في مصر حوالي منتصف القرن الثالث إبَّان عهد الإمبراطور ديقيوس أثناء سنوات الاضطهاد التي شنها هذا الإمبراطور على المسيحيين في الإمبراطورية. وتتحدث التواريخ المصرية عن شخصية شبه أسطورية هي شخصية الأنبا بولس من صعيد مصر الذي هرب أثناء ذلك الاضطهاد إلى الصحراء الشرقية، وبدأ حياة العزلة والتنسك. ولكن الروايات التاريخية عن بداية حركة الرهبنة المصرية ترتبط بشخصيتين مصريتين أساسيتين هما أنطونيوس في مصر الوسطى، وباخوميوس في صعيد مصر. وقد ولد أنطونيوس في حدود منتصف القرن الثالث من أسرة ثرية، لكنه بعد فقد أبويه انتابه انفعال ديني شديد، وشعر بالزهد في الدنيا، فتخلى عن أملاكه بعد أن ترك جزءًا منها لأخته تعيش منه، وذهب للتنسك في الصحراء الشرقية، وقضى نحو عشرين عامًا في قلعة مهجورة في منطقة اسمها برسبير (285-305م) منعزلًا، حيث بدأت بعض التجمعات الرهبانية تنشأ حوله، فقام بوضع نظام ديري لها، كما سمح أيضًا للنساء بالانخراط في حركة الرهبنة؛ وقد انتشرت حركة الرهبنة الأنطونية وامتدَّت إلى مدينة الإسكندرية، وتركزت في منطقة وادي النطرون بشكل خاص. وقد كتب الأسقف أثناسيوس سيرة حياة القديس أنطونيوس، كما كتب عن حركة الرهبنة، وكتب قواعد وإرشادات للراهبات في كتاب بعنوان (قواعد التبتل العذري) بناءً على تجارب السنوات التي قضاها مختفيًا في الأديرة بين الرهبان خلال سنوات نفيه المتعددة والطويلة.
وبعد سنوات قليلة من ظهور حركة الرهبنة الأنطونية في مصر الوسطى ظهرت حركة الرهبنة الباخومية في صعيد مصر على يد باخوميوس. كان باخوميوس جنديًّا في الجيش الروماني في عهد قسطنطين الكبير، لكنه بعد الانتهاء من خدمة الجيش قرر الانخراط في الحركة الديرية، وأسس ديرًا خاصًّا به غلب عليه الطابع الجماعي العسكري. وقد تميز النظام الباخومي بجعل العمل والتعليم جزءًا أساسيًّا من حياة الدير كما سمح برهبنة النساء مثل النظام الأنطوني، وقد أنشأ أول دير له في منطقة دندرة سنة 323م؛ وعند وفاته سنة 345م كانت الأديرة الباخومية قد انتشرت في كثير من أنحاء الصعيد. ومن هذين النظامين الديريين انتشرت الحركة الديرية في مصر كلها، ومن مصر انتشرت إلى حوض البحر المتوسط وإلى العالم كله بعد ذلك.
تجدد الخلاف العقيدي مرة أخرى في القرن الخامس، ومرة أخرى لعبت الكنيسة المصرية ومعها كنائس سوريا وأرمينيا دورًا بارزًا في ذلك الخلاف الذي أدَّى في النهاية إلى تصدع وحدة الإمبراطورية البيزنطية، ووقوع الأجزاء الجنوبية منها فريسة سهلة في يد الغزاة الجدد الذين ظهروا على مسرح التاريخ. ففي بداية القرن الخامس أكد نسطوريوس أسقف القسطنطينية على أن طبيعة المسيح بشرية من أمه وإلهية من أبيه، وهو تأكيد على القناعات الأرثوذكسية السائدة في المسيحية، ولكن المصريين - ممثلين في أسقفهم الشهير كيرلس (412-444م) - رفضوا هذا الطرح، وأكدوا على أن للمسيح طبيعة إلهية واحدة، وأن طبيعته البشرية قد ذابت في طبيعته الإلهية – وهو ما عُرف باسم المذهب المونوفيزيتي في مصر وبالمذهب اليعقوبي في سوريا – وعبثًا ذهبت جهود الأباطرة للتوصل إلى حل وسط حفاظًا على الوحدة الدينية للإمبراطورية، واشتعلت الثورة في مصر وسوريا حتى استطاع الفرس احتلال تلك المناطق في أوائل القرن السابع دون أن يبدي السكان أي مقاومة حقيقية ضد الغزاة؛ وبعدما تمكن الإمبراطور هرقل من طرد الفرس واسترجاع وحدة الإمبراطورية حاول تدعيم ذلك بفرض مذهب جديد عُرف بمذهب الإرادة الواحدة يقول بأنه سواء كان للمسيح طبيعة واحدة أو طبيعتين فالمهم أن له إرادة واحدة، لكن ذلك لم يُفد أيضًا، فولى البطريرك قيرس - الذي يسميه العرب المقوقس - ومنحه سلطات دينية وسياسية واسعة من أجل فرض مذهب الدولة الملكاني – أي مذهب الدولة القائل بطبيعتين للمسيح – وتثبيت الأوضاع في مصر. سام قيرس المصريين العذاب، لكنهم لم يتراجعوا، وزاد الخلاف، وأصبح كأنه طريق بلا عودة. وفي تلك الأثناء ظهر العرب على مسرح التاريخ، وكونوا دولتهم في المدينة سنة 622م، وتمكنوا من اجتياح العراق سنة 636م، والشام سنة 638م، ثم مصر سنة 641م. ومرة أخرى لم يبد المصريون أي مقاومة حقيقية للغزاة العرب كراهية منهم للدولة الرومانية فاستسلموا للعرب - أو وقفوا محايدين في أفضل الأحوال - وانتزع العرب مصر من الدولة الرومانية البيزنطية، واتخذوها قاعدة للانقضاض على جنوب المتوسط؛ وقبل انتهاء القرن السابع الميلادي كانوا قد تمكنوا بالفعل من انتزاع كلِّ جنوب المتوسط من حوزة الإمبراطورية البيزنطية وفصله عن شماله والقضاء على وحدته الحضارية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.

2. العصر الوسيط:
وهكذا انفصلت مصر عن حضارة البحر المتوسط، وأصبحت قاعدة للحضارة الإسلامية الوليدة؛ ومنذ ذلك اليوم وحتى عصر محمد علي ظلت تتحمل معظم عبأ التاريخ الإسلامي؛ فمنذ البداية استغل العرب موقع مصر ومواردها للسيطرة على كل جنوب المتوسط وتأسيس إمبراطوريتهم الصاعدة. فقد عمل عمرو بن العاص بعد أن تم له الاستيلاء على مصر سنة 21هـ على غزو برقة وطرابلس التماسًا لمزيد من الغنائم. وبعد مقتل الخليفة عمر تولى عثمان بن عفان الخلافة وقام بعزل عمرو وتولية أخيه من الرَّضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة 24هـ، وأخذ ابن أبي سرح يتطلع بدوره إلى غزو إفريقية - ليبيا وتونس- وأخذ يلح على الخليفة عثمان حتى أذن له سنة 27هـ وأرسل له جيشًا بقيادة الحارث بن الحكم، ضم إليه بن سعد بعض جيوش مصر وفيهم بعض الأقباط حتى اكتمل عدد الجيش عشرين ألفًا خرج بهم عبد الله بن سعد إلى إفريقية في غزوة كبيرة وصل فيها إلى مدينة قابس الواقعة على الساحل التونسي، حصل فيها على كثير من الغنائم حملها على مراكب أرسلها إليه نائبه على مصر عقبة بن عامر الجهني، ثم عاد هو بطريق البر إلى مصر.
ونظرًا لأهمية مصر كقاعدة إسلامية في جنوب المتوسط، قدم أسطول بيزنطي إلى الإسكندرية بقيادة الإمبراطور قنسطانز الثاني بهدف استردادها من العرب، فخرج عبد الله بن سعد على رأس الأسطول المصري لصد البيزنطيين، وفي نفس الوقت بعث والي الشام معاوية بن أبي سفيان أسطوله بقيادة بسر بن أبي أرطأة للتعاون مع الأسطول المصري. وتقابل الأسطولان مع الأسطول البيزنطي في فونكس على ساحل ليكيا جنوبي آسيا الصغري في معركة ذات الصواري التي حقق فيها الأسطول العربي نصرًا كبيرًا على الأسطول البيزنطي سنة 34هـ - 655م.
توقفت حركة غزو إفريقية مؤقتًا بسبب انشغال العرب بمقتل الخليفة عثمان، والصراع بين علي ومعاوية، وذلك حتى تولى عمرو مرة أخرى سنة 38هـ من قبل معاوية، وقرر استئناف الغزو بعد أن استتب الأمر لمعاوية بمقتل علي سنة 40هـ. وبالفعل قام عمرو ببعض الغزوات انطلاقًا من مصر، لكنه توفي سنة 43هـ وقام الخليفة معاوية بفصل ولاية إفريقية عن مصر واعتبرها ولاية مستقلة تتبع دمشق مباشرة، وتوقفت حركة الغزو مؤقتًا، حتى ولى الخليفة معاوية، معاوية بن حديج رئيس حزب العثمانية في مصر على قيادة الجيوش، وأمره باستئناف سياسة غزو إفريقية، ولكن الخليفة معاوية سرعان ما عزله وولى عقبة بن نافع بدلًا منه، فاستأنف الأخير سياسة غزو إفريقية، ووضع السيف في أهلها، كما قرر إنشاء مدينة القيروان واتخاذها قاعدة للجيش العربي في إفريقية بدلًا من مصر، لكن والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصارى طمع فيها فسعى إلى ضمِّها إلى مصر مرة أخرى، ونجح في ذلك سنة 55هـ وتمكن من عزل عقبة عن ولايتها وتولية مولاه أبي المهاجر دينار الذي استأنف الغزو حتى وصل إلى المغرب الأوسط (الجزائر الحالية). ولكن بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان سنة 60هـ أعاد ابنه يزيد - الذي كان من أنصار مدرسة الشدة في الغزو - عقبة بن نافع إلى ولاية إفريقية، وقام بفصلها عن ولاية مصر مرة أخرى، فقام عقبة باكتساح إفريقية حتى المغرب الأقصي، وأفنى من بها من مسيحيين، وأوقع كثيرًا من المظالم بسكانها البربر، فكمنوا له في طريق عودته بقيادة كسيلة بن لمزم – زعيم البربر الحضر - وقتلوه قبل وصوله القيروان. وهكذا خرجت إفريقية مؤقتًا من يد العرب بعد أكثر من أربعين عامًا من الحروب المتواصلة التي خاضوها انطلاقًا من مصر، واعتمادًا على مواردها. لكن عبد الملك بن مروان الذي تولى الخلافة بعد وفاة أبيه مروان بن الحكم سنة 65هـ قد جعل مشكلة استرداد إفريقية في مقدمة أولوياته، فبعث في سنة 69هـ إلى زهير بن قيس البلوي والي برقة يأمره بالخروج إلى إفريقية واسترداد القيروان، وأرسل له بالإمدادات من الشام؛ ومرة أخرى (أفرغ عليهم أموال مصر) فوفدت جيوش العرب على زهير ببرقة، فخرج بهم إلى إفريقية سنة 69هـ وتمكن من هزيمة كسيلة وقتله جنوب القيروان؛ وقد علق المؤرخ السلاوي على هذه الواقعة بقوله (وفي هذه الواقعة ذُلَّ البربر، وفنيت فرسانهم ورجالهم، وضعفت شوكتهم، واضمحل أمر الفرنجة، وخاف البربر من زهير والعرب خوفًا شديدًا، فلجؤوا إلى القلاع والحصون، وكُسرت شوكة أوربة من بينهم واستقر جمهورهم بديار المغرب الأقصى وملكوا مدينة وليلي) ويتشابه هذا التعليق مع تعليق المقريزي على أحداث قمع ثورة المصريين في عهد المأمون سنة 216هـ تشابهًا كبيرًا (راجع الدراسة الثالثة).
وبعد استرداد القيروان، عاد زهير إلى برقة لأسباب غير مفهومة، حيث لقي مصرعه هناك في اشتباك مع قوة بيزنطية. وتوقف غزو إفريقية والمغرب مؤقتًا لانشغال عبد الملك بن مروان بالقضاء على ثورة عبد الله بن الزبير في الحجاز؛ وبعد أن تم له ذلك، أخذ يتفرغ لشئون المغرب (إفريقية) مرة أخرى، وجهز جيشًا جعل عليه حسان بن النعمان، وأرسله إلى مصر حتى انتهى من مشكلة ابن الزبير تمامًا، ثم أرسل إليه يأمره بالمسير إلى إفريقية؛ ومرة أخرى استغل أموال وموارد مصر في ذلك فكتب إليه قائلًا (إني قد أطلقت يدك في أموال مصر، فأعطِ لمن معك ومن ورد عليك وأعطِ الناس واخرج إلى بلاد إفريقية على بركة الله)، فخرج حسان في جيش هائل سنة 74هـ ووصل إلى مدينة قرطاجنة عاصمة البيزنطيين بالمغرب الأوسط، وحاصرها ودمرها، ثم عاد إلى القيروان، وأخذ بعد ذلك في مواجهة المشكلة الأخرى التي نشأت في بلاد المغرب وهي مشكلة البربر البتر - أي البربر البدو- الذين كانوا قد اجتمعوا حول زعيمة لهم تُعرف بالكاهنة، وتحصنوا بجبال أوراس، فالتقى معهم حسان في معركة كبيرة أسفرت عن هزيمة جيش حسان وانسحابه إلى برقة مؤقتًا بينما عملت الكاهنة على تدمير مظاهر الحضارة بإفريقية والمغرب اعتقادًا منها بأن العرب يسعون وراء المغانم والذهب والفضة. وكذلك استطاع البيزنطيون استرداد مدينة قرطاجنة مرة أخرى وطرد الحامية العربية منها.
وأقام حسان ببرقة نحو خمس سنوات حتى انتهى عبد الملك بن مروان من القضاء على ثورات الخوارج؛ وفي سنة 80هـ أمده الخليفة عبد الملك بجيش ضخم، وأمره بالخروج إلى إفريقية، ثم طلب من أخيه عبد العزيز بن مروان والي مصر أن يلحق به بعد ذلك (ألف أسرة مصرية- قبطية) حتى تقوم بإنشاء دار صناعة للسفن في تونس بحيث يمكنه أن يقاتل البيزنطيين في البر والبحر.
وبالفعل تمكن حسان من هزيمة الكاهنة وقتلها في جبال أوراس سنة 82هـ كما استرد مدينة قرطاجنة وبنى على بعد 12 ميلًا إلى الشرق منها مدينة عربية إسلامية هي مدينة تونس حتى تشرف على مدخل قرطاجنة. وحاول حسان أن يفصل ولاية المغرب عن ولاية مصر، ولكن يبدو أن نزاعًا حدث بينه وبين عبد العزيز بن مروان والي مصر وأخي الخليفة، بسبب رغبة عبد العزيز في غنائم المغرب، فعمل على عزل حسان حتى نجح في ذلك سنة 85هـ وولى بدلًا منه أحد رجاله وهو موسى بن نصير الذي استأنف الغزو، وأهمل سياسات حسان السلمية، واتبع سياسات عقبة القهرية. وواصل موسى فتوحاته في إفريقية والمغرب فبعث قائده عياش بن أخيل، فأغار على قبائل هوارة وزناتة وصنهاجة، وقتل وسبى كثيرًا منهم، وأرسل بعضًا من رؤسائهم إلى عبد العزيز بن مروان في مصر حيث قتلهم. وفي سنة 85هـ غزا موسى في البحر الغزوة المعروفة بغزوة الأشراف، ووصل فيها إلى صقلية، وعاد بغنائم كثيرة في أوائل سنة 86هـ حيث بلغه نبأ وفاة عبد العزيز بن مروان في جمادى الآخرةة سنة 85هـ ووفاة عبد الملك بن مروان في أول سنة 86هـ فبعث ببيعته إلى الوليد بن عبد الملك الخليفة الجديد، فكتب الوليد إلى موسى بن نصير يقر له بولاية إفريقية والمغرب وجعلها ولاية مستقلة عن مصر للمرة الأخيرة.
وتابع موسى غزواته، فأرسل في سنة 86هـ عياش بن أخيل على المراكب في البحر فوصل إلى سرقوسة وسردينيا وافتتح مدائنها وعاد بغنائم كثيرة، ثم خرج غازيًا بنفسه إلى طنجة، فوجد البربر قد فروا إلى أقصى المغرب خوفًا من بطش العرب، فتتبعهم وقتل وسبى كثيرًا منهم، وذلك حتى وصل بلاد درعة في السوس الأقصي سنة 87هـ فاشتبك موسى مع جيش البربر هناك في قتال عنيف أسفر عن هزيمة أهل السوس هزيمة نكراء، بعد أن سبى وقتل منهم أعدادًا لا حصر لها، وأحدثت غزوات موسى هزة كبرى بين قبائل البربر، وسببت لهم الذعر والهلع، فأخذوا يستأمنون العرب على أنفسهم ويستسلمون لهم، وتسابقوا في إعلان خضوعهم لهم، والدخول في طاعتهم، واعتناق الإسلام!.
كانت نتيجة كل تلك الحروب والغزوات المدمرة والدماء التي نزفها البربر أثناء غزو العرب لبلادهم – انطلاقًا من مصر - هي تحولهم في النهاية إلى العروبة والإسلام مثلهم مثل أشقائهم المصريين، وهكذا تأسست قواعد حضارة وثقافة بدوية غريبة عنيفة في جنوب المتوسط فصلته عن شماله الطبيعي، وأسست لعلاقة العداء والكراهية بين شاطئيه منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.
اختلف المشهد السياسي تمامًا في حوض البحر المتوسط في العصر العباسي؛ فقد انتقلت عاصمة الدولة الإسلامية الجديدة من دمشق إلى بغداد؛ ولذلك أصبحت توجهات الدولة الجديدة آسيوية أكثر منها متوسطية، وتُركت شؤون العلاقات المتوسطية لولاة مصر والشام، كما توقفت حركة الغزوات العربية هناك بعد أن أصبح جنوب المتوسط بحيرة عربية، وقامت دولة جديدة للأمويين في إسبانيا (الأندلس) معارضة بطبيعتها للدولة العباسية، مما خلق توازنات وتحالفات جديدة بين العالمين المسيحي والإسلامي أو بين الشمال والجنوب، كما حدث مثلًا بين الخليفة هارون الرشيد والإمبراطور شارلمان إمبراطور الغرب من تحالف في مواجهة خطر الأمويين في إسبانيا وخطرالبيزنطيين في الشرق الإسلامي. أما في مصر فقد تحولت الأمور إلى فوضى عارمة بسبب ثورات القبائل العربية المستمرة، وصراعات السلطة بين الولاة؛ وفي ظل تلك الظروف استمرت ثورات المصريين، واستمرت سياسات القمع العربية لها. وفي حوالي سنة 200هـ تمكن العرب الأندلسيون الذين أخرجهم أمير الأندلس الحكم بن هشام الأموي بعد ثورة الربض سنة 198هـ من احتلال الإسكندرية، وإقامة حكومة مستقلة بها حتى أجلاهم عنها القائد العباسي عبد الله بن طاهر سنة 211هـ أثناء قدومه إلى مصر للقضاء على ثورات المصريين والعرب، فرحلوا إلى جزيرة كريت – وكانت في أيدي البيزنطيين – واستولوا عليها سنة 212هـ وأسسوا بها دولة استمرت حوالي قرن وثلث، إلى أن استعادها البيزنطيون مرة أخرى. وعندما فشلت محاولات العباسيين في حفظ النظام في مصر، حضر الخليفة المأمون بنفسه سنة 216هـ وأخمد الثورة، وقتل أعدادًا كبيرة من المصريين والعرب. ويبدو أن المصريين قد استسلموا للحكم العربي منذ ذلك التاريخ فصاعدًا، إذ لم تسجل لهم أي ثورات عامة بعد ذلك (راجع الدراسة الثالثة)، وبعد ذلك بسنة واحدة توفي المأمون، وخلفه أخوه المعتصم الذي اتخذ قرارًا بإسقاط العرب من ديوان الجند، وإحلال الأتراك محلهم، فنزل العرب على أثر ذلك إلى القرى، واحترفوا الزراعة، وامتهنوا المهن، وتزوجوا بالمصريين على نطاق واسع مما ساعد على سرعة تعريب وأسلمة مصر وفصلها تمامًا عن ثقافة البحر المتوسط.
وقد شهدت أحوال مصر بعض الاستقرار في عهد الطولونيين (254-292هـ) والإخشيديين (323- 358هـ) الذين عملوا على إعادة مركزها القديم في التجارة بين الشرق والغرب، حتى إن الإخشيد حاكم مصر في أخريات عصرها العباسي قد دخل في معاهدة تحالف وصداقة مع الإمبراطور البيزنطي رومانوس ليكابينوس (919-944م) - بسبب الخطر الحمداني المشترك في الشام – سمح بمقتضاها باستئناف التجارة بين الشمال والجنوب عبر البحر الأحمر بدلًا من طريق الخليج الفارسي. لكن أحوال مصر لم تستقر تمامًا، فقد بدأ الفاطميون العرب الذين تمكنوا من تأسيس دولة لهم في المغرب الأوسط سنة 296هـ - بمساعدة البربر- محاولات غزو مصر منذ بدايات القرن الرابع الهجري، واستمروا في محاولتهم حتى نجحوا في غزوها بالفعل سنة 358هـ على يد قائدهم جوهر الصقلي، ثم انتقلوا إليها بعد ذلك، واتخذوها قاعدة لإمبراطوريتهم الواسعة، وبذلك بدأت مرحلة جديدة في علاقات مصر – كقاعدة لدولة إسلامية مستقلة – بعالم حوض البحر المتوسط.
نجحت مصر الفاطمية في السيطرة على الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وعلى طرق التجارة العالمية على حساب البيزنطيين، وذلك باستيلاء الأسطول الفاطمي على جزيرة كريت منهم سنة 350هـ/961م وعلى جزيرة قبرص سنة 354هـ/965م وكل جزر الحوض الشرقي، كما نجح الفاطميون في الاستيلاء على أنطاكية سنة 358هـ/965م وعلى معظم أملاك البيزنطيين في سوريا. وقد إنعكس ذلك التفوق على مسرح الأحداث في الحوض الغربي للبحر المتوسط أيضًا، حيث شهدت الشواطئ الإيطالية هجومًا متزايدًا من مسلمي صقلية الكلبيين حلفاء الفاطميين بدأ منذ سنة 365هـ/975م واستمر لأكثر من قرنين من الزمان، حين تصدى لهم النورمان وتمكنوا من انتزاع صقلية منهم سنة 484هـ/1090م.
ولكن مع بداية النصف الثاني للقرن الخامس الهجري – الحادي عشر الميلادي – أخذ الضعف يدب في دولة الفاطميين، وبالتحديد منذ عهد الخليفة المستنصر بالله (427هـ - 487هـ/1035-1094م) بسبب ازدياد نفوذ طوائف الجند من سودان وأتراك وبربر، واشتداد الصراعات المسلحة بينهم، مما أثر في قوة الدولة، وأدى إلى سقوطها في النهاية، وكذلك في بلاد المغرب التي كانت قد خلعت طاعة الفاطميين، واعترفت بالخلافة العباسية، مما حدا بالخليفة الفاطمي المستنصر ووزيره أبي محمد اليازوري إلى إطلاق قبائل هلال وسليم البربرية – التي كانت تعيش في صعيد مصر – على بلاد المغرب سنة 444هـ/1052م حيث دمرت مظاهر الحضارة بها، وخلقت حالة من الخراب والفوضى على طول سواحل بلاد المغرب.
والواقع أن الإمبراطورية البيزنطية قد شاركت العالم الإسلامي ضعفه منذ القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي بسبب ظهور خطر الأتراك السلاجقة الذين استولوا على الخلافة العباسية، وانساحوا في منطقة الأناضول مهددين قلب الدولة البيزنطية حتى تمكنوا في سنة 1071م من هزيمة البيزنطيين في موقعة ملاذكرد، وأسر الإمبراطور رومانوس الرابع، والتوغل في الأناضول، وخلق حالة من الفوضى وتهديد العالم المسيحي بأسره، مما دعا خلفه الإمبراطور إليكسيوس الأول إلى الاستنجاد بالعالم المسيحي الغربي، وقد مهدت هذه الظروف لزوال السيادة الإسلامية والبيزنطية معًا من حوض البحر المتوسط، وظهور دول الغرب المسيحي على مسرح الأحداث وسيطرتها على جزر البحر المتوسط وعلى طرق التجارة العالمية ما بين الشرق والغرب في القرون التالية.
كانت هزيمة ملاذكرد نقطة فاصلة في تاريخ الشرق الأوسط والبحر المتوسط؛ فقد استجاب الغرب الأوربي لنداء الإمبراطور البيزنطي، ووجه البابا أوربان الثاني نداءه إلى ملوك وفرسان غرب أوربا في مؤتمر كليرمونت بفرنسا سنة 1095م للانضمام إلى حملة صليبية للانتقام من المسلمين، وتحرير الأماكن المقدسة في فلسطين منهم، وبذلك بدأت الحرب الأولى في سلسلة الحروب الدينية الشهيرة التي عُرفت باسم الحروب الصليبية، والتي مثلت – في الواقع – أكبر موجة عداء في تاريخ العلاقات بين شمال وجنوب المتوسط.
وصلت الحملة الصليبية الأولى إلى سواحل الشام في عهد الخليفة الفاطمي المستعلي بالله سنة 490هـ/1098م، وتمكن خلالها الصليبيون من احتلال كل سواحل الشام، وتأسيس أربع إمارات صليبية في الرها وأنطاكية والقدس وطرابلس، وقد عُرفت هذه الحملة بحملة الأمراء نظرًا لأن كل قادتها كانوا من الأمراء ولم يكن بها ملكٌ واحدٌ من ملوك أوربا.
أما الحملة الثانية فقد وصلت في عهد الخليفة الفاطمي الحافظ سنة 542هـ/1147م بقيادة لويس السابع ملك فرنسا وكونراد الثالث ملك ألمانيا، وذلك كرد فعل لاستيلاء عماد الدين زنكي أتابك الموصل على إمارة الرها الصليبية سنة 539هـ/1144م، وقد فشِلت هذه الحملة في تحقيق أهدافها بسبب عدم تعاون الإمبراطور البيزنطي أمانويل الأول (1143-1180م).
أما الحملة الثالثة فقد نزلت زمن الأيوبيين (569-648هـ/1174-1250م) الذين خلفوا الفاطميين في حكم مصر؛ بسبب نجاح صلاح الدين الأيوبي في استعادة القدس من الصليبيين بعد هزيمتهم في موقعة حطين سنة 583هـ/1187م وكان الفشل مصير تلك الحملة أيضًا؛ بسبب غرق الإمبراطور الألماني فردريك بارباروسا بنهر اللامس بآسيا الصغرى، وتشتت جيشه، وعودته إلى أوربا، وكذلك بسبب مرض الملك الفرنسي فيليب أغسطس وعودته إلى فرنسا وانتهت الحملة بتوقيع صلح الرملة سنة 588هـ/1192م، ورحيل قائدها الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد عن الشام.
أما الحملة الرابعة، فقد انحرفت عن طريقها، وهاجمت أراضي الدولة البيزنطية واستعمرتها لحوالي ستين سنة، ولم تصل إلى المشرق الإسلامي.
وصلت طليعة الحملة الخامسة إلى الشام زمن العادل أخي صلاح الدين بقيادة أندريه الثاني ملك هنغاريا سنة 614هـ/1217م، وكان الهدف من تلك الحملة الهنغارية مهاجمة مصر، لكنها فشلت في ذلك بسبب عدم توافر السفن، وعودة الملك أندريه إلى بلاده في يناير سنة 1218م/شوال 614هـ. وعندما وصلت قوات الحملة الخامسة الرئيسية قادها الملك جان دي برين ملك القدس، ونزلت بمدينة دمياط سنة 1218م، وأثناءها توفي العادل الأيوبي، وتابع ابنه الكامل مواجهة الحملة التي تمكنت من احتلال مدينة دمياط ومحاولة التقدم إلى القاهرة، لكن الفشل كان نصيبها في النهاية بسبب تنازع المندوب البابوي بلاجيوس مع الملك جان دي برين على القيادة مما أدى إلى حصار فيضان النيل لقوات الحملة في أغسطس 1221م وهزيمة الجيش الصليبي على نحو ما حدث للحملة الفارسية على مصر سنة 373ق.م.
أما الحملة السادسة، فقد وصلت إلى الشواطئ المصرية مباشرة في عهد الكامل بن العادل سنة 1228م وفيها اقترح الكامل على الإمبراطور الألماني فردريك الثاني قائد الحملة - بسبب المنازعات داخل البيت الأيوبي – رد مدينة القدس وجميع الأراضي التي كان صلاح الدين قد استولى عليها مقابل الجلاء عن دمياط، وهو نفس العرض الذي كان قد عرضه على بلاجيوس أثناء الحملة الخامسة، وكان بلاجيوس قد رفضه، أما فردريك الثاني فقد قبل عرض الكامل بسبب الظروف المحيطة بقيادته للحملة، إذ كان قد تعرض لقرار الحرمان الكنسي من البابا هونوريوس الثاني بسبب تلكئه في الرحيل على رأس الحملة مما أضعف من موقفه وجعله يسارع بقبول عرض الكامل السخي، واسترد القدس، وعقد هدنة لمدة عشر سنوات بين الصليبيين والمسلمين في فبراير 1229م/ربيع الأول 626هـ بعد وصوله إلى الشام بأشهر قليلة، وهكذا كانت نتيجة هذه الحملة انتصارًا كبيرًا للجانب الصليبي دون حروب أو إراقة دماء. وقد استمرت العلاقات الودية بين أبناء وأحفاد الملك الكامل والإمبراطور فردريك لزمن طويل بعد ذلك.
أما الحملة السابعة، فقد خرجت بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا بسبب نجاح الملك الصالح نجم الدين أيوب – ابن الملك الكامل – في استرداد القدس سنة 642هـ/1244م، وقد وصلت قبالة ساحل فرع النيل الشرقي في يونيو 1249م/647هـ، وتمكنت في نفس الشهر من الاستيلاء على مدينة دمياط؛ وبعد وقفة قصيرة، أخذت في الزحف على القاهرة، وأثناء ذلك مات السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وتولت زوجته شجرة الدر القيادة، حتى وصل ابنه توران شاه من حصن كيفا بديار بكر، واستلم الملك والقيادة في فبراير 1250م، وبدأ في تنظيم هجمات عنيفة على المعسكر الصليبي، مما اضطر الملك لويس إلى فتح باب المفاوضات طالبًا تسليم القدس وبعض المدن الساحلية في الشام مقابل الجلاء عن دمياط والأراضي التي استولى عليها، لكن عرضه قوبل بالرفض، واستؤنف القتال، وكانت النتيجة هزيمة الجيش الصليبي وأسر لويس التاسع نفسه وسجنه مع أخويه في مدينة المنصورة، حيث جرت مفاوضات الصلح التي تم بمقتضاها الاتفاق على الإفراج عن الملك لويس وأسرى الصليبيين مقابل فدية كبيرة من المال، وتسليم مدينة دمياط مع عدد كبير من أسرى المسلمين في مصر والشام وذلك في أبريل 1250م.
كانت تلك هي الحملة الصليبية الأخيرة على المشرق الإسلامي، لكن لويس التاسع قاد حملة صليبية أخرى وأخيرة على تونس سنة 1270م بهدف التقدم منها إلى مصر، لكنه مات هناك، وكان مصير حملته تلك الفشل أيضًا، وبها انتهت قصة الحروب الصليبية.
خلفت هذه الحروب التي دامت لحوالي قرنين من الزمان كثيرًا من الدمار، وأراقت كثيرًا من الدماء، لكن المثير للدهشة أن تلك الظروف السلبية لم تمنع استمرار التواصل والتفاعل بين شاطئي المتوسط، بل ربما تكون قد وسعت منها؛ فقد استمرت حركة التجارة بين الشاطئين، وازدهرت بشكل كبير – أثناء فترات الهدنة – وقد أدى ذلك إلى ظهور المدن التجارية في أنحاء أوربا، ونزوح عدد كبير من الفلاحين إليها، مما ساعد على الإسراع بانهيار نظام الإقطاع الأوربي وظهور الطبقة الرأسمالية الأوربية في تلك المدن، وهي الطبقة التي قادت حركة النهضة الأوربية بعد ذلك.
والواقع أن التأثير المتبادل بين شاطئي المتوسط في تلك العصور قد شمل جميع نواحي النشاط الإنساني بحيث لا يمكن تفصيله في مثل تلك الدراسة المختصرة حيث إنه قد شمل كل شيء حتى الجوانب الاجتماعية التي تمثلت في زواج الصليبيين بالمواطنات المسيحيات من الموارنة والأرمن وبعض الأسيرات المسلمات، مما أدى إلى ظهور جيل جديد من المولدين عُرف باسم بولاني. ومن الملفت للنظر أنه كما لاحظ الصليبيون وتأثروا بكثير من العادات الإسلامية أثناء إقامتهم بالشرق المسلم، فقد لاحظوا أيضًا افتقاد المسلمين إلى المؤسسات السياسية الشبيهة بمجالسهم الإقطاعية الاستشارية، واعتمادهم الكامل على حكم الملك الذي يقودهم، وكأنهم بذلك كانوا قد وضعوا أيديهم - ومنذ تاريخ مبكر - على سر ضعف العالم الإسلامي المستمر إلى اليوم.
خلف المماليكُ الأيوبيين في حكم مصر والشام (648-923هـ/1250-1517م) وقد نجحت دولة المماليك في تصفية الوجود الصليبي بالشام نهائيًّا، وذلك بعد أن سقطت عكا آخر المعاقل الصليبية في بلاد الشام سنة 690هـ/1291م على يد السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون. لكن الصراع الدامي بين الشمال والجنوب لم يتوقف عند هذا الحد، وذلك في نفس الوقت الذي لم تتوقف فيه العلاقات التجارية السلمية بينهما بل استمرت في تزايد مضطرد وتداخلت وتشابكت مع الاتجاه العدائي الرئيسي في تناقض يمكن اعتباره واحدًا من أكبر أمثلة التناقضات التي تقع فيها العلاقات بين الأمم والشعوب عندما تتعارض حتميات التاريخ مع حتميات الجغرافيا. وقد اتخذ الشمال المسيحي من جزيرتي رودس وقبرص قاعدتين للهجوم على الجنوب المسلم ولعبت الدول الإيطالية التجارية في جنوة والبندقية دورًا حائرًا بين الطرفين، فمرة تنحاز إلى عواطفها الدينية، وأكثر المرات تنحاز إلى مصالحها التجارية. وأيضًا شهدت هذه الفترة العديد من المحاولات المملوكية التي نجح بعضها في غزو قاعدتي رودس وقبرص مما مكنهم من الاحتفاظ بطرق التجارة العالمية في أيديهم، ولكن أتت الضربة القاصمة عندما تمكن البرتغاليون – وكأحد نتائج عصر النهضة الأوربي – من الدوران حول أفريقيا، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح بقيادة بارتلميو دياز سنة 891هـ/1486م ثم الوصول إلى الهند المصدر الرئيسي للتجارة الشرقية بقيادة فاسكو دي جاما سنة 904هـ/1498م مما أدى إلى حرمان دولة المماليك من موردها الاقتصادي الأساسي، وإضعافها نهائيًّا خاصة بعد فقدانها لأسطولها الحربي في موقعة ديو البحرية في مواجهة الأسطول البرتغالي في المحيط الهندي سنة 915هـ/1509م وضرب سفن فرسان الإسبتارية – في العام التالي – للسفن المصرية العائدة من البندقية بالأخشاب اللازمة لصنع أسطول بديل. وقد مهدت هذه الأحداث – بالإضافة إلى الصراعات الداخلية الدائمة بين المماليك أنفسهم – لسقوط دولة المماليك بعد ذلك بفترة وجيزة في يد القوى الإسلامية العثمانية الصاعدة في الأناضول.
خلف العثمانيون المماليك في حكم مصر بعد معركة مرج دابق في سوريا سنة 922هـ/1516م ومعركة الريدانية على حدود مصر الشرقية سنة 1517م وأصبحت مصر ولاية عثمانية بعد أن كانت قاعدة لدولة كبيرة تشمل مصر والشام، وكان من الطبيعي أن تتراجع علاقات مصر بالبحر المتوسط بسبب فقدانها لجزء كبير من التجارة العالمية الذي أصبح يمر عبر أفريقيا، كما أن العثمانيين وبرغم أنهم استطاعوا إنشاء قوة بحرية كبرى سيطروا بها على البحر المتوسط لفترة طويلة من الزمن فإنهم لم يجعلوا من مصر أحد قواعدهم البحرية الكبرى في ذلك البحر، ومع ذلك فلم تفقد مصر – ومدينة الإسكندرية بوجه خاص – كل أهمية لها في حركة التجارة العالمية، إذ ظل جزء كبير من تلك التجارة يمر عبر أراضيها.
فمنذ بدايات العصر العثماني عمل السلطان سليم الأول على إحياء وإنعاش التجارة المصرية خصوصًا عن طريق الإسكندرية، ولذلك عقد اتفاقية بين الدولة العثمانية والبندقية في المحرم 923هـ/1517م وذلك لتشجيع البنادقة على القدوم إلى الإسكندرية بسفنهم وبضائعهم لمباشرة النشاط التجاري في جو من العدالة والأمن والاطمئنان. وتبع هذه الاتفاقية اتفاقيات أخرى مع الدول الأوربية مثل فرنسا عام 1535م وبمقتضاها حصل الرعايا الفرنسيون على حقوق ومزايا عديدة مثل حرية الملاحة في المياه العثمانية والبيع والشراء بحرية تامة وتحديد الرسوم الجمركية بنسب موحدة ومقررة وهي 5% وإعفائهم من دفع أي ضرائب أخرى. وتبع ذلك دخول إنجلترا لهذا المجال حيث منح السلطان مراد الثالث في 1580م براءة للتجار الإنجليز تضمن لهم امتيازات كثيرة، وحرية واسعة في البيع والشراء، ومراعاة عادات وأوامر بلادهم. ويتضح من خلال سجلات محكمة الإسكندرية الشرعية حجم العلاقات التجارية الواسعة بين مدينة الإسكندرية وبين موانئ البحر المتوسط الأوربية مثل فرنسا وإنجلترا وأسبانيا وغيرها وكذلك الموانئ العثمانية وبلاد الشام وبلاد المغرب العربي، الأمر الذي يعكس المكانة الاقتصادية الكبيرة التي ظلت الإسكندرية تتمتع بها، كما امتلأت المدينة بالجاليات الأوربية من جميع الجنسيات وبالجاليات الإسلامية على السواء.
ومع ذلك فإنه من المؤكد أن العصرالعثماني كان عصرًا مظلمًا في تاريخ مصر، على الأقل بالنسبة لما كان يحدث في شمال المتوسط من نهضة عظيمة وسَّعت الفارق الحضاري بين شماله وجنوبه بشكل لم يكن من الممكن تداركه في ظل الأوضاع التي سادت مصر في العصر العثماني والتي استمرت حتى وصول القائد الفرنسي الشاب نابوليون بونابرت إلى مصر على رأس الحملة الفرنسة في يوليو 1789م مفتتِحًا صفحة جديدة من تاريخ العلاقات بين مصر والبحر المتوسط.

3. العصر الحديث:
دفعت ظروف الصراع الأوربي بعد قيام الثورة الفرنسية سنة 1789م بمصر في طريق فرنسا ونابوليون، ففي فبراير 1798م قدَّم شارل مجالون القنصل الفرنسي في الإسكندرية تقريرًا لحكومته يوصي فيه باحتلال مصر لما لها من أهمية في التجارة العالمية بعد أن سيطر الإنجليز على طريق رأس الرجاء الصالح؛ وفي نفس الوقت كان تاليران وزير الخارجية الفرنسي في حكومة الإدارة قد قدَّم تقريرًا بنفس المعنى بهدف اتخاذ مصر قاعدة فرنسية في الشرق لضرب مصالح إنجلترا هناك. لاقى كِلا التقريرين موافقة حكومة الإدارة وعهدت للقائد الشاب نابوليون بونابرت بالإشراف على تجهيز وتنفيذ المشروع، وسرعان ما بدأت الاستعدادات وأصبح كل شيء جاهزًا في أبريل 1798م وبشكل مشابه لما قام به الإسكندر قبل أكثر من ألف سنة، توجه نابوليون بجنوده وعلمائه وأدبائه وفنانيه ومترجميه ومطابعه إلى مصر، وأبحر إليها في مايو من ميناء طولون الفرنسي، وفي طريقه استولى على جزيرة مالطا من فرسان القديس يوحنا آخر فلول الصليبيين في الشرق. وفي أول يوليو وصلت الحملة سواحل الإسكندرية واستولت على المدينة، وفي 7 يوليو زحف نابوليون على القاهرة – برًّا وبحرًا عن طريق نهر النيل - والتقى بالمماليك في أول مواجهة عند شبراخيت في 13 يوليو في معركة بحرية برية هزمهم فيها وواصل زحفه على القاهرة حيث التقى بهم مرة أخرى بالقرب من الجيزة وهزمهم في معركة الأهرام في 22 يوليو، وفي اليوم التالي دخل القاهرة وبدأ على الفور في تنظيم أمور مصر، فمنع جنوده من السلب والنهب، وحمى حقوق الملكية، وأعلن احترامه للشعائر الإسلامية – كما فعل الإسكندر في معبد الإله بتاح والإله آمون – وأمر بإنشاء ديوان القاهرة من المشايخ والزعماء المحليين، وعقد اجتماعًا مع علماء الحملة لوضع الخطط للقضاء على الطاعون، وإدخال صناعات جديدة، وتطوير نظام التعليم، وتحسين القوانين، وإنشاء خدمات بريدية ونظام مواصلات، وإصلاح الترع، وضبط الري، وربط النيل بالبحر الأحمر، ثم أنشأ المعهد العلمي، وعهد إليه بإجراء دراسة شاملة عن مصر، وهي الدراسة التي خرجت بعد ذلك في موسوعة وصف مصر التي وضعها علماء الحملة الفرنسية بين الأعوام (1809-1829م).
هكذا بدأت قصة حملة نابوليون على مصر، لكنها سرعان ما انتهت برحيل قوات الحملة في سبتمبر 1801م بسبب تحالف الإنجليز والعثمانيين ضد طموحات فرنسا في مصر، ونجاحهم في إجلائهم عنها في زمن قصير. كانت الحملة الفرنسية تجربة قصيرة في حياة مصر والمصريين لكنَّ آثارها كانت عميقة بحيث يمكن أن يقال إن تاريخ مصر الحديث قد بدأ بها؛ فقد لفتت هذه الحملة أنظار العالم إلى أهمية موقع مصر، كما أنها ربطتها بالنهضة العظيمة التي كانت تجري في شمال المتوسط، والتي كانت إلهامًا للرجل الذي قُدِّر له أن يحكم مصر بعد خروج الحملة، ويبدأ وضع أسس نهضتها الحديثة وهو محمد علي باشا.
كانت تولية محمد علي باشا حكم مصر سنة 1805م هي نفسها أحد مؤثرات الحملة الفرنسية على مصر؛ فقد تمسك المصريون بحقهم – وربما لأول مرة في تاريخهم – في اختيار حاكمهم، وقاتلوا الولاة الذين حاول السلطان العثماني فرضهم عليهم، حتى اضطروا الدولة العثمانية في نهاية الأمر إلى الرضوخ لمطلبهم وتعيين محمد علي باشا واليًا عليهم؛ ولا شك في أن الصفات القيادية الكبيرة التي تمتع بها محمد علي، والنيات الحسنة التي أظهرها تجاه المصريين، كانت أحد أسباب تمسكهم به، لكن النظم والثقافة الأوربية الجديدة التي جلبتها معها الحملة الفرسية كانت أيضًا إلهامًا لهم في كفاحهم من أجل اختيار حاكمهم.
بدأ التأثير الفرنسي في مصر في عهد محمد علي على يد رجال من أمثال دروفتي قنصل فرنسا في مصر ومنجان والضباط الفرنسيين الكثيرين الذين بقوا في مصر بعد انسحاب الفرنسيين، أو عادوا إليها بعد سقوط نابوليون مثل كولونيل سيف (سليمان باشا الفرنساوي -1787-1860م) الذي تولى إنشاء وتدريب الجيش المصري في عهد محمد علي، ومثل كلوت بك مستشاره الفرنسي.
وقد كان من الطبيعي أن يكون لتلك المؤثرات الفرنسية أثرها في المصريين - أو بعض منهم على الأقل – فبينما رفضها معظمهم على أنها جاءت مع جيش كافر – فقد قبلها بعض منهم مثل الشيخ الجبرتي (المؤرخ) الذي لم يخفِ إعجابه بمظاهر الحضارة الفرنسية، والشيخ حسن العطار (1766-1835م) وزميله الشيخ إسماعيل الخشاب.
والواقع أن النهضة العظيمة التي شهدتها مصر في عهد محمد علي قد كانت – وبشكل أساسي – نتيجة لانفتاح محمد علي على حضارة شمال المتوسط وثقافته سواء من خلال الأوربيين الذين استعان بهم في إدارته – خاصة من الإيطاليين والفرنسيين - أو من خلال طلبة البعثات التي أرسلها إلى أوربا. وقد استطاعت مصر في عهده تحقيق معجزة سياسية بكل المقاييس، فمن أمة كانت قبل سنوات قليلة تعيش في ظلام العصور الوسطى، أصبحت فجأة أمة حاضرة ومؤثرة في أحداث العالم المعاصر، ففي سنوات قصيرة استطاع محمد علي وضع أسس دولة عصرية، وبناء جيش قوي غزا به صحارى الجزيرة العربية المنيعة سنة1811م وضرب الوهابيين لصالح السلطان العثماني. وفي سنة 1820م تقدم إلى جنوب مصر باتجاه السودان المجهول بحثًا عن العبيد والذهب مؤسِّسًا السودان الحديث، ثم اتجه ناحية البحر المتوسط مشاركًا في حرب المورة سنة 1824م لإخماد الثورة اليونانية التي اشتعلت هناك ضد السلطان العثماني، دافعًا بمصر الحديثة إلى آفاق سياسية جديدة كان من المستحيل أن تصل إليها في عصر التفوق الأوربي. وبرغم ضرب الأساطيل الأوربية للأسطول المصري والعثماني في معركة نافارين سنة 1827م فقد عاد محمد علي وكون هذا الجيش مرة أخرى وغزا به سوريا سنة 1831م، واندفع نحو قلب الإمبراطورية العثمانية نفسها محاولًا نقل مركز العالم الإسلامي إلى مصر، ولكن برغم اجتماع الدول الأوربية عليه، وإيقاف زحف الجيوش المصرية المندفعة بقيادة ابنه إبراهيم باتجاه الأراضي العثمانية، وتقييده بقيود معاهدة لندن سنة 1840م، وتقليص أحلامه وقصرها على مصر، فإن استمرار نفس الاتجاهات والظروف بعده خاصة في عهد إسماعيل (1863-1879م) – أي الانفتاح المستمر على حضارة شمال المتوسط واستمرار نزوح الأوربيين للعمل والإقامة في مصر – قد ظل يدفع بمصر إلى الأمام، وأكد مركزها كدولة كبرى في الشرق الأوسط في نهاية الأمر.
والواقع أننا يمكن أن ندرك الآن بسهولة أن قصة مصر في عصر أسرة محمد علي كانت هي قصة تفاعل مصر والمصريين مع الشعوب الأوربية وثقافتها في شمال المتوسط تمامًا كما يمكننا أن ندرك أن قصة مصر في عصر ثورة يوليو – بعد ذلك – هي قصة تفاعل مصر والمصريين مع الشعوب العربية المجاورة وثقافتها، وبالطبع يمكننا أن ندرك – وبسهولة أيضًا – عظم الفارق بين القصتين؟
بدأ نزوح الأوربيين إلى مصر قبل عهد محمد علي، ولكن الواقع أن ذلك الوجود كان محدودًا ويكاد يقتصر على ممثلي الوكالات التجارية الأوربية المقيمين في الإسكندرية خاصة من المدن الإيطالية كجنوة والبندقية وبيزا وفلورنسا، ثم ازداد هذا الوجود الأجنبي بقدوم الحملة الفرنسية، وباستعانة محمد علي بكثير من الأوربيين في إدارة مصر بعد خروج الحملة، بالإضافة إلى استعانته بهم في تصريف منتجاته في الأسواق الأوربية، حتى بلغ عددهم في نهاية عهده سنة 1847م حوالي ستة آلاف نسمة، لكن هذا الوجود تناقص في عهد خلفه عباس حلمي الأول لكراهية الأخير للأجانب بشكل عام، ثم أخذ يزداد مرة أخرى منذ عهد سعيد وإسماعيل لرغبة الأخيرين في تحويل مصر إلى دولة أوربية، كما أعطى افتتاح قناة السويس سنة 1869م دفعة قوية لنزوح الأوربيين للعمل والحياة في مصر حتى وصل عددهم في سنة 1871م إلى حوالي 79696 نسمة، واستمر عددهم في الزيادة حتى وصل في بدايات عهد الخديوي محمد توفيق إلى 90886 نسمة، ثم هيأ الاحتلال الإنجليزي لمصر سنة 1882م الظروف لاستمرار وازدياد تلك الهجرات بحيث أصبح الأوربيون وعلى وجه الخصوص – اليونانيون والإيطاليون والإنجليز والفرنسيون - جزءًا لا يتجزأ من المجتمع المصري، ووصل عددهم في سنة 1897م إلى حوالي 113000 أي اكثر من 1,16% من جملة السكان في ذلك الوقت. وظل هذا الاتجاه في تصاعد مستمر حتى بلغت أعداد الأجانب في مصر سنة 1907م إلى حوالي 151414 نسمة معظمهم من الأوربيين، واستمرت هجرات الأوربيين إلى مصر حتى نشوب الحرب العالمية الأولى، ثم تراجعت قليلًا لكنها ما لبثت أن عادت بقوة بعد انتهاء الحرب حتى بلغ تعدادهم سنة 1917م 181630 نسمة من الأوربيين وحدهم و209178 نسمة من الأوربيين والأمريكيين مجتمعين، أي ما يزيد على 1% من مجموع المصريين في ذلك الوقت. ولكن منذ سنة 1937م فصاعدًا بدأت أعداد الأوربيين في مصر في التناقص، ويرجع سبب ذلك بشكل أساسي إلى إلغاء الامتيازات الأجنبية بموجب معاهدة مونترو سنة 1937م، وتحول أعداد كبيرة من الأجانب إلى الجنسية المصرية، إذ بلغ عدد الأجانب المتجنسين بالجنسية المصرية في تعداد سنة 1947م حوالي 13102 نسمة، ويرجع كذلك إلى قيام الحرب العالمية الثانية سنة 1939م ورحيل كثير من رعايا دول المحور إلى بلادهم، وأيضًا إلى ظهور الطبقة الرأسمالية المصرية ودخولها إلى الميدان الاقتصادي خاصة بعد إنشاء بنك مصر وشركاته، بالإضافة إلى صدور القوانين التي أخذت تقيد من نشاط الأجانب الاقتصادي وحركتهم في مصر. ومع ذلك فإن وجود الجاليات الأوربية ونشاطها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ظل محسوسًا وفعالًا في المجتمع المصري حيث قُدِّر عددُهم أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية بحوالي 230 ألف نسمة، واستمر ذلك حتى قيام ثورة يوليو سنة 1952م، حيث بدأ الوجود الأوربي في تناقص حقيقي مضطرد بسبب الاتجاهات السياسية والاقتصادية الجديدة التي تبنتها الثورة.
والواقع أننا إذا ما حاولنا تتبع أثر تدفق الأجانب على مصر – والأوربيين منهم على وجه الخصوص – على مدى حوالي قرن ونصف، أي طوال عصر أسرة محمد علي تقريبًا، فسوف ندرك عظم التأثير والتطور الذي أحدثوه في المجتمع المصري على مختلف أصعدة النشاط الإنساني. فعلى المستوى السياسي نجد أن الجاليات الأجنبية في مصر قد شاركت في صنع أحد أهم أحداث التاريخ السياسي لمصر الحديثة؛ فمع قيام ثورة 1919م وقفت بعض الجاليات الأجنبية كالإيطالية والفرنسية – مثلًا- موقف التأييد لها وتفهمت مطالبها الوطنية ولو بوحي من مصالحها الخاصة، كما كان للجالية الإنجليزية نفسها أثرٌ كبيرٌ في الدفع نحو إصدار تصريح 28 فبراير 1922م التي أعلنت فيه إنجلترا استقلال مصر من طرف واحد، مع الشروط الأربعة المشهورة؛ ولقد وضع ذلك التصريح – وبرغم أي تحفظات عليه – مصر على طريق الاستقلال، ومكنها من ممارسة أول تجربة ديموقراطية برلمانية في تاريخها بموجب دستور 1923م الذي صاحب النظام السياسي الجديد الذي نشأ في مصر نتيجة لذلك التصريح. ولا شك في أن الأفكار الديموقراطية والليبرالية قد دخلت إلى مصر عن طريق الأوربيين الذين عاشوا بها، حيث كانت جزءًا من ثقافتهم العامة التي تأثر بها المصريون خاصة هؤلاء الذين ذهبوا لتحصيل العلم في أوربا ثم عادوا إلى مصر محملين بتلك القيم والأفكار الجديدة وبها مجتمعات أوربية تعيش وتتنفس بالفعل تلك القيم، مما ساعدهم في مهمة التبشير بها. ولم يقتصر الأمر على هذه الحدود التقليدية، فقد نقل الأجانب ثورة الأفكار السياسية والاجتماعية التي كانت تجتاح العالم الأوربي في شمال المتوسط إلى مصر بحيث أصبحت مصر – وبدون أي نظير لها في العالم الإسلامي باستثناء تركيا – جزءًا من حركة تاريخ العالم المتقدم يحدث بها ما يحدث به من أحداث، ويعصف بها ما يعصف به من أفكار. وقد كان انتشار الأفكار الاشتراكية في مصر خير دليل على ذلك، حيث ظهرت وانتشرت على يد الأجانب، وظلت في النمو والتطور حتى بعد رحيلهم، ولعبت دورًا كبيرًا في تاريخ مصر في القرن العشرين.
وعلى المستوى الاقتصادي، فقد شغل الأوربيون أهم الوظائف في الإدارات الحكومية والوزارات في عصر أسرة محمد علي، ومهما قيل عن ضخامة رواتبم وعظم امتيازاتهم واحتكارهم لكبرى الوظائف على حساب أبناء البلاد الأصليين، فمما لا شك فيه أنهم قد أخذوا بقدر ما أعطوا، والموضوع لم يعد يحتاج إلى جدل؛ فالناظر إلى أحوال مصر عندما كان يديرها هؤلاء الأوربيون، وعندما أصبح أبناؤها هم المديرين الفعليين لها، لن يسعه سوى أن يعترف - بأسف - بأن إدارات هؤلاء الأجانب كانت أفضل. ومع ذلك فإن التأثير الاقتصادي للأوربيين في مصر يظهر بشكل أكبر في مجال استثمارتهم الفردية ومشروعاتهم الخاصة بدءًا بأول بقال يوناني فتح له حانوتًا في الإسكندرية، ونهايةً بالبارون إمبان، باني حي مصر الجديدة. والواقع أن استثمارات الأجانب قد شملت كل شيء، وكل القطاعات المالية والصناعية والتجارية والخدمية من البنوك حتى العقارات والسياحة والخدمات وصناعة السينما والمواصلات والمستشفيات والمدارس والمقاهي والملاهي وكل أوجه النشاط الإنساني، حتى تركوا لنا تلك الآثار العظيمة، والبنايات الشاهقة، والقصور الباسقة، والفيلل الجميلة التي مازالت قائمة في بعض أحياء القاهرة والإسكندرية ومدن القناة وبعض مدن مصر الأخرى شاهدةً على عظمة ذلك الزمن الذي مازال البعض مصممًا على تسميته بزمن النهب الاستعماري لمصر متجاهلين أنه في ذلك الزمن كانت مصر دائنة وليست مدينة، ولم يكن بها بطالة ولا أزمة إسكان ولا أزمة مواصلات، بل على العكس فقد كانت مصر قادرة على توفير فرص الحياة والعمل ليس فقط لأبنائها بل لأشقائها من الدول العربية الفقيرة الذين تدفقوا عليها من بلاد الشام وبلاد المغرب، فعاشوا في رحابها، وشاركوا في صنع نهضتها.
كان أحد نتائج ذلك النشاط الاقتصادي الكثيف الذي قام به الأوربيون في ذلك الزمن أن تعلم كبار ملاك الأراضي المصريون معنى الاستثمار الرأسمالي تمامًا كما حدث في أوربا في أخريات العصور الوسطى، ومن تلك الطبقة ظهر طلعت حرب، وأسس بنك مصر، وبدأ ومعه كثير من أعضاء الطبقة الرأسمالية المصرية الوليدة في المساهمة في نهضة مصر الاقتصادية. ومع ذلك فإن أكبر الآثار الإيجابية التي نشأت عن احتكاك شعوب شمال المتوسط بمصر والمصريين في عصر أسرة محمد علي كان هو الأثر الثقافي والاجتماعي – أي في التطور القِيَمِي للمجتمع – أكبر محرك لتطور التاريخ، في حدود رأيي الشخصي على الأقل. ومن الطبيعي أن يكون التعليم الأجنبي في مصر في تلك الفترة هو أحد أكبر الأبواب التي دخل من خلالها المصريون إلى ثقافة شعوب شمال المتوسط وقيمها المتطورة وتأثروا بها. وقد كان التعليم الأجنبي معروفًا في مصر قبل الاحتلال البريطاني عن طريق إرساليات التبشير الكاثوليكية والبروتستانية، لكنه ازداد وتطور بزيادة عدد الأجانب في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، حتى وصل عدد المدارس الأجنبية بمصر سنة 1878م إلى 152 مدرسة يتعلم بها 12247 تلميذ وتلميذة منهم 7822 تلميذا و4625 تلميذة، ثم أخذ التعليم الأجنبي دفعة قوية باحتلال إنجلترا لمصر سنة 1882م، وهكذا وصل عدد المدارس الأجنبية بمصر في بدايات القرن العشرين بمصر تبعًا لإحصاء سنة 1915م إلى 307 مدرسة ثم إلى 326 مدرسة سنة 1922م بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وعودة الأجانب إلى مصر واستئناف أنشطتهم مرة أخرى، وأخذ العدد في الارتفاع حتى وصل سنة 1937م إلى 411 مدرسة؛ إلَّا أن ذلك العدد أخذ في التناقص منذ عام 1946م بسبب إلغاء الامتيازات الأجنبية، واستمر في التناقص حتى بلغ سنة 1952م إلى 281 مدرسة فقط. وفي سنة 1955م أخضعت حكومة الثورة المدارس الأجنبية لإشراف وزارة المعارف، ثم وبعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956م تم تأميم المدارس الأجنبية كجزء من حركة تمصير المؤسسات الأجنبية في البلاد، وفي سنة 1958م صدر قانون بتعريب المدارس الأجنبية والتعليم الخاص.
ويمكن الجزم الآن بأن التطور الثقافي الكبير الذي حققته مصر خلال عصر أسرة محمد علي يعود بشكل كبير إلى هذه المدارس الأجنبية وإلى المدرسين الأجانب الذين عملوا بها وحملوا معهم ليس فقط معارف وعلوم شمال المتوسط إلى جنوبه، ولكن أيضًا ثقافته وقيمه، فهؤلاء ومعهم زملائهم الذين عملوا بأعداد كبيرة في المدارس التابعة لوزارة المعارف كانوا من أكبر عوامل التطور القِيَمِي للمجتمع المصري.
وقد لعبت المدارس الفرنسية والإنجليزية والأمريكية أكبر الأدوار في تاريخ التعليم بمصر في تلك الفترة، واشتهرت منها أسماء كبيرة مثل مدارس الليسيه الفرنسية المدنية، ومدارس الراهبات، والفرير، والجزويت الدينية، وكلية ڤيكتوريا الإنجليزية بالإسكندرية، والمدرسة الإنجليزية بالقاهرة، والكلية الإرسالية الإنجليزية بالقاهرة، والمدرسة البريطانية بالإسكندرية، وكلية البنات الإنجليزية بالإسكندرية، ومدرسة البنين الأمريكية، ومدرسة البنات الأمريكية بالأزبكية، وكلية البنات الأمريكية بالقاهرة، والكلية التجارية الأمريكية بالإسكندرية، ومدرسة الأمريكان الثانوية بأسيوط، وكذلك مدرسة الأمريكان الثانوية بنات، ومدرسة الأمريكان الابتدائية بنين، والأمريكان الابتدائية بنات، كما انتشرت المدارس الأمريكية في أنحاء كثيرة أخرى من القطر المصري مثل المنصورة والفيوم وبنها والزقازيق وطنطا وغيرها من المدن المصرية. ولا شك في أن الجامعة الأمريكية بالقاهرة هي أشهر المؤسسات التعليمية الأمريكية على الإطلاق ويعود تاريخ إنشائها إلى سنة 1920م بواسطة الإرسالية الأمريكية، لكنها في سنة 1922م أصبحت جامعة مستقلة، وأصبح لها كيانها الخاص المستقل عن الإرسالية الأمريكية.
وكما يمكننا مقارنة الظروف التعليمية السائدة الآن بمصر بما كانت عليه تلك الظروف قبل ثورة 1952م في ظل سيادة التعليم الأجنبي، يمكننا الآن أيضًا – وبسهولة – مقارنة الأوضاع والأخلاق الاجتماعية بما هي عليه الآن، وبما كانت عليه قبل الثورة في ظل سيادة المؤثرات الاجتماعية الأجنبية الوافدة من دول شمال المتوسط الأوربية. ومرة أخرى نود أن نؤكد هنا أن تطور التاريخ هو تطور قِيَم، وأن لكل حضارة ولكل ثقافة قِيَمَها التي يمكن أن تحتوي على عناصر إيجابية وأخرى سلبية، لكن السؤال المهم هو، أي من تلك العناصر يكون هو الغالب على تلك الحضارة أو تلك الثقافة؟ ولقد حملت شعوب شمال المتوسط المهاجرة إلى مصر معها عناصر ثقافتها وقيمها الإيجابية والسلبية على السواء إلى المجتمع المصري والحياة المصرية، وكان من الطبيعي أن تتأثر الحياة المصرية بهذه الثقافة ككل، ولكن يمكننا الآن أن نقول – وباطمئنان – إن العناصر الإيجابية في تلك الثقافة كانت هي الأقوي وهي التي تأثر بها المصريون أكثر ما تأثروا، وإن هذا هو ما قد يفسر الفارق الكبير بين أخلاقيات الأجيال التي عاشت قبل ثورة 1952م وأخلاق الأجيال التي تعيش الآن؟
وأقل ما يمكن أن نقوله هنا هو أنه قد كان للأجانب تأثيرهم الإيجابي الكبير في المجتمع المصري، فهم الذين حملوا معهم قيمهم الإنسانية في قبول الآخر وفي حرية التفكير وحرية العقيدة وفي حرية المرأة وفي الذوق الاجتماعي، وهم الذين بشروا بحقوق الطبقات الفقيرة وبالعدل الاجتماعي، وأنشَؤُوا المؤسسات الخيرية والطبية والاجتماعية، وأنشؤوا النقابات العمالية، ونشروا تلك القيم الإنسانية التي تأثر بها المصريون، وعملوا بها حتى أصبحت بلادهم ملاذًا لأي إنسان لا يجد الأمان في وطنه، فيرحل إليها يطلب بها الحياة والأمان، حيث عاش الأرمني واليهودي والمسيحي والمسلم جنبًا إلى جنبٍ في أمان ووئام، جعل الكاتب اللبناني الشهير أحمد فارس الشدياق الذي عاش بمصر في منتصف القرن التاسع عشر يبدي دهشته لما رآه من تسامح المصريين الديني، ويصفهم في كتابه الساق على الساق قائلًا (وبذلك لهم الفضل على غيرهم وكأن هذه المَزِيَّة وهي حسن الخلق ورقة الطبع أمر مركوز في جميع أهل مصر) وهو نفس الواقع الذي دفع بالشاعر السوري الشهير الراحل نزار قباني إلى أن يصف القاهرة – في مذكراته – أثناء الفترة التي كان يعمل ويعيش بها في الأربعينيات من القرن العشرين، وبعدما لمس بنفسه مدى تطورها الأدبي والحضاري وتفوقها على كل مدن الشرق الأوسط (بأم مدائن الشرق) فأين ذلك الفضل الآن، وأين أم مدائن الشرق؟
وفي استعراض تلك المؤثرات الثقافية والاجتماعية، يجب أن لا ننسى أحد الأفضال الخالدة التي قام بها شركاؤنا في الشمال، وهي اكتشاف أسرار اللغة المصرية القديمة. تلك المأثرة الخالدة التي بدأت باكتشاف جندي فرنسي لحجر رشيد في زمن الحملة الفرنسية، ثم عكوف العالم الفرنسي الشاب شامبليون على دراسته حتى توصل إلى اكتشاف أسرار اللغة المصرية القديمة، ووضع قاموسًا لها، وأثر ذلك في توافد البعثات الأثرية على مصر بعد ذلك لكشف أسرار حضارتها القديمة، وإنشاء المتحف المصري، مما وضع مصر وتاريخها في صدارة التاريخ الإنساني مرة أخرى، وأعاد مرة أخرى إلى ذاكرة البشرية ذلك التأثير الرومانسي الخالد للحضارة المصرية القديمة على الجنس البشري، وما كان لكل ذلك المجد من أثر في إحياء الروح الوطنية المصرية التي كانت قد دُفنت تحت أقدام الغزاة عبر آلاف السنين، والتي كانت أحد أكبر الإنجازات التي حققتها مصر خلال عصر أسرة محمد علي وخلال الحقبة الاستعمارية.
ولا شك في أن الباب الكبير الآخر الذي عبر من خلاله المصريون إلى ثقافة العالم المتقدم، وترك كثيرًا من الأثر في تطور مصر في عصر أسرة محمد علي كان هو البعثات العلمية المصرية التي قام محمد على – وخلفائه - بإرسالها إلى دول شمال المتوسط، حيث اهتم محمد علي بإرسال البعثات العلمية إلى أوربا لإعداد خبراء وصناع مدربين في كل النواحي المختلفة التي احتاجها مشروعه في إقامة دولة عصرية. وقد بدأ محمد علي في إرسال بعثات علمية إلى أوربا في سنة 1813م، إذ أوفد إلى إيطاليا عددًا من الطلبة لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن وتعلم الهندسة وغير ذلك من الفنون. ولكن أول بعثة علمية كبيرة منظمة، أرسلت إلى أوربا سنة 1826م، ثم تلاها فيما بين سنة 1826 وسنة 1847م تسع بعثات تكونت من 219 طالبًا ذهب معظمهم إلى فرنسا، واتجه الباقون إلى إنجلترا والنمسا. وقد أرسلت هذه البعثات لكي يتخصص الطلبة في الهندسة والرياضيات والطبيعيات ومختلف الصناعات والنظم الحربية والعلوم السياسية والطب والحقوق، أي إن هدفها كان علميًّا عمليًّا خالصًا، ولكن الواقع أن أعظم أثر نتج عن هذه البعثات كان هو الأثر الثقافي الذي تجلى في تأثر الطلبة أعضاء البعثات بقيم وثقافة شمال المتوسط الذي عاشوا ودرسوا فيه؛ والغريب أن أول من نقل ذلك التأثير وذلك الإعجاب بثقافة فرنسا حيث ذهب مع أولى البعثات كان شابًّا أزهريًّا اسمه رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873م) كان قد أرسِل أساسًا ليؤم طلبة البعثة في الصلاة، ويحفظ لهم مبادئ دينهم، وليس ليتعلم أي فرع من فروع المعرفة، لكنه عكف هناك على دراسة اللغة الفرنسية، ثم بدأ يتعرف على الأدب والثقافة الفرنسية التي حازت إعجابه، واستولت على عقله وقلبه، فدرس التاريخ والجغرافيا والفلسفة، وقرأ مؤلفات ڤولتير وروسو ومونتسكيو وراسين، ولما اشتهر أمره ضمه محمد علي إلى طلبة البعثة، وبعد عودته إلى مصر سنة 1831م لخص ما درسه وتعلمه هناك في كتاب وضعه سنة 1834م تحت عنوان (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) تحدث فيه عن حياة الفرنسيين وثوراتهم من أجل الحرية، ونظمهم السياسية المتطورة، كما اقترح على محمد علي إنشاء مدرسة للترجمة، ووافق محمد علي على الاقتراح وتم تنفيذه سنة 1836م، وعُهد إلى رفاعة الطهطاوي بإدارتها، وعُرفت المدرسة في بادئ الأمر باسم مدرسة الترجمة ثم تغير اسمُها إلى مدرسة الألسن أو اللغات. ومن تلك المدرسة انطلقت نهضة مصر الثقافية في القرن التاسع عشر.
تأثر رفاعة الطهطاوي بالأفكار الوطنية الليبرالية للقرن التاسع عشر الأوربي، وألف كثيرًا من الكتب في هذا الخصوص، منها كتابه (مقدمة وطنية مصرية) وهو أول كتاب من نوعه في تمجيد الوطنية المصرية، كما طرح الطهطاوي في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) بعض النظريات السياسية الهامة، ومهَّد الطريق للتخلص من الولاء لسلطان الدولة العثمانية الذي كان في موضع العصمة عند المصريين وسائر أبناء العالم الإسلامي. ورأى الطهطاوي أن الولاء للسلطان العثماني ليس قدرًا على المصريين؛ فلقد استطاع غيرهم من الأمم التخلص من ظلم حكامهم كالشعب الفرنسي مثلًا في ثورته الفرنسية الكبرى. وهكذا أوحى رفاعة الطهطاوي إلى المصريين وإلى محمد علي نفسه بالتخلص من السيادة العثمانية. واستكمل الطهطاوي كل النظريات السياسية والاجتماعية التي ناقشها في (تخليص الإبريز) في كتاب آخر أصدره في سنة 1869م بعنوان (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية 1869م) ويعتبر هذا الكتاب هو أول كتاب ظهر في مصر في الفكر السياسي والاقتصادي المصري نظريًّا وتطبيقيًّا، فهو كتاب في الاقتصاد والسياسة، ويشتمل كذلك على فصول تاريخية دعت الضرورة إلى إدماجها لتوضيح الفلسفة الاجتماعية التي كان رفاعة الطهطاوي يعتنقها ويدعو إليها. ويرى بعضُ الكتاب أنه إذا كان (تخليص الإبريز) في أساسه كتابًا عن الحضارة الفرنسية بقلم مفكر كان يعتقد أن بعث مصر لا طريق إليه إلَّا بالأخذ بأهم مقومات الحضارة الأوربية في زمنه، فإن (مناهج الألباب) في أساسه هو محاولة مصرية لبناء المجتمع المصري على أسس الديموقراطية البورجوازية التي كان رفاعة الطهطاوي يؤمن بها، مع جنوح شديد إلى اليسار الليبرالي. والأفكار التي بشر بها الطهطاوي في هذا الكتاب تنحصر في تثبيت فكرة القومية المصرية وفكرة الدولة العلمانية، وتثبيت مقومات المجتمع البورجوازي سياسيًّا واقتصاديًّا. ومن الأفكار التقدمية التي ردَّدَها الطهطاوي في هذا الكتاب مطالبته بتقويض الأركان السياسية التي يقوم عليها الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي، وبتدخل الدولة لحماية العمال من الملاك أو أصحاب رؤوس الأموال بفرض حد أدنى للأجور باعتبار أن العمل هو الأساس الأول للقيمة في الإنتاج، ثم يليه رأس المال. وكان في كل ذلك يعبر تمامًا عن ثقافة عصره، وعن النزعة الليبرالية الاشتراكية التي كانت تجتاح العالم الأوربي خلال القرن التاسع عشر.
كما أسهم رفاعة الطهطاوي في مسيرة الصحافة المصرية، إذ عهد إليه إبراهيم باشا سنة 1842م برئاسة تحرير أول صحيفة مصرية وهي الوقائع المصرية التي كانت قد صدرت سنة 1828م في عهد محمد علي، فأدخل عليها رفاعة تطويرًا، وجعل اللغة العربية اللغة الأولى لها بدلًا من التركية، كما أدخل كثيرًا من الموضوعات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ضمن موضوعات الصحيفة، وقد ظل على إدارة تحريرها حتى نفيه إلى السودان في حكم سعيد باشا سنة 1849م، وفي أخريات حياته تولى رئاسة تحرير مجلة روضة المدارس التي أنشأها علي باشا مبارك سنة 1870م، وقد جعل لها صبغة اجتماعية هامة، وأدخل في مواد تحريرها كثيرًا من الموضوعات الاجتماعية المتعلقة بالمرأة، وهكذا عبر رفاعة عن مجمل أفكار عصره في الحرية والوطنية والليبرالية والاشتراكية وتحرير المرأة، واستحق بجدارة اللقب الذي أطلقه عليه المؤرخون وهو(مؤسس النهضة الثقافية لمصر القرن التاسع عشر) وكان أول مفكر عربي مسلم من جنوب المتوسط يأخذ بلا حرج عن ثقافة شمال المتوسط الليبرالية التي نشأت عن عصر النهضة الأوربي.
أما المفكر الثاني الذي يمكن أن نتتبع من خلاله مراحل تأثر الثقافة المصرية بثقافة العالم الأوربي في شمال المتوسط فهو علي باشا مبارك (1824-1893م) ومثله مثل رفاعة الطهطاوي، فقد أتم تعليمه العالي في فرنسا في مدرسة أنشأها محمد علي هناك لدراسة الفنون الحربية عُرفت باسم (المدرسة المصرية الحربية بباريس)، وقد اختاره سليمان باشا الفرنساوي فيمن اختارهم للسفر إلى هناك سنة 1844م. وعاد علي مبارك من البعثة سنة 1850م فلم يلحق بحكم محمد علي، ولا بحكم إبراهيم القصير، ولحق بحكم عباس وسعيد وإسماعيل وتوفيق وشغل مناصب هامة، فكان وزيرًا للمعارف والأشغال، وأنشأ دار العلوم ودار الكتب. وكان علي مبارك يؤمن بالتعليم وبأثره في نهضة الشعوب وارتقاء الأمم، وكان يحث عليه، ويعمل على نشره، ويرى أن تحرر المصريين لا يتم بدونه، والتحرر كما كان يراه المصريون حينذاك (هو التحرر من الطغيان التركي وسيطرة الأتراك على أجهزة الحكم). وكان علي مبارك مصريًّا لم ينسَ مصريته، فكتب يقول إن المصريين (أقرب الناس إلى الإصلاح وأسرعها تقدمًا في سبل العلاج إذا وجدوا حاملًا على ذلك). فحبه لمصر هو الذي دفعه إلى نشر التعليم، وحمله على الكتابة والتأليف. ومن أشهر مؤلفاته ( موسوعة الخطط التوفيقية لمصر ومدنها والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة) التي صدرت في عشرين جزءًا فيما بين الأعوام (1877-1889م). والخطط مجموعة من المعلومات والحقائق عن مصر وتاريخها القديم والحديث وجغرافيتها ومدنها وقراها وترعها وبحيراتها وشواطئها وسكانها وعاداتهم وتقاليدهم. وكان كتاب الخطط ولا يزال وسيظل مرجعًا لتراجم الرجال الذين صنعوا تاريخ مصر الحديثة وخاصة أولئك الذين عاشوا وبنوا نهضتها في القرن التاسع عشر. ويعد كتاب الخطط تكملة وتجديدًا لخطط المقريزي، ولكتاب وصف مصر الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية. ومن أهم مؤلفات علي مبارك أيضًا قصة علم الدين التي تعتبر القصة الأولى في تاريخ الأدب المصري الحديث، وهي قصة خيالية في أربعة أجزاء يدور الحديث فيها بين عالم مصري من الأزهر وعالم أوربي من إنجلترا، وتُعتبر بدورها رسالة في حب الوطن، إذ ينسب فيها المؤلف كل الفضائل والعلوم والفنون إلى وطنه مصر.
ويمكن لنا أن نتتبع في شخصية قاسم أمين (1863-1908م) العَلَم الثالث الذي حمل ثقافة التنوير من شمال المتوسط إلى جنوبه. وقد ولد قاسم أمين لأب تركي وأم مصرية، وبعد أن أنهى تعليمه الابتدائي والثانوي، التحق بمدرسة الحقوق والإدارة، وحصل منها على الليسانس سنة 1881م، وعمل بعد تخرجه بالمحاماة لفترة قصيرة، ثم سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا حيث درس القانون بجامعة مونبيليه لمدة أربع سنوات وتخرج فيها سنة 1885م.
وعاد قاسم أمين إلى مصر محملًا بأفكار التنوير الأوربي، وأخذ يكتب في جريدة المؤيد عن أسباب المشاكل الاجتماعية في مصر، وفي سنة 1898م أصدر كتاب (أسباب ونتائج وأخلاق ومواعظ) وتبعه بكتاب (تحرير المرأة) الذي نشره عام 1899م، ودعا فيه إلى تحرير المرأة، وخروجها إلى الحياة ومشاركتها في بناء المجتمع، وقد تَرجم الإنجليز ذلك الكتاب، ونشروه في مستعمراتهم بالهند. وقد تعرض قاسم أمين بسبب آرائه الجريئة إلى هجوم كثير من قادة المجتمع المحافظين مثل الزعيم مصطفى كامل، والاقتصادي المصري محمد طلعت حرب، لكن قاسم أمين لم يتراجع وردَّ على ذلك بإصدار كتاب آخر بعنوان (المرأة الجديدة) عام 1901م الذي أهداه إلى صديقه ونصيره الزعيم سعد زغلول.
لم يكن قاسم أمين مجرد محرر للمرأة، لكنه كان قائدًا من كبار قادة التنوير في مصر، فقد شارك في الحركة الوطنية ودعا إلى إنشاء الجامعة المصرية، وقد كان لمجهوداته صدى كبير في المجتمع المصري مع غيره من أعلام ذلك الزمان. وقد تُوفي قاسم أمين في أبريل عام 1908م، وهو في الخامسة والأربعين من عمره، ولكن بعد أن ترك خلفه تراثًا خالدًا في تاريخ حركة التنوير المصري. والواقع أن ذلك الزمن الخصب قد أنجب كثيرًا من العظماء، ففي نفس الوقت الذي كان فيه قاسم أمين يهز أركان المجتمع المصري المحافظ بأفكاره الجريئة عن تحرير المرأة، كان زميله أحمد لطفي السيد يهز نفس العروش المحافظة بأفكاره الجريئة عن بعث الروح القومية المصرية.
ولد أحمد لطفي السيد سنة 1872م، وتخرج في كلية الحقوق سنة 1894م، وبعد ثلاث سنوات حصل على الدكتوراة، وبرغم أنه لم يتلقَّ تعليمًا أجنبيًّا، فقد تأثر بالأفكار الليبرالية القومية السائدة في أوربا، وانعكس ذلك على فكره الوطني، فكان أول من نادى صراحة بفكرة مصر للمصريين، ودعا إلى التمسك بالقومية المصرية، وفصل مصر- الثقافي - عن العالم العربي والإسلامي؛ وبرغم أنه لم يكن الوحيد الذي دعا إلى مثل هذه الأفكار، حيث ارتبط كل عصرالتنوير المصري بفكرة القومية المصرية، إلَّا أنه كان من أكبر المناصرين والمعبرين عن تلك الفكرة.
ساهم أحمد لطفي السيد في تأسيس حزب الأمة سنة 1907م، ورأس صحيفته المعروفة باسم الجريدة، ومن خلالها قام بالدعوة إلى فكرة مصر للمصريين ومهاجمة الجامعة الإسلامية. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918م إشترك أحمد لطفي السيد مع سعد زغلول وزملائه في تأليف الوفد المصري للمطالبة بالاستقلال، ثم سافر مع الوفد بعد الإفراج عن سعد زغلول لعرض مطالب مصر على مؤتمر السلام في فرساي. كما ساهم أحمد لطفي السيد في إنشاء الجامعة المصرية سنة 1908م وأصبح أول رئيسٍ لها بعد أن أصبحت جامعة حكومية سنة 1928م، وفي عهده قبلت الجامعة سنة 1929م أول مجموعة للفتيات والتي تخرجت سنة 1932م وكان ذلك حدثًا كبيرًا في تاريخ مصر الحديث، كما ساهم في معارك الحرية التي نشأت أثناء رئاسته للجامعة، فقدم استقالته من الجامعة حين تم إقصاء طه حسين عنها سنة 1932م وكذلك سنة 1937م حين اقتحمت الشرطة حرم الجامعة. وظل أحمد لطفي السيد رئيسًا للجامعة حتى استقال منها سنة 1941م، وفي سنة 1946م عُيِّن وزيرًا للخارجية في وزارة إسماعيل صدقي، غير أنه خرج من الوزارة بعد فشل المفاوضات بين مصر وبريطانيا، ولم يشترك في أعمال سياسية أخرى بعد ذلك، وقضى الجزء الباقي من حياته في رئاسة مجمع اللغة العربية حتى وفاته سنة 1963م. وقد كانت حياة وأفكار أحمد لطفي السيد تعبيرًا عن زمن التنوير الذي نشأ وعاش فيه في ظل الانفتاح على المؤثرات الأوربية الوافدة من شمال المتوسط إلى جنوبه التي أخذ منها وتثقف بها حتى دون أن يرحل إليها.
ومن زمن التنوير الذي خرج منه أحمد لطفي السيد، خرجت شخصية سعد زغلول التي مثلت أقوى تجسيد لروح النهضة المصرية التي بدأت مع بدايات القرن التاسع عشر حتى تفجرت وأعلنت عن بعث أمة حديثة مع بدايات القرن العشرين، وبالتحديد مع ثورة 1919م التي قادها سعد زغلول متأثرًا بالروح والأفكار الوطنية الليبرالية التي سادت زمنه نتيجة لانفتاح مصر على العالم الأوربي في شمال المتوسط. وقد ولد سعد زغلول حوالي سنة 1859م وتلقى تعليمه في المدارس الدينية، وفي سنة 1873م التحق بالأزهر، ثم درس القانون، وعمل بالمحاماة، وشارك في العمل الوطني حتى أصبح وكيلًا للجمعية التشريعية، وفي سنة 1918م شكل الوفد المصري الذي قرر السفر إلى فرنسا لعرض مطالب مصر في الاستقلال على مؤتمر السلام المنعقد هناك، مما أدَّى إلى اعتقاله ونفيه إلى مالطة، واشتعال الثورة على أثر ذلك. وبصرف النظر عن الملابسات السياسية للثورة التي قادها، فإن رمزيتها الحضارية تبقى هي الأهم؛ ففي تلك الثورة تعانق الصليب مع الهلال، وخطب القسس في المساجد والشيوخ في الكنائس، وخرجت المرأة المصرية في المظاهرات، وتحررت ورفعت الحجاب بعد ذلك، وأصبح الشعار الذي رفعه سعد زغلول الدين لله والوطن للجميع شعارًا لحركة أمة ثارت من أجل الحرية والانعتاق من أغلال الماضي لأول مرة في تاريخها. والواقع أن التاريخ المصري لم يعرف منذ الملك مينا وحتى اليوم زعيمًا مثل سعد زغلول؛ فقد كان أول زعيم مدني في تاريخ مصرالطويل، فلم يستند في زعامته للمصريين إلى أي قوة عسكرية أو حق وراثي في الحكم، وقد التفَّ حوله الشعب المصري بكل طبقاته وطوائفه وفئاته متطلعًا إلى الحرية وإلى مستقبل أفضل لكل المصريين، وأصبح بيته بيتًا للأمة، وأصبحت زوجته أمًّا لكل المصريين. وتوفي سعد زغلول سنة 1927م بعد أن ترك خلفه تراثًا خالدًا مازال سندًا لنا في سنوات المحنة وفقدان التوازن التي نعيشها الآن، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يدفن في ضريح شُيِّد على الطراز الفرعوني وليس على أي طراز آخر.
لم تنتهِ حركة التحرر والتنوير التي قادها سعد زغلول بوفاته، فقد خلفه تلميذه المخلص مصطفى النحَّاس باشا الذي تمكن من الحفاظ على حركة الدفع نحو الحرية، والانعتاق من أغلال الماضي التي قادها الوفد المصري تحت قيادة سعد زغلول. وفي عهد قيادة مصطفى النحاس للوفد، بدأت الثورة المضادة لحركة التنوير المصري بقيادة جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا سنة 1928م، لكن الوفد ظلَّ مسيطرًا على الشارع المصري، وظلت الروح الليبرالية والوطنية المصرية هي المسيطر الأكبر على حياة المصريين السياسية، كما ظل الانفتاح على الغرب والمؤثرات القادمة من الشمال في تواصل وازدياد تمثل في ظهور شخصية طه حسين على مسرح الحياة الفكرية المصرية.
ولد طه حسين سنة 1889م، وبعد أربعة أعوام من مولده فقد بصره بسبب مرض الرمد، وفي سنة 1902م التحق بالأزهر وتخرج فيه بعد أربع سنوات، وفي سنة 1908م التحق بالجامعة المصرية، وفي سنة 1914م حصل على درجة الدكتوراة في الآداب؛ وقد أثار موضوع الرسالة (ذكرى أبي العلاء) أولى معارك طه حسين الأدبية والفكرية، إذ اتهمه المتزمتون بالزندقة والخروج على مبادئ الإسلام. وفي سنة 1914م أوفدته الجامعة المصرية إلى مونبيليه بفرنسا حيث قضى عامًا في دراسة اللغة الفرنسية والعلوم الإنسانية، ثم عاد إلى مصر وقضى بها ثلاثة أشهر حتى أرسلته الجامعة مرة أخرى إلى باريس حيث تابع دراسته هناك، وحصل سنة 1918م على دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني، وعلى درجة الدكتوراة في الآداب في بحث عن ابن خلدون بعنوان (الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون)، وفي تلك السنة تزوج طه حسين برفيقة دربه الفرنسية سوزان بريسو التي قال عنها (أنه منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم).
عاد طه حسين إلى مصر سنة 1919م، وعُين أستاذًا للتاريخ اليوناني الروماني في الجامعة المصرية الأهلية، ولكن بعدما أصبحت جامعة حكومية عُين طه حسين أستاذًا للأدب العربي فيها، ثم عميدًا لكلية الآداب سنة 1928م لكنه لم يلبث في العمادة سوى يوم واحد فقط، ثم استقال بسبب ضغوط من حزب الوفد آنذاك. وفي سنة 1930م أعيد طه حسين إلى عمادة كلية الآداب، ولكن وبسبب رفضه منح الجامعة الدكتوراة الفخرية لعدد من الشخصيات السياسية أصدر وزير المعارف قرارًا بنقله إلى منصب جديد في وزارة المعارف، فرفض المنصب، مما دفع بالحكومة إلى إحالته إلى التقاعد سنة 1932م. وعلى أثر ذلك عمل طه حسين فترة بالعمل الصحفي ثم عاد إلى الجامعة سنة 1934م بصفة أستاذ للأدب ثم عُين عميدًا لكلية الآداب مرة أخرى سنة 1936م، لكنه اختلف مع حكومة محمد محمود، فاستقال من العمادة وانصرف إلى التدريس في الكلية نفسها حتى سنة 1942م حيث عُين مديرًا لجامعة الإسكندرية وظل في منصبه حتى سنة 1952م. وفي سنة 1959م عاد طه حسين إلى الجامعة بصفة أستاذ غير متفرغ، كما عاد إلى الصحافة فتسلم رئاسة تحرير جريدة الجمهورية لفترة قصيرة، ثم اعتزل العمل العام، وتفرغ للكتابة ولجهوده في مَجمع اللغة العربية، وذلك حتى وفاته سنة 1973م.
كتب طه حسين في معظم الألوان الفكرية والأدبية، وخاض كثيرًا من المعارك الفكرية، كان أهمها الضجة التي أثارها كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي أصدره سنة 1926م، وحاول أن يثبتَ فيه أن الشعر الجاهلي كُتب بعد الإسلام، وليس قبله، كما تعرض فيه لقصة إبراهيم وإسماعيل في القرآن، وحاول نفي قصة هجرتهما إلى مكة وبنائهما الكعبة، مما دفع ببعض علماء الأزهر إلى تكفيره ومقاضاته، إلَّا أن المحكمة أسقطت التهمة لعدم ثبوت القصد الجنائي من موضوع الكتاب، وقد تراجع طه حسين أمام ذلك الهجوم الساحق الذي شنه عليه علماء الأزهر وأصحاب الاتجاهات المحافظة في المجتمع، فعدَّل اسم كتابه إلى (في الأدب الجاهلي) وحذف منه المقاطع التي أثارت الهجوم عليه.
أما كتابه الثاني الذي أثار ضجة كبرى فكان كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) الذي أصدره سنة 1938م وقال فيه (يجب أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يُكره، وما يحمد وما يعاب). وقد جلب عليه ذلك الكتاب أيضًا سخط وحقد المجتمع المحافظ، فصب عليه سيلًا من الاتهامات بالردة والزندقة والمسيحية واليهودية وكل أنواع الاتهامات، لكن كل ذلك لم ينل من قامته المديدة، وقيمته العظيمة، فقد ظل طه حسين نجم عصره بلا منازع، في عجزه، في صبره، في ذكائه، في كفاحه، في نجاحه، في حبه، في تمرده على الماضي، ومعه وصل تاريخ الفكر المصري الحديث إلى نهاية رحلة البحث عن الذات التي بدأها رفاعة الطهطاوي في بدايات القرن التاسع عشر، ووصلت العناصر التي تخلقت منها مصر الحديثة أقصى تفاعل لها (حملة بونابرت وما ترتب عليها من نتائج، وتدفق الأوربيين على مصر، وسفر طلبة البعثات إلى أوربا، وإنشاء قناة السويس، وما ترتب عليه من تعاظم أهمية موقع مصر في النظام الدولي، وإنشاء مجلس شورى النواب، ونشأة الصحافة المصرية، والاستعمار الإنجليزي لمصر، وماترتب عليه من ربط مصر بالعالم الغربي، وسياسات أسرة محمد علي الزراعية التي أدت إلى ظهور طبقة الإقطاع المصرية، وإنشاء الجامعة المصرية، وثورة 1919م وبعث الروح القومية المصرية الحديثة، ودستور 1923م وأول تجربة نيابية في تاريخ مصر حتى إنشاء بنك مصر وتحول طبقة الإقطاع المصرية إلى الاستثمار الرأسمالي) ولم يعد يبقى سوى أن يتقدم الجيل الثالث من قادة الوفد بإزاحة ملكية أسرة محمد علي وتصفية نظام الإقطاع كي تظهر مصر إلى الوجود أمة قومية ديموقراطية بورجوازية لتبدأ رحلة المدنية والتقدم مع شقيقاتها الأوربيات في شمال المتوسط، لكن قوى الثورة المضادة كانت تعمل بقوة، فقد تأسست جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928م، وأخذت تبحر بالمجتمع المصري عائدة به إلى الماضي، وفي سنة 1948م وبعد حرب فلسطين مباشرة، تشكلت جماعة الضباط الأحرار، ونجحت بالفعل في القيام بانقلابٍ عسكري في يوليو سنة 1952م، استولت به على السلطة في مصر، وطردت الملك فاروق آخر حكام أسرة محمد علي، وأخذت مصر إلى عالم جديد ورحلة جديدة في التاريخ اختلفت تمامًا عن رحلتها في عصر أسرة محمد علي.
ومنذ البداية، كان واضحًا أن جمال عبد الناصر قائد الانقلاب قد أخطأ في رؤيته لتاريخ ومستقبل مصر؛ فقد حدد في كتابه فلسفة الثورة الذي نُشر سنة 1954م ثلاث دوائر رئيسية فقط يمكن أن تلعب مصر من خلالها دورها في التاريخ، وهي الدائرة العربية، والدائرة الإفريقية، والدائرة الإسلامية، ناسيًا أو متناسيًا الدائرة المتوسطية الهامة. وبناء على ذلك التصور المغلوط للتاريخ والجغرافيا، سار جمال عبد الناصر في الطريق الذي أدى إلى تراجع مصر الحضاري بعد أن كانت على وشك أن تصبح إحدى دول العالم النامية فعلًا. وقد ساعدت الظروف الإقليمية والدولية جمال عبد الناصر على أن يمضي في طريقه إلى النهاية، ففي الشرق الأوسط قامت دولة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني سنة 1948م، مما سبب استقطابًا قويًّا لمشاعر شعوب المنطقة العربية القومية والدينية التي سهلت من جعل جمال عبد الناصر بطلًا للقومية العربية، وصلاح الدين الجديد محرر فلسطين من الغرب الصليبي، كما ساعدت ظروف الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوڤييتي على أن يحتمي جمال عبد الناصر والنظام البوليسي الذي خلقه خلف المعسكر السوڤييتي.
وفي سعيه المحموم للانفراد بحكم مصر والسيطرة على العالم العربي، دمر جمال عبد الناصر عن غير وعي الدعائمَ الأساسية التي قام عليها بناءُ مصر الحديثة، وهي الديموقراطية والرأسمالية وبعث الروح القومية المصرية والانفتاح على ثقافة شمال المتوسط، فكما حددت حرب السويس علوَّ نجم ناصر وتيار الناصرية في العالم العربي، فقد بدأ معها أيضًا تأميم الممتلكات الأجنبية، ورحيل الأجانب عن مصر، وبدأت مصر – عن غير وعي – تخسر القوى الرأسمالية والبشرية الثمينة التي كانت قد تراكمت على أرضها أثناء العصر السابق.
وفي نفس الوقت الذي بدأ فيه تصفية القدرات البشرية والرأسمالية المصرية، كان جمال عبد الناصر قد بدأ تصفية الديموقراطية والقومية المصرية أيضًا، فقبل شهرٍ واحدٍ فقط من إعلان تأميم قناة السويس،كان قد أعلن دستورًا جمهوريًّا جديدًا أعلن فيه الإسلام عقيدة للدولة، ومصر كجزء من الأمة العربية، واستُبدلت فيه بالأحزاب السياسية هيئة سياسية واحدة هي الاتحاد القومي. وهكذا وضع الأسس النظرية لاستيلائه على مصر، ولتدخله المقبل في العالم العربي.
مهدت الظروف المحيطة بسوريا أن تكون هي أول أهداف جمال عبد الناصر في السيطرة على العالم العربي؛ فقد كان لصعود تيار حزب البعث العربي في السياسة السورية بالإضافة إلى الأخطار التي أحاطت بها من إمكانية تدخل غربي عبر تركيا او إيران، أن دفعت البعثيين باتجاه الوحدة مع مصر. وفي فبراير 1958م أُعلن عن قيام الوحدة بين مصر وسوريا في كيان جديد يرأسه جمال عبد الناصر باسم الجمهورية العربية المتحدة. وفي نفس السنة انضم الإمام أحمد إمام اليمن إلى الدولة الجديدة وفي يوليو 1958م سقط نظام نوري السعيد المُوالي للغرب في العراق بانقلاب قادَهُ الجنرال الشيوعي عبد الكريم قاسم والعقيد العروبي عبد السلام عارف، وفي العام التالي سقط كميل شمعون عن الحكم في لبنان، وصعد اللواء فؤاد شهاب قائد الجيش مكانه، وسرعان ما انهار الاتحاد الأردني السعودي الذي كان قد تشكل في مواجهة الوحدة المصرية السورية، وبدا كأن جمال عبد الناصر والناصرية قد بدآ فعلًا يكتسحان العالم العربي. لكن ذلك لم يكن حقيقيًّا؛ لأن ما أثاره جمال عبد الناصر في العالم العربي لم يكن أكثر من حماس هستيري ليس له أي ارتباط حقيقي بمعطيات الواقع. فمصر الدولة القومية الزراعية ضاربة الجذور في التاريخ لم يكن من الممكن لها أن تقود عالمًا يتكون معظمُه من شعوب صحراوية، ذات ثقافة قبلية تختلف تمامًا عن الثقافة المصرية، كما أن الوحدة العربية التي اعتبرها أنصار القومية العربية الشرط الأساسي لقيام النهضة العربية، كانت طرحًا كاذبًا؛ لأن الشرط الأساسي لقيام أي نهضة حقيقية هو الديموقراطية وليس الوحدة فقط، وكانت مصر عبد الناصر هي التي ضربت التجربة الديموقراطية في القلب، ولذا لم يكن من الممكن لها أن تقودَ أي مشروع نهضة في العالم العربي، بعد أن قتلت بنفسها الشرط الأساسي له، وهو الديموقراطية.
وبالفعل، سرعان ما انهار كل ذلك البناء الكرتوني الوهمي، فلم يكن من الممكن لجمال عبد الناصر- وبحكم طبيعة شخصيته القوية ذات الفكر الشمولي- أن يسمح لحزب البعث السوري شريكه في تجربة الوحدة بأي نصيب حقيقي في السلطة، وهكذا احتفظ بمعظم السلطات التنفيذية والتشريعية في يديه، كما لم تكن الاشتراكية المصرية التي حاول فرضها على سوريا مناسبة للبورجوازية السورية التي رأت فيها إضرارًا بمصالحها، كذلك لم يكن كثيرٌ من الضباط المصريين الذين أوفدهم لحكم سوريا على قدر تلك المسؤولية، ولذا فقد بدأ تبرم السوريين من الوحدة خاصة بين رجال الجيش، وهكذا وفي سبتمبر 1961م تمردت جماعة من ضباط الجيش السوري، وقبضت على المشير عبد الحكيم عامر، وشحنوه في طائرة إلى القاهرة، وأعلنوا انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة. ومرة أخرى لم يكن جمال عبد الناصر موفقًا في إدراك الأسباب الحقيقية وراء فشل تجربة الوحدة مع سوريا، وهي غياب الديموقراطية بشكل أساسي، بل إنه عزاها إلى أسباب عكسية تمامًا، فقد رأي فيها ثورة رجعية مضادة لثورته الاشتراكية العربية حيث كان قد أصدر قبل ثلاثة أشهر من انفصال سوريا سلسلة من القوانين بتأميم شركات تصدير القطن والبنوك وشركات التأمين ومائتين وخمسة وسبعين شركة صناعية وتجارية رئيسية، بالإضافة إلى تخفيض جديد في ملكية الأرض من مائتين بعد الثورة مباشرة إلى مائة فدان فقط، فرد على الانفصال بتقويض مزيد من القوة الرأسمالية والبشرية للمجتمع المصري، وقام بمصادرة ممتلكات أكثر من ألف عائلة من العائلات المصرية الثرية، ومضى إلى أقصى الحدود في التنظير لكل حركته الاشتراكية العربية في الميثاق الوطني الذي أصدره في العام التالي، وأنكر فيه الديموقراطية، وأقام تنظيمًا سياسيًّا واحدًا بديلًا عُرف باسم الاتحاد الاشتراكي العربي، وأنكر الوطنية المصرية، ونظر لعروبتها، كما قام بتأميم كل القوة الرأسمالية للمجتمع المصري، وأنشأ قطاع أعمال تسيطر عليه الدولة، وبذلك فصل مصر عن الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ووضع بين مصر وبين العالم الغربي المتقدم ستارًا كثيفًا من الرهاب الاستعماري، ولم يتعظ من فشل تجربة الوحدة مع سوريا، ومضى في سياسة التدخل في العالم العربي عبر مشروعات الوحدة الفاشلة أحيانًا، وعبر تبني القضية الفلسطينية أحيانًا أخرى، واستمر على هذا النحو حتى أفاق على قصف الطائرات الإسرائيلية للمطارات المصرية في يونيو 1967م. ومات جمال عبد الناصر بعد ثلاث سنوات فقط من هزيمة 1967م، وانتهت تجربته في التاريخ المصري بالفشل الذريع.
لم يكن جمال عبد الناصر أتاتورك تركيا، فبينما نجح أتاتورك في إدراك مجرى التاريخ، وهجر الخلافة الإسلامية، وتوجه ببلاده إلى الغرب وإلى البحر المتوسط، فقد فعل جمال عبد الناصر العكس، إذ عجز عن إدراك المجرى العام لتاريخ الحضارة الإنسانية، فقد كان ابن عصره، ولذا فقد وقع أسيرًا لأوهام ذلك العصر في الاشتراكية والعروبة، ولم يرَ في الغرب سوى استعماريته، فهجره وعاد ببلاده إلى محيطها العربي والإسلامي القديم، فجردها بذلك من قوتها الصاعدة، وضرب قواعد نهضتها التي تأسست في عصر أسرة محمد علي.
خلف أنور السادات جمال عبد الناصر في حكم مصر(1971-1981م)، وفي عهده تغيرت سياسة مصر الخارجية والداخلية تغيرًا جذريًّا، فقد تخلي أنور السادات عن زعم قيادة مصر للعرب، وبدأ يسلك طريقًا منفردًا في سبيل استعادة الأرض التي فقدتها مصر في حرب سنة 1967م، كما تبنى خيار الأسس العامة للنظام الليبرالي في نمط التنمية الذي يعتمد على دور القطاع الخاص، وكذلك كأسلوب للحكم الذي يعني تعدد الأحزاب السياسية في شكل منابر سياسية لا قوة لها في الواقع، لكن ذلك كان يعني تقليص ارتباط مصر بدول المعسكر السوڤييتي، والعودة إلى المعسكر الغربي مرة أخرى كما كان الحال قبل ثورة يوليو 1952م. لكن ارتباط مصر بالدول الغربية لم يسفر عن إقامة علاقات متوازنة معها، فقد اهتمت القيادة المصرية بتوثيق علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص بسبب مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي، وبسبب قناعة أنور السادات بأن الولايات المتحدة تملك معظم أوراق الضغط على إسرائيل كما أثبتت ظروف حرب أكتوبر1973م، والدور الذي لعبته الولايات المتحدة في اتفاقيتي فك الاشتباك الأول والثاني بين قوات مصر وإسرائيل سنة 1974م وسنة 1975م وفي توقيع اتفاقيات كامب ديفيد بعد ذلك سنة 1978م.
وقد أدى ذلك إلى ارتباط مصر في عهد السادات سياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا باستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، حيث أصبحت الولايات المتحدة أكبر مصدر للمساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر. لكن ذلك الارتباط لم يكن يعني الإغفال التام لدور الجماعة الأوربية والدول المتوسطية في مساندة مصر سياسيًّا واقتصاديًّا، لكن هذا الدور ظل في إدراك أنور السادات هامشيًّا للغاية، وبذلك فإن الدائرة المتوسطية لم تحتل مكانًا مهمًّا في سياسة مصر الخارجية في عهد أنور السادات تمامًا كما كان الوضع في عهد جمال عبد الناصر، مع فارق أن علاقات مصر مع الدول الغربية في عهد جمال عبد الناصر قد اتسمت بالتوتر بشكل عام، بينما اتسمت تلك العلاقات في عهد أنور السادات بالمودة بشكل عام، وذلك رغم تفضيله للتعاون مع الولايات المتحدة وحدها على حساب الدول الأوربية المتوسطية، وهذا التوجه الأخير- أي إلى الولايات لمتحدة وحدها - هو الذي يميز حقبة أنور السادات عن توجهات السياسة الخارجية المصرية قبل ثورة 1952م، وذلك بالرغم من تبني نمط الاقتصاد الليبرالي في كلتا الحقبتين.
لكن عهد حسني مبارك (1981-2011م) شهد تغييرًا جذريًّا في توجهات مصر المتوسطية، ولا يمكن الادعاء أن ذلك التغيير قد أسفر عن نتائج إيجابية في نهاية الأمر، ولكن المهم هنا هو إدراك القيادة المصرية لأهمية العلاقات المصرية المتوسطية التي ساعدت كثير من الظروف الإقليمية والدولية على إبراز أهميتها، ومن هذا المنطلق رحبت مصر بفكرة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران الداعية إلى إنشاء منتدى المتوسط (1988-1989)، كما رحبت بدعوته إلى إحياء الحوار العربي الأوربي بهدف تدعيم العلاقات على مختلف الأصعدة بين الطرفين (1989م)، وكذلك أيدت مصر اقتراح إيطاليا وإسبانيا سنة 1989م بتأسيس مؤتمر للأمن والتعاون في البحر المتوسط على غرار مؤتمر الأمن والتعاون الأوربي (هلسنكي 1975م).
وبعد حرب تحرير الكويت أخذت مصر زمام المبادرة في إحياء فكرة الرئيس فرانسوا ميتران الداعية إلى إنشاء منتدى المتوسط، وقد جاء التعبير الرسمي عن الرؤية المصرية للتعاون في حوض البحر المتوسط في الخطاب الذي ألقاه الرئيس المصري في البرلمان الأوربي في 20 نوڤمبر 1991م حين دعا إلى إنشاء منتدى للدول المشاطئة للبحر المتوسط من أجل وضع أسس للتعاون بين بلدان المنطقة وصنع مستقبل مشترك بينها يسهم في توسيع نطاق التفاهم، وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة وتقدمها الاقتصادي والاجتماعي. وقد عكست دعوة مصر إلى إنشاء منتدى المتوسط التحديات التي واجهت مصر من جراء أزمة الخليج الثانية، وتداعيات حرب تحرير الكويت، حيث عكست تلك الأزمة مدى وَهم النظام الإقليمي العربي؛ لأنه بالرغم من اشتراك مصر بفعالية في حرب تحرير الكويت، فقد تم حرمانها من جني ثمار تلك المشاركة. فعلى الصعيد الأمني تم استبعاد أي دور لها في ضمان أمن الخليج في المستقبل، حيث إن تلك الضمانة أصبحت منوطة بالولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد، وعلى الصعيد الاقتصادي، وبالرغم من إسقاط الدول الخليجية لديون مصر لديها، فقد تقلصت القروض والاستثمارات الخليجية في مصر بصفة عامة، كما حرمت مصر من المشاركة في عملية إعادة إعمار الكويت مقارنة بمشاركة الشركات الغربية (وبخاصة الشركات الأمريكية والبريطانية) في تلك العملية، وما هو أهم من ذلك هو أن الدول الخليجية بدأت تعيد النظر – لاعتبارات أمنية واقتصادية – في التركيبة النوعية للعمالة الوافدة إليها لصالح العمالة الآسيوية على حساب العمالة العربية ومنها العمالة المصرية بالطبع. وعلى ذلك فقد كان من بين أهداف توجه مصر إلى الدائرة المتوسطية ودعوتها إلى دعم التعاون مع دول الجماعة الأوربية، هو الاستعاضة جزئيًّا عن تراجع الإسهامات المباشرة وغير المباشرة لدول الخليج النفطية في عملية التنمية الاقتصادية في مصر بدور أوربي أكثر فاعلية في هذا الميدان بما فيه إفساح المجال أمام العمالة المصرية للعمل في دول أوربا الغربية.
وقد توجت الدعوة المصرية إلى منتدى المتوسط بعقد أول اجتماع وزاري لعشر دول متوسطية (عرفـت بمجموعة النواة بمعنى أن الباب ظل مفتوحًا لانضمام المزيد من الدول المتوسطية مستقبلًا) في الإسكندرية في يوليو 1994م أي بعد حوالي أربع سنوات من طرح المبادرة. وفي هذا الاجتماع تم تكوين ثلاث لجان فنية على مستوى الخبراء لبحث الجوانب العملية للتعاون والخروج بتوصيات، وهي اللجنة الثقافية واللجنة السياسية واللجنة الاقتصادية والاجتماعية، وقد عقدت هذه اللجان اجتماعات في أكتوبر 1994م في مدريد وروما والقاهرة على التوالي، وعرضت توصياتها على لجنة كبار المسؤولين التي اجتمعت في البرتغال في ديسمبر 1994م، ومثلت هذه التوصيات أساس المشاورات في الاجتماع التالي لوزراء خارجية دول المنتدى الذي عقد في سان مكسيم بفرنسا في أبريل 1995م.
ولكن ديناميكية التحرك لإقامة منتدى البحر المتوسط فقدت كثيرًا من فاعليتها، حيث تحول الاهتمام إلى الاجتماع الذي عقد في برشلونة في نوڤمبر 1995م والذي دعت إليه دول الاتحاد الأوربي بهدف العمل على إقامة مشاركة أوربية متوسطية. ومنذ ذلك التاريخ، وبالرغم من أن منتدى المتوسط ظل قائمًا جنبًا إلى جنب مع المشاركة الأوربية المتوسطية (وثيقة برشلونة)، يمكن القول بأن مصر قد قبلت بالانتقال من صيغة المنتدى التي اقترحتها منذ عام 1991م إلى صيغة المشاركة كما وردت في وثيقة برشلونة. والواقع أن هذا التحول من صيغة إلى أخرى قد أملته مقتضيات السياسة العملية، فقد كانت صيغة المنتدى من قبيل التصور العام للتعاون، ولا ترقى إلى مستوى الاستراتيجية المحددة، كما كانت آلية التعاون في إطار المنتدى هي الحوار والتشاور ولا تؤدي بالضرورة إلى إبرام اتفاقات قانونية ملزمة حول السياسات المشتركة التي ينبغي تبنيها. أما صيغة المشاركة الأوربية المتوسطية (وثيقة برشلونة) فكانت برنامج عمل متكامل يتضمن عناصر كثيرة ومتباينة من حيث أهميتها النسبية، ولكنه يهدف في نهاية المطاف إلى إبرام اتفاقات تعاون ملزمة للأطراف المتعاقدة.
ومع ذلك فلم يقدر لمسار برشلونة أن يستمر طويلًا بدوره، وذلك بسبب غياب الظروف الموضوعية لتحقيق الأهداف بل والأماني المرجوة من هذه النسخة الثانية من نسخ الشراكة الأورومتوسطية، فقد تقلصت فرص حلحلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي بدت ممكنة مع اتفاقيات أوسلو سنة 1993م، مما مهَّد الأرضية لتصاعد موجات العنف والتطرف الديني لدى شعوب جنوب المتوسط والتي وصلت ذروتها في أحداث سبتمبر 2001م، كذلك فقد كان لسقوط حائط برلين، وانضمام كثير من دول أوربا الشرقية إلى الاتحاد الأوربي سنة 2004م دورٌ كبيرٌ في نقل الاهتمام الأوربي من جنوب أوربا إلى شرقها لتأمين الاستقرار والتنمية في تلك الجبهة الأقرب أولًا، كما كان لتأخر حدوث أي إصلاحات ديموقراطية حقيقية في دول جنوب المتوسط واختلاف منظومة القيم اختلافًا كبيرًا بين الشمال والجنوب أثره في تعثر إقامة شراكة أورومتوسطية حقيقية.
ومع ذلك فقد ظل الجنوب حيويًّا وهامًّا للشمال، كما ظل الشمال حيويًّا وهامًّا للجنوب؛ بسبب استمرار نفس الأخطار المهددة لكلا الجانبين، الفقر والانفجار السكاني والهجرة غير الشرعية والتطرف الديني الآتي من الجنوب والمهدِّد للشمال، وأيضًا استمرار نفس المصالح المشتركة، مناطق التجارة الحرة، والاستثمارات المشتركة، والأمن المشترك، ولذا فقد كان لا بد من ظهور نسخة ثالثة أكثر وضوحًا وتفصيلًا وطموحًا من نسختي الشراكة الأورومتوسطية السابقتين، وكانت فرنسا ورئيسها ساركوزي هي الرائد مرة أخرى؛ فبمجرد اعتلاء ساركوزي لكرسي الحكم في فرنسا، أعلن عن رغبته في إقامة اتحاد متوسطي تتحقق فيه الشراكة الكاملة على كافة الأصعدة بين دول شمال وجنوب المتوسط، ومن أجل تجنب التناقض بين أهداف ذلك الاتحاد الجديد، وأهداف الاتحاد الأوربي، قررت كل دول الاتحاد الأوربي الانضمام إلى مشروع اتحاد المتوسط المزمع إقامته، وبدا كأن العالم يشهد إحياءً لعصر السلام الروماني من جديد، ولكن ذلك الحلم قد ولد ميتًا بدوره؛ وذلك بسبب استمرار ظروف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، واستمرار حالة ارتياب مواطن جنوب المتوسط من دول الشمال الاستعمارية المؤيدة لإسرائيل، واستمرار اتخاذ بعض أنظمة الحكم في جنوب المتوسط من ذلك الصراع ذريعة للسيطرة على شعوبها وإبعادها عن التفاعل مع أي نظام إقليمي قد يفرض عليها إحداث بعض الإصلاحات الديموقراطية. ولذا لم يستطع الاتحاد سوى الإعلان عن وجوده في مؤتمر باريس في يوليو 2008م في جلسة وحيدة شهدها رؤساء 42 دولة من دول المتوسط والاتحاد الأوربي برئاسة فرنسا ومصر، جلسة لم تتكرر بعد ذلك قَط.
ومع ذلك تبقى حقيقة أن تكامل هذه المنطقة الهامة من العالم هو أمر حيوي لا يمكن التغاضي عنه أو تجاهله لفترات طويلة أخرى؛ فقد كانت هذه المنطقة هي مهد الحضارة الإنسانية، ومنها انطلق النور إلى العالم في الماضي والحاضر، ومن المُرجَّح أن يستمر ذلك في المستقبل، ولذا لا شك في أن التكامل والتعاون بين دولها هو أمر حيوي، ليس لسلام وتقدم شعوب المنطقة فقط بل ولسلام العالم بشكل عام.
ويمكن تحديد مجالات التعاون بين الدول المتوسطية في محاور رئيسية ثلاثة، وهي المحور الأمني والسياسي، ثم المحور الاقتصادي والاجتماعي، ثم المحور الثقافي. وعلى المحور الأمني والسياسي، نجد أن المنطقة تشهد مصادر تهديد تقليدية تتمثل في النزاعات السياسية، وما يترتب عليها من سباق تسلح وانتشار لأسلحة الدمار الشامل، وأكبر الأمثلة هي قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي يُعتبر – في الواقع – إحدى القضايا المتوسطية الرئيسية، وذلك برغم احتكار الولايات المتحدة لعملية إدارته بالكامل تقريبًا، وأيضًا هناك مشاكل أخرى أقل تفجرًا مثل المشكلة القبرصية، ومشكلة الصحراء الغربية. لكن الواقع أن الأخطار غير التقليدية هي التي تشكل مصدر التهديد الأكبر لأمن وسلامة البحر المتوسط، وهي بالتالي التي تتطلب القدر الأكبر من التعاون والتنسيق بين حكومات وشعوب هذه المنطقة، وتتمثل هذه الأخطار في ارتفاع موجات الهجرة غير الشرعية من جنوب وشرق المتوسط إلى شماله بسبب ظروف الفقر والتخلف الاقتصادي والسياسي في تلك المناطق، وكذلك - وهذا هو الأهم والأخطر - ارتفاع موجات مد الأصولية الإسلامية، وحركات العنف السياسي القادمة من الجنوب إلى الشمال، مما يمثل خطرًا ليس على أمن وسلام الدول الأوربية فقط ولكن على مستقبل دول المنطقة كلها. والواقع أن مواجهة مثل هذه التهديدات الخطيرة لا يمكن القيام بها بشكل فردي أو حتى شبه جماعي، بل يجب تضافر جهود كل الدول المتوسطية في مواجهتها بالطرق السلمية والعسكرية على السواء، وذلك عن طريق تشجيع الديموقراطية، وتنشيط عملية التنمية الاقتصادية في دول جنوب وشرق المتوسط بمساعدة دول الشمال، وكذلك من خلال إنشاء قوات ردع مشتركة للرد على أي تهديدات إرهابية محتملة في المستقبل.
وبطبيعة الحال يعتبر المحور الاقتصادي الاجتماعي هو أهم محاور التكامل والتعاون بين دول المتوسط، ويرتبط الاقتصاد المصري بدول الاتحاد الأوربي بعلاقات متعددة ومتشابكة على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي في شكل اتفاقات بين الحكومة المصرية والأجهزة المسؤولة عن إدارة الاتحاد الأوربي، إضافة إلى العلاقات الثنائية بين مصر والدول الأعضاء في الاتحاد منفردة، وممثلًا أيضًا في نشاط شركات وأفراد من الجانبين في مجالات عديدة وتتضح أهمية تلك الارتباطات في العديد من المؤشرات الاقتصادية، نخص بالذكر منها في هذا المقام مؤشر التبادل التجاري، ومؤشر الاستثمار في مجال الإنتاج ومردوداته التقنية في تحديث وتنمية الاقتصاد المصري.
وبالنسبة لتحرير التجارة وإنشاء منطقة تجارة حرة بين دول المتوسط - ومنها مصر بالطبع- فإن ذلك سيؤدي على المدى البعيد – وبالضرورة – إلى إنشاء منطقة ازدهار مشترك، وذلك رغم عدم التوازن في الميزان التجاري بين دول الشمال ودول الجنوب، إذ من شأن ذلك أن يزيد القدرات التنافسية للاقتصاد المصري، حيث لا يوجد أمامه بديل عن السوق الأوربية المتوسطية التي تستحوذ على أكثر من 50% من إنتاجه التجاري تصديرًا واستيرادًا، بينما مازال حجم نشاطه مع الأسواق الأخرى الآسيوية والعربية محدودًا للغاية. أما بالنسبة للاستثمار في مجال الإنتاج وأثره في تنمية وتحديث الاقتصاد المصري فإنه يحتل أهمية خاصة، نظرًا إلى الضعف الملحوظ في قيمة الاستثمار المحلي بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، وكذلك إلى التقدم التقني الذي يجلبه الاستثمار الأجنبي معه مما يدفع المشروعات الوطنية إلى الاهتمام بتحديث تقنية وإدارة مشروعاتها كي تظل قادرة على المنافسة والبقاء في السوق. وبسبب ضعف نصيب المنطقة العربية بشكل عام من نسبة الاستثمارات العالمية – باستثناء قطاع النفط - إذ لا تتعدى 1-2% من حجم الاستثمار العالمي، فإن اتفاقية تعاون وتكامل سياسي بين دول المتوسط من شأنها أن تزيد من هذه النسبة، وهو أمر هام وحيوي للغاية بالنسبة لتطوير وتحديث الاقتصاد المصري، إذ لا توجد شعوب مجاورة متقدمة ذات تجارب وخبرات مشتركة مع دول العالم العربي (ومنها مصر) سوى الشعوب الأوربية التي يمكن لها أن تعود للعمل والاستثمار والاستقرار في جنوب المتوسط مرة أخرى كما كانت أثناء الحقبة الاستعمارية - مع اختلاف الظروف بالطبع – كما حدث مع تركيا وإسرائيل اللتين حققتا كثيرًا من نهضتهما الاقتصادية اعتمادًا على الاستثمارات الأجنبية، حتى أصبحتا بدورهما من أكبر مصادر رأس المال والتكنولوجيا الصناعية المتقدمة.
ومن ناحية أخرى تعتبر دول شمال المتوسط من أكبر مصادر تقديم المعونات المالية والتقنية لمصر بعد الولايات المتحدة الأمريكية والدول النفطية العربية، ومع ذلك فإن المعونات الأمريكية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بموقف مصر من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومن المقرر تخفيضها على المدى البعيد، كما ترتبط المعونات العربية أيضًا بشراء مواقف مصر السياسية وبتقلب أسعار النفط، ولذا لا يمكن الاعتماد على هذين المصدرين كمصدر دائم للمعونات المالية والتقنية، بينما يختلف الحال مع الدول الأوربية المتوسطية التي تربطها بدول جنوب وشرق المتوسط بشكل عام – وبمصر بشكل خاص – مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية ثابتة وحقيقية من شأنها أن تزيد بمرور الزمن لا أن تقل. وهكذا يمكن القول إجمالًا بأن العلاقات الاقتصادية بين مصر ودول الاتحاد الأوربي تحتل مكانة شديدة الأهمية بالنسبة لمصر، حيث إنَّ أوربا تحتل مكان الشريك الأول في التجارة والسياحة، والمركز الثاني في مجال الاستثمار (بعد الدول العربية مجتمعة)، والمركز الثالث فيما يتعلق بتقديم المعونات المالية (بعد الولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية النفطية).
أما المحور الثقافي فهو لا يقل أهمية عن المحورين السابقين إذا لم يكن يزيد عنهما أهمية، إذ من الطبيعي أن يترتب على التعاون بين مصر ودول المتوسط الشمالية المتقدمة ثقافيًّا عن الجنوب تنمية روح قبول الآخر والتعايش السلمي المفتقدة بشدة لدى الإنسان المصري اليوم، هذا بالإضافة إلى التعرف على إيجابيات ثقافة الشعوب الأوربية المتقدمة في الحرية والعدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان. وبرغم أن الزمن يبدو أنه قد تجاوز فكرة إحياء وتأصيل ثقافة متوسطية مشتركة التي تبناها كثير من كتاب ومفكري القرن العشرين مثل الفرنسيَّين بول بالتا وإدجار بيزاني، والمصريِّين طه حسين، وحسين مؤنس، وسلامة موسى، وتوفيق الحكيم وغيرهم، إلى ثقافة إنسانية واحدة تشمل كل العالم؛ فمع ذلك فإن التعاون الثقافي المتوسطي لن يقف بطبيعة الحال عقبة في سبيل تحقيق هذه الأمنية الإنسانية الكبرى، أي توحيد الثقافة الإنسانية؛ فالتدرب على التسامح وقبول الآخر الذي من شأنه أن تأتي به الشراكة المتوسطية سوف يكون عاملًا محفزًا للإنسان المصري في سبيل الوصول إلى حلم الثقافة الإنسانية الواحدة في نهاية الأمر وليس العكس.
ولكل هذا نرى ضرورة – بل حتمية - إنشاء كيان سياسي متوسطي يجمع كل الدول المشاطئة للبحر المتوسط من أجل سلام وتقدم هذه المنطقة من العالم، ولا يعني هذا أننا نود أن نلغي دوائر مصر الحيوية الأخرى - الدائرة العربية والدائرة الإفريقية – بل إننا نريد فقط أن تنفتح مصر- وفي نفس الوقت - على كل دوائرها الجغرافية السياسية، وأن تُحدث التوازن في عَلاقتها مع تلك الدوائر الحضارية الأساسية من أجل أن تلحق بركب الحضارة والتقدم، وأن تساهم مساهمة فعالة في صنع الحضارة الإنسانية – كما كانت في العصور القديمة - وذلك بحكم موقعها الفريد الذي وهبها إياه الله، والذي سلبه منها غرامُها المجنون بالعروبة. فإذا كانت مصر مقبلة على عصر جديد بعد ثورة يناير 2011م بالفعل فيجب عليها أن تفتح ذراعيها على العالم، وأن تنظر حولها، وأن تعيد تقييم سياساتها الداخلية والخارجية من أجل تحقيق مستقبل أفضل لأبنائها، ومن أجل أن تصبح ثورة يناير ثورة حقيقية ذات مشروع حضاري جديد وليس مجرد تكرار لسيناريوهات الماضي الفاشل.

أهم المراجع:
1. تاريخ مصر القديمة تأليف نيقولا جريمال ترجمة ماهر جويجاتي
دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع – القاهرة
2. مصر وعالم البحر المتوسط / إعداد وتقديم دكتور رؤوف عباس
دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع - القاهرة
3. اليونان – مقدمة في التاريخ الحضاري – د. لطفي عبد الوهاب
دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية
4. مصر من الإسكندر الأكبر حتى الفتح العربي/ دكتور مصطفى العبادي
دار النهضة العربية - بيروت
5. تاريخ مصر في عصري البطالمة والرومان/ دكتور أبو اليسر فرج
عين للدراسات والبحوث الإنسانية
6. تاريخ المغرب والأندلس/ دكتور السيد عبد العزيز سالم
دار النهضة العربية - بيروت
7. مصر في العصور الوسطى/ دكتور محمود محمد الحويرى
عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية
8. تاريخ الحروب الصليبية/ دكتور محمود سعيد عمران
دار النهضة العربية - بيروت
9. موسوعة الخطط/ المقريزي
دار الكتب العلمية - بيروت
10. موسوعة النجوم الزاهرة/ أبو المحاسن بن تغري بردي
دار الكتب العلمية - بيروت
11. بونابرت في مصر – تأليف هارولد كريستوفر
ترجمة / فؤاد أندراوس
الهيئة المصرية العامة للكتاب
12. تاريخ الفكر المصري الحديث/ لويس عوض
مكتبة مدبولي
13. تاريخ مصر الحديث والمعاصر/ دكتور عمرعبد العزيز
دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية
14. الأجانب في مصر/ دكتور محمود محمد سليمان
عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية
15. تاريخ الشرق الأوسط/ بيتر مانسفيلد
ترجمة/ عبد الجواد سيد عبد الجواد
منشأة المعارف/ الإسكندرية
16. مصر والدائرة المتوسطية/ دكتور بطرس سمعان.
دار الشروق
17. The Early Coptic Papacy. By Stephen Jones. The American University in Cairo Press.
18. The Midle East, a brief history of the last 2000 years.By Bernard Lewis
Published by. Simon and Schuster Inc. New York. U.S.A
[email protected]









ترجماتٌ للمؤلف
1- تاريخ الشرق الأوسط – تأليف بيتر مانسفيلد.
2- أساطير شرق أوسطية - تأليف صموئيل هنري هوك.
3- مصر المسيحية – تأليف إدوارد هاردي.

توزيع: منشأة المعارف/ الإسكندرية
هاتف رقم 4873303 – 4853055








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس كولومبيا يعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ويعتب


.. -أفريكا إنتليجنس-: صفقة مرتقبة تحصل بموجبها إيران على اليورا




.. ما التكتيكات التي تستخدمها فصائل المقاومة عند استهداف مواقع


.. بمناسبة عيد العمال.. مظاهرات في باريس تندد بما وصفوها حرب ال




.. الدكتور المصري حسام موافي يثير الجدل بقبلة على يد محمد أبو ا