الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أَمَّا أَنَا، فَالْأَتَانُ أَفْضَلُ مِنِّي

عبد الله خطوري

2023 / 11 / 22
الادب والفن


رُحْنَا نَخُبُّهَا أنا وعمتي خُطوات في الطريق غير المستوية التي تصل وهدة (اللَّمْلامَـا) ببلدة (الفحص) .. كنتُ مَزهوا بالانتصار الذي حققتُه على تلك الأعين الجاحظة المَحَدِّجة الساكنة مَغاوري .. لقد طمسْتُ لهُنَيْهَات وَميضَها الثاقبَ عَفّرْتُهُ بالرّغام والقَتَام وبقايا الرماد أسدلتُ الحُجُبَ في وجه آلحُجُبِ أمعنتُ إغلاق النوافذ والأبواب كي لا يعود زُعافُها ثانيةً يبثُّ سُمومَهُ في الباه والمَسام .. لقد قهرتُ الظلام بالظلام، انتقمتُ لنفسي بنفسي، أعدتُ شيئا من الاعتبار لها .. أثخنتُ سُدَفَ المَخاوف ضربا وفتكا ... هكذا رأيتُ الأمورَ، هكذا تصورتُ أشيائي الصغيرة التي تعتمل في عوالمي التي تسكنني تنبس تهمس لبعضها البعض في خفية عني عن الآخرين .. لم أكُ أجرؤُ يوما أَنْ أُظْهِرَ وساوسي للعلن وأصرح بهواجسي الثائرة المضطرمة دوما .. كنتُ راضيا بقناع الهدوء والرصانة وثبات الهمة في الشدائد والملمات مادام هذا القناع يرضي الناس ويبعد عني فضولهم وتَدَخلهم في شؤوني الخاصة، كنتُ ألقي لهم بمَا يريدونه مني ليتركونني وشأني في دَعَةٍ وسلام دون ينغصوا عليّ حياتي الصغيرة .. لكن رغم كل المجهودات التي كنتُ أبذلها من أجل تحقيق هذه الغاية البسيطة، ومن أجل أن أكون في مستوى رضى أمي ووالدي وجميع الأهل والأحباب، لم أنجحْ في مسعاي في كثير من المرات ممّا كان يسبب لي قلقا وإحراجا يُنفرني من الناس المزعجين الذين لا يتركونكَ تعيش كما تريد أن تعيشَ ...
وفكرتُ في خالتي (مريم) ويديْها وعينيْها ورجليْها وشعرَها الممسوحَ المُمَسّـدَ اللاصقَ بفروة رأسها المدثر بخرقة كتان بالية على شكل كفن حائل اللون مزموم بعقدة في مؤخرة قفاها وراء عنقها، وبدنها الضامر يتمرغ كفَرَاشات الأضواء كعصفوري القشيب دون رغبة دون إرادة يتمرمر في كومة الرماد الراقد أبدا في الفرن الرحب العتيق الذي يبتلع الحياة والممات ويقهر زفير الشهقات .. شهقاتها وهي تصرخ في فتور وأنين .. "آيَمّا يْنُو آيَمّا يْنُو..!!.." .. دون يجيبها مجيب أو يناجي لواعجَها أخٌ أو حبيب .. كانت لوحدها في مراقدها في مناحيها الخاصة، في مجالاتها ومسالكها .. لا مسالكَ لها سوى مزيد من المعازل يطوقها الحصارُ وعثيرُ الإقصاء والبوار ... كنتُ أسهو وأفكر وأنا أهيلُ بعصية من فنن زيتون (أزمور) على ما صادفت يداي من نباتات وعواسج وحصوات تعرقل مسير الطريق ...

_غَراشْ آحْنِيني أتَسِّيغَتْ إخْفَنّشْ سُوكَشُّوطَنْ .. (إياكَ عزيزي أن تصيب نفسك بتلك العُصَية)

_ ما تخافيشْ آعمتي ... (لا تخافي عمتي)

_ لالِـي سُومَا ... (يا عزيزي يا أخي)

تقولها عمتي وهي تسير بآطمئنان وراء أتان راضية مرضية مستسلمة طائعة بعد أن آبتعد طيف الراعي عبدالسلام عن عينيْها المتوجستيْن.. كانت الدابة تخبُّ تسبقنا بخطوات متقاربة خفيفة سريعة تدق حوافرُها كبير الحصوات ودقيق أمْـزاز فنسمع لصدى آنكسارها طقطقةً ترددها الأودية الغائرة العميقة والبطاح الفارغة التي تحيطنا من كل مكان .. وعبثا كررَتْ عمتي طلباتها في آمتطاء أتانها الأثيرة ...

_لا .. مَاعْييتْشْ .. (لا .. لست تعبا)

كنتُ أقول كل مرة :

_نَمْشي على رجلي حْسَنْ .. (أنْ أترَجلَ أفضل لي)

_ مِيغْ آوْمَا تَشْلِيتْ دَكْمُودَالَدْ وَحْدَشْ وَتجي تُوكْدَتْ ؟؟؟ (وهل ظللتَ النهار كله في هذه الربوع دون توجس أو خوف)

_ تُوغِيِّي آكْدْ عبدالسلام .. (كنتُ بمعية عبدالسلام)

قلتُها وأنا أترقب أن تفاتحني في أي لحظة عن سبب وجودي في هذه المفازات الخالية، سيما وأنهم لم يألفوا مني نزوعا إلى تجوال من هذا القبيل، فقد كنتُ معروفا عند العائلة في صورة الطفل الهادئ القليل الحركات الذي يسمع لما يُقالُ له ينفذ الأوامرَ يمتثل للتعليمات دون نقاش أو عصيان أو رُدود فعل نزقة جرت العادة أن يتصف بها الأطفال في سن الغرارة .. لقد كنتُ أرسم لهم شكل طفل تطمئن لمعايشته النفوس ترتاح لمعاشرته الخواطر والقلوب، وكان كل ذلك يأخذ مني جهدا كبيرا أبذله لأمتثل لهذا التمثل الذي أسديتُه للآخرين على حساب رغباتي وميولاتي وحريتي في التصرف كما أشاء .. كنتُ أفترضُ دائما ما ينتظرونه مني فأقدمه دون يطلبَه أحد، كنتُ مطواعا لينا سلسا مع الجميع أكثر من اللازم لذلك كنت أستفيد من ثناء يجزلونه كمديح يشكرون فيه حُسن سلوكي يثمنونه ويعتمدونه مقياسا حاسما في آختيارهم لي لمرافقة الكبار في حفلاتهم وأسفارهم وجلساتهم، فأرتاح للأمر لحظات ثم أؤوبُ لنفسي أؤنبها على تخاذلها وآنهيارها الدائم بمناسبة أو دون مناسبة .. هاته الدابة التي تتعثر في خَببها أفضل مني، كنت أناجي نفسي، رغم هوانها وضعفها وقلة شأنها فإنها تظل ثابتة لا تنصاع لأي أحد، تقول بطريقتها الخاصة .." لا .. !! .. " لكل مَنْ يَرُومُ تطويعها أو إجبارها على أمر لا يساير مزاج طبيعتها .. إنها بحق مخلوق فريد بإرادة كالصلب كالحجر كالحديد .. أما أنا .. آه .. تبا ..!!..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة


.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد




.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم


.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?




.. لعبة الافلام الأليفة مع أبطال فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد