الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عرب الأهوار ، الضيف والشاهد*

سهر العامري

2006 / 11 / 19
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


تقديم

إضمامة الذكريات والأحداث هذه لازالت راسخة في الذاكرة، رغم سنين انطوت، ورغم بعد مسافة العمر بيني وبين ولفريد ثيسجر، فقد نزل ضيفا عندنا وهو ابن أربعين سنة، وعرفته وأنا ابن السادسة عمراً، وذلك حين سرت وإياه في نزهة مسائية غلى شواطئ الهور، وبين أشجار نخيله، تلك الأمسية التي ل اتزال ساعتها تعيش في الذهن، وكأنها ولدت يومي هذا، فقد ملأني فرح غامر، وأنا الطفل، حين قدم لي طيراً اقتنصه ببندقيته، وكان قبلاً قد خصني بقرصين من أقراص " السلفات " دون أقراني، وبعد ختانه لي.
والآن اطلعت على كتابه : عرب الأهوار في طبعته الأولى لسنة ١٩٦٤م، مترجماً الى اللغة السويدية، لكنني ترجمت كلّ ما ورد في كتابي هذا عن طبعته الثانية الانجليزية لسنة ١٩٦٧م، وقد قمت بمراسلته بعد أن شاهدته متحدثاً في شريط وثائقي، عرضته القناة التلفزيونية السويدية الثانية عن عرب الأهوار في الفترة التي أنزل فيها الحكم الحالي حيفه ودماره فيهم، وذلك بعيد انتفاضة آذار المجيدة، وبعد لأيّ وصلته رسالتي، فردّ عليّ برسالة منشورة في الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب، مع بعض صور نقلتها عن كتابه : عرب الأهوار، بسبب من تحدثي عنها، وعلى ذات الصفحات رسالة أخرى وردت لي من الحاج الشيخ كاظم ريسان الكاصد حين كان في معسكر رفحاء من العربية السعودية. 
وإذا كانت ثمّة علاقة أخرى بيني وبين ثيسجر فهي أنّه شاهد من أماكن في الهور ما شاهدت، ورأى من الوجوه ما رأيت، وسمع عن أحداث ما سمعت. أهذا كلّ ما بيني وبينه ؟ الجواب تحمله الصفحات اللاحقة. 
ولابدّ لي من الإشارة الى أنني تركت أخطاء بعض النصوص التي نقلتها عن بعض الكتب على حالها من دون تصحيح وإعادة كتابه. وأغلب هذه الأخطاء وردت في كتاب: العودة الى الأهوار المترجم عن الانجليزية.
وإني نهاية أفيض شكراً لكلّ الأخوة الذين ساهموا في الإجابة عن أسئلتي المتعلقة بما يدور في كتابي هذا، سواء أكانوا داخل العراق أم خارجه، ولا يفوتني هنا إلا أن أقدم صميم الودّ لولدي منتظر الذي ساهم في كتابة هذا الكتاب، وتصميمه واستنساخ صوره، وكلّ ذلك على جهاز الكمبيوتر. المؤلف



اللقاء الأول

ضحى والشمس تتدلى في كبد السماء، وفي يوم قائض، نزل "مضيف "**جدي رجل مديد القامة، عريض الأكتاف، اشقر الشعر ناعمه، ممتلئ الوجه أحمره، زانته عينان خضراوان، وارتسمت على عنقه خطوط دقيقية غامقة الحمرة. كان يرتدي بدلة بيضاء، وقميصا بلونها، فض الزر الأول منه، فبدا شيء من صدره.كنت ساعتها ابن السادسة عمراً، وكانت الدنيا بالنسبة لي هي قريتنا، أهلها الذين ألفت لباسهم، وطبيعتها التي صعدت نخيلها، ومشيت على شطآنها، لذا ظلت صورة الرجل لغرابتها لصيقة في الذاكرة لم تغادرها رغم هذا السيل المتدفق من السنين. فهي صورة من صور الطفولة البارحة، رسمتها يد طبيعة سمحة، لا تعرف الحياة فيها كدر ذهن وعتمة فكر.
لقد كان سنة اللقاء الأول سنة 1953م، وكان المكان الأطراف الشمالية من هور الحمّار، حيث كانت قريتي ترقد عندها، كما ترقد الآن صورة في كتابه. إنه كتاب ”عرب الاهوار“، والرجل هو ولفريد ثيسجر.

لقد تعرفت على اسمه منذ ما يزيد على سنتين، وكنا قبلا نطلق عليه " الرجل الانجليزي"، وهو ـ على ما أظن ـ لا يزال يعتز بهذه التسمية التي رسمها على صفحات كتابه غير مرة.وغير مرة قرأت كتابه بلغته الانجليزية، وعرفت كلّ واردة وشاردة فيه. لقد أعادني مثقلا بالحنين الى أيام طفولتي، حيث الهور المترامي الأطراف، الطافح بالمياه حتى تخوم الأفق، وحيث كنّا نمتطي ظهره بزوارق شيدت بأيدينا من بنات البردي، اتجهنا بها ذات صباح الى ”ايشان عويضة“، تلك المدينة السومرية الراقدة في أحضان مياهه، والتي أحالها الدهر الى جزيرة من جزره، تزورها كلّ شتاء أصناف لا حصر لها من الطيور المهاجرة، تحطّ عليها، تبني أعشاشها بعيدا عن أعين الناس.
لم يزرها ثيسجر إنما زار غيرها، وسمع ذات الخرافات والأساطير التي ملأ بها أهلنا آذاننا، قالوا 
لنا: انّ اللّه غضب على أهل تلك المدينة لجرم امرأة منها، نظفت وليدها بعد تغوطه بكسرة خبز، فدكت القدرة الإلهية البيوت على ساكنيها...قيل لنا: إنها موطن ”الطناطلة“ تلك المخلوقات التي تهاجم من يرمي قدمه على أرضها...ورغم ما قيل لنا نزلناها صغاراً بزوارق البردي، فوجدنها ملآى بأعشاش الطيور، حملنا بغيتنا من بيض بعضها في رحلة سندبادية ، كادت تقضي علينا بهول عصف رياح ثارت ، ونحن في طريق العودة، لكن الثقة بزورق البردي كانت تملؤنا بالحياة، " اهدم بيتك وشيد زورقاً من قصب البردي يا ملك شورباك ، اهدم بيتك وشيد زورقا. "هكذا كان ابن الاهوار الأول واثقا من زورق البردي ، كما جاء في ملحمة جلجامش قبل آلاف السنين.
وعلى التقليد السائد بين عرب الاهوار رفض ملاحو زورق ولفريد ثيسجر المكوث معه عندنا، إذ لا يصح للمرافق أن يمكث مع الضيف، فقد اكتفوا بشرب الشاي، وعادوا الى قراهم في أعماق الاهوار.
مساءً عاد أبي من السوق القريب من قريتنا على عادته في كلّ يوم، وبعد أن يفرغ من عمله في التجارة، وعلى العادة رحبّ بضيفنا بحرارة،فهو على معرفة بثيسجر الذي كان يحلّ ضيفاً علينا في كلّ عام يقضيه في الاهوار.
يبدو أن ثيسجر كان على دراية من أن أبي كان يجيد الرماية، ولذا طلب منه المساء ذاته أن يباريه، فاستجاب أبي لطلبه وبدأت المباراة:
البندقية بندقية ثيسجر، والهدف ورقة صغيرة بيضاء لا تتعدى أبعادها سوى سنتيمترات قليلة، موضوعة على جذع نخلة يبعد عن باب المضيف ستة أمتار، ومن باب المضيف أطلق ثيسجر وأخطأ، وتلاه أبي فأصاب، وعاد ثيسجر وأخطأ، واطلق أبي ثانية وأصاب، موسعاً الثقب الذي احدثه في الورقة بطلقته الاولى، مما أثار إعجاب ثيسجر الذي خبُر الرماية وعرف الحرب. 
لم يذكر ثيسجر هذه الصورة الراقدة في ذاكرتي منذ زمن الطفولة في كتابه "عرب الاهوار"، إنما ذكرته انا بها في رسالة بعثتها إليه، مثلما ذكرته بأنه قابل اكثر من ثلاثة حجّاج خلال السنوات التي قضاها في الاهوار، فهو يقول في كتابه ( في جنوب العراق عادة يكون عدد الحجيج الى مشهد اكبر بكثير من أن يكون الى مكة مع أن البعد واحد، وخلال السنين التي عشتها في الاهوار قابلت العديد من الزوار، لكن أتذكر أني قابلت ثلاثة حجًاج فقط. ) ***
= = = = = = = = = =
* هذا مجتزأ من كتابي : عرب الأهوار ، الضيف والشاهد الذي صدر في دمشق سنة 1999 م ، وعن دار المجد للطباعة والنشر ، والذي يدور حول كتاب الرحالة الانجليزي ولفريد ثيسجر ، عرب الأهوار (The Marsh Arabs ) . ذلك الرجل الذي قابلته أنا أكثر من مرة ، وعلى صغر من سني . وها أنني أضع كتابي هذا في متناول القراء الآن ، مسلسلا على حلقات هنا .
** المضيف : هو مأوى الضيف عند عرب الأهوار ، وترد هندسة بنائه الى العصور السومرية.
*** عرب الأهوار ( The Marsh Arabs) ص 255








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الرحالة ولفريد ثيسجر
عبد العزيز فالح مجبد الخليفة ( 2012 / 4 / 11 - 20:17 )
في سنوات اربعين من القرن الماضي وكنت في الصف الخامس الابتدائي كان يزورنا وليفريد ثيسجر ويبقى ايام طويلة لانه كان صديقا لوالدي وبسبب رحلات صيد الخنازير التي يحبها كثيرا قتل والدي نتيجة خطأ احهم قتل والدي امام نظر وليفريد وتم نقل والدي بالمشحوف من الهور الى قضاء المجر الكبير . وكان من رأيه ان يتم نقل والدي المصاب الى البصرة لقرب المسافة ولوجود اطباء انكليز الا ان الشيخ حمود رفض ذلك واصر على نقله الى بغداد بواسطة طائرة سوف تأتي لنقله وتأخر الطائرة والنزف المستمر وصل والدي الى بغداد وفارق الحياة .وسافر ولفريد الى بغداد الى قصر جدي في البتاوين واخبروه بأن فالح توفي ونقل جثمانه الى النجف الاشرف . بعد ذلك استمرت علاقته مع اخي المرحو عبدالواحد فالح حتى عام 1957 حيث غادر نهائيا وقبل عام 2003 زارني في ميسان صحفي ومصور فرنسي يعمل على جمع معلومات او اصدقاء للفريه ثيسجر وطلب مني ان اشخص اصحاب الصور التي كانت بحوزته وهي صور تعود لاشخاص قابلهم ولفريه في تلك الحقبة فتعرفت على بعضهم ووعدني ان يرسل لي نسخه من كتابه بعد انجازه . واخبرني ان وليفريد راقد ف] مستشفى في لندن. وعندي ابن عم في لندن اتصلت به وط

اخر الافلام

.. التبوريدة: فن من الفروسية يعود إلى القرن السادس عشر


.. كريم بنزيمة يزور مسقط رأس والده في الجزائر لأول مرة




.. بعد إدانة ترامب.. هل تتأثر فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية ا


.. لابيد يحث نتنياهو على الاستجابة لمقترح بايدن بخصوص اتفاق غزة




.. الوسطاء يحثون إسرائيل وحماس على التوصل لاتفاق هدنة في غزة