الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-عبد المعين الملوحي علم من أعلام الثقافة العربية-

شاهر أحمد نصر

2023 / 11 / 23
الادب والفن


أحيا محبو الثقافة، وأصدقاء المركز الثقافي في الصفصافة وسهل عكار ذكرى تأسيس وزارة الثقافة عبر محاضرة بعنوان "عبد المعين الملوحي علم من أعلام الثقافة العربية" ألقاها "شاهر أحمد نصر، بعد ترحيب مديرة المركز السيدة هالة ميهوب بالحضور، والتنويه بأهمية دور وزارة الثقافة، وفي بداية محاضرته قدّم المحاضر لمحة عن وزارة الثقافة جاء فيها أنّها الوزارة المسؤولة عن الحفاظ على الهوية الحضارية والثقافية، وحماية التراث الأثري والتاريخي ونشر الثّقافة محلياً وعربياً وعالمياً والتفاعل مع الثقافات العالمية، كما تعمل على رعاية العملية الإبداعية وتنميتها، ورعاية المثقف وحماية الناتج الثقافي، وأنّها أُحْدِثَتْ زمن الوحدة مع مصر باسم وزارة الثقافة والإرشاد القومي، في 23 تشرين الثاني 1958، كان من مهامها أن تمارس مراقبة الأفلام السينمائية (العرض والإخراج) والتسجيلات الصوتية ومختلف أنواع الأشرطة والأسطوانات المستوردة أو التي تُعَدُّ للإذاعة العلنية، عام 1966 عُدِّلَ اسم الوزارة ليصير وزارة الثقافة والإرشاد القومي والسياحة بعد إلحاق المؤسسة العامة للسياحة بها... عام 2014 حملت رسمياً اسم وزارة الثقافة... تتبع لوزارة الثقافة مجموعة من المديريات، منها: مديرية المراكز الثقافية العربية والمكتبات - مديرية إحياء التراث الشعبي - مديرية المسارح والموسيقا - مديرية المهرجانات - مديرية المعاهد الموسيقية والباليه - مديرية الفنون الجميلة -مديرية حماية حقوق المؤلف - مديرية ثقافة الطفل، أول وزير ثقافة هو : فتحي رضوان عام 1958 – وشغل منصب وزير الثقافة عدد من الأساتذة والأدباء المعروفين منهم: صلاح الدين البيطار، عبد السلام العجيلي، سامي الجندي، ثروت عكاشة، شبلي العيسمي، نجاح عطار، وغيرهم ... ترأس الوزارة حالياً الدكتورة لبانة مشوح...
في أثناء النقاش قدّم المهندس نظير درويش نبذة وجدانية عن المحاضر استعرض فيها بعض خصاله التي عرفها بفضل عملهما المهني المشترك... وأشاد الحاضرون بأهمية التعريف بالأديب الموسوعي عبد المعين الملوحي وأسفوا أنّه ليس معروفاً تمام المعرفة في وطنه.... وفيما يلي نص المحاضرة:


"لو سألوني يوم حشري: ماذا فعلتَ؟ لقلتُ لهم في صدق: (( هاؤم اقرؤوا كتابيه))"
"أنا لم أخدع شعبي. لم أبع قلمي. لم أمدحِ الطغاة.
فإلى: كلّ من لم يخدع شعبه؛ وإلى كلّ من لم يسرق شعبه؛ وإلى كلّ من لم يبع قلمه؛ وإلى كلّ من لم يمدحِ الطغاة؛ أهدي كتابيه".
هذا ما كتبه الموسوعي عبد المعين الملوحي في كتابه شظايا من عمري. (ج.1ص7) ليلخص في هذه الكلمات حياته وشخصيته.
فمن هو عبد المعين الملوحي؟
هو عبد المعين بن الشيخ سعيد الملوحي إمام الجامع النوري بحمص... إنسان من أخلص النّاس لوطنه وشعبه والإنسانية، متواضع، صادق وفيّ، يكره الظلم، بحر عميق ذاخر بلآلئ اللغة العربية والمعارف والمشاعر الإنسانية. تذكرنا أخلاقه النبيلة وموسوعية علمه بأبي العلاء المعري.
ولد عام 1917 وترعرع في باب هود في حمص، وتربى في بيئة وطنية، ودينية محافظة، لكنها غير متزمتة...
إنّ حياته وما قاسى فيها من آلام وما رآه من كوارث دفعته إلى النضال في سبيل وطنه ومجتمعه، واحتفظ بإيمانه في أن يكون الإنسان إنساناً، وفي شيخوخته ظلّت نفسه نفس شاب يتأجج حماسة وانفعالاً وأملاً...
ظلّ طوال حياته نصيراً للحرية والديموقراطية، وهو من أوائل الموقعين على بيان الـ 99 مفكراً ومثقفاً سورياً المنادين بالإصلاح والتغيير السياسي والاقتصادي، والقضاء على الفساد...
عرف الإلحاد في أواسط شبابه وحتى الأربعين من عمره، ليعود إلى الإيمان فقضى حياته مؤمناً من دون تعصب، وأدى العمرة، ومع إيمانه الروحي كان يؤمن ببناء نظام العدالة الاجتماعية.
منحته حكومة فيتنام أرفع أوسمتها، واختارته الصين أستاذ شرف للغة العربية في جامعة بكين، كما حصل على وسام الثقافة من جمهورية بولونيا، وكرمته جامعة البنجاب في الباكستان، وكان من المدعوين لاحتفالات تكريم الشاعر الباكستاني محمد إقبال .
تعدّ أعماله المنشورة وغير المنشورة بالمئات... إذ نشر 96 كتاباً، وبقيت في أدراج مكتبته عشرات المخطوطات تنتظر النشر... وتوّج أعماله المنشورة بترجمة ديوان الشاعر الفيتنامي تو هو، ووزعه هدية إكراماً لنضال الشعوب في سبيل الحرية التقدم لاجتماعي...
ومن مآثره أنّه أسهم في مجال الترجمة في كسر احتكار الترجمات الغربية إلى اللغة العربية، فترجم الأدب الفيتنامي والأدب الصيني، والباكستاني، والروسي، والسويدي، فضلاً عن أنّه عمل في مجال تحقيق التراث، وهو يرى أنّ إحياء الجوانب المشرفة في التراث لا يمنعنا من فضح القضايا المظلمة فيه.
وعرف بتمكنه المتميز من اللغة العربية، وهو جدير بلقب بسيبويه القرن العشرين، لقد كان مدافعاً عن اللغة العربية، ومؤيداً لتطورها الدائب...
لقبه المفكر العربي الحر هادي العلوي بـ "زيتونة الشام" وقال عنه: إنّ "اسمه وعناوين كتبه من الأسرار التي تخفى عن أعين رجال البوليس"، وهو موسوعي، طرق مختلف صنوف الأدب، من شعر ونثر، وسيرة، ومقالة، وتحقيق التراث، وترجمة، كما خاض في كثير من المواضيع الفكرية.. وعلى الرغم من ذلك منع من نشر بعض كتبه، وبعضها ممنوع في دول عربية.
تجمعت ثلاثة عناصر رئيسة: الحبّ، والألم، والثورة في دفع الملوحي إلى لأدب والشعر:
ما فيكَ يا ديوانَ شعري بسمةٌ بل أنت قطرُ دمٍ ونقعُ جهادِ
أول كتاب نشره، كان كتاب مكسيم غوركي "ذكرياتي الأدبية" وقد نشره في القاهرة... ولعلّ الخيط الجامع لأعماله هو نكرانه للظلم وللاستغلال والنفاق والاستبداد، وسعيه لنصرة المظلومين من كل لون وصنف؛ لقد كتب لإنصاف الفقراء، والمظلومين، فوقف في وجه ظالمي: المعري، وفي وجه ظالمي الإسلام، وظالمي الأدب العربي، وظالمي محمد إقبال، وظالمي الشعراء اللصوص، ودافع عن الغرب، وسعى لإنصافهم. وفي إنصافه ودفاعه عن اللغة العربية أصدر كتاب "دفاع عن اللغة العربية".
كما ترجم كتاب "تحليل النصوص الأدبية" عن الفرنسية، تأليف شارييه وغرانج، لينبّهنا كي نصحو، ونتدارك البون الشاسع بيننا وبين الشعوب والمتقدمة.
وبعدما انهار الاتحاد السوفيتي وسقطت التجربة الاشتراكية، وبعدما انفض كثيرون عنها، ظلّ نصيراً للفكر الاشتراكي الإنساني، وأكد في كتبه الأخيرة التي نشرها قبيل وفاته أنّ "الحل الوحيد لمأساة الإنسانية هو الاشتراكية"؛ وإلاّ فــ"سيبقى الإنسان وحشاً يأكل لحم أخيه الإنسان".
لم يكن كتاب عبد المعين الملوحي "الإنسان ذلك المظلوم" كتاباً ذاتياً، بل أراده أن يكون مرجعاً لكل من يريد سلوك حياة حرة شريفة نزيهة، بعيداً عن النفاق، وعن الاستغلال، والذل:
"جاءتني صبية حلوة في التاسعة عشر أو في العشرين من عمرها، قالت: يا عمي، أنت تعرف هذا المجتمع، إنّه مجتمع سلب، وغش، وفساد، وخداع، فأخبرني ماذا تريد أن أفعل؟
قلت: يا ابنتي إنّ الحياة حياتك... وأنا لا أستطيع أن أملي عليك سلوكك، ولكني أريد أن أعرض عليك سلوك هذا الشيخ الذي أمامك. لقد عشت حياتي مستقيماً... وأنا الآن أخطو إلى الثمانين، ولست بنادم على ما فعلت. استطعت رغم سلوكي الغريب؛ أن أجد لجسدي عشاً آوي إليه، وأن أجد لمعدتي خبزَها، وأن أجد لروحي مكتبةً، وأن أجد ليدي قلماً حراً أكتب به. وقبل أن تودعني قلت لها: اكتبي هذين البيتين فلعلهما يحفظانك عند هبوب العواصف:
"أمطري لؤلؤاً جبال سرنديـ ـب وفيضي آبار تكرور تبرا
أنا إن عشتُ لستُ أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم قبــرا"
ولإنصاف الشعر العربي أصدر كتابه القيم "مواقف إنسانية في الشعر العربي"، أهداه "إلى الذين ينكرون المواقف الإنسانية في الشعر العربي عن جهل، أو عن تعصب، ليعلم الذين لا يعلمون، ولينصف الذين لا ينصفون".
ومن الشعراء الذين أنصفهم ديك الجن الحمصي، فجمع وحقق ديوانه، وشرحه ذلك الديوان الذي كاد أن ينسى ويندثر. كما أصدر كتاباً تحت عنوان "دفاع عن أبي العلاء المعري" يتحدث عن شاعرية هذا الوجه المشرق في الشعر العربي، والذي لا نظير له في الآداب العالمية.
كما أصدر كتاب "أشعار اللصوص وأخبارهم" في ثلاثة مجلدات، وقد عمل على تحقيقه أكثر من عشر سنوات.
وفي دفاعه عن الغرب، يدعو الملوحي إلى الاستفادة من تجربته، ويقول: "إنّ الحياة المادية تعين الحياة الروحية... كفاك أيها الشرق عيشاً في أوهامك الوردية... إنّ في الغرب سلبيات، لكن إيجابياته أكثر من سلبياته.." كما قدم الملوحي كتاب "حكم النبي محمد" ترجمة سليم قبعين لتلستوي، وهذا الكتاب كان من بقايا مكتبة والده.
ولم ينس "الحب بين المسلمين والنصارى"، و"مبادئ للثوار" لبرنارد شو، وكتب قصصاً "من أيام فرنسا في سوريا" تخلد نضال الشعب السوري ضد الاحتلال الفرنسي، وتصلح لأن تكون فلماً سينمائياً، يصور تلك المرحلة. وأهدى (نجوى حجر) "إلى أحجار بلادي التي تجأر بالشكوى من إنسان بلادي". وأصدر كتابه النفيس "نوادر دينية" التي جمعها من خمسة وعشرين كتاباً، ولعل أهم أسباب إصداره هذا الكتاب "المقارنة بين سعة آفاق رجال العلم والدين والأدب في عصور الازدهار العربي وبين ضيق أفقنا في العصر الحديث".
بعد هذا الاستعراض السريع لبعض أعمال الملوحي المنشورة، لنتوقف قليلاً عند شعره.
لقد أسهمت قصيدة "بهيرة" التي يرثي فيها زوجته، إسهاماً بعيداً في شهرته والتعتيم عليه في آن معاً، وأعتقد أنّ قسماً كبيراً من شعره لم يأخذ حقه بسبب شهرة هذه القصيدة التي كسفت بقوتها وبهائها كل ما كتب قبلها، وبعدها...
أبهيرتي! قالوا لنا: ما هكذا عرف الرثاء
قولي لهم: بل إنّه نار بها احترق البكاء
كم ثائر للكبرياء بكت عليه الكبـريـاء
الحقد مثل النار، يأكله وتلعنه السمــاء
واكتفى بعض المهتمين بالأدب بإيراد مقطوعات من هذه القصيدة العصماء، ولم يذكروا من شعره الآخر إلاّ القليل..
من المعروف أنّ الملوحي بدأ نظمه الشعر بالرثاء، فكتب عام 1936 أول قصيدة "إلى غادة"، التي يرثي فيها فتاة حسناء قتلها أهلها الأرستقراطيون لأنّها أحبت البستاني وتزوجته، ثم رثى في شبابه أخويه عبد الباسط الأول، والثاني، اللذين ماتا ولم يتجاوز أي منهما الثانية عشرة، جاء فيها بيت طالما ردده في كل لقاء معه:
جمالك يا دنيا يثير متــاعبي وربّ جمال كان عون النوائب
وتتالت قصائد الرثاء لأصدقائه وذويهم وغيرهم من الشعراء والمناضلين... حتى تجاوزت قصائد الرثاء التي نظمها ست وعشرين قصيدة، يزيد عدد صفحاتها عن مئتي صفحة من القطع الكبير... من يتمعن في قصائد الرثاء التي كتبها الملوحي خاصة "بهيرة"، و"ورود"، و"عبد المعين الملوحي يرثي نفسه" من الناحية الفنية، والفكرية، والموسيقية، والموسوعية الشاملة التي تمتاز بها، لا يريبه شك في أهمية أشعاره وتميّزها عالمياً؛ لهذا السبب أسميته: "أمير شعراء الرثاء"...
من الأبطال الأوائل الذين رثاهم الشهيد يوسف العظمة:
قضيت شهيداً شامخ الرأس كاتباً بموتك للأجيال ملحمة كبرى
وقال في قائد الثورة السورية سلطان باشا الأطرش:
كم فتى عانق الرمــاح عناقاً يحسب النقع ـ إن دجى النقع ـ كحلا
إن دعاهم (سلطان) لبوا وهبوا يحسبون الرصاص غيثاً وطــــلا
وحيا القمرين: فارس الخوري، وفايز الخوري. ورثى الشاعر حافظ ابراهيم في قصيدة من 43 بيتاً، وفي رثاء أحمد شوقي قال:
كان للنسمة في الصبح أخاً يرسل الشعر علينا نفحـات
ورثى المجاهد الكبير إبراهيم هنانو، ومصطفى صادق الرافعي، والشهيد المصري: فتحي كامل محمود الذي استشهد عام 1946 نتيجة أوامر رئيس الوزراء بفتح جسر النيل لما بلغه الطلاب المتظاهرون، فتهاوى الطلاب في النيل، فاستشهد صديق شاعرنا، فرثاه بقصيدة تحولت إلى منشور سري تتبادله الأيدي في مصر، وفلسطين، والدول العربية المجاورة:
قُبِرت ولم نحفر لأعدائنا قبـــرا ومت ولم نشعل لظى الثورة الكبرى
ونمت وباغي مصر في مصر ساهر يفاوضهـا جهـراً ويطعنها سـرا
قد تكون دمعة الصديق صادقة، وكلمات الرثاء النابعة من القلب برقة عاطفة شاعر قُدّ شعره من "الحجار السود"، وهذا مما قاله في رثاء وصفي قرنفلي:
أ أبكي كل يوم لي صديقاً ولا يبكي على قبري صديـق
أما من نسمة يا ليل قل لي وأغضى الليل، أقسم: لا يفيق
تتميز قصائد الرثاء التي كتبها شاعرنا باهتمامها بالقضايا الإنسانية العامة، وعدم توقفه عند القضايا الشخصية البحتة، وهذا واضح في رثائه للعلامة "عبد القادر عياش"، ومحمد راتب النفاخ، وشعيب الجندلي، والدكتور عصام سرطاوي، ووالد السرطاوي، وعبد الرحيم بدر.
ولفلسطين والفلسطينيين مكان خاص في مهجة كل حر، فهم أصل المناعة الأولى في مقاومة العرب والإنسانية للصهيونية العنصرية... وشاعرنا لسان حال الأحرار:
احفروا في ربى فلسطين قبري في خليل الرحمن بين الكروم
قد سئمت الحياة نفياً وقهــــراً فعساني في القبر ألقى نعيمي
من الجدير بالذكر أنّ شعر الملوحي لا يقتصر على الرثاء، بل إنّ أعماله الشعرية غير المنشورة، والتي تتجاوز الخمسمائة صفحة من القطع الكبير تتوزع بين الشعر الذاتي، والغزل، والطبيعة، والهموم الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والوطنية والقومية...
تميّز الملوحي برهافة الحس، والعاطفة الإنسانية الصادقة النبيلة، وعاطفته لا حدود لها:
وعاطفة لو هبّ معشار خصبها على القفر أضحى القفر بالزهر كاسيا
لقد ناهض أشكال التمييز الطبقي والعرقي والديني جميعها، فعاطفته إنسانية ثوريةمعادية للعبودية، ولم يكتف بالدعوة للرفق بالعبيد والمظلومين، وإنما دعاهم إلى الثورة ضد مستعبديهم، وبقي في خندق الثوار:
وإن ثار في الأرض العبيد وجدتني نصيراً لزحف الثائرين مواليا
لم تخل حياته من مكابدة الظلم والتجني، وتتمخض عن هذه المعاناة لوحات عاطفية صادقة تهز أقسى المشاعر، فالتعاسة والبؤس والقسوة تخرج الإنسان من طوره، وتحرمه صحة الحواس، فتريه الأزهار مكفهرة في أوج تفتحها، وتحوّل قطرات الندى الشفافة الصافية إلى مدامع نحس في نظره:
أي فؤادي ها أنت تكرع سماً كشراب وبئس هذا التحسي
ما أظن الأزهار تبسم للصبــــح وهذا الندى مدامع نحس
يتجاوز الشاعر ذاته في هذه اللوحة، ويصف فيها حالة جميع بؤساء العالم، وهذه تعد من مصادر قوة شعره، التي لا تقف عند الذاتي، بل نرى فيها تناغم الذاتي بالموضوعي والعام في الخاص.
وللغزل نصيب وافر في شعره؛ ها هو فنان يمسك بريشته ويرسم: المرح والنشوة تتحول إلى ألوان زاهية تطوق الزنود، وتكسو الخدود الوردية، وتوحد جسمين يأبيان الفراق:
قضينا الليالي في مراح ونشـوة فزند على زند وخد على خــد
وإذا ذكرت الطبيعة يرتسم العاصي والغوطة، وترواد الأحلام الشاعر، ويحلق بين الماضي، والحاضر، والمستقبل متسائلاً تساؤل العارف، لكنّه يتجاهل معرفته المرة القاسية، ويوهم نفسه، ولو في الخيال، بإمكانية تحقيق ما يبدو مستحيلاً فيعود العاصي كما عهده: يركض خلف الفراشات والبلابل على ضفافه، ويشرب من مائه النمير، ويعود ديك الجن لينسج ملحمة العشق الخالد مع جاريته ومتيمته المغنية الصبوح "ورد":
ترى أيعود للعاصي صبــاه؟ فيرفل بعد في ثوبٍ قشيــبِ
ترى أ أنام والصفصاف يضفي عليّ الظلّ في المرج الخصيب؟
وأشرب ماءه بيدي صفــواً؟ وكان يفيض بالماء الشـروبِ
وينظم فيه ديك الجن شـعـراً يفوح بيانه فوح الطيـــوب
تُغني عنده "وردٌ" و"بـكــر" فتسري "الآه" في الليل الرهيب
الشاعر عبد المعين الملوحي ليس مع الشعر القديم ولا مع الشعر الحديث؛ إنّه مع الشعر سواء أكان قديماً أم حديثاً، شريطة أن يكون شعراً.. ولقد نظم ونشر شعراً قديماً وحديثاً من شعر التفعيلة. وهو يعتقد أنّ القصيدة الكلاسيكية لم تفقد بريقها..
رأي عبد المعين الملوحي في شعر المناسبات :
يقول الملوحي: "شعر المناسبات ليس شعراً على الإطلاق، وهنا أميز بين نوعين من شعر المناسبات، المناسبات الخارجية وتتعلق بالسلاطين والملوك.. الخ، وهؤلاء الشعراء يتملقون لكسب ثقتهم واغتنام هداياهم.. والمناسبات الداخلية التي تخص الشاعر مما يتعلق بأفراحه وأتراحه..."
وهو يعدّ قصائد التملق ابتغاء للشهرة، والمال، والحظوة لدى المتنفذين، أحد أشكال السقوط والانحطاط..
لماذا لم ينل عبد المعين الملوحي حقه؟
يقول الدكتور طيب تيزيني في مقدمته لكتاب يوسف بلال "هكذا رأيت عبد المعين الملوحي" ما يلي: "لعل عاملين اثنين كانا وراء إسدال حُجب صفيقة على (المبدعين الحقيقيين) ووراء محاولة إقصائهم عن المشهد الأدبي والشعري والفكري السوري والعربي؛ أما العامل الأول فيتمثل في أنّهم جاءوا - عموماً وإجمالاً - في مرحلة هيمنت فيها على منابر الثقافة وأقنيتها وتسويقها، بل على القرارات التي تتخذ بشأنها فئات من المثقفين "العاملين في جهاز أو آخر" مما نطلق عليه "الدولة الأمنية". ويأتي العامل الثاني متمماً للأول ويتمثل في انهيار المشروع العربي الديموقراطي...
لقد ظهرت "الخيانة الثقافية" لتجتاح ما عمل على تأسيسه رواد مثقفون ووطنيون وقوميون ديموقراطيون. وكان عبد المعين الملوحي هدفاً لمن قاد تلك الخيانة الثقافية".
دور وزارة الثقافة في نشر أعماله:
إنّ الإنصاف يدفعنا فضلاً عن التنويه إلى الظلم الذي لحق بهذه الثروة الوطنية الحقيقية، إلى الحديث أيضاً عن المؤسسات التي عرفت مكانته وقدّرت أهمية فكره وعطائه، وسعت لرعاية أدبه وفنه، وفي طليعتها وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية السباقة لاحتضانه، ونشر أعماله؛ إذ أنّه بعدما نال إجازة في الأدب العربي من جامعة القاهرة عام 1945 عاد إلى سورية، وأصبح مدرساً للغة العربية، ثم مفتشاً للغة العربية في حمص وحماه واللاذقية، ثم انتقل إلى وزارة الثقافة عام 1960 مديراً للمركز الثقافي في حمص ثم مديراً للمركز الثقافي في دمشق، ومن ثم مديراً للتراث العربي في وزارة الثقافة، وبعدها مديراً للمراكز الثقافية، ثم انتقل إلى القصر الجمهوري مستشاراً ثقافياً بعدها أحيل إلى التقاعد عام 1976، ونشرت وزارة الثقافة ستة عشر كتاباً من كتبه؛ من بينها: اللاميتان: لامية العرب، ولامية العجم، وديوان عروة بن الورد، والحماسة الشجرية، والمنصفات، وتاريخ الشعر الصيني من أول عصوره حتى الآن، وتاريخ الأدب الفيتنامي، ونظمت وزارة الثقافة بالتعاون مع جمعية الترجمة في اتحاد الكتاب العرب ندوة في فرع حمص للاتحاد عام 2021 تحت عنوان "عبد المعين الملوحي أديباً، وشاعراً، ومترجماً" للتعريف بإبداعه وتكريماً له.
كما أصدر مجمع اللغة العربية كتابيه: الأزهية في علم الحروف، وأشعار اللصوص وأخبارهم الجزء الأول. وأصدرت وزارة الدفاع ترجمته لكتاب " تحفة المجاهدين في العمل بالميادين"، وكتاب " في علم الفروسية"، وأصدرت وزارة الأوقاف كتاب حققه تحت عنوان "فهرسة الأغاني"، كما أصدرت مجلة الثقافة، التي رأس تحريرها الأستاذ مدحت عكاش، أكثر من ستة كتب من كتبه، وساهمت مؤسسة البابطين بنشر كتابه "الطير والحمام في الشعر العربي"، بشرائها نسخ من هذا الكتاب بسعر تشجيعي، كما طبعت غرفة تجارة وصناعة حمص كتابه "في بلدي الصغير والحبيب حمص"، ونشرته على نفقتها، وأفردت صحيفة "قاسيون" الوطنية زاوية خاصة باسمه عنونتها بـ "ملوحيات" وغطت جميع أخباره في السنوات الأخيرة...
وعلى الرغم من أنّ جهات رسمية عديدة اقترحت إقامة احتفالات تكريم له في حياته، إلا أنّه رفضها جميعاً، مؤكداً أنّ لا يوجد عربي يستحق التكريم في هذا العهد، فضلاً عن أنّ الخطابات التي تلقى في حفلات التكريم كانت تتناقض مع قناعاته...
يقول الملوحي عن بعض أسباب عدم شهرته: "أنا لست لاعب كرة، ولا ممثلاً، وجهدي وعطائي انصب في المستوى الأعلى الذي يصنع عقل ووجدان الأمة .."
بعد نيل الملوحي وسام جمهورية فيتنام الاشتراكية، اتصلت به لأهنئه، وتساءلت متعجباً عن ذلك التعتيم الذي رافق النبأ، ومقاطعة المسؤولين لحفل التكريم، بمن فيهم تلامذته وأصدقاء له، فأجابني مباشرة:
"السبب بسيط: هذا الوسام ليس من أمريكا، بل من دولة انتصر شعبها على أمريكا".
هل ظلم نفسه؟
من المؤسف أنّ أعمال الملوحي الشعرية الكاملة لم تنشر حتى الآن، بل نشر بعضها في دواوين متفرقة، وبعضها في الصحف والمجلات، وأكثرها محفوظ في أدراج مكتبته، وكان لي شرف التعرف إلى أعماله الشعرية كاملة، ولمست مدى الخسارة التي تصيب مكتبتنا العربية من عدم نشر تلك القصائد التي يحمل أغلبها فضلاً عن قيمتها الفنية والفكرية قيماً اجتماعية وتاريخية فائقة الأهمية.. أجل إنّ أحد أشكال الظلم الذي لحق به عدم نشر أعماله كاملة بما فيها أعماله الشعرية.. إنّه ما زال مجهولاً حتى من أقرب المقربين إليه، ولم تصدر حتى الآن دراسة وافية تسبر أعماقه وجوهره...
آمل أن تجد أعماله الشعرية الكاملة والمخطوطات المحفوظة في أدراج مكتبته النشر لعلّ الأجيال الشابة تتعرف إلى هذا الإنسان الحقيقي، الذي آمن بالإنسان إيماناً مطلقاً، ورأى أنه حينما يجوع إنسان واحد في مكان ما تبكي الإنسانية كلها، وحينما يفقد إنسان ما حريته تكبّل الإنسانية كلّها بالأصفاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال