الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد

الحسين سليم حسن
كاتب وشاعر وروائي

2023 / 11 / 23
الادب والفن


(سيرة الخيام )
رواية قصيرة
الحسين سليم حسن




















الجزء الأول
حديث النجوم























كنت في بلخ في حصن (أمير بو سعد جرة )لما أرسلت في طلب تلميذي الأسبق أحمد النظامي السمرقندي لأجد فيه الأنس والسلوان ،ولأتم ما بدأت معه في علوم الفلسفة والفلك والرياضيات قبل أن تنتهي ايام العمر وأسقط في العدم .
لم يتردد السمرقندي في تلبية دعوتي ،وجاء إلى الحصن وقضى معي ليالٍ كثار ملؤها المتعة في البحث والجدل إلى أن جاءني في ليلةٍ طارحاً عليَ سؤالاً : كيف قضيت عمرك وحيداً يا معلمي ؟وبم أشغلت نفسك ؟ من فضلك قصَ عليَ ما جرى معك في هذه الدنيا كي أستقي من حكمتك يا حجة الحق .فكان له ما اراد .


















نيسابور يا موطئ قدم السلاجقة ،فيك كان مولدي وفيك سيكون مرقدي حيث سيواريني ترابك إلى غير رجعة .
خرجت منك إلى الحياة وقضيت سنواتي الأولى متقلباً بين عبق ريباسك ،وحيرة والدي وحنينه الزرادشتي وإعجابه بملوك العجم ،إلا أنني لم أصب بحيرته فقد ولدت مسلماً ،وتتلمذت على يدي الشيخ موفق النيسابوري الأمر الذي قادني إلى قصور سلاطين السلاجقة ،حيث وجدت الإكرام الذي أستحقه ،بعد معاناة مع نقص المال في منزل أبٍ حائرٍ موهوم .
قضيت شبابي أتحصل العلم من هنا وهناك بعد ان أدركت أن الله خلقني في هذه الحياة وكتب عليَ أن أشق طريقي بنفسي ووضع السلاجقة في طريقي لإعانتي على المضي قدماً في دنيا الغم والأحزان .
شببت وصلب عودي في كنف ملوك السلاجقة ،وبلغ أوج دلالي عندهم مع السلطان ملكشاه الذي قربني إليه ومدني بكل ما يلزم لأتلذذ بما تعلمته في شبابي ،بعد أن كنت مدرساً في نيسابور أتلو على تلاميذي ما تعلمته من كتب فلاسفة اليونان كأفلاطون وسقراط وأبيقور .وكنت في أوقات الضجر ،أجلس إلى حبري ودواتي وأغرق في مصادرات إقليدس ومسلماته وأحاول أن أثبتها .
ما تعلمته لدى موفق النيسابوري لم يكفيني ولم يروي عطشي ،لذا لذت بكتب اليونان وأرهقت نفسي حتى غياب الوعي في كتب الشيخ أبو علي بن سينا ،وتارةً كنت أسليها بأساطير ملوك العجم ،وأعيادهم واحتفالاتهم .
عشت بعد وفاة والدي في نيسابور وحيداً ،أخرج من مدرستي وأعرج على الأسواق لأستمد منها القوة ،فبينما كان السلاجقة يسحقون أعداءهم كما سحقوا في الماضي البويهيين والغزويين ،
كنت أنا أشعر بالأمان ،وتنتابني رغبةٌ في عيش كل تفاصيل الحياة بكل ما فيها ،ولو أنني كنت أكاد أجزم بأن هذه الحياة غير ذات نفع ،إلا أنني مشيت مشحوذاً بقوة السلاجقة ،الذين كان الخليفة في بغداد يمنحهم كامل الصلاحيات .
إلى أن قابلت أهم رجلين في حياتي ،اللذين جعلاها تنقلب إلى الأبد ،الحسن بن الصباح ونظام الملك الذي صار وزيراً للملك ملكشاه وعن طريقه ولجت باب المعرفة وفتحت لي هذه الحياة درباً لا أضجر فيه ،ويعينني على قلة حيلتي وشقائي .
وكان في صداقتهما هذه ما يغير الأنفس ويبدل الأهواء ويجلب معه حيرةً أخرى أو ربما أحلاماً أو أوهاماً أو توسيعاً للمعرفة والوعي حتى درجة الشتات !




رغم بداوة بني سلجوق إلا أنهم صبوا اهتمامهم على العلم رغبةً منهم في عدم حصر قوة الدولة في الجيش ،ولما كان صديقي الذي تتلمذ على يد الشيخ موفق النيسابوري (نظام الملك ) قد قادته حنكته وذكائه لاعتلاء منصب وزير ملكشاه فقد راسلني ودعاني في رسالته لحضور اجتماع مع الملك وقال فيها أن الملك يرغب برؤيتي لشأن زيادة مخصصاتي الشهرية التي كان والده السلطان ألب ارسلان قد خصصها لي لجهودي في الرصد الفلكي ودروس الفلسفة في نيسابور .
ولم أتردد في مقابلة الملكشاه ، الذي أسند إلي مهاماً جديدة وجعلني رفيقه في رحلات الصيد للتنبؤ في المناخ ،ووعدني بأن يمدني بآلات الرصد المناسبة وأمر بإنشاء مرصد ضخم مقره أصفهان .
قبلت بتلك الحياة التي أرادها الله لي ،ولم أكترث فيما لو كان السلاجقة أو غيرهم يعتلون سدة الحكم وفيما لو كانت جهودهم تلك غرضها ترسيخ قوتهم وحكمهم ،واعتلائهم لسدة حكم العالم الإسلامي .
أحببت أصفهان وكنت أعرج على المسجد الجامع فيها لأصلي ولأتأمل الزخارف الجصية فيه ،والسقوف القرميدية للقبة الشمالية ،والتي كانت تبنى وقتها ،بعد أن أمر ملكشاه السلجوقي بترميم المسجد ولم يفارقني التأمل سواءً في نيسابور أو في أصفهان ،حيث كنت في نيسابور أفر من منزل والدي العائش على أنقاض أمجاد الملوك الساسانيين والرباعيات الفارسية وأهرب إلى حيث يجري نهر نيسابور ،أو أصعد إلى الكهوف الجبلية وأقضي الساعات في خلوةٍ مع النفس أفكر كثيراً في الخالق وفي معنى هذه الحياة ثم أعود إلى أوراقي اليونانية في الرياضيات والفلسفة.
أما في أصفهان فقد أصبح المرصد الفلكي هو شغلي الشاغل ،والسماء هي مصدر تأملي الوحيد والأشد نجاعةً ،ويمكن القول أن أصفهان قد منحتني هديةً مميزةً ،خليطاً من التامل الفلسفي ،والإنجاز العلمي في مكانٍ واحد وتحت ظل حكم يطيب الملاذ به .








دعاني ذات ليلة ملكشاه مع نخبة من العلماء المسلمين لتصحيح التقويم الفارسي ،وقمنا بإخراج الزيج الجلالي وحددنا يوم عيد النيروز ذلك العيد العظيم الذي يعود لأسلافنا ملوك الفرس ،وجعلنا شهر فروردين بدايةً لعام المسلمين جمعاء ،مما جعل ملكشاه أشد إعجاباً بي وشدد على الإسراع في بناء مرصدٍ أكبر حجماً من مرصدي الذي كنت أعمل فيه .
ومرت الأيام هكذا في انتظار بناء المرصد ،وقضيتها أنا غارقاً بين اسطرلاباتي وجداول بطليموس ومصباح النجوم أقيس ارتفاعات النجوم وأحدد المناخ وأرسم مناظر السماء تبعاً لخطوط العرض في كل منطقة .
وكنت لما أتفرغ لنفسي أبحث في تاريخ عيد النيروز لدى قدماء الفرس وأثقف نفسي فيه ،علني أستفيد منه يوماً ما .
بينما كان ملكشاه منشغلاً في حروبه مع الفاطميين والبيزنطيين وغيرهم لترسيخ الحكم السلجوقي ولتوسيع رقعة الدولة .
أما صديقي الوزير نظام الملك فكان يزورني في مرصدي ويتفقد إنجازاتي ويحكي لي عما قام به من خطوات جديرة بالاهتمام لدعم العلم والعلماء في كل اقاصي دولة المسلمين من تأسيسه للمدارس النظامية في كل مدينة تتمتع بأهمية ما ،بدءاً من بغداد وتعيين افضل العلماء والشيوخ للتدريس فيها .
وكان يروي لي قصص معاناته مع الحسن الصباح صديقنا الثالث الذي اختفى فجأة بعد أن رفض كل عروض نظام الملك عليه بتسليمه أمور ولاية الري أو غيرها من اقتراحاته عليه بتحسين مكانته لدى السلجوقيين .
ورغم أنني كنت منشغلاً على الدوام في مرصدي ،كانت تمر علي ساعات أسأل نفسي فيها :هل أنا سعيد فيما أقوم به ؟وأطرح ذات السؤال بما يتعلق بصديقي نظام الملك ،فحتى نتمتع بما يقدمه لنا السلاجقة نستسلم لهم استسلاماً تاماً وبثقة عمياء ،وأننا كلما ارتوينا من نهر العلم كان ظمأنا يزداد فيما يخص تساؤلاتنا الكثيرة عن الكون والحياة والغرض من كل هذا الشقاء !








كانت الفلسفة في عصري أمراً غير مرغوب فيه ،لما كان الغزالي كبير الفقهاء قد أشهر عداوته للفلاسفة من خلال كتابه تهافت الفلسفة ،الغزالي الذي عينه صديقي الوزير نظام الملك أستاذاً للفقه في المدرسة النظامية في بغداد وكان ذلك ضرورياً لمجابهة الافكار التي تشكل خطراً على الدولة بما أنه كان أشعرياً يستعمل الحجة والمنطق والعقل في إثبات صحة النص ،وكان مثالياً لمواجهة أفكار إخوان الصفا الذين دعوا إلى إدخال الفلسفة لتصحيح الضلال الذي نعيشه ،بما أن الأشعرية قامت في الأساس للرد على أفكار المعتزلة الذين غلبوا العقل على النص ،وكان الغزالي هو الملاذ الأخير لمجابهة أفكار الباطنية التي أسسها صديقي الحسن الصباح والتي دعا فيها إلى وجود إمام لكل زمان وعلى الجميع اتباعه بثقة عمياء وكانت الباطنية قد انشقت عن الاسماعيلية التي كانت قد ظهرت لما اختلف أبناء جعفر الصادق على الإمامة ،ونسبت الإمامة إلى ابنه اسماعيل .
وكان السلاجقة قد تحركوا لدحر الحسن الصباح بعد أن جند فدائيين لتنفيذ عمليات اغتيالات في كل أرجاء بلاد المسلمين .
إلا أنني كنت أجد ان الفلسفة ضرورة حياتية بالرغم من أنني اضطررت لأن أعكف عنها كي لا تلاحقني تهمة التتبع للحسن بن الصباح ،طالما أنه غدا كل ماهو فلسفي مرتبط به وبجماعته في رأي الفقهاء وفي رأي الملكشاه بذاته ،إلا أنني كنت في أوقات فراغي وخلوتي أؤنس وحدتي بكتب أفلاطون وأبيقور إلى جانب قراءة أفكار الباطنية ،أو أقرأ رسائل إخوان الصفا ،أو أزور ملك بخارى الذي فتح لي قصره وأجلسني بجانبه حتى في مخدعه وعلى فراشه ،وكنت أنا أقص عليه قصص ملوك الفرس وأشرب معه شراب الشعير الذي احتفى به الملوك الساسانيون لما يفيد البدن والروح ،بينما كانت أسئلتي الفلسفية تتراكم في دواخلي الحائرة .











بالرغم من أن بني سلجوق استطاعوا هزيمة أعدائهم في الدول المجاورة ووسعوا رقعة بلادهم على حساب البيزنطيين مثلاً في معركة ملاذكرد وقضوا على البويهيين وخلصوا الخليفة من مدهم إلا أنهم استهزؤوا بما قد يمكن ان يحرزه الحسن بن الصباح من تقدم في نشر دعوته حتى طالت قبضة أتباعه صديقي الوزير نظام الملك الذي تلقى طعنة سيفٍ غادرة في حديقة منزله على يد أحد الفدائيين الذين جندهم الحسن بن الصباح .
ومنذ ذلك الحين تغير كل شيء علي وخيم الحزن على حياتي وصرت أسترجع ذكرياتي مع صديقي نظام الملك في نيسابور حينما كنا نتمشى في سوقي المربعة الكبيرة والمربعة الصغيرة ونشاهد صناعة الخزف والفخار التي ذاع صيت نيسابور بها و أنسج انا رباعية فارسية أرتجلها وأتلوها عليه ،بينما يحدثني هو عن الأسس السياسية في الحكم كما يراها من منظوره .
انشغلت بعد فقداني نظام الملك بإنجاز كتبي العلمية بعد أن نجحت في حل معادلات من الدرجة الثالثة بواسطة القطع المخروطي واستطعت إثبات مصادرات إقليدس في التوازي فجمعتها في كتاب (شرح ما اشكل من مصادرات إقليدس )،وخصوصاً بعد تراجع الاهتمام بمرصد أصفهان من قبل الملكشاه الذي كان منغمساً في الصراعات التي تدور في منزله بين نسائه واولاده ومنشغل التفكير دوماً بما تقوم به الباطنية وفي كيفية مواجهتها.
لذا أصبحت كتب الشيخ أبو علي بن سينا ملاذي في تلك الليالي الطويلة التي لم يشبعها التأمل وكتابة الرباعيات الفارسية التي اسأل فيها عن الغرض من وجودي وأحاول أن أعرف من خلالها ذاتي وهذا ليس بالفلسفة في رأيي فعلى الأقل علينا أن نسأل عن الغرض من كل هذا الغرق مابين الأرقام والعلوم وإلى أية غايةٍ يقود ؟ وبحثت عن إجاباتٍ لكل هذه الاسئلة في كتاب الشفاء.
ونظراً لطول أوقات فراغي فقد اطلعت أيضاً على ما جاءت به الباطنية من أفكار الفلاسفة اليونانيين ،ودفعني كل هذا إلى كتابة آرائي الخاصة عن جميع تساؤلات الوجود فعكفت عن العلم قليلاً ،وملأت وقتي في إنجاز رسالةٍ عن الوجود أعيد فيها التوازن إلى ذاتي المضطربة .






لكم حسدت سقراط على شجاعته في ممارسة الفلسفة أمام العلن دون أن يضطر لأن يكتب أفكاره ويجمعها في كتاب مثلي أنا ،لما كتبت رسالة في الوجود وأثارت تلك الرسالة جدلاً كبيراً وأقاويلاً كثيرة عني .
فبعد مقتل صديقي نظام الملك على أيدي الباطنية وإهمال بني سلجوق لي وخصوصاً بعد وفاة الملكشاه على نحوٍ مفاجئ وغير متوقع وسعي زوجته تركان خاتون للسيطرة على الحكم لصالح ابنها محمد البالغ من العمر آنذاك خمسة أعوام وتشابك المؤامرات في القصر السلجوقي .رحت أكثر من التأمل وأنا جالس في مرصدي أراقب النجوم ولكن بأسلوبٍ مختلف عما كنت من قبل .
أو أنزل السوق أراقب الحرفيين وهم يعبرون عن نظرتهم الفلسفية عن العالم من خلال القطع التي يشكلونها وأتساءل فيما لو كان التراب والرمل الذي يستعملونه يحمل في جعبته بقايا بشرٍ منذ غابر الأزمان ،من أيام كسرى وبهرام ،وكم أن الإنسان مهما بلغت قوته وجبروته فإن مثواه الاخير هو التراب ،وأنه لاجدوى ربما من كل ما نتعلمه ،وأن كل ماننجزه قد يغدو غير ذي قيمةٍ بين ليلةٍ وضحاها ،كما قد نفقد جزءاً منا بفقداننا لأناسٍ لم نكن نتصور الحياة بدونهم كما حصل لي مع نظام الملك صديقي الذي برحيله تعرفت على جانب من الحياة لم أكن لأدركه من قبل ،الجانب الموبوء بالشقاء والوحدة وإعادة النظر في كل الأمور .
وبينما كان صديقنا الثالث (حسن الصباح )يكمل ما قد بدأه حتى النهاية بعد أن استطاع السيطرة على قلعة ألموت وجعلها مقراً له ولأتباعه ،كنت أنا قد فقدت ثقة الفقهاء والعلماء بي وكانت توجه إلي التهم بالزندقة إلى الحد الذي طردتني فيه الملكة تركان خاتون من مرصد أصفهان وقطعت عني الراتب الشهري .
فقررت أن أؤدي فريضة الحج كي أسكت الشائعات التي تدار عني ،وزرت في طريقي إلى هناك بغداد والتقيت بكبير الفقهاء الغزالي هناك وأعجبت بعقلانيته التي تكتنف شخصيته وأفكاره التي تضعه في مرتبة الفيلسوف حتى ولو كان ينكر ذلك ويمقت الفلسفة والفلاسفة ويدعو إلى حصر العقل في فهم النص فقط ،ولم أكن لأخمن ذات يومٍ أنه سوف يعود في النهاية إلى التصوف وينعزل في مسقط رأسه نيسابور ويؤسس داراً للصوفيين يقضي فيها آخر أيام حياته .








بعد عودتي من آداء فريضة الحج ،كان السلطان بيركياروق قد اعتلى كرسي العرش بعد هزيمته لزوجة أبيه تركان خاتون ،فاتخذت مأوىً لي بالنقود التي جمعتها طوال تلك السنوات من عملي في المرصد وشرعت في تأليف كتاب أتحدث فيه عن عيد النيروز وغرقت في قصص ملوك الفرس وعاداتهم وأسماء الأشهر وأنواع السيوف التي استخدموها ،وقسمت كتابي إلى عدة أقسام كل قسم منها يتحدث عن أحد اهتمامات الملوك الفرس والتي كانت تبرز في عيد النيروز لما كانت تقدم السيوف والبوازي والشرابات وأكثرها شراب الشعير لهم وخصصت أحد الفصول لمديح الوجه الحسن .
ثم أرسلت ذلك الكتاب الذي أسميته (نيروزنامه )الذي كتبته بالفارسية إلى الملك بيركياروق ألتمس فيه من خلاله الرأفة بحالي إلا أن ذلك كله لم ينفع فقد كان السلطان مشغولاً بحروبه لاستعادة قوة الدولة التي راحت تضعف أكثر فأكثر في عهده بعد الحملات الصليبية في بلاد المسلمين واحتلال القدس وتأسيس مملكة بيت المقدس فيها والتي طالت ملكها خناجر الباطنية أيضاّ .
ورحت أفتش عن حل ما أصرح به للملك وبحثت في كتب أفلاطون ومدينته المثالية ،وكتب أرسطو وأبيقور إلا أنني اكتفيت فقط بإنقاذ نفسي .
ولما كانت الدولة تضعف كنت أنا أزداد هشاشةً وضعفاً وأصبحت عاجزاً عن التحصيل العلمي كما كنت سابقاً ،واتجهت كلياً إلى الادب والفلسفة وأكثرت من نسج الرباعيات الفارسية وصارت الذكريات هي ما تشغل بالي فقط ،ورحت ازور الأماكن القديمة وأفكر في المواقف التي جرت معي ،فأصبت باليأس لما اكتشفت أن كل ما كنت أعيشه من مجدٍ كان مجرد وهم وبأن هذه الحياة لا تساوي أية قيمة ،وربما ليس لها أي معنى ،لذا قررت أن اغتنم ماتبقى لي من عمري في المتعة كما أوصانا ابيقور والامتناع عن التفكير بأي معنىً لهذه الحياة الفانية .










(أنا أحمد النظامي السمرقندي تلميذ عمر الخيام ):
لم يتم معلمي عمر الخيام رواية قصته لي ،ولم يرغب في الإفصاح عن سنواته الأخيرة بعد ان اعتزل العلم وتفرغ للتأمل ولعيش الحياة على حد تعبيره ،واكتفى بإخباري عن رغبته في أن يدفن في مسقط رأسه نيسابور وأن يكون قبره محاطاً بالأزهار والاشجار المثمرة والروائح العطرة .
لما زرت نيسابور بعدها بعدة سنوات سألت عنه فأعلموني بموته ودفنه في قبر خاص في المدينة ،ولما زرت قبره وجدته كما تمناه ،محاطاً بأشجار الريباس وكأنه مهد آخر له .
ولما اطلعت على رباعياته التي خلفها وراءه في أحد منازل تلاميذه التي كان يتنقل بينها في أواخر أيامه بعد أن بدد ثروته التي جناها من المرصد الفلكي .
عرفت سبب خجله من إخباري عن سنواته الأخيرة التي كان يتردد فيها على الحانات ويحتسي الخمر الذي بجله في رباعياته حتى أنه جعله سبباً كافياً للبقاء على قيد الحياة .
وعرفت من خلال رباعياته أنه قضى آخر أيامه يسائل الله ويحاججه ويطلب منه المغفرة وينصح الناس بعدم أخذ هذه الحياة على محمل الجد لأن مصير الجميع إلى التراب ويتغزل بالوجوه الحسنة وبالخمرة الصهباء ويخاطب المتشاوفين والمغرورين ويذكرهم بنهايات ملوك الفرس العظام الذين لم تنفعهم قوتهم وجبروتهم .
واكتشفت من خلالها أن معلمي كان قد ضجر من خيبته ومن كثرة معارفه وعلومه التي خيبت ظنه ولم تضمن له السعادة التي يتمناها المرء لذا لجأ إلى الخمرة التي تذهب العقل لكي ينسى ما ضاع منه في حياته التي لم يعشها لنفسه وإنما لخدمة الغير في علومه وحكمته ،فأمست تلك الرباعيات بمثابة زبدة تجربته الحياتية ،ولهذا السبب كانت ساحرةً وصادقة وتزلزل الكيان وكأنها مدينة فاضلةٌ صنعت من الكلمات فقط .
لما غادرت نيسابور حاملاً معي نسخةً من رباعياته بخط يده ،شعرت وكانه يرافقني بشخصه ،ولما نظرت إلى السماء أتأمل النجوم لأستذكره ،تراءت لي كلمات الرباعيات وكأنها تشع في عرض السماء .







الجزء الثاني
حديث النفوس























كنا ثلاثةً لما التحقنا بمدرسة الشيخ موفق النيسابوري ،وكنت أنا أشدهم هزالاً وصمتاً .
فتىً في مقتبل العمر لم يتسن له أن يتفوه بكلمة مما يدور في خاطره أمام هالة والد فصيح ومتحدث وحافظ لأمجاد الفرس ،والذي أمام رعبه لا يمكن لك لو كنت ولده إلا أن تلوذ بالفرار منه حتى تجد ما يمكنك من الوقوف أمامه بثبات ودون أي شعور بالنقص ،أي ما يجعلك نداً حقيقياً أمامه .
والدي الخيام البارع في صناعة الخيم ،وفي إحاطة نفسه بهالة من الحجج المنطقية أمام محدثيه وآلاف القصص عن البطولات والبذخ في عهود ملوك الفرس ،كان زرادشتياً يتقهقر رغم أنه كان قد أعلن إسلامه ،وكان بالنسبة لي أي بالنسبة لولده رجلاً صعب الطباع ،لا يمكن كنه مقاصده بسهولة ،وغير ودود على الإطلاق .
كنت هشاً امامه وكذلك كانت أمي ولكي أستمد قوة ما تمكنني من مجابهته ،رحت أسعى وراء علوم الدين والعلوم الأخرى التي يجهلها تماماً ،فلما دخل والدي في الإسلام لم يكن بالعمر الذي يجعله فضولياً للإحاطة بكل التعاليم الإسلامية لذا بقيت معارفه الزرادشتية الفارسية المفخمة هي ما يقتات عليه في يومه ،وللسبب ذاته استطعت التميز عنه .
وكان أول ما جعلني أتخطى سلطته ،هو أنني اصبحت أكثر معرفة بأمور ديننا منه ،مما يعني أن لي الافضلية عند الملوك السلاجقة منه ،فضمنت بذلك المستقبل.
تنحى بعدها والدي جانباً عندما توفي ،ولم يعد أمر التغلب على سلطته بالأمر ذي الأهمية ،واختفت برحيله حكايات الشاهنامه التي شكلت رعباً بالنسبة لي لما كانت السبب الرئيسي لنظرته إلي وكأنه ينظر إلى صرصار مسحوق ،كونني نشأت مستقيماً ضعيفاً بعيداً تماماً عن أكون بطلاً من أبطال الشاهنامه .
وهكذا استطعت أن أخدش استعلائه الزرادشتي بنيل رضا السلاجقة بأن أصبح مصدراً لقوتهم بتوسيع معارفي ،هذه القوة التي كانوا بحاجة إليها كبرهان آخر أو كتأكيد على الطمأنينة التي تضمنها السمعة الجيدة لدولة تدعم العلم والعلماء .
لذا لما قابلنا السلطان ألب أرسلان أنا ونظام الملك صديقي ،وقفنا صامتين أمامه وهو يمدح ويبجل باجتهادنا ،على الرغم من أسلوبه في الكلام وعدم تناسق المعارف التي أسس عليها كلامه اللتين كانتا تدلان على أنه رجل لايعرف سوى البطش كمصدر لقوته ،وأنه بدوي بالفطرة عاش حياةً قاسية لا تعرف مبدأً أساسياً في الحياة سوى القانون الأساسي الصرف لها :لا شيء يتم إلا بالقوة .
ورغم ابتذال كلماته وتعبيراته إلا أننا رضينا بما يقوله عنا وكنا اقرب أن نصفق له أو نقبل يديه لأنه يتفضل علينا بمديحه الذي علينا استقباله بحفاوة من ينال مديحاً من شخص تفوق عليه .رغم أننا كنا مدركين أننا نفوقه علماً وحجةً وديناً إلا أنه ثمة شيئا" في دواخل النفس الإنسانية ،شيئاً وحشياً من عصور القدامة ،يدفعها للرضوخ امام القوة الجسدية وأمام الغوغائية أو الإقحام الغير المبني على منطق وغير المدعوم سوى بفكرة واحدة قوامها (أنا الأقوى هنا ،فكلامي هو الأهم ،ويجب الإنصات إليه بالقوة ).
حينها شعرت بالحزن يكتنفني ،وتحسرت على الأيام التي كانت فيها سلطة والدي هي العائق الذي أحاول تفتيته ،أمام سلطة لا يمكن سوى الرضوخ إليها ،والقبول التام بأنك تعيش في كنفها ،في أمانها المطلق ،وأنها هي تمنح لعلمك ومعرفتك المعنى !
وهذا هو أحد اعترافاتي التي لا أخبر أحداً به ،أنني اشتريت الراحة والحياة الملونة المحاطة بكل مايشغل الوقت بالرضوخ التام لمن هو أقل دراية مني ،والذي ربما أعتبره في قرارة نفسي جاهلاً لكنه الأقوى وهذا ربما ما ظننته قانون الحياة الصرف للبشرية !
وربما من هناك بدأ الخطأ ،فإنني لما فكرت بهذه الطريقة غفلت عن أمر هام هو أن قوة من وضعت نفسي بين أيديهم وتحت سلطتهم مصيرها إلى الزوال مهما طالت ،وعندها ستتحول القوة والسلطة إلى يد أخرى وعندها لن أتمكن من نيل استحسان الجميع ،عندما أصل إلى عمر لا أملك فيه المقدرة على التغير أو التأقلم مع ماهو جديد .
ولم أكن لأخمن يوماً بأن كل ذلك قد يضيع يوماً من بين يدي ،وستنهار كل تلك الرزانة التي ملكتها ،ويتحول الجد والحياة المنظمة التي اعتدت عليها إلى عبث يقودني لأبحث عن تزجية الوقت في الحانات بين كؤوس الخمر .
يمكن القول أيضاً أن فقداني لصديقي نظام الملك فيما بعد قد ترك في جرحاً لا يلتئم بسهولة ،وانسلاخ الحسن الصباح عني على نحو مباغت .
فقد كنت أنا بينهما الأشد صمتاً والأقل طموحاً ،فحيث كان نظام الملك يطمح بالوصول إلى منصب سياسي يقربه من الملك ،ويعمل بشغف كبير على ذلك ،ويطلع على أمور الجيش وأسلحته وعلى أمور الحكم وترسيخ المفاهيم التي تضمن الحكم السلجوقي ،وكان يهتم بقوته الجسدية وهندامه ،كنت أنا غير مكترث بكل تلك الامور وكان شاغلي الوحيد هو مراقبة السماء والغوص في كتب اليونان رغبة مني في توسيع معرفتي من جهة أو لأنني كنت أجد أن ثقافتنا غير كافية بمفردها وأن ما يريد السلاجقة أن يرسخوه ضيق الأفق وكنت أعلم بأن دولتهم هذه ستنهار يوماً ما ،ولكن لم أكن أجرؤ على البوح بذلك .
كنت بقراءتي للفلسفة اليونانية أتحدى والدي وحكمه التي نخرت رأسي والتي استخلصها من قصص جبابرة وملوك طغاة ،وأتحدى نفسي التي لم تكن لترتوي بالعلوم والمفاهيم المتاحة والمسموح بها ،كنت ارغب أن أرد اعتباري لذاتي الضعيفة المستسلمة أمامهم ،بأن أثبت على الأقل بيني وبين نفسي أنني أدرك ما لا يدركون ولن يدركوه يوماً .
ولذا ربما اهتممت بقراءة رسائل إخوان الصفا ،لكونهم من الجماعات التي لم تنل رضا الطابع الثقافي العام ,سواء لدى الملك أو لدى الفقهاء ،وحتى أنني رحت أفتش في كتب الباطنية وأحلل خطابهم ،وكان ذلك بمثابة تمردي السري ،وكنت أحياناً في سري أحسد الحسن الصباح بالرغم من جزمي بكونه يعاني من نقص عقلي .
ولما نلت الاستحسان الأكبر من الملك السلجوقي ملكشاه لما أمر بإنشاء مرصد ضخم أعمل فيه ،وجعلني رفيقه إلى رحلات الصيد ،سقطت في خدر تام ،وطمأنينة لم يكن علي أن اطلق العنان لها أو أثق بها ،عندها نسيت أمر ضعفي وهشاشتي ونسيت أمر التحدي الخفي بيني وبين سلطة آل سلجوق ،وتقبلتها بعماوة ،وغرقت بين أدوات الرصد أعمل بشغف ،وأشعر بين الاسطرلابات الثمينة وفي الوجود الهائل للمرصد بتميزي وبأنني ملكت الدنيا بما فيها .
ولم يكن هذا بالأمر السلبي تماماً ،إذ منحني ذلك فرصةً ذهبية لأفهم العلوم بتأن ولأتأمل الكون والحياة بشاعريتي المحجوبة في داخلي والتي كنت أرفض إظهارها ،وأنسج الرباعيات الفارسية بلغتنا الأصلية الفارسية وكم اكتشفت عندها أن قصص والدي عن ملوك الفرس تسير في دمي رغم نفوري منهم .
أصبحت اتعلق بالأدب والحكايات أكثر ،لما طرق الرخاء بابي ،لما صار الملكشاه بذاته يصمت أمامي ويعتبر كلامي نهائياً ولا نقاش فيه ودعاني لتصحيح التقويم الفارسي ،مع نخبة من العلماء فجمعت تلاميذي وأسسنا ورشةً ضخمة ،وكانت تلك أجمل أيام حياتي وراودني فيها شعور المجد .
ووقفت لأول مرة إلى جانب صديقي نظام الملك فخوراً بنفسي ،وشعرت بقوتي الرهيبة بجانبه ،إلى جانب أهم سياسي في بلاد المسلمين وأشدهم خبرةً وذكاءً وشجاعة في صنع القرارات وتطبيقها على أتم وجه دون أي تردد .
لم أحصل نتيجة ذلك على التقدير فقط وإنما على الحب والثقة ،فقد كان السلاجقة بداوة يحبون من قلبهم ،بالرغم من أن نيل حبهم وثقتهم ليس بالأمر السهل وكان لهم مزاجية السلاطين وشغفهم للتقدم وضمان سير كل الأمور في الدولة على أتم وجه ،ولو أنهم كانوا غافلين عما قد تثيره الأفكار وعن مدى سرعة انتشارها ،حتى ولو رمموا كل المساجد ووحدوا المدارس والمناهج في كل أرجاء الدولة .
كانوا يهتمون بالجماليات دون الالتفات للجانب السوداوي ،إلى مكامن العتمة حيث وجد الحسن بن الصباح أتباعه وأغراهم بالحشيش الذي يذهب عقولهم ويريحهم من فقرهم وقلة حيلتهم .
اعتمد آل سلجوق على الفقهاء والعلماء لكن التمردات على حدود الدولة كانت شرسة ،والقوة العسكرية في تلك المناطق كانت تنهار شيئاً فشيئاً خصوصاً بعد انشغال السلطان بمشاكل عائلته وزوجاته .
لم أكن ألتفت لما يقوله الفقهاء كثيراً ،وإنما سعيت للاختلاف عنهم وعن الجميع ،وكنت أفضل السياسة المدنية لكن لم أكن لأدلي بهذا الرأي كثيراً في مجالسي مع العلماء أو الملك في البداية لما كنت غارقاً في نعيمي منشغلاً في مصادرات إقليدس ومسلمته عن التوازي إلا في بضعة أحاديث مع صديقي نظام الملك لما كان يزورني في المرصد بعد أن شعر بأهميتي وتخلى عن شيء من غروره واعتداده بنفسه .
وكان هو من مؤيدي تلك السياسة لكنه لم يفضل يوماً التحدث عنها ،كان مثلي أنا متغاضياً عن حقه في الإدلاء بآراء لا تتلاءم مع ما يحاول السلاجقة فرضه أو حتى الفقهاء والتوجه الثقافي في البلاد ،وكان للأسف أعمى مثلي عما سيقود إليه صمتنا عندما تنهار الدولة ويسود معارضيها بخناجرهم قبل أفكارهم .
وأول ما طالته خناجر الباطنية هو صديقي نظام الملك وخسر حياته في غمضة عين ولم تنفعه كل تلك القوة وكل ذلك الذكاء ،وخسرت أنا معه قطعة من روحي وجعلني هذا هشاً من جديد أمقت كل ما بين يدي من علم وأفر هارباً منه إلى السماء أناشدها بعينين دامعتين .






















تبدل كل شيء في حياتي مع غياب صديقي ،وصرت أفتش عن خصاله التي أصبحت أفتقدها والتي ملأت فراغاً في داخلي لا يمكن ملؤه بسهولة ،لذا تقمصت تلك الخصال وعكفت قليلاً عن وحدتي وعملي الدؤوب ورحت أقابل زملائي من العلماء ونتحدث في الفلسفة ومعنى الحياة ورأينا في العدم واللذة والسياسة المدنية ،والتي أصبحت أكثر جرأة في طرحها ،ووجدت في ذلك إخلاصاً لذكرى نظام الملك وتنقلت بين نيسابور وأصفهان وبلخ وبخارى أنشر أفكاري التي تدعو إلى محاججة الكل بمن فيهم الفقهاء لنتمكن من السيطرة على المد الباطني .
فيما بعد وعند وفاة الملكشاه على نحو مفاجئ ومثير للريبة ،أهملت كلياً المرصد وبدأ بساط الرخاء يسحب من تحت قدمي لما تخلت عني زوجته تركان خاتون لتعصبها المفرط وكانت لا تستسيغني أنا وأفكاري وتتهمني دوماً أنني على تواصل مع الحسن الصباح .
كانت أشد جهلاً من جميع آل بني سلجوق ،امرأة بدوية صارمة حادة الطباع يظهر على قسماتها الدهاء والمكر الشديدين ،وعندما استطاعت أن تسيطر على الحكم لصالح ابنها محمد راحت تصدر قرارات عشوائية لا تمت للحكمة بصلة ومن بينها إقصائي تماماً عن العمل وحرماني من راتبي الشهري .
فعلت ذلك بدافع من الفقهاء وبضعة العلماء الممتعضين من سلوكي والأفكار التي أنشرها والذين راحوا يصمونني بصفة الزنديق الخارج عن الدين .
ومن هنا بدأت معاناتي وصرت أقضي أوقاتاً طويلة في الوحدة والتأمل والنوم ،وعدت إلى الصلاة الليلية من جديد و احياناً كنت أصليها في المسجد الجامع وأبكي على صديقي وعلى الزمان الذي غدر بي ،وصفعني بقوة لإيقاظي من وهمي وخدري ليذكرني بخطئي الفادح بأنني استسلمت كلياً لحضن السلاجقة ونسيت أن لا شيء يدوم وأن النعيم لم يخلق للدنيا وأن هذه الحياة لا تساوي أية قيمة .



















الجزء الثالث
حديث القلب









(أنا جيهان خليلة عمر) :
لقد أرسله الله لي بعد سنوات من العذاب ،إنه عمر خليلي .
كان هو في الستين من عمره وكنت أنا في العشرينيات أو هذا ربما ما شعرت به فقد كنت أجهل عمري الحقيقي لكوني ولدت ونشأت نشأة مختلفة عن النشأة الطبيعية لإنسان ما .
كبرت و تفتحت عيني على الحياة ووجدت نفسي لا أجيد سوى أمر واحد هو الغناء ومسامرة الرجال في الحانة التي ترعرعت فيها .
قابلته ذات ليلة بالصدفة ،كان متردداً في أمر الولوج إلى الحانة ،وكان يبدو عليه الحزن الشديد و مشاعر من يبحث عن بداية جديدة ،أو من يفتش عن منطقة يفهم فيها نفسه ،الضائعة الكسيرة المنهكة ربما أو ربما المخدوعة .
وأنا استطعت التماس كل هذا في وجهه ،رغم أنني لست بالشاعرة ،وحتى لا أجيد القراءة والكتابة ،وبالنسبة للسلاجقة الذين يحكمون البلد لست سوى فرد من أفراد الأمم المنحطة في تفكيرها ،المنبوذة ،وربما غير المرئية ،إلا أننا في مكان عملنا لا يجرؤ أحد على الحط من قيمتنا ،فقد كان الجميع من كل أصناف المجتمع الشريف والمتعالي يجيئون إلينا نحن ،ونكون حينها نحن من ينشر ماله قيمة بسحرنا وفننا ،وكأننا نملك العلياء بأكملها بجمالنا .
صدمت لما سألت عنه وأخبروني بأنه عالم فلك معروف ومشهور ومكرم لدى السلطان ،ولدى أهل العلم والفقه والدين .
إلا أن ذلك ماشدني إليه ،وكنت على ثقة تامةً أنه داخل هذا العالم التائه يكمن شاعر كبير يفيض قلبه بمشاعر جياشة ورائعة ،وأنه لن يحتاج لإبراز كل هذا الجمال الذي في داخله سوى لكأس الخمر ،ولصحبتي بحناني ولساني الذي ينطق بكلمات عطرة ،و لإنصاتي الكلي لصوت قلبه وهو يسرد علي أوهام المجد التي كان غارقاً فيها .
لم يكن العشق ربما ما جمعنا ،إلا أنه أشد روعة ،كان سلوكه كلياً يحمل في كل تفاصيله حكماً بالرغم من أنه كان نزقاً على الدوام متمنياً على الدوام عودة الزمن إلى الوراء كي يعيش ما يعيشه في شبابه فقد أخبرني ذات يوم بأنه نادم على انشغاله الدائم بالعلم على الدوام .
وأنه كان من الأفضل إنقاذي مثلاً من الحانة ،بدلاً من تصحيح التقويم الفارسي ،بأن يطالب بحقوق لي ،أنا الغجرية اللقيطة التي لا تحمل سوى اسماً يدل على هويتها ،المنفية من الحياة كلياً داخل قوقعة الألوان والرجال أعرف العالم من خلالهم فقط ،لكنني اعرف الكثير ،عن الأسلحة والجيش والحروب الصليبية ، لما أسامر جندياً سواء تركياً أو أرمنياً أو فارسياً .
وعن الخزف والنقش لما أسامر خزافاً نيسابورياً ،وعن الاغتيالات لما أسامر أحداً من أتباع الباطنية الذين كانوا يحاولون دوماً أن يستدرجوني إليهم للقيام بعمليات فدائية سرية إلا أنني كنت أخذلهم دوماً وأشي بهم جميعاً .
لما كنت أسرد لعمر كل هذا كان هو يكتفي بالإنصات لي دون أن يبدي أي رأي فيه ،واعتدت على ذلك فقد كنت أعلم أنه يعيش مع ذاته فقط ،مع عوالمه الداخلية حتى ولو كنت بقربه .
وكنت أنا غير مفهومة بالنسبة له وحتى لا رغبة لديه في محاولة فهمي ،أو التعاطف معي .
كان هكذا مكتفياً بعذاباته وصدماته ،وكنت أنا بمثابة شيء جميل يذكره بأن الوقت مستمر وأن الأشياء الجميلة قد تعود يوماً ،وعليه ألا ييأس مستعيناً بي وبكأس الخمر في لعبة انتظاره الغريبة ،انتظار حياة أخرى ربما أو كان ذلك مجرد استسلام ورضوخ لشكل من اشكال السعادة في رأيه ألا وهو اللذة وإمتاع النفس بأنانية مطلقة كما لو أن ذلك هو المعنى الذي بحث عنه دوماً للحياة ووجده أخيراً هنا بعد أن فشلت كتب العلماء وقصور الملوك في إرشاده إليه .
وكان هذا واضحاً جلياً في طريقة شربه للخمر أو في رغبته في اصطحابي معه في نزهات إلى الطبيعة حيث نجلس وحيدين وأعزف له على العود بينما يحتسي الخمر بشراهة وكان يفضل أن نقوم بذلك صباحاً وسط الأزهار والفراشات .
لم يكن حتماً بالمجنون ،و كنت أعلم أنه يشعر بحزني ،إلا أنه فضل أن يعيش خيباته بنفسه ومع نفسه وحافظ على ذلك الحاجز بيني وبينه .














يمكن القول بأنني لو تعرفت بعمر العالم لم أكن لأنجذب له منطلقاً ،وأنني كنت في غاية السعادة أنه وصل إلي في عمره المتقدم هذا ،بشاعريته الخالصة وصمته وحتى ولو كان ذلك يستفز رغبتي في الحصول على قلبه وعيش الحياة معه ،تلك الحياة التي حرمت منها على نحو ظالم .
فقد وجدت فيه الأب والصديق والحبيب وتعلمت معه أن أعيش عبدةً لمشاعري فقط ،بعد الله ،بعد ان كنت عبدة للفراغ والعبث .
رغم أنه كان عبثياً في شخصيته تلك التي أحببتها ،وكنت أنا بالنسبة له صدفةً محضة ،وربما كانت امرأة أخرى لتحل مكاني لو شاء القدر ،لكنه كان يرضى بالحياة كما هي ،لذا لم يقدم أي اعتراض للحياة على منحها إياي له .
وهذا ربما من الأشياء التي جعلتني أحبه أكثر ،إضافةً إلى تواضعه، وعصبيته الرجولية الجاذبة والتي كنت أكاد أجزم أنها جديدة عليه اكتسبها بعد أن خسر الوهم الذي كان يعيش فيه .
قضيت معه هكذا سنوات ،أرافقه إلى الحقول و أرتحل معه بين مدنه المفضلة أستمع إلى حكايات الملوك الفرس ،وأعرف أكثر عن والده الزرادشتي وعن الزرادشتية ،عن الماء والنار وعن ترك الجثث للطيور الجارحة و أحياناً عن النجوم والاسطرلابات والمناخ ،لكن على نحو غير دقيق .
كانت هلوساته التي يسببها الخمر تحمل في جعبتها الكثير من الأفكار المنقوصة والطلاسم ،كما لو أنها تعويذات سحرة ودجالين ،وأحياناً كان يدلي بأفكار أقرب إلى أفكار الباطنية ،أو يتحدث إلى الله ويطلب منه المغفرة على احتسائه الخمر ولأنه يسامر فاجرةً مثلي !











عمر خليلي هو في الأصل شاعر وفيلسوف ،لقد ولد شاعراً لكن انخراطه في علوم الفلك والرياضيات لم يكن سوى محاولة نفسية وشعرية وفلسفية لفهم ذاته ،ولفهم الحياة بعد معاناته مع الاختلاف عن والده الزرادشتي المتحول إلى الإسلام .
لقد لجأ إلى العلم عله يجد فيه الإجابات عن معنى الحياة ،وعن شيء يشغله عن وحدته ويملأ وقته ويشحذ هشاشته بالقوة ،لكنه لم يجد الإجابات ،ولم يسعفه انشغاله بالعلم سوى في تمضية الوقت هكذا دون أي معنى فلسفي لما يقوم به ،دون أن ننكر أنه قدم للعلم الكثير .
إلا أن خليلي العزيز لم يكن سوى شاعراً يخفي عن الناس حكمته ،وأسئلته المؤجلة منذ صغره ،وهذا ما التمسته فيه ،في عينيه الحزينتين وفي نوبات غضبه ونوبات الحنان الجياشة التي كانت تصيبه وتجعله مثل طفل صغير يرى العالم للمرة الأولى لذا كان الخمر يمنحه فرصة اكتشاف الأشياء بروية مجدداً ،وكان في هذه المرة يكتشفها بشاعرية وليس كما المرة الأولى بعقله وخبرته المعرفية .
وكأن الخمرة كانت تساعده على التلذذ بالشعور بالأشياء على نحو جديد ،رغم انه لما كان يصحو كان يؤنب نفسه على الخزي الذي يسببه لإسلامه ،حين يعربد ويسكر ،ويطلب من الله المغفرة .
كان يحب فكرة انه ولد مسلماً ويشدد أنه يتميز بها ،ويحب تذكر ماضيه المجيد أحياناً إلا أنه يجزم بأنه كان وهماً .
كنا نتحدث عن ذلك في بدايات جلساتنا والتي لا تستغرق طويلاً قبل أن يسقط فريسة للخمرة ،والتي كان يفضلها على تلك الذكريات التي لا نفع فيها على حد تعبيره .
كان الهروب من الواقع ،الهروب من أسئلته وخيبته كان الدافع الأساسي لاحتساء الخمر ،وكان يرغب في التمتع بجمال هذا الكون والذي حرم من التمتع به لما كان ينظر إلى الكون بعين العالم ،أو ربما كان يكبح جماح الشاعر الذي في داخله رغبةً منه في ضمان عيشه الرغيد في أحضان السلاجقة الذين كانوا يجدون فيه عالماً بارعاً ومن نخبة العلماء .
وكان من الواضح أن الشاعر الذي في داخله قد ثار فجأة وكلياً على طريقة الحياة التي عاشها واكتشف أنها لم توصله إلى السعادة الحقيقية .
ذلك الشاعر الذي أحببته أنا بكل تفاصيله ،وعشت معه سعادته الغريبة تلك ،سعادة ليست مشتركة وإنما عاشها كل منا على حدى ،مع نفسه فقط !




بعد سنوات من فراقنا إبان هجرتنا القسرية نحن المغنيات إلى خارج إقليم خراسان بعد افتضاح أمر الحانة ،أرسلت في طلب أخبار عنه ،وعلمت بأنه قد توفي ودفن في نيسابور بين الورود وفي الطبيعة التي كان يقدسها ويحلم بأن ينصهر فيها .
لم أشعر بالحزن حينها ابداً فقد كنت على يقين تام بأن ذلك المكان هو المكان الملائم له ،بعد كل هذه الخيبة التي لم يستطع التغلب عليها ،وكانت الراحة الأبدية وسط عطر الريباس وتغريد الطيور أفضل بكثير من التعايش على الخمر والأوهام .
لا أدري إن كنت أنطق بكلمات قاسية وفظة إلا أنني أحببته من قلبي وعرفته جيداً ،وهو في النهاية لم يمت وإنما بقي حياً برباعياته التي أحفظها أنا عن ظهر قلب وسأبقى أرددها أينما ذهبت وأنشدها في سائر بقاع الأرض .
وهو وإن ظن بأنه قد مات دون أن يحقق أية غاية ،فلعله كان مخطئاً ،لقد عبر عمر في كل مرحلة من حياته عن عصيانه ورفضه ولكن بطريقة ناعمة ،عبر عنها كما يعبر العظماء ،دون أن يثور ودون أن يخادع ،عبر عنها تارة بالعلم وتارة بالتماس الجمال بشاعريته .
لقد ترك لنا إرثاً رائعاً يشفع له استسلامه وخدره وضعفه ،وعيشه مع ذاته ولذاته ،ومايشفع عنه أيضاً أنه غير حيوات الكثيرين برباعياته وجعل كل من يسمعها يحب ذاته ويعيش للحياة فقط دون أن يلتفت لاعتبارات أخرى تفرض عليه قسراً .














الجزء الرابع
حديث الزمن





















(أنا الكاتب ):

كيف نفلسف العصيان ؟وهل من داع لذلك ؟طالما أن العصيان لن يفضي سوى إلى تدمير الذات ،كما لقنونا في كتب التاريخ .
وهل من منافع تذكر تقود إليها فلسفة العصيان ؟ ماالذي مثلاً يمكننا أن نتعلمه من تجارب العصاة عبر التاريخ ؟
في الحقيقة ،لو نظرنا إلى الشخصيات العاصية عبر التاريخ لوجدنا أن للعصيان منافعه كما له مضاره ،فعلى الارجح لم يكن للحياة البشرية على الأرض أي معنى عبر التاريخ لولا العصيان ،لقد منحها العصاة المعنى ،واختلفت المعاني باختلاف تجاربهم .
ورغم أنني على قناعة تامة بأن العصيان يأكل صاحبه ويتعبه وربما يدمره إلا أن ذلك لم يقف عائقاً في طريق رغبتي في تأليف كتاب أمجد فيه العصيان وأمدحه .
أنا الكاتب الذي كان العصيان في كل مرة يفتح لي بوابةً مغلقة تقودني إلى الحياة رغم أنني _ولن أنكر ذلك _كنت أدفع أثماناً باهظة مقابل ذلك .
وبما أن الحكم على إيجابية وسلبية تجربةٍ ما يتبع للظروف والمكان الذي نعيشها فيه ،فربما من المستحسن أن أكتب تجربتي مع العصيان وعن تجارب من أثبتت الوقائع أن العصيان كلل حيواتهم بالمعنى ،وكان العصيان في حالتهم ضرورةً ملحة .













(ألف عاص وعاص )على غرار (ألف ليلة وليلة ).
أنبش بين الكتب التي تزخر بها مكتبتي ،مفتشاً عن لعنة العصيان المضيئة وأتأرجح ما بيني وبينهم .
هكذا نشأت في ذلك الحي الطويل الفارغ من أي باعث على العيش في مدينةٍ كئيبة تحول الناس فيها إلى عبيدٍ لعقارب ساعاتهم .
وعلى الرغم من كل هذا الضجر والكآبة ،فقد آثرت العيش في ذات المنزل منذ الصغر ،منزل العائلة الذي يتبقى كما هي العادة للفرد الذي يمتهن مهنةً تقتات على الماضي كمهنتي .
أعيش في هذا المنزل بعد أن غادر الجميع ،وآخرهم كانت شقيقتي الكبرى التي آثرت العيش وحيدةً حتى النهاية ،يشغلها عملها الدؤوب في الترجمة ،والتي كانت بمثابة العاصية الأولى والأكثر تأثيراً علي .
عصت شقيقتي مجتمعها ولم تتزوج ،وكانت تؤمن بأن قوة المرء في وحدته ،تقرأ شوبنهاور الذي يرى بأن الإنسان سيواجه نفسه في النهاية مهما عاش مع الآخرين ،وأن السعادة قرار ذاتي .
وتستمع إلى داليدا معجبة أشد الإعجاب بشخصيتها وبفرديتها وقراراتها المتخذة بنفسها والذي كان آخرها قرار موتها .
وهكذا نشأت على أغنيات داليدا وهي تصدح في منزلنا والتي لم أكن لأفهم منها شيئاً لولا وجود شقيقتي .
كانت تترجم أعمال ألبير كامو وسيوران ،وتهديني أول النسخ المطبوعة لأقرأها ،بعد أن أصبحنا وحيدين في منزل والدينا ،وتجعلني في كل مرة أتساءل عن سر شغفها بكل ماهو عدمي ،أو يرى في الحياة غير ذات نفع .
كانت شقيقتي شوبنهاورية ،شكاكة في كل أمر ،حتى في الحياة نفسها ،ولا تقبل أي مطلق وكانت ترى بأن الشك هو ما يقينا من ملامسة حدود التوحش ،وكانت لا تجادل كثيراً وتبقي أفكارها لنفسها التي ربما كونتها عبر الزمن من خلال قراءاتها .
في المحلات التجارية لاتساوم ،وتتجنب الأخذ والرد ،تكره الحفلات الصاخبة وتفضل البقاء في شرفتها محاطةً بمزروعاتها وليلكها .
في المقابل كنت أنا أعيش حياتي الخاصة بمعزل عنها ،وإن كان ثمة شيء يجمعنا فهو على الاغلب ما تستلزمه علاقة الاخوة ،إلى جانب نقاشاتنا الغنية حول مائدة الطعام ،عن الفلسفة الألمانية واليونانية والتي كنت أنا أفضل الثانية ،لأنه كان لدي رأي خاص بأن الفلسفة يجب أن تكون مؤثرةً في المجتمع الذي تظهر فيه ،ويجب أن تحمل راية التغيير ،لا أن تنبثق من شبع ورفاهية زائدة .
كنت شغوفاً بسقراط الذي أدخل الفلسفة إلى مواقفه اليومية وحولها إلى نموذج حياة ،حتى أنه لم يكتب أي شيء منها ،بل عاشها .
فيما كانت شقيقتي تخالفني الرأي ،وترى بعدم جدوى أي تغيير كان ،لذلك اتجهت اهتماماتها نحو النفس بينما اتجهت أنا نحو الخارج والآخر .
ثم سرعان ما أصبح الآخر شغلي الشاغل ،أتقمص شخصه وأكتب على لسانه رواياتي ،ثم تنجح تلك الروايات لتبعدني عن الآخر وتزيد من عزلتي مجدداً ،خجلاً من نظرات العتاب في أعين من اقتحمت حيواتهم دون إذن .
أنا الذي كنت أقضي وقتي إن لم يكن في الكتابة ففي محاورة أصدقائي الكثر في المقاهي ،كان لدي وقت مستقطع سري للغاية ،وقت لا تشغله الكتابة ولا يشغله الآخر أعيش فيه مع أعتى عصاة التاريخ مفتشاً في حيواتهم عن لعنة العصيان المنيرة !

















لما قررت أن أكتب روايةً عن حياة أختي التي تمثل أيقونة العصيان بالنسبة لي ،رحت أفتش بين أغراضها عما يعينني على كتابة تلك الرواية ،ووجدت كما توقعت مئات الكتب لشوبنهاور و ألبير كامو وغيرهم من فلاسفة العبث والعدم .
إلا أن ما أثار استغرابي وجود أكثر من نسخة لرباعيات الخيام بين كتبها وفي درج مكتبها ،وحتى أنني عثرت متأخراً على وصيتها التي توصي فيها بأن تحفر على قبرها إحدى رباعياته المشهورة التي يتكلم فيها عن الحيرة بين الشك واليقين وبأن الطريق ليس أياً منهما .
أثار فيَ ذلك العجب ،فأنا لم أذكر بأنها كانت يوماً مهتمةً بأي شاعر إن لم يكن شاعراً أوروبياً أو يكتب باللغة التي تترجم منها بحكم عملها .
ولما فتشت في دفتر مذكراتها أدركت كم هي معجبة بالخيام ،وأنها كانت في داخلها النية لتأليف كتاب عنه ،تشرح فيه فلسفته كما وصفتها ،فقد كانت تجده فيلسوفاً ،وكتبت أيضاً في مذكراتها أنهما يلتقيان في كثير من الأمور ،الخيام الذي عصى على طريقته وعاش لمعنىً يخصه وحده ،ومر كمرور النسيم في الزمن تاركاً أثراً لا ينسى من خلال رباعياته .
وهي التي بنت عالماً يخصها ،عالماً من الوحدة التي لا تفضي إلى الحزن وإنما إلى الطمأنينة والجمال ،عالم تغمره الموسيقى والكلمات العذبة ،والفلسفة والاكتفاء بالقليل ،والهدوء الذي يقود للتفكر والنزاهة عن الماديات .
كان عالمها هذا أقرب إلى عوالم الصوفيين لكنه يحمل طابعاً خاصاً ،تماماً مثل عمر الخيام الذي كان يخاطب الخمر ويجد فيه معشوقاً أبدياً ،بينما كانت شقيقتي تخاطب الموسيقى والكلمات كعشقها الخالص السرمدي .
لذا استبدلت فكرة كتابة رواية عنها بفكرة إكمال مشروعها بأن أؤلف كتاباً يتحدث عن الخيام ،كواحد من عصاة التاريخ المختلفين،والذي تحمل رباعياته في طياتها يوتوبيا مميزة ونادرة لم ولن تتكرر أبداً عبر التاريخ .








عندما شرعت في تأليف رواية عن عمر الخيام ،بحثت عن الكتب التي تتناول سيرته وفلسفته ورباعياته والعصر الذي عايشه ،ووجدت أنه شخصية مثيرة للجدل وحيرت الكثيرين من المؤرخين والباحثين وخصوصاً في خصوص تصنيفه كشاعر صوفي أو لا أدري والبعض عده من الباطنيين !
وبعض المؤرخين شككوا في حقيقة أن يكون العالم هو ذاته الشاعر ،لما وجدوه من تباين في الطباع والأفكار بين الشخصيتين بالمقارنة بين أسلوبه العلمي وأسلوبه الشعري الذي يحمل بين طياته الكثير من الأسئلة الفلسفية الجريئة وصور المجون .
إلا أنني استطعت إيجاد تفسير ملائم لكل هذا ،بما قدمته في روايتي وهو أنه عاش مرحلتين مختلفتين كلياً كانت فيهما الظروف متباينة للغاية ،ولم ينعم الخيام في المرحلة الثانية بالرخاء الذي عاش فيه في المرحلة الأولى لما كان مقدماً على العلم بدعم من الحكم السلجوقي الراسخ والقوي والشرس ،بل عاش كسيراً بلا مأوى ربما ،خائباً ونادماً على صمته التام ورضوخه للنعيم المغدق عليه دون حتى أن يبحث عن استقلاليته .
وتزامن ذلك مع نفوره من العلم الذي لم يقدم له أية اقتراحات للسعادة أو إجابات عن أسئلة الوجود التي كان منشغلاً بها على الدوام وخصوصاً في رسالته عن الوجود وفي رباعياته .
فلجأ إلى حياة أخرى ،حياة دون مخططات ،حرة إلى درجة التطرف ،وحتى دون تحكم عقلي أحياناً لما يذهب عقله بالخمور وفي حانات الراقصات والمغنيات ،حياة عوض فيها ما أضاعه من سنوات في العمل الجدي المنضبط والصارم ،وفي الصمت عن آراءه وأفكاره مقابل الغرق في النعيم .
وفي حياته الثانية هذه لم يكن سوى مستسلماً أيضاً إلى نوع آخر من النعيم ،النعيم المسكر الذي يجعله يغيب كلياً عن ذاكرته ويبتعد عنها أكثر كي لا تؤلمه من جديد .
لذا فأنا رجحت بأن يكون عمر الخيام عدمياً أو وجودياً إن صح التصنيف تماماً كشوبنهاور وكألبير كامو وشقيقتي ،يؤمن بأن الحياة لا معنى لها إلا إذا اخترعنا لها المعنى وفي حالته تغير المعنى مرتين بما يتلاءم مع ظروفه وفي كلتا الحالتين وجد معنىً يخصه وحده وخلده في كلتا الحالتين هذا المعنى سواءً بعلومه أو بأشعاره ورباعياته التي راجت في الغرب قبل الشرق ومازالت حتى اليوم ترددها الأجيال .
ذات يوم وحينما كنت أفتش في دروج شقيقتي وجدت علباً لدواءٍ منوم ،فأدركت بأنني كنت أجهل أشياءً كثيرة عنها ،فلم تكتفي شقيقتي ربما بالموسيقى والأدب كعناصر أساسية لعالمها الخاص ،بل أدخلت عليه الخيال من خلال الهروب من الواقع عبر الأدوية المنومة التي تنتج أعراضاً أقرب إلى الهلوسات وتخيل عوالم أخرى لتبرهن لي مجدداً أن ما جمعها مع عمر الخيام كان أيضاً اللجوء إلى ما يذهب العقل كوسيلة أخيرة للتشبث بالفردية والوحدة .
حينها بدأت أكتشف أن من عشت معها كانت فتاةً أخرى ،وصرت أشكك في كل ما عشناه سوية وفي جميع الذكريات التي لا يمكن الوثوق بصحتها .
فبالرغم من أن شقيقتي كانت تبدو سعيدةً على الدوام ،فإنه تبين لي أنه على الأغلب لم يكن الامر هكذا ،وأن تلك المترجمة الهادئة الضحوكة دائماً غير المكترثة بما يقوله المجتمع عنها ،كانت تخفي في داخلها شاعرة ضعيفة تقاوم بصعوبة تقدم الزمن وكانت أيضاً عاشقة عنيدة .
وقد عرفت عن قصة حبها عبر مذكراتها ،التي تتحدث فيها عن إخلاصها الأبدي لحب شاب لم تحظى منه سوى الخيانات المتكررة والجحود وأنه بعد كل ما عاشته من آلام معه تزوج بأخرى من أجل مركز مرموق في المجتمع ولأن عائلتها أشد ثراءً من شقيقتي .
عندها فهمت كل شيء ،فهمت تلك الشقيقة التي احتفظت بشاعريتها لنفسها وعاشتها مع نفسها ،ولم تظهر لنا سوى الجانب الصلب المثابر على العمل المتمرد على ثوابت مجتمعية تصر على زواج الفتاة ،إلا أن كل ذلك كان ناتجاً عن قصة حزينة خفية موجعة إلى درجة عدم القدرة على التغلب عليها بسهولة .
وجدت ايضاً بين اغراضها أسطوانات لأم كلثوم وهي تغني رباعيات الخيام التي ترجمها الشاعر المصري أحمد رامي ولحنها رياض السنباطي ،وكتبت شقيقتي في مذكراتها أنها كانت ترغب في إهدائها لحبيبها إلا أنها علمت في ذات الوقت بزواجه وتخليه عنها .
لذا وضعت تلك الأسطوانات على الحاكي القديم في منزلنا ورحت أستمع إليها ،فاكتسحتني رغبة في البكاء ،البكاء على عجزي عن فهم حزنها قبل أن ترحل ،فربما كنت استطعت أن أفعل شيئاً ،إلا أنه من المؤكد لم أكن لأستطيع أن أقوم بشيء مؤثر كما فعلت رباعيات الخيام معها ،وأسلتها عن الحزن طوال تلك السنوات .










في الأيام التي تلت معرفتي بقصص أختي الخفية ،انتابتني كآبة عظيمة ،وتغير برنامج حياتي الذي بدأت أعيد النظر فيه كلياً ،فقد وسعت هذه المعرفة وعيي على نحو لا يصدق ،وجعلتني أنظر إلى الأمور بنظرة مختلفةٍ كلياً .
وبينما كنت أجمع المعلومات اللازمة لكتابة تلك الرواية عن عمر الخيام لإهدائها لروح أختي ،اصطدمت بأسئلة وجودية وفلسفية كثيرة لم تخطر لي من قبل مما دفعني للبحث أكثر في كتب شوبنهاور وكامو وسيوران فيلسوف العدم فوجدت تلك النقاط المشتركة بينهم وبين عمر الخيام وبين شقيقتي فكل منهم قدم شكلاً مفيداً لعيش الحياة ،لكن الفرق أننا لا نعلم بم مر كل من شوبنهاور وسيوران وكامو وعمر الخيام في حيواتهم من تجارب ،دفعتهم لتبني تلك الفلسفة على النحو الدقيق الذي عرفته عن تجارب أختي
لقد كانت أختي فيلسوفة ،لكنها لم تكتب شيئاً من فلسفتها وإنما عاشتها بكل تفاصيلها ،واكتفت بذلك الوجه الظاهري كمترجمة لأعمال الفلاسفة العظام .
جعل هذا كله اهتمامي يتبدل ،فتخليت عن فكرة تمجيد العصيان في كتابي عن عمر الخيام ،لأنني بدأت أرى أنه يجب أن نرى الأمور من منظار مختلف ،بأن نكتب عن هذه الشخصية كما هي دون الحكم عليها أي دون إطلاق صفة العاصي أو المتمرد أو المختلف عنها ،وإنما يجب أن نراها تبعاً للظروف التي عاشتها وتبعاً لظروفها التاريخية والنفسية .
وقادني أيضاً ذلك إلى معرفة عميقة لذاتي ،وما مررت به من مراحل قادت بي أيضاً نحو الوحدة كما شقيقتي والتي لم أشعر بوحشتها إلا بعد اكتشافي بأن وحدة شقيقتي لم تكن تلك الوحدة المثالية المبنية على اقتناع تام ،أو أنها نوع من الفردية المقدسة .
فقد قلب ذلك الاكتشاف حياتي رأساً على عقب وتخليت عن تلك النظرة المثالية للعالم وعن هوسي بالآخر وبدأت أشكك حتى في حياة العظماء الذين كنت شغوفاً بكتبهم .
لقد علمتني تلك التجربة المساءلة ،ومنحتني الفرصة في الغوص في دهاليز نفسي أكثر لمعرفة ما أريده بالضبط ولأول مرة دون الابتذال في تقديس غيري والتأثر الشديد بهم إلى درجة التغافل عن الذات وعما تريده كما حدث معي أنا طوال حياتي السابقة حتى مع شخصيات رواياتي التي طغت علي وجعلتني كدمية بين أصابعها تحركني كما ترغب هي ،وتتحكم بمشاعري وانفعالاتي وحتى قراراتي .






لما أنهيت تأليف الكتاب الذي أتحدث فيه عن عمر الخيام ،كانت قد تغيرت في حياتي أموركثيرة ،بدءاً بعلاقاتي مع الآخرين ،والتخلي عن كثير من الصداقات القديمة مع كتاب لم يكن بيني وبينهم أي شيء مشترك ،وكانت علاقاتنا مبنية على الإعجاب من قبلي أو الانقياد الأعمى دون أي نقد أو اعتراض على أي تفصيل يذكر .
أصبحت مقلاً في الخروج إلى المقاهي ،إلا مع أصدقائي في الدراسة ورحت استعيد معهم تلك الأيام الجميلة ،وحتى أننا قررنا أن نبحث عمن فقدناهم من اصدقاء الجامعة لنستعيد تلك الاجتماعات القديمة ونسامح بعضنا عن كل ما سبب في تفريقنا من سوء تفاهم ،واختلاف في الآراء .
صرت أزور قبر أختي بكثرة وأضع لها زهور الليلك التي تفضلها على قبرها ،وعهدت إلى خطاط مرموق لينقش رباعيتها المفضلة على القبر .
أصبحت أيضاً أكثر ارتباطاً بالطبيعة والصمت والهدوء، وابتعدت عن الحفلات الصاخبة بما فيها حفلات توقيع الكتب وآثرت لقاء أصدقاء الجامعة في الحدائق أو في النوادي الرياضية حيث نكون أقل زيفاً وأكثر حقيقية .
وتغير مزاجي الموسيقي ومزاجي في الكتابة ،فصرت أجلس وراء مكتب شقيقتي وأكتب وأنا أنصت إلى أغنيات داليدا مطربتها المفضلة ،وأقلب في كتب وتراجم شقيقتي ،وأتنشق عطرها الأمر الذي شجعني على زيارة متجر العطور وطلب النسخة الرجالية منه .
خفت أن أقع فريسة الفقدان وأن أقلدها في كل شيء ،فخصصت فصلاً في روايتي أفضفض فيه عن حزني ومشاعري تجاهها .
لما طبع الكتاب و وزع على المكتبات ‘أهديت أصدقائي القدامى نسخة منه ،والتقينا ذات ليلةٍ في مقهى قديم يذكرنا بالأيام الخوالي وتناقشنا فيه ،وخصصنا الجزء الأخير من اللقاء لإلقاء الشعر ،وقمت أنا بإلقاء بعض من رباعيات الخيام فنالت إعجاب الكل وشبهها أحد الحضور بالكلمات التي تهمس في القلب لا في الأذن .
بعد ذلك بأسبوع ارتفعت مبيعات الكتاب على نحو لا يصدق ،وعاد اسم الخيام إلى الظهور على قوائم البحث في جوجل ،وازدادت قيمة حسابي البنكي إثر ذلك وأصبحت في مصاف الكتاب المشهورين الأمر الذي لم اكن لأحظى به قبل إقدامي على قراءة مذكرات شقيقتي والتي كان لها الفضل الأكبر في جعل ذلك الهاوي محترفاً معروفاً للجميع وفي قلوب الجميع .





بعد فترة قصيرة تلقيت اتصالاً من رئيس دار نشر لم أسمع بها من قبل ،ودعاني لمقابلة معه في مركز دار النشر ،مردفاً بأن الحديث سيكون بخصوص شقيقتي المتوفاة .
لما لبيت دعوته فوجئت بما أخبرني به ،قال لي بأن شقيقتي كانت قد طلبت منه قبل موتها بعدة أشهر أن ينشر مذكراتها التي عهدت إليه بها ،ولكن أن يقوم بذلك بعد عدة أشهر من وفاتها .
وكان هو قد ارتأى بأن يخبرني بالأمر قبل أن يقدم على تلك الخطوة بعد سماعه عن شهرة كتابي الجديد والشهرة الشخصية التي سببها لي ذلك الكتاب ،وذلك لما يحمله كتاب شقيقتي بين دفتيه من مذكرات صريحة وحساسة للغاية والتي قد تسبب ضرراً لتلك الشهرة .
سألته عن تلك الأشياء الحساسة التي ذكرتها على حد تعبيره ،فأخبرني بأنه يفضل بأن أقرأها بنفسي وأقرر بعدها .
أمسكت بكتاب المذكرات وقد اعترتني الصدمة ،فماذا عن تلك المذكرات التي وجدتها في المنزل ؟
ولما وصلت المنزل باشرت فوراً بقراءتها ،كانت تلك المذكرات هي نفسها التي قرأتها إلا أن ما زادت عليه هي الكتابة عن رغبتها الدائمة في الهروب كلياً من هذه الحياة وأنها تفكر على الدوام في الانتحار باستخدام جرعة زائدة من المنومات تماماً كمطربتها المفضلة (داليدا)،وقد بدت في مذكراتها الأصلية هذه أكثر هشاشة وهذا ما صدمني أكثر بأن أعلم أنني لم أكن أعلم شيئاً عن شقيقتي التي كانت تعيش حياةً بائسة للغاية وتكتم كل ذلك في قلبها وأنها كانت تنتظر الموت دوماً وأن كل ما قامت به في حياتها مجرد تمضية للوقت املاً بقدوم الموت في اسرع وقت !
وهذا ما دفعني إلى الطلب بإخراج جثتها والتأكد من سبب موتها فيما لو كان انتحاراً ،وليس سكتة قلبية ليلية كما ظننا ليلة وفاتها .









كان كتاب أختي قد خرج للتو من المطبعة لما تلقيت تقرير الطبابة الشرعية والذي يفيد بعدم وجود أية محاولة للانتحار وهذا ما جعلني فخوراً مجدداً بشقيقتي .
وبعدها بفترة تفقدت مبيعات كتابها فوجدت بأنه لا يحظى بمبيعات كثيرة ،وذلك من الطبيعي فالناس لا تفضل قراءة هذا النوع من الكتب الحزينة إلا أنها في رأيي كانت تماماً كرباعيات الخيام ،مذكرات عظيمة كان لها أكبر الأثر علي أنا ،فربما لم تجعل هذه المذكرات من شقيقتي كاتبة معروفة بل ظلت كما عاشت غائبةً عن الأنظار تبث عطرها بخفية وسرية ،إلا أنها صنعت مني صورة الكاتب الذي كنت أحلم بها على الدوام .
فكرت بكل هذا لما زرت قبرها لمشاهدة ما أنجزه النقاش ،وقرأت رباعية الخيام المفضلة عندها على القبر بصوت عال ،فانتابني شعور بأنها هي من تقرأها بصوتها ،أو أنها تهمسها في قلبي همساً ،كما ستظل تهمس لي على الدوام بكلمات مذكراتها التي غيرت حياتي إلى الأبد .
انتهى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال


.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا




.. جائزة العين الذهبية بمهرجان -كان- تذهب لأول مرة لفيلم مصري ?


.. بالطبل والزغاريد??.. الاستوديو اتملى بهجة وفرحة لأبطال فيلم




.. الفنان #علي_جاسم ضيف حلقة الليلة من #المجهول مع الاعلامي #رو