الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب غزة والمسألة الأوربية.. تصريحات بايدن بوتين أنموذجا

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2023 / 11 / 22
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


هناك الكثير من المقاربات والنظريات الكلية المطروحة حاليا لمحاولة تفسير تدافعات الصراع الدولي في القرن الحادي والعشرين، ومنها الاستقطاب الدولي حاليا وتدافعه حول القضية الفلسطينية، والذي نشأ في أعقاب عملية طوفان الأقصى المفاجئة في السابع من أكتوبر الماضي.
الكثير من هذه المقاربات المطروحة لتناول التدافع الدولي عموما، تدور حول موقف القوى الكبرى مثل أمريكا والصين وروسيا والدول الأوربية، وتأتي في سياق القراءة لمجريات الأحداث ونطاف حركتها التقليدي والنمطي، لكن هناك القليل من المقاربات التي تبحث في العلاقات الدولية من وجهة نظر مثالية تسعى لتغييرها، أي تسعى لتغيير الأنماط السائدة والقوة المهيمنة في العلاقات الدولية.

الحركة الأمنة للنمطية
لكن معظم هذه المقاربات القليلة المثالية/ الطموحة تفتقد للحواضن عامة، لأن المقاربات التقليدية التي تعمل في نطاق العلاقات الدولية، تتحرك في إطار المتوقع والآمن حتى ولو كان مستهدفها الاستراتيجي هو البقاء في "الدائرة المستقرة" للمصالح النشطة، وشبكة العلاقات الصغيرة أو الإقليمية التي تحكمها.

الحركة الآملة للمثالية
لكن ما يميز المقاربات المثالية الجديدة التي تتسق مع القيم و"المثل العليا" للظاهرة البشرية منذ ظهورها، أنها تتحرك خارج "الدائرة المستقرة" وتسعى لاكتساب "مراكز دولية" جديدة في شبكة العلاقات الدولية والإقليمية..

أطروحة ما بعد المسألة الأوربية
ومن ضمن المقاربات المثالية تلك التي تتحرك في السياق العالمي في القرن الحادي والعشرين، تأتي أطروحة "ما بعد المسألة الأوربية" التي أعمل عليها منذ سنوات عدة مضت.
ومجمل هذه الأطروحة أن هناك شبكة من العلاقات الدولية تنتظم حول فكرة "المسألة الأوربية" وهيمنتها، لكن الأطروحة في الوقت نفسه ترى الكثير من مناطق الضعف والرخاوة في هذه الشبكة ومظلتها الثقافية والنظرية، وتسعى للتحرك إلى الأمام في هذه المناطق الرخوة لاكتساب مراكز جديدة للجماعة البشرية التي تنتمي لها، وطرح مشروع إنساني جديد يقوم إجمالا على "ما بعد المسألة الأوربية" وتجاوز فكرتها النظرية والفلسفية ومن ثم تفكيك شبكة العلاقات التي ارتبطت بها.
أي تجاوز فكرة الحضارة المطلقة والنظرية المطلقة (الليبرالية أو الماركسية)، وظهور فكرة ثقافية نظرية جديدة للحضارة البشرية تدور حول "التداول" الحضاري وسيرورته، وأن المطلق هو التداول والحركة المستمرة للظاهرة البشرية وليس حضارة بعينها، وأن أوربا الليبرالية أو الماركسية ليست هي البدائل النهائية والمطلقة أمام البشر..

الذات العربية ومفصليتها الثقافية الكامنة
وترى أطروحة "ما بعد المسألة الأوربية" أن الذات العربية من أكبر وأهم المفصليات الثقافية الكامنة، والتي تملك فرصة عريضة وممكنة للغاية لتجاوز "المسألة الأوربية" وشبكة العلاقات الدولية الواقعية المرتبطة بها.
وذلك لعدة أسباب موضوعية وذاتية، أهم الأسباب الموضوعية أن المسألة الأوربية في تمثلاتها الثقافية الرئيسية تكاد تكون قد اختفت من العالم برمته، إلا من المنطقة العربية حيث تركت المسألة الأوربية وتمثلاتها الثقافية أبرز مخلفاتها لنا وهي المشروع الصهيوني..
ذلك بالإضافة على -المستوى الذاتي- إلى خروج الثورات العربية في القرن الحادي والعشرين، حاملة شعارات ترفض تمثلات اليمين واليسار العربيين بجذورهما في المسألة الأوربية، بعيدا عن التوظيف السياسي لهما لتشويه تلك الثورات.
من ثم ولأن الصهيونية وفق أطروحة "ما بعد المسألة الأوربية"؛ تعد أبرز المخلفات المرتبطة بالمسألة الأوربية النشطة حتى الآن، لذا تبدو الصهيونية من المناطق الرخوة ثقافيا الممكن كشفها لتكون مركزا من مراكز التفكك الممكنة للمسألة الأوربية، هذا رغم كل الزخم والبهرجة والبروباجندا التي تحيط بها الصهيونية نفسها، وكل مظاهر حضورها القوى في السياسيات الإقليمية والدولية.

الارتباك الذهني: حماس/ فلسطين، وبوتين/ روسيا
في كفة واحدة

وعند مقاربة الصهيونية ودولتها ورد فعلها الحالي تجاه عملية طوفان الأقصى، وكذلك الخطاب الأمريكي بوصف أمريكا القوة الأبرز التي تعتلي عرش النظرية المطلقة الأوربية التاريخية، سنجد أن تصريحات بايدن الأخيرة هي أبرز دليل على تشوهات العقلية الغربية والارتباك الذهني الشديد الذي تمارسه على المستوى الثقافي/ النظري وعلى المستوى التطبيقي وأثر هذا الثقافي في العلاقات الدولية.
حيث في مقال رأي نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية: "أشار بايدن إلى أن الرئيس الروسي بوتين وحماس يقاتلان من أجل محو (الدولة) الديمقراطية المجاورة من على الخريطة، ويأملان انهيار الاستقرار والتكامل الإقليميين والاستفادة من الفوضى التي تترتب على ذلك"(1)
وفي الفقرة السابقة تتبدى بكل وضوح ذهنية المسألة الأوربية التي ترى أن "إسرائيل"، وأوكرانيا الجديدة في مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، جزءا من حضارة النظرية المطلقة في تمثلها الأمريكي الليبرالي الديمقراطي، ومشكلة هذه الحضارة أنها تعتقد في ديمومة تتمددها، في تفكيك أي احتمال لنهضة الآخر الحضاري، وهذا سر تسميتها بالحضارة المطلقة أو حضارة النظرية المطلقة التي أول من قدمها الفيلسوف الألماني هيجل أبو الدولة الطبقية (التي عكسها تلميذه ماركس بنظرية مطلقة ومضادة لها عن الدولة غير الطبقية).
فذهنية المسألة الأوربية تقوم على التمدد على حساب الاخر باستمرار بحجة أنها تحمل الرسالة البشرية المطلقة عن الديمقراطية والليبرالية، وترى عدوا مشتركا في المقاومة الفلسطينية وفي التصدي الروسي الجديد لتمدد حلف الأطلنطي باتجاه حدودها من خلال أوكرانيا!
وفي المقالة ذاتها استطرد بايدن، قائلا إن "العالم يواجه اليوم نقطة انعطاف، حيث ستحدد الاختيارات التي نتخذها، بما في ذلك تلك التي نتخذها في الأزمات الحالية في أوروبا والشرق الأوسط، تجاه مستقبلنا على مدى أجيال قادمة".(2)

المسألة الأوربية من معاداة الصهيونية إلى تبني الصهيونية
وسر الارتباك الثقافي الذي تمارسه المسألة الأوربية وذهنيتها هنا، أنها ترى في كل تمثل سياسي مرتبط بعُقدها أو متلازماتها الثقافية القديمة مقدسا يحظر المساس به، تاريخيا كانت المتلازمة الثقافية التي أنتجت الصهيونية هي عقدة "معاداة السامية" في أوربا، واضطهاد الأقليات اليهودية هناك، وأمريكا والمستوطنون الهمج بها استطاعوا أن يجدوا من خلال المذهب البروتستانتي الصلة، والقدوة في أبطال العهد القديم وتفاسيره وشروحه في "التلمود" التي تبرر لها القتل المقدس تجاه سكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر)، بعيدا عن المذهب الكاثوليكي (الذي تأسس في عهد الامبراطورية الرومانية) الذي ارتبط بسماحة المسيح عليه السلام والموقف المتشدد تجاه اليهود بوصفهم قتلة المسيح عليه السلام.
ومن ثم أصبحت الصهيونية متلازمة جديدة من متلازمات المسألة الأوربية وتمثلاتها الثقافية، من يحاول المساس بها يصبح عدوا للديمقراطية والليبرالية وكل القيم التي أصبحت مقدسة/ مطلقة ترتبط بالحضارة الغربية ووهم أنها آخر الحضارات البشرية لا يوجد بعدها حضارة

ظاهرة متكررة: تفجير النمط الجيوثقافي من داخله
والدرس المستفاد والخلاصة هنا ثمينة في فهم مسارات العلاقات الدولية الراهنة؛ مفادها أن تفكيك الصهيونية هو مسألة ثقافية قبل أن تكون واقعية أو سياسية بالأساس، وكذلك أن تفكيك الصهيونية مرتبط بتفكيك المسألة الأوربية، والأهم أنه يمكن لنا أن نرصد "نمطا متكررا" في جيوثقافية المسألة الأوربية وذهنيتها الحضارية، يعد ظاهرة تتكرر..

تفجير الجيوثقافي بين الصين- تايون
وهو أن الذهنية الغربية على المستوى الجيوثقافي تعتمد على خلق تناقض داخل الجماعات البشرية المتنافسة معها، ثم تحول هذا التناقض الجيوثقافي إلى تناقض سياسي واقعي، فلننظر هنا إلى كيفية استقطاب أمريكا لتايوان على المستوى الثقافي، وموقعها الجغرافي بالنسبة إلى الصين مفجرة التناقض الجيوثقافي بينهما، رغم التاريخ الجغرافي والثقافي المشترك الذي يجمعهما، ثم تتمرس حول هذا التناقض الجيوثقافي عسكريا وسياسيا، للوصول إلى ذروة الصدام تمهيدا لتفكيك احتمال الذات الصينية في الصعود الحضاري والسياسي.

تفجير الجيوثقافي بين روسيا - أوكرانيا
وبالمثل فعلت مع أوكرانيا التي قامت بتفجير المشترك الجيوثقافي بينها وبين روسيا، ليتحول إلى تناقض عسكري وسياسي انتهى لذروة الصراع والحرب بين البلدين، وتقسيم للجغرافيا، وتباين في الاختيارات الثقافية/ السياسية/ الفكرية، رغم كل ما بينهما من مشتركات ثقافية وجغرافية تاريخية.

تفجير الجيوثقافي بين يهودية الشرق- صهيونية الغرب
وبالطريقة نفسها استطاعت أمريكا –بعد أن ورثت صدارة النموذج الغربي من بريطانيا- أن تقدم الصهيونية بوصفها تناقضا جيوثقافيا مع العرب، لتحجم الاحتمالات الحضارية للصعود العربي وظهورهم في المشهد العالمي، فرغم أن اليهود على المستوى التاريخي الجغرافي والثقافي والديني هم إحدى الجماعات الشرقية/ السامية، إلا أن ظهور الصهيونية كسر كل تلك الأنماط الجيوثقافية التاريخية، فنشأت في سياق أوربي حاملة دوافع ثقافية أوربية ومن خلال أزمة جغرافية على الأرض الأوربية، لكن التناقض تم تصديره إلى المنطقة العربية وتم شحن جيوثقافية المسألة الأوربية المضادة لطبيعة الجيوثقافية التاريخية الخاصة باليهود التي تنتمي لجيوثقافية الشرق.. حتى تصبح الجيوثقافية اليهودية/ الصهيونية موالية لمسألة الأوربية وتعمل على تفكيك الاحتمالات الوجودية لصعود الذات العربية ومستودع هويتها.

خاتمة:
أخيرا؛ تعد المواجهة الرئيسية مع الصهيونية مواجهة ثقافية أو جيوثقافية بالأساس على الأرض الغربية التي أنتجتها، وأن انتصار العرب على التمدد الصهيوني لن يحدث إلا من خلال تفكيك الرواية المرتبطة بالمسألة الأوربية، وتفكيك المسلمات الغربية باعتبار الصهيونية حلا للهولوكست النازي، وباعتبار الصهيونية ودولتها واحة للديمقراطية في الشرق العربي.. دون تفيك لتلك الروايات الجيوثقافية لا تقدم ولا استعادة للذات العربية أو لمشتركها الجيوثقافي في مواجهة الصهيونية والمسألة الاوربية



هوامش:

1- موقع الشرق نيوز الإخباري بتاريخ 18/11/2023م
https://asharq.com/politics/
2 - المرجع السابق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران