الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما العمل في وضع كالذي نحن فيه عربيا وجغرافيا محليا ودوليا ؟

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2023 / 11 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


خريطة الطريق

طريق واحد للمعالجة لا اثنان ، لا ثلاثة ، ولا أربعة ، ولا ولا ولا ..
من لا يزال من المهتمين ومن المشتغلين بالشأن السياسي العام ، خاصة الوضع السياسي الراهن المقبل على تحول نوعي اما باتجاه استمرار سيطرة التوتاليتارية على كل الدولة ، وليس فقط على بعض مفاصلها ، وهو وضع يذكر بتحولات لا مفر منها ، لان هذا باعتراف التاريخ ، بتذليل تجارب حصلت في مناطق لم يكن العالم بصدق ما جرى بها ، كالانهيار التام للاتحاد السوفياتي ، وسقوط أنظمة برجوازية الدولة التي حكمت اوربة الشرقية باسم الشيوعية ، وهي لم تكن كذلك ، وسقوط رؤساء حكم رغم ان الحكم الذي انتجهم لا يزال كما كان ، حين ابدع في خلق حاكم على شاكلة الحاكم السابق ، والمصيبة ان ما يسمى بالجماهير وهي الجاهلة ، وبعد ان صفقت لمن سرق نتائج الانتفاضة ( الاخوان المسلمون / الرئيس مرسي ) ، صفقت لمن سرق الحكم من مرسي ، ومدته لحكام غارقين في الدكتاتورية وفي الاستبداد والطغيان السياسي وعلى راسهم الجنرال السيسي .
او ان ينتفض الشعب وتبقى الانتفاضة مستمرة سلميا الى حين التقرير في شكل الدولة الديمقراطية باسم أي عنوان كان ، ملكية برلمانية ديمقراطية كونية ، وليس ملكية مطلقة باسم الخصوصية وباسم الموروث الطقوسي ( الأيديولوجي ) ، او كان جمهورية ديمقراطية كالجمهورية الإيطالية ، وليس الأنظمة شبه الرئاسية ولا الأنظمة الرئاسية .. فنهاية الصراع الجاري بأساليب متنوعة ومتعددة ، آن وقت فرزه نحو الحسم . وهنا كل شيء سيكون بسبب التشكيلات التي ستبزغ وستتصدر مطالب الدولة الديمقراطية ، ونوع الشعارات التي ستكون سيدة الساحة ..
ومثل التفكير في الشأن المحلي ، يأخذ من هذا التفكير النصيب الأكبر نزاع الصحراء الغربية المهدد لعروش اذا خرّ النظام وانزلقت الصحراء من بين ايديه ..
قلت كما جاء في المقدمة ، ان كل المهتمين بالشأن العام الوطني ، والمهتمين بنزاع الصحراء الغربية ، أكيد انهم يتذكرون ما قاله الحسن الثاني في نونبر 1975 " لقد انتهت مشكلة الصحراء " ، لكنها وبعد مرور سبعة واربعين سنة من حصولها ، لا يزال نزاع الصحراء كما كان في بدايته ، بل انه اليوم مهدد من أي وقت مضى ، لعروش انظمة وكراسي حكام ، وقد يكون المدخل الكبير لجغرافية جديدة ، ودول جديدة وشعوب جديدة ، وكل هذا التهديد الطّالُ ( يطل ) برأسه من فوق السطح بيت منفوخ فيه من قبل المجتمع الدولي ، وعلى راسه مجلس الامن الذي ينزل قرارات باسم الأمم المتحدة تقف وراءها مشاريع الدول الكبرى صاحبة الفيتو بمجلس الامن . فيكون الخروج عن قواعد القانون العام ، للأسف تتم باسم هذا القانون الذي يشرع حتى الاغتيالات كما كان " طماس سنكرا " .
فبعد سنوات مرت ، تبدو مشكلة الصحراء الغربية ، وكأنها تكشف وتلخص مشاكل المغرب العربية ، مشاكل افريقيا الشمالية ، والدولة المخزنية السلطانية البوليسية خاصة . كما تنعكس طبعا على الأوضاع الداخلية لكل دولة من دول المنطقة ، وبصورة خاصة أوضاع الدولة المخزنية السلطانية البوليسية ، وأوضاع موريتانية التي يحكمها العسكر ، والجزائر التي يتقاسم حكمها السياسيون من قصر المرادية وطبعا جبهة التحرير الوطني FLN ، وأجهزة المخابرات ، ومن جهة أخرى الجيش من خلال شعبة المخابرات ، ومن خلال تهديده الاخرين بالسلاح الذي يقتنيه بأموال الشعب الجزائري المفقر كالشعب المغربي . فالصحراء الغربية يكون قد تحولت اذن الى نموذج للعلاقات خاصة بين النظامين الجزائري والمغربي ، نسف ما بينها من جسور بناها الماضي بخبراته النضالية المشتركة ، ودمر العلاقة بين الشعوب ، بحيث حول نزاع الصحراء القضايا المطروحة ، مهما كان حجمها ومدلولها ، الى رافعة تقلب احتمالات التقدم والتقارب ، الى عوامل للاقتتال والتباعد والانهيار الذي وصل لأول منذ حرب الرمال في سنة 1963 الى قطع العلاقات ، باسباب زاد من حدتها التنافس والتضاد بين النظامين البوليسي المغربي والعسكري الجزائري .
وهنا . اذا كان من الممكن تحليل التطورات التي شهدتها المنطقة المغاربية من خلال نشوء وتطور مشكلة الصحراء ، فان هذه المشكلة ما كانت لتلعب الدور الذي مارسته ، لو لم توجد ظروف دولية وعربية وداخلية ، دفعتها بالاتجاه الذي سارت عليه ، واعطتها البعد الدولي الذي اخذته ، والذي لن يخرج عن الاستفتاء وتقرير المصير .
التطورات العربية بعد هزيمة " النكسة "
هنا اجد من التذكير في هذا الباب ، بالمؤامرة الكبرى التي استهدفت منذ سنة 1967 ، وحتى الآن ، الامة العربية في كل اقطارها ، واخذت اشكالا خاصة تتأقلم مع خصوصيات هذه المنطقة او تلك من مناطق الوطن العربي الكبير . ان هذه المؤامرة الذي كان زمن " النكسة " العربية في يونيو 1967 تحولا نوعيا فيها ، واستندت الى تحالفات تمتد من خارج المنطقة الى داخلها ، مركزها واشنطن ، ومحاور جهدها الأساسية تلك العلاقات التي أقيمت بين المركز وتل ابيب من جهة ، وبينه وبين عواصم الرجعية العربية من جهة أخرى ( السعودية والخليج في الشرق ، والدولة المخزنية السلطينية البوليسية في الغرب ) ، والتي استفادت الى ابعد حد ممكن من تناقضات الحركة المعادية للغرب الامبريالي ، ونقاط ضعفها وتباين مواقفها وأساليب عملها .
ومع اننا لا نريد الاطالة في الشرح وفي التحليل ، فإننا نرى الأهداف التي تحققت بعد زمن " النكسة " العربية في يونيو 1967 ، على الشكل التالي :
1 ) ضرب المركز الأساسي لحركة الثورة العربية ، وهو مصر الناصرية العربية ، بالأهداف التي يمثلها والأساليب النضالية التي طورها ، والروابط الدولية التي أقامها .
ان ضرب هذا المركز ، كان في حسابات الامبريالية سيخلق مراكز صغيرة متفرقة تسهل تصفيتها فيما بعد ، على يد المركز المشرقي الجديد الذي هو إسرائيل كدولة ديمقراطية في الداخل ، ودولة عنصرية في الخارج .
2 ) تشتيت الحركة الشعبية العربية الموحدة حول الشعارات السياسية المعادية للغرب وللإمبريالية ، والساعية نحو الوحدة العربية ، ونحو نمط جديد من تنظيم الحياة الاجتماعية والتنمية . ان ضرب هذه الحركة الواحدة ، كان سيفتتها في مرحلة أولى ، وسيخرجها من ساحة العمل السياسي في مرحلة لاحقة ، إمّا بالالتفاف عليها في كل بلد وفق معطياته الخاصة ، او بربطها بهذه السياسة او تلك من سياسات الطبقات والفئات الحاكمة ، التي قاومت المركز السابق ، او تصدت لوراثته بعد انهياره .
3 ) إعادة طرح القضايا والمشاكل الاسياسية التي تواجه الامة العربية ، ولكن على أساس إقليمي ، يسهم في تفتيت القضايا الواحدة الى قضايا صغيرة لا نهاية لها ، والى خلط الأوراق حتى لا يعرف الشعب العدو من الصديق .
4 ) امتصاص التنظيمات السياسية المحلية من خلال إعادة طرح القضايا ، وتحويل التناقضات وتغيير اتجاهها واطرافها ، وفرض خط سياسي واحد عليها ، ينطلق من فوق ، من الدولة ، ويحدث تمزيقا وتمييعا لطاقتها ، ويحول دورها في الحياة السياسية ، الى دور هامشي ، او تابع ، او رديف ، بالقياس الى الخط الرسمي السائد .
5 ) توطيد التبعية للغرب على أسس عصرية ، تقوم ظاهريا على " تفاهم " عربي ، وعلى تحديث الدول العربية كأجهزة سياسية ، وعلى علاقات اقتصادية دولية مفتوحة ، لكنها تصب عمليا في قناتين :
ا – افقار ونهب المجتمع والثروات العربية من قبل الدول بدون قيود او حدود .
ب – ادراج هذا النمط من الدولة في علاقات وسيرورات تبعية متعاظمة للبلدان الامبريالية وللسوق الرأسمالية ، بحيث تفوز هذه بحصة الأسد من عملية النهب ، وتترك للدولة موارد داخلية كافية ، تؤمّن لها تفوقا واضحا على اية قوة سياسية معارضة ، او على احتمالات قيام تحركات شعبية ، وطبقية مضادة .
وتكفي نظرة سريعة واحدة على اهداف هذا المخطط التخريبي ، كي ندرك انه حقق جزءا أساسيا منها . فالمركز الأساسي لحركة التحديث العربية ، وهو مصر ، تحول الى تبعية مكشوفة ، وتخلى عن دوره العربي لصالح دور اخر ، في اطار الصراع بين الامبريالية مع الشعوب والمعسكرات المضادة ، كالمعسكر ( الاشتراكي ) سابقا . والمراكز الصغيرة التي أُقيمت بدلا عنه ، هي امّا متناقضة متعادية ومتحاربة ، او مشتتة الطاقات والاتجاه ، وعاجزة في وجه المركز الإسرائيلي الجديد ، والحركة الشعبية الوحدوية المعادية للغرب وللإمبريالية من جهة ، وللسياسات والطبقات الرجعية من جهة أخرى ، ثم تفكيكها وتمزيقها في كل مكان ، وتعرضت لتصفيات حقيقية بأساليب مختلفة ، منها السياسي ، ومنها الاقتصادي ، ومنها التنظيمي . والقضايا الكبرى التي واكبت نهوض التحرك الثوري العربي ، قد طوتها القضايا والمشاكل الجديدة ، وعلى سبيل المثال ، فان هناك أنظمة صارت تسجن من يتحدث عن عروبة فلسطين ( السعودية ، الامارات ، المغرب ... ) ، وكنا الى سنوات قليلة لا نجد من السياسيين العرب من يجرؤ على الهمس بحق الصهاينة فيها . كما اعيد طرح القضايا بصورة جذرية ، فصارت المشاكل والخلافات العربية ، طاغية على ما عداها من تناقضات ، ووصلت الى درجة من الاقتتال بين اكثر من دولة عربية ، وفي اكثر من مكان ومناسبة ، ونشبت سلسلة من النزاعات الإقليمية والسياسية والعسكرية ، وساءت العلاقات بين الأقطار العربية ، حتى صرنا لا نجد قطرين متجاورين ليس بينهما وضع متوتر ومتحجر ، فضاعت المقاييس وتمزقت الاواصر ، وانتقل مركز الثقل من حركة عربية عامة ، تتمحور في الداخل حول اهداف وتنظيمات معينة ، تخوض معركتها مع الخارج الامبريالي ، الى خارج تتأطر في داخله غالبية الفئات الحاكمة ، كي تخوض معاركها مع قوى الداخل العربية او المحلية ..
اما القضايا والمهام التي واجهت حركة الثورة العربية ، فقدت دخلت بعد العدوان ، طورا جديدا . ان موقف سياسيا ينظر الى المشاكل الإقليمية من افق قومي معادي للإمبريالية ، ينقلب الى نقيضه ، حتى طويت المشاكل القومية العامة ، واندحرجت في افق إقليمي مركز اسناده هو الخارج عامة ، والخارج الامبريالي خاصة .
بعد زمن " النكسة " عدوان يونيو 1967 ، انقلب توازن الوطن العربي ، وتحولت مشاكله الى روافع تسهم في تمزيقه ، وخاصة بعد غياب المركز القومي العام ، والمراكز الوطنية التي كانت تتلاقى وتتقاطع مع توجهاته وأهدافه ، وبعد تشتيت الحركة الشعبية العربية الواحدة ، التي دخلت ساحة الصراع بعد الحرب الكونية الثانية ، وكانت فترة السبعينات بداية خروجها منها . هكذا حلت مهام مكان أخرى ، وبرزت سلسلة من القضايا المزمنة بين الأقطار العربية ،وأُعيد ربط الوطن العربي بالخارج وفق أسس جديدة ، وحدث تحول في مراكز القيادة ، التي انتقلت الى حلف رجعي عربي عام ، مركزه السعودية ، والخليج ، والأطراف المرتدة عن الحركة السابقة ( وخاصة في مصر ) ، والدولة المخزنية السلطانية البوليسية ، والقوى الرجعية التي اعادت ترتيب أوضاعها ( على أرضية الانتصار الامبريالي بعد زمن " النكسة " ) في كل مكان من الأرض العربية ، ونجحت في تحويل سياستها الى عامل تفتيت إضافي لحركات وقوى وطنية محلية ، كانت بالأساس تستمد جزءا كبيرا من طاقتها النضالية ، من تيار الحركة العربية العامة ، الذي غيبت ملامحه بعد هزيمة الناصرية في مركزها المصري ، ومزقت اوصاله في طور لاحق بعد ظهور الساداتية . ان جرائم الاخوان المسلمين ، والسلفية الجهادية والتكفيرية ، وكل حركات الإسلام السياسي لا تقل جرما عن جرم الأنظمة السياسية التي تنازلت عن حقوق الامة ، وباعتها للدوائر الامبريالية مقابل الاحتفاظ بعروشها وكراسي حكمها .
في هذا التطور ، وهذا في نظرنا الشيء الخطير ، لم تعد القضايا تعالج كقضايا تخص امة ، بل عولجت كمسائل ترتبط ببناء أنظمة وتكوين اطار . فتحولت هكذا من عامل توحيد الى عنصر تشتيت وتفتيت ، وصار العالم العربي يضج بالخلافات دول الحدود ، وبالقضايا الساخنة بين الدول . لا بل ان الامر وصل الى مرحلة خطيرة تهدد قوام كل شعب من شعوب الامة العربية ، وليست بعيدة عن ذهننا الانقسامات الداخلية في عدة مجتمعات عربية ، وهي انقسامات لا يكاد بلد عربي واحد يخلو منها . وكنا الى سنوات قليلة نعتقد اننا تجاوزناها كالطائفية والانتماءات العرقية والاقوامية والعائلية والعشائرية ، حتى صرنا نسلم دون جدال بان العالم العربي دخل مرحلة جديدة لا مفر من اعتبارها ثورة مضادة شاملة ، تستهدف وحدة الامة ، لأنها تعمل على تمزيقها من الداخل ، وتستهدف الغاء الحياة السياسية للمجتمعات العربية ، لأنها ترافقت مع اندحار تعبيراتها السياسية ، ووصول الازمة اليها الى موقف دفاعي يتراءى للنظار اليه ، انه ميؤوس منه ، وترمي الى دمج الوطن العربي ككل ، وكل قطر من اقطاره على حدة ، في تبعية جديدة للسوق الامبريالية ، ولتحالفات البلدان الرأسمالية ، وتقوم أخيرا ، على ابراز دور استثنائي للدولة حيال المجتمع في الداخل ، خاصة طبقاته المضطهدة من عمال ، وفلاحين ، وطلبة ، وبرجوازية صغيرة في البادية كما في المدينة . وليس من قبيل المصادفة ان يكون نمط الدولة العربية " الحديثة " واحدا تقريبا ، رغم تباين المصالح والطبقات المساندة للدولة العربية المختلفة ، ورغم تباين اشكال الحكم بين بلد عربي وآخر .
وأخيرا فان التنظيمات السياسية الجماهيرية ، التي كانت تطرح في فترة ما قبل السبعينات تهديدا ما للفئات الحاكمة ، تجد نفسها الان امام مفترق طرق خطير . فالحركة الشعبية العربية العامة ، قد تراجعت الى درجة كبيرة ، والقوى التي كانت تعارك الرجعية على صعيد قومي ، تحولت في غالبيتها الى حليف لها ، والوضع العالمي تغير بدرجة ملموسة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ، وسقوط أنظمة اوربة الشرقية ، وسيطرة الاتجاه الاسلاموي على الساحة ، والجماهير في الداخل مبلبلة ومورطة في مشاكل تتعارض مع مصالحها ، والدولة " المحدثة " انتقلت من الدفاع الى الهجوم ، والتغيير كان سريعا الى درجة ان البرنامج او المشروع القديم ، صار بحاجة الى إعادة صياغة جديدة ، تأخذ المتغيرات الدولية والعربية والجغرافية المحلية ، كأساس لفهم جديد ينطلق منه برنامج وليس مشروع جديد قادر على تحقيق الأهداف الشعبية ، التي صارت بحد ذاتها محلا للالتباس ، بعد ان تبنت الدولة والطبقات المساندة جزءا منها في الظاهر ، ذلك ليس بقصد حلها لإفراغها من مضمونها الشعبي ، وفصلها عن نشاطات الجماهير العريضة .
ففي اطار هذا الاندراج الكبير على المستويين القومي والإقليمي ، برزت ولا شك ظواهر مضادة للاتجاه العام ، ومتعارضة معه كالمقاومة الفلسطينية الشعبية والمنظمة . وبذلت جهود كبيرة هنا وهناك ، لايقاف هذا الجرف الساقط ، ولكن لا يغير من صحة تحليلنا للاتجاه العام للأحداث والتطورات . وانه لمعبر اشد تعبير ان تكون الضربات التي تلقتها المقاومة الفلسطينية ، من الوضع والقوى العربيين ، أشد هولا وابعد حدا من تلك التي انزلها بها الجيش الإسرائيلي . وعلى كل حال ، فان هذه الاتجاهات والقوى المضادة للتطور العام ، لا تزال تفتقر الى طابع عربي منظم ، وتعاني من البيئة السياسية المعادية لها ، التي احاطتها بها قوى الثورة المضادة ، كما لم تنجح حتى الان في بلورة برامج قادرة على استقطاب الحركة الشعبية ، وتحويلها الى حركة شعبية عربية عامة ، خلال عملية جدلية متنامية ومتصاعدة .
انها بالأحرى تبذل جهودها حتى الان لتتأقلم مع المعطيات الجديدة ، علها ، كما يظن قادتها ، تتجاوز هذه المرحلة الصعبة . بل وهي مناطق كثيرة ، تركز على التكتيك والمرونة في اطار الاحداث الجارية ، بدل ان تترجم توجهها الاستراتيجي ترجمة برنامجية جديدة وفعالة ، تكسبها مبدئية وصلابة اكبر ، وتعيد اليها ولو شيئا يسيرا من المبادرة الضائعة ، وتربط بينها وبين الجماهير ، وفيما بينها كقوة متشابهة السياسات والمصالح والاهداف .
موقع الامبريالية من كل هذه التطورات

الامر الذي يلفت النظر في كل هذه التطورات التي نعيشها منذ زمن " النكسة " العربية ، هو انها شاملة تقريبا لسائر الأنظمة السياسية العربية ، باستثناء عدد قليل منها . واذا كانت كلمة " شاملة " تقريبا تعني هناك اشراك الأنظمة الفعال فيها ، فان اثارها لم تقف عند حدود نظام ، بل تركت ذيولها على كل بلد عربي ونظام ، مهما كان توجهه ، وطبيعة القوى التي تحكمه .
ولعل من مميزات هذا الوضع الذي نعيش في ظله الحقيقة التالية : فالإمبريالية لم تنطلق في هجومها الجديد من أساليب وتصورات مسبقة معينة ، بل رسمت لنفسها أهدافا محددة ، وتركت يدها مفتوحة لاختيار الأساليب التي توصل اشكال الحكم والأنظمة الممثلة ، الى تحقيق هذه الأهداف او تساعد على تحقيقها . من هنا قام تكتيك الامبريالية على ركائز أساسية منها :
1 ) وضع سياسة تضمن قلب التوازنات الداخلية الشعبية المعادية للإمبريالية ، لصالح تيارات وقوى نمت في قلب الأوضاع القائمة ( الصحراء الغربية مثلا ) . ولهذا فقد استعمل العنف بأعلى درجاته ضد القوى القائدة والمتصدرة ، وفتحت الأبواب امام احتمالات نهوض القوى الداخلية الأخرى . لقد توجه الخنق نحو القوى الطليعية التي تضع بين اعينها مطلب الدولة الديمقراطية ، على امل ان يعطي ذلك فرصة مناسبة لقوى جديدة تمثل مصالح تنموية " رأسمالية " في قلب الأنظمة القائمة .
2 ) التشدد تجاه مصر أساسا ، لإخراجها من دائرة الصراع ، ما دامت القوى المعادية للغرب في القيادة ، والتساهل حيالها ، بمجرد ان تبرز قوى جديدة بديلة ، ثم التشدد تجاه الأطراف العربية المهزومة الأخرى ، والتعامل معها من منظور تطورها الداخلي ( لقاء السفير الأمريكي باطر الحركة الاخوانية المغربية / جماعة العدل والإحسان ) الذي يجب ان يكون شبيها بالتطور المصري .
3 ) دق اسفين بين العالم العربي ، وفي راسه القوى المعادية للإمبريالية ، وبين الدول المقابلة كروسيا الاتحادية ، والصين والعلاقة من ايران الجمهورية ، لان ذلك سيسهل تحقيق الأهداف الغربية .
4 ) تصفية القوى السياسية الحزبية والشعبية المعادية للغرب في كل مكان ، لان ذلك يسهل سقوط القوى الرسمية التي تجابه خططه .
5 ) اخذ خصائص التطور السياسي والاجتماعي المتفاوت في العالم العربي بعين الاعتبار ، ووضع خطط تكتيكية تفصيلية حيال كل بلد عربي جوهرها إيصال التطور العربي المتفاوت الى نقاط مشتركة او واحدة ، تصلح أساسا لمرحلة جديدة في علاقات الامبريالية بالواقع السياسي العربي .
فعلى أرضية هذه الأهداف ، وبمساعدة تكتيك شامل ومرن ، جوهره ملاقاة اهداف الامبريالية مع موازين القوى الداخلية في العالم العربي ككل ، وذاخل كل بلد عربي على حدة ، حدثت عملية واسعة ترتبت عليها تبدلات وتغيرات ، أوصلت العالم العربي الى الوضع الذي وصفناه بسرعة بعض ملامحه في الصفحات أعلاه ، والذي قلنا انه تميز بتطور أنماط متشابهة من الحكم ، واساليبه على النطاق العربي العام ، في نطاق تعاون واسع بين الأنظمة في سائر القضايا التي تمس الحركات الشعبية والثورية ، وبتفكيك القاعدة الشعبية التي قدت أساسا سياسيا لحركة التحرر في مرحلة ما بين الحرب الكونية الثانية ، و " النكسة " هزيمة الجيش العربي في يونيو 1967 ، واستبدالها بقاعدة جديدة ترتبط مصالحها الداخلية ، بنشاط الدولة الاقتصادي بوجه عام ، والخارجية بالسوق الرأسمالية العالمية ، وبالقدرات الاقتصادية الضخمة التي حصلت عليها البلدان النفطية ، التي احتلت مراكز القيادة بعد افول وسقوط نجم المراكز التحررية ، وخاصة مصر .
ان هذه التطورات ترافقت بنمو كبير لدور الدولة على حساب الحركة الشعبية ، وبآليات للحكم ، إمّا على سد المنافذ امام نمو شعبي جديد ، او على خلق اشكال زائفة من الاقنية السياسية القادرة على جر الحركة الشعبية ، الى متاهات تصب أخيرا في خدمة الوضع السائد ، وبإثارة العناصر والعوامل القادرة على تمزيق وحدة المجتمع ، بحيث تفقد المصالح المشتركة للجماهير الشعبية دورها في توحيدها ، او تلعب هذا الدور في اطار اقنية ما قبل مجتمعية ( عشائرية ، قبيلة ، عرقية ، طائفية ... الخ . ) ، تفرغ الطاقات الشعبية من مضمونها الثوري ، وتحولها عن اتجاهها الأصلي .
التحولات على مستوى الدولة
في هذا الوضع طبعا ، وهو جديد وليس بجديد في آن ، نمت داخل كل دولة صورة مركبة ، نرى بعض ملامحها في : 1 ) انقسمت الدولة الى دولتين . دولة سرية او دولة ظل ، ودول علنية .
اما الدولة السرية وفي الدولة السلطانية المخزنية على راسها ( صديق ومستشار ) الملك الرئيس الأول لمستشاري الملك ، وهو رئيس الجهاز البوليسي ، والرئيس الفعلي للجهاز السلطوي الطقوسي .. فقوامها القصر ، والقصر وحده دون غيره . ورئيس الدولة الخفية المخزنية السلطانية يمثل بتصرفاته مع مدير البوليس السياسي ، صورة فرد طاغية ، وغالبا صورة عصابة صغيرة . فعندما يستعمل أجهزة الدولة للاعتداء على الناس ظلما ، هنا تكون له صورة شرير رئيس عصابة مثل العصابات التي تبدع فقط في الشر .
ان هذه الدولة السرية التي على راسها الرئيس الفعلي لمستشاري الملك ، هي التي تقرر السياسات وترسمها . وهي التي تتحكم بالعملية الاجتماعية ، وطبعا تسخرها لمصلحتها ، وهي التي تشرف بواسطة أجهزة الدولة البوليسية وخاصة البوليس السياسي ، على سير تطبيق السياسات من قبل الدولة او الحكومة العلنية ( حكومة ، برلمان ، بلديات وجماعات .. وتوظف حتى جهاز الامامة ( القضاء ) لخدمة مخططاتها .. التي تكون غالبا بلا حول ولا طول ، الا بقدر ما تحسن وظيفتها المتجلية في تنفيذ ( ناجح ) لخطط الدولة السرية ، وفي تقنيع وجود هذه الدولة التي هي الدولة الحقيقية ..
2 ) بروز حاكم فرد او عصابة صغيرة من الحكام الافراد ، الذين هم المشرفين على أجهزة الدولة السرية ، ومديرين عامين لشؤون دولة الظل ، اكثر مما هم مرتبطين بقضايا الشعب والوطن ، ومعنيين بتجسيد المصلحة العامة لمجموع ( الشعب ) الرعايا .
ان هذا الحاكم ، او هذه العصابة لهم صفة رؤساء ومديرين عامين لأجهزة بوليسية ، خاصة في جانبها القمعي والسياسي ، اكبر من صفتهم كرؤساء دولة ، ولهذا فانهم يقلصون بنية الدولة وعملها ، على مستوى بنية الأجهزة البوليسية والعسكرية غالبا وعملها . واذا كانت علاقاتهم بالمجتمع قائمة على صعيد ما ، فانما هو صعيد القمع المكثف والمتواصل للمجتمع من جهة ، وصعيد نهبه الذي يؤمن حسن سير آلة الأجهزة من جهة أخرى .
في دولة كهذه يتحول الحكم من تعبير وطني حيال الخارج ، الى تعبير خارجي حيال الوطن ، وترتبط مصالح الزمرة التي اختطفت الدولة واختطفت سكانها ارتباطا إيجابيا بالخارج ( الامبريالي ) ، في حين تتقطع الروابط الإيجابية مع الداخل الوطني ، لتحل محلها روابط سلبية ذات طابع عدائي ، يقوم على اعتبار اية نقمة تصدر عن الشعب ، او عن احد قطاعاته ، او شرائحه ، او فئاته ، او حتى عن مجموعة افراد منه ، عملا معاديا للدولة وللمجتمع ، ومؤامرة لا بد من قمعها بالدم والنار . كما يقوم على وعي جذري لدى الشعب ، بان أي تماس مع الدولة مهما كان بسيطا ، هو معركة حقيقية ، لان هذه الدولة القائمة على الغاء السياسة وعالمها الاجتماعي ، والمتحفزة لقمع أي تحرك مهما كان بعيدا عن السياسة ، لا يمكن ان يكون معها الا احد الشكلين : الخضوع او التمرد . وما دام الخضوع هم عدم القيام بأية نشاطات سياسية او اجتماعية او اقتصادية ... الخ ، خارج نشاط الدولة ، فان التمرد يبدأ باي شكل من اشكال هذه النشاطات .
3 ) تمييع مفهوم الشعب مع مفهوم الدولة ووظيفتها . فالشعب لم يعد تلك الكتل الجماهيرية العريضة الموزعة الى طبقات عاملة او فقيرة او حتى متوسطة . بل صار تلك القاعدة الاجتماعية الضيقة التي تساند الدولة القائمة بحكم مصالحها ، مضافا اليها الجهاز بكل تفرعاته واشكله . وما دامت الدولة قد انقطعت عن ان تكون تعبيرا عن المجتمع فان المجتمع بدوره يقلع عن ان يعتبر الدولة تعبيرا عنه . هكذا يحل " شعب " الدولة محل " شعب المجتمع " . وشعب الدولة هو تلك الشرائح التي تستطيع الدولة جرها الى صفها ، عن طريق إعادة توزيع الدخل الوطني ، او تلك التي تكلف بتنفيذ او تقرير سياسة الدولة الداخلية والخارجية . في رأس هذه الشرائح تأتي الكتل الكبيرة المجندة في مختلف الأجهزة البوليسية ، او زمر من العاملين في المجالات الاقتصادية والإدارية . فبهذه الصورة تصبح الدولة ، وليس المجتمع ، مركزا لفرز الشعب عن اعداءه ، وتتحول القاعدة الجماهيرية العريضة ، التي هي الأغلبية الساحقة ، الى عدو للشعب ، بينما تصبح القلة المساندة للدولة ، هي الشعب الذي تتخذ القرارات وترسم السياسات لصالحه ، والذي تنظمه الدولة وتعبئه من حولها ، وتتيح له حرية الحركة " الاجتماعية " .
4 ) تمييع مفهوم الديمقراطية مع تبدل مفهوم الشعب . فالديمقراطية غدت كل اجراء تقوم به الدولة لتعزيز طابعها " الشعبي " ، وكل عمل تقوم به لإحكام قبضتها على الشعب ، ويمر عبر قنوات شكلية للتمثيل .
في الديمقراطية التمثيلية يختار الشعب ممثلين عنه الى مختلف الهيئات ، ينوبون عنه في مراقبة عمل الدولة او الاشتراك في رسم هذه او تلك من سياساتها . في هذه " الديمقراطية " الجديدة ، تسمي الدولة ممثلين عن الشعب الذي ترغمه أجهزتها على اختيارهم ، كي يحرم من إمكانية مراقبة عملها ، او الاشتراك في رسم هذه او تلك من سياساتها . ويكون هؤلاء الممثلون في الغالب من أوساط " شعب الدولة " . فإذا حدث وكانت هناك قوى سياسية معارضة ، فان مهمة الديمقراطية تصبح تزويرا لإرادة الشعب ، كي ينجح ممثلو " شعب الدولة " بدلا عن ممثليه المفروض انهم الحقيقيون .
ان هذه الديمقراطية ، تقنّع بدورها وجود الدولة الرسمية ، الدولة العميقة او دولة الظل ، بصورة غير مباشرة ، او عن طريق الاطار السياسي العام ، الذي ترسمه دولة الظل او الدولة العميقة ، بصورة غير مباشرة ، او عن طريق الأجهزة الإدارية والبوليسية بصورة مباشرة . فينحصر عمل المؤسسات التمثيلية في الموافقة على خطط الدولة السرية او العميقة او دولة الظل ، وقراراتها ، وعلى اصباغ طابع " جماعي " عليها .
من هنا يتحول هذا " النشاط الديمقراطي " الى قيد على الجماهير ، يغلق امامها إمكانات التحرك السياسي والاجتماعي ، ويزور ارادتها ، لان الأجهزة البوليسية ليست سوى ملحقات بأجهزة الدولة وبالضبط الجهاز السلطوي الطقوسي ، وليست ناجمة عن اختيار حر وطوعي ، تقوم به الإرادة الشعبية الحقيقية .
فإذا ما اخذنا بعين الاعتبار الصلاحيات المطلقة لمختلف أجهزة الدولة البوليسية ، والصلاحيات الضيقة لهذه المؤسسات التي تحتكر التمثيلية الحقيقية من وراء الستار ، ادركنا للتو ان الهامش الشكلي المتاح لها ، لا قيمة له في الواقع . لان وظيفتها هي إقرار ما هو مقرر سلفا ، ولا سلطة لها حتى على تنفيذ ما تقرره بنفسها . انها بهذا المعنى ، ليست سوى محطة من محطات عمل أجهزة الدولة البوليسية ، الهدف منها تسهيل سير عملها ، وليس مراقبتها ، او كبح جموحها .
5 ) في ظروف غياب ، او قمع الجمهور الشعبي المنظم ، وإحكام رقابة الدولة البوليسية على المجتمع الهجين ، تتحول هذه ، من آلة تسيير للمصالح العامة ، الى تحالف قطّاع الطرق الصعاليك ، تجمعهم مصالهم الخاصة ، وتبرز بداخلها مراكز للقوى تضع نفسها فوق القانون ( عقد البيعة ) والنظام العام والمصلحة العامة ، وتطور آليات عمل جديدة وفق الهدف الذي تسعى اليه ، ومواصفات النشاط الذي تقوم به ، والقطاع الاجتماعي او السياسي الذي تنشط بداخله .
هكذا ، يصبح لكل جهاز رئيس او زعيم يشبه سلوكه وأسلوب تفكيره ، سلوك وتفكير " زعيم " البلاد ، فتكون صلاحياته مطلقة استبدادية وطاغية الطغيان المطلق ، لا تخضع لأية رقابة من تحت ، ويتحول جهازه او مؤسسته الى قطاع شخصي له يفعل به ما شاء ، اذا كان ذلك لا يتعارض تعارضا جذريا مع مصالح زعماء العصابات الأقوى في القطاعات والمؤسسات الأخرى . ( الحموشي و DGST ) . فيسقط مفهوم الدولة ودورها ، وينهار النظام العام ، وتصبح الجماهير فريسة لكل أنواع النهب والامتهان ، وتتعرض لسائر ضروب الذل ، والاهانات ، والقمع ، والتفقير .
في وضع كهذا تنهار القيم الأخلاقية ، ويعلق تطبيق القانون ، وتنهار قيم العمل والإنتاج ، ويتدهور الاقتصاد ، ويسد افق المستقبل في وجه الأجيال الصاعدة ، وتشرع المشاكل الاجتماعية في كسب طابع جديد ، يمزق واحدة المجتمع بدل ان يطورها ، ويرسخ وجود الدولة البوليسية التي تصبح غارقة في بوليسيتها الفاشية ، فترتد الجماهير عن الهموم السياسية العامة ، الى هموم ذات طابع يومي عارض ، او ذات طابع اقتصادوي عفوي ، فتضيع اللحمة بين الطبقات والفئات المحرومة ، في حين يرتع حزب الدولة التي سماه الدكتور محمد جسوس بالحزب السري ، أي البوليس السياسي ، والجهاز السلطوي الطقوسي القروسطوي .. الخ ، في بحر من البحبوحة و " الديمقراطية " ، تاركا للشعب العادي / الرعايا الخوف على لقمة الخبز ، وعلى المصير الشخصي ، وعلى المستقبل الذي اصبح في مهب الريح .
الدور التخريبي للدولة البوليسية
ان دولة كهذه ، تشبه مضخة تسقط ما ينتجه الشعب في الداخل ، وقمعا يسكب في جوفها ما تتسوّله من الخارج ، هي حالة نوعية خاصة في وضعنا المغربي ، بشكل خاص ، والعربي بشكل عام . فهي على سبيل المثال ، تتحدث طوال الوقت عن التنمية ومصادرها وتراكم رؤوس أموالها وخططها ، والملك الذي يسيطر لوحده عن الثروة ، يتساءل عنها . اين الثروة وهي بين ايديه ، وهو يتهكم على الرعايا المغلوبة .. الخ .. لكنها لم تحدث أي تبدل في بنية علاقاتها مع السوق الدولية كعلاقات تبعية ، بل بالعكس لقد وطدتها الى اضعاف ما كانت عليه أيام الحسن الثاني ، ومع ذلك فانها لا تنقطع عن الكلام عن التنمية ، والملك بفمه المليان اعترف بفشل حكمه ، لكنه ظل في حدود الاعتراف بالفشل في الحكم ، ولم يطرح البديل عن ( نموذج الحكم الذي فشل ) ، والحال لم يكن هناك فشل ، لأنه لم يكن هناك نموذج للحكم ، حتى نحكم عليه بالفشل ام بالنجاح .. وزاد الملك في جهله بالواقع حين قال ردد جملة لا أساس لها من الاعراب حين قال " اللهم كثر حسادنا " .. على ماذا ؟
اما كيف تحدث التنمية فعلا ، فذلك امر يدل عليه العجز التجاري الخارجي ، ومديونية الدولة البوليسية الداخلية والخارجية ، والتضخم النقدي الزاحف كالسيل الجارف ، وتدهور ، ان لم نقل انهيار الزراعة عند الشعب ، وتعاظم طابع الاقتصاد كاقتصاد احادي المنتوج ، وتزايد الهجرة من القرية الى المدينة ، ومن الدولة البوليسية الى اوربة .. بسبب الفقر الذي يسحق جماهير واسعة من الرعايا المساكين ، وبلغ درجة فظيعة في كل قطاع ، ووصل حتى الى صفوف الطبقة الوسطى ، والشرائح المرتفعة منها . ومع ذلك ، فان هذه البنية الجلية للمجتمع
، التي أساسها احتلال السلطة السياسية السلطوية والبوليس السياسي ، وليس العمل والإنتاج ، لم تنجم عن برامج تنموية قامت على قلب هياكل العلاقات الاجتماعية والطبقية لصالح مجتمع جديد ، هو المجتمع الصناعي البرجوازي . بل نجمت ببساطة شديدة ، عن دخول علاقات رأسمالية ملجومة ومكبلة الى كل مكان من المجتمع ، جاءت معها بالفعل التدميري والتخريبي للرأسمالية ، وتركت الجوانب الثورية والتقدمية منها ، ومن هيمنة هذا النمط من النمط من الدولة البوليسية التي تعتبر دولة نهب ونهم في الداخل ، ودولة تسول في الخارج ، ولا تصلح الى إقامة أي مشروع تنموي كبير ، لفساد رأس الدولة ، ولا الى حدوث تبدل في العلاقات الاجتماعية القديمة هنا وهناك ، تتحرر على اثره جماهير من سلطة العمل الزراعي في البادية ، فيقد بها هذا الى المدن ، حيث لا تجد امامها سوى أجهزة الدولة ، البوليس ، السلطة ، الدرك ، الجيش ، والإدارة المخزنولوجية .. ، نظرا لعدم وجود تنمية صناعية تستطيع استيعابها وامتصاص طاقاتها . هذا النمط من التنمية هو اكبر دليل على ان المجتمع يضعف بقدر ما تتقوى الدولة البوليسية القامعة ، وعلى ان جميع الاقنية الاجتماعية صارت مرتبة ، بحيث تصب في النهاية في بحر الدولة ، أي في جيوب الملك ، واسرته ، وعائلته ، واصدقاءه ، وكل المقربين من القصر . لكن هذا الانصباب في مستنقع الدولة سيفجرها ، لأنه يجر اليها التناقضات الاجتماعية والسياسية ، مع الكتل التي تدخل في صفوفها ، وهذا يعزز بدوره تدهورها وانهيار عملها ، وتعاظم حق المجتمع عليها . ان الانتظار للتغيير بالمغرب ، قد اقترب بكثير ، واضافة الى تهديد الصحراء الغربية ، تجري التحركات خارج المغرب ، التي بابها الصحراء ، والنزول بثقل قوي لفرض التغيير الذي قد يكون تغيير نظام بنظام على راسه حاكم مقبول ، او تغيير كل الدولة لرسم خريطة جغرافية جاهزة .. فالخارج اصبح الخطر الأشد على النظام والدولة ووحدة المغرب .
في نمط تنمية كهذه ، وهي ليست بتنمية ، يرتفع الى اعلى عشرات الحكام كذئاب ، وينزل الى اسفل ملايين البشر كعبيد وكغنم . على ان ارتباط الذئاب بالسوق الرأسمالية كبير الى درجة ان نمط استهلاكهم ، يعوضها عن خسارتها للمجتمع ، الذي تنخفض قدرته الشرائية ، ويخرج اكثر فاكثر من عالم التبادل النقدي .
على ان دولة بوليسية كهذه ، تتصف بأمر هام : فهي دولة فاشلة . انها لا تبقى في العاصمة والمدن الكبرى ، بل تمد جهازها الى كل مكان . طبعا لذلك سببان :
1 – حتى تنهب المجتمع نهبا شاملا ، يجب ان تكون موجودة في كل توصيفاته .
2 – ولكي تقمعه قمعا شاملا ، يجب ان تكون حاضرة في كل زواياه .
اذا كان النهب يوحد غالبية المجتمع الساحقة ضدها ، فإنها يجب ان تضطهد هذه الغالبية . واذا كان القمع يستنفر المجتمع ، فيجب ان تكبته ، حيث هو قائم فعلا
، أي من قاعدته العريضة صعودا ، الى صفوف الشرائح العليا . وفي الحالتين يجب ان تكون سياستها شاملة ، وان يكون جودها شاملا . فممارسة السياسة الشاملة ، تعني ان وجود الدولة البوليسية ، هو تواجد ( اجتماعي ) ، يمتد الى سائر نقاط الرقعة الاجتماعية ، ولكن ليس بوصفها رقعة للمجتمع . بل بوصفها رقعة للدولة فقط . ان هذه السياسة الشاملة تنزل الأذى بكل من يقيم تماسا معها من الطبقات والفئات ، والشرائح الاجتماعية . ولأنها دولة شاملة وشمولية دكتاتورية ، فانها تطرح القضايا المعلقة ، بما يوطد تفوقها على ( مجتمعها ) ، فتصير مسألة في أهمية المسألة الزراعية مثلا ، عنصرا من عناصر نهب الزراعة ، وليست أداة حل مشاكل الفلاحين والشعب الذي يموت بالجوع . وتتحول القضايا الوطنية المؤجلة الى قيد على الوطن
، بدل ان تكون أداة من أدوات تحرره .
توظيف القضايا الوطنية ضد مصالح الشعب

لو اخذنا مثالا ساطعا على الطريقة التي تلعب بها المشاكل والقضايا الوطنية ضد مصالح الشعب العليا ، لكان مثال سياسة النظام البوليسي المخزني في نزاع الصحراء الغربية ، خير مثال ، لأنها لم تعالج كقضية او مشكلة وطنية ، بل كمشكلة نظام حكم ، جانبها الديماغوجي اكبر من جانبها التثويري .
ان قضية الصحراء اعتبرت من جهة ، مناسبة لترتيب مجموعة معقدة من الصراعات مع البلدان المجاورة ، فكانت بذلك اسفينا يدق بين شعبها الواحد ، بدل ان تكون جسرا يعاد عليه طرح القضايا الهامة ، التي لعبت جملة من الظروف في السابق ، دورا أساسيا في عدم طرحها ، او في طرحها بطريقة مغلوطة ومخربة . ويلاحظ ان هذه التوجهات هي توجهات جميع الأطراف المشتبكة في هذا النزاع ، أي نزاع الصحراء الغربية .
بادئ ببدء ، عندما كان هناك نهوض شعبي وثوري في منطقة المغرب ، وكان وضع الملكية مهددا ، طلب الحسن الثاني من الاستعمار الاسباني عدم الانسحاب من الصحراء ، ورجاهم البقاء فيها ، حتى لا يحسب رجوع الصحراء على الحكومة التي تراسها الأستاذ عبد الله إبراهيم من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية . وعندما طرح الملك في أوساط السبعينات الموضوع مجددا ، طرحه من منظور توطيد وضع الحكم ، بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية ، والانتفاضات الشعبية ، وليس من منظار حل مشكلة وطنية . أي انها اعتبرت أداة لتقوية مواقع الملكية ، والاقطاع المساند لها ، وبابا تتسلل منه موازين القوى الغربية الجديدة ، بدل ان تطرح في اطار استراتيجية تحررية جوهرها التبعية للخارج ، وبالتالي الاستناد الى برنامج تطويري في الداخل يعتمد على أوسع قاعدة شعبية تحررية عريضة . والحقيقة ان هذا الطرح افقد القضية وجهها الوطني الأصيل ، الذي كان لها في فترة النهوض الشعبي التحرري ، وحولها الى " قناة صرف " للتناقض الداخلي بين الشعب ، والحكم المستند الى الاقطاع .
وبديهي ان التكتيك الذي رسم لهذه المعركة كهذه ، العدو الأساسي فيها هو الشعب ، وليس الاستعمار والامبريالية ، كان يعمل على تطويلها بدل حلها ، وعلى تشعيبها دل حصرها وحسمها . كما كان ولا يزال يقوم على دمجها في اطار السياسة الامبريالية ، بدل انتزاعها من هذا الاطار . ولهذا بدأت المشكلة دولية ، ولم تأخذ حتى الان طابعها الوطني الغالب . ووصلت الخطورة عندما اعترف محمد السادس بالجمهورية الصحراوية في يناير 2017 .
اذا ما رجعنا الى التاريخ ، وجدنا ان خطط القوى الخارجية ، كانت منذ هزيمة قرطاجة على روما ، تقوم على أسس قلما تغيرت ، وان كان أصابها بعض التطوير ، منها :
1 ) الاستيلاء على رؤوس الجسور على الشاطئ ، وتحويلها الى مراكز تحشد قادرة على قمع الداخل .
2 ) ادخال وتوطيد سلطة الاقطاع في كل واجهة المغرب العربي الكبير.
3 ) افتعال الاقتتال والتناقض بين مكونات المغرب العربي الكبير .
4 ) ربط شرائح من المغرب بالمصالح الخارجية ، إما عن طريق المركز الاجتماعي ، او عن طريق لغة القوة الخارجية ، او عن طريق اعتناق ديانتها ، هذان يتيحان الدخول في جهاز ادارتها ، والتمتع بقسم من الامتيازات المتاحة لها .
باختصار . فهذه الشروط والاسس المعتمدة على التجزئة السياسية والنظام الاقطاعي ، والارتباط بالخارج الذي يصاحبه اكبر قدر من التناقض بين الوحدات السياسية في الداخل ، لا يزال الاستعمار والامبريالية يعتمدها ، مع بعض التطوير الذي أصاب الدولة بشكل خاص .
وفي شروط كهذه ، تتحول أي مشكلة الى مادة متفجرة بين الكيانات السياسية ، خاصة عندما تغيب الحركة الشعبية الواحدة ، وتصبح عاملا من عوامل تقوية هذه الكيانات
، خاصة حين تحل في اطار اللعب الخارجي ،وتفصل عن مقوماتها الذاتية التي تجعلها عنصرا من عناصر تقوية الداخل ضد الخارج .
في هذا الاطار عملت الرجعية المغربية ولا تزال " لحل " نزاع الصحراء الغربية ، أي لتعقيد مشاكل المغرب العربي الكبير ، ويزيد الامر سوءا ، ان هذه السياسة الرجعية ، فرضت نفسها حتى الان على القوى السياسية التي تلاشت ، وكانت تحمل تصورا مغايرا لها ، وكانت تناضل وفق برنامج يختلف عنها . ومما يؤسف له ان القضية اختصرت ومسخت الى مستوى فظيع ، انصب باسره على المسألة التالية : الصحراء مغربية وعربية
، ويجب ان نحول المعركة من اجل استردادها الى معركة لإضعافها الاقطاع وسلطته لإسقاطها .
ان أحدا لا يشك بان الصحراء جزء من المغرب ، ولكن الشكوك تدور حول هذه القضية الوطنية الهامة ، من رافعة بأيدي قوية التي هي يد قوى التغيير ، الى أداة بيد النظام الحكم ، والاقطاع ، والقوى الامبريالية المساندة لهما ، في ذبح الشعب وذبح قواه الحية .
انعكاسات قضية الصحراء في المغرب العربي
مرت السياسة التي مارسها النظام البوليسي في قضية الصحراء بثلاثة مراحل :
-- مرحلة أولى دولية ، وضعت فيها أسس القضية بالاتفاق بين المخزن والقوى الخارجية .
-- مرحلة ثانية داخلية ، فرضت فيها الاستراتيجية الخارجية المخزنية على القوى السياسية الداخلية
، واستخدمت لترتيب أوضاع الحكم المتهالكة .
-- مرحل ثالثة لا نزال فيها ، تعود المشكلة من جديد لتبرز في اطار الصراع الدولي والاستراتيجيات الخارجية ، ولكن على أرضية داخلية المبادرة فيها كانت للحكم الذي اقترح حل الحكم الذاتي ، واعترف الملك بالجمهورية الصحراوية في يناير 2017 .
في المرحلة الثانية ، كان الحكم المخزني يتحدث طوال الوقت عن مشكلة وطنية ، لا يمكن ان يقبل حلا لها الاّ في اطار الاندماج الوطني المغربي . والان ، في هذه المرحلة منذ اعتراف الملك بالجمهورية الصحراوية وبالحدود الموروثة عن الاستعمار ، فان العالم الذي رفض حل الحكم الذاتي ، لم يبالي ولم يهتم بتجاهل العالم لاعتراف النظام بالجمهورية الصحراوية ، لا قرارات مجلس الامن ، وقرارات الجمعية العامة تنص فقط على الاستفتاء وتقرير المصير ، ومن تكون المشروعية الدولية كما تؤكد الأمم المتحدة ، وتؤكده الاتحادات القارية ، كالاتحاد الأوربي والاتحاد الافريقي ، قد تجاهلت بالمطلق خرجات النظام المتعارضة مع حل الاستفتاء وتقرير المصير.
اعتقد ان قضية الصحراء عوض ان تكون عمل صراع ، كان من الافيد ان تكون عامل قوة في بناء المغرب الكبير .. لذا ففي نظري ، وبما ان قضية النزاع أصبحت دولية بتدخل دول اجنبية في هذا الصراع الذي يخدمها بالأساس ، خاصة وان المناصرين ل Sayks et Picot تكاثروا ، فان الصراع من اجل جنسية الصحراء لا يهدأ ولن يغلق الا بموافقة الخارج ، أي ان الجانب الوطني من المشكلة ، صار محلا للعب السياسي وللأخذ والعطاء ، وهذا ما يبرر جرجرت هذا النزاع لاكثر من سبعة وأربعين سنة ، دون ان يعرف طريقه الى الحل .. لذا فحل نزاع الصحراء الغربية بالطريق التقدمي والديمقراطي ، يقتضي الانصاف والإخلاص للحقيقة وللتاريخ ، وهذه الحقيقة التي لا بديل عنها تدفعنا ان نقول . ان هذه السياسة ما كانت قابلة للتنفيذ بالطريقة التي نفذت بها ، لولى الدور السلبي الذي لعبه الطرح الانفصالي بمختلف مكوناته ، الذي قدم خدمة كبيرة لصالح النظام المخزني البوليسي وللأقطاع المتحالف معه .
لقد كان على جبهة البوليساريو ، ان تعتبر نفسها جزءا من حركة الشعب المغربي التقدمي والمعارض ، وان تطالب بالتالي بمغرب ديمقراطي ، وتحت أي عنوان ملكية برلمانية على شاكلة الملكيات الاسكندنافية ، او نظام جمهوري ديمقراطي على شاكلة الجمهورية الإيطالية ، بدل ان تتلاعب باخطار دولة اعترف بها محمد السادس ، ورفض مجلس الامن والجمعية العامة هذا الاعتراف لانه يتعارض مع المشروعية الدولية التي تنصص فقط على الاستفتاء وتقرير المصير ..
ان الجزائر دفعت ثمنا كبيرا لسياستها المغلوطة ، وستدفع ثمنا اكبر ان هي واصلتها . ولا تزال الفرصة متاحة ، وان كانت قد تناقصت بكثير ، لقلب المشكلة الى مشكلة نضالية مغربية عامة ، ذات بعد عربي واضح ، لا تربح منه الامبريالية الدولية ، او الاقطاعية المغربية ، بل تريد طرح الأوراق من جديد لتصبح أساسا لفرز داخلي على نطاق المغرب الكبير باسره ، ولاسترداد ثقل الاستراتيجية الثورية التي وضع التقدميون المغاربة لبنتها الأولى لانتزاع حرية الشعوب وطرد الاستعمار بكل اشكاله والوانه ، وتوحيد شعوب المنطقة على أسس تحررية وتقدمية ، تشكل مرتكزا من مرتكزات نهضة الامة المغربية والعربية ، وردا على الانهيار الحاصل في مختلف اقطارها . لقد آن الأوان لإدراك ان خطط الامبريالية متشعبة ومتعددة ، وان تمزيق الوطن العربي ، واثارة التناقضات بداخله ، وتدبير الحروب بين اقطاره ، هو الهدف الثابت للقوى الامبريالية وصنائعها ، وان الرد لا يكون بالانجرار الى هذه الحروب والتمزقات من موقف إقليمي " تقدمي " ، بل هو في وضع استراتيجية مضادة شاملة ، تحشد من حولها الطاقات الشعبية في كل الأقطار ، وتخوض معركتها موحدة على صعيد كل المغرب ، كما تعرف متى تخوض هذه المعركة ومتى تتفاداها ، متى تتقدم ومتى تتراجع ، متى تقبل التحدي ومتى تتحاشاه . وغني عن القول ، ان موقف كهذا يتجاوز الانحياز لهذه القوة او تلك ، لأنه قائم على الانحياز للشعب الواحد في الأقطار المختلفة ، ويهرب من المكاسب الإقليمية الصغيرة والتافهة ، لأنه ينتظر في النهاية الحصاد الكبير ، وانه مؤسس على نوذج للعلاقة مع الشعب يختلف جذريا عن النموذج السائد في البلدان الرجعية ، نموذج يستطيع في نفس الوقت اقناع الجماهير بتفوقه وتقدمه ، ولا يعمل بنفس آليات الأنظمة الرجعية ، لكنه يتستر بجملة من الشعارات " التقدمية " التي لا يرى احد أي انعكاس لها في الواقع الحي واليومي .
اننا نلح على ضرورة بداية كهذه ، لان الاحداث تفتح عيوننا على اتساع دائرة التردي ، وعلى تفجير الامبريالية بما تبقى من علاقات ( مقطوعة بين النظام المخزني البوليسي ونظام الجيش الجزائري ) وليس على حصر النزاعات وتحجيمها . واذا كان هناك من يظن انه يستطيع بمجرد مرور الوقت التخلص من مشكلة ، كان موقفه فيها مؤسسا على الغلط ، فانه سيجابه بعد حين مشكلة أخرى موقفه فيها مؤسس على غلط مماثل ، وهكذا دواليك حتى نصل الى وضع لا يعرف كنهه حتى الله .
ان ما حدث لمشكلة الصحراء ، يعطي صورة جد واضحة عن مستوى القوى التي انخرطت فيها : الامبريالية والرجعية والحركات الوطنية . ولا نريد نضيع وقتا عن مستوى الحركات السياسية المدعية للوطنية ، وطريقتها في إدارة هذا النزاع ، لان ذلك واضح لكل عين بصير ..
وعلى كل حال . فان ما يهمنا نحن من هذا التحليل الذي يبقى يعكس قراءة خاصة ، هو دراسة الجوانب الخفية التي طرحت فيها قضية الصحراء الغربية ، والاطار العام الذي وضعت فيه ، وعن نمط الدولة بخصوصياته المتباينة من بلد الى اخر . واذا كانت الدولة المخزنية البوليسية قد اضفت على نفسها طابعا " قوميا " من خلال اشتراكها في حرب أكتوبر ، فإنها حاولت ان تضفي على نفسها طابعا " وطنيا " من خلال نزاع الصحراء الغربية . ومع ان الاحداث اثبتت ان عينها لم تكن على وحدة الوطن ( سبتة ومليلية ) ، بل على ترسيخ وضعها الداخلي بإثارة قضية كانت تجمدها عن قصد ، فان الأخطاء التي ارتكبتها ما يسمى بالحركة الوطنية ، معارضة السبعينات ، قد ساعدتها على تحقيق هدفها الأساسي هذا . ومهما يكن من امر ، فان المخرج من الازمة الراهنة ، مرتبط بوعي أحزاب السبعينات لسياستها المغلوطة ، وإيجاد بدائل لها ، لان النظام لا يُعقل ان يبدل سياسة استفاد منها .


ما البديل ؟
عندما نتحدث عن البديل ، فاننا نقصد القوى السياسية ، التي تناضل وراء مشروع البديل الذي يجب ان يكون بديلا ديمقراطيا حقيقيا . واذا تمعنّا في الخريطة الحزبية ، لان الأحزاب حين تتأسس ، من المفروض ان يكون مشروعها الاستيلاء على الحكم ، بالطرق المختلف ، لتنزيل مشروع التنظيم ضمن جبهة وطنية تقدمية ، او كتلة تاريخية تقدمية ، الذي يكون هو البديل . وبما ان النظام البوليسي افرغ هذه المعارضة من مشروعها منذ المّ المرض الخطير بالحسن الثاني، وتم تشتيتها ، واضعافها ، حتى وصلت الى ارذل العمر الذي تكلم عنه القران ، فان ما تبقى منها اصبح يعيش في كنف الدولة المخزنية ، لا في خارجها . وهنا الكل يتذكر كولسة الأستاذ محمد الساسي باسم او ليس باسم الحزب الاشتراكي الموحد ، مع رئيس السلطة التنفيذية وكل السلط الاخريات ، و ( صديق ومستشار ) الملك فؤاد الهمة ، عندما قال ، ان الحزب ، أي لا احد بقي يناضل من اجل الجمهورية ، وان الجميع اصبحوا ملكيين ، لكن الملكية التي يشير اليها الأستاذ الساسي ، ملكية ذات خصوصية مغربية ، يحتفظ فيها الملك كأمير للمؤمنين بالسلطة الدينية التي هي أساس مشروعية الحكم ، بحيث ان ما نادى بها ، كان دعوة لبقاء الملكية المطلقة بجلباب جديد ، لا يمس اصل السلط التي كانت موضوع مطالب معارضة الستينات والسبعينات بمختلف انتماءاتها الأيديولوجية والسياسية .
وبما ان النظام نجح في كبح وجماح تلك المعارضة ، التي أصبحت منه لا خارجه ، خاصة وانها شاركت في استحقاقات الملك لتدخل برلمان الملك ، وقد يصبح منها وزراء لملك ، ما دام الجميع يهرول لخدمة مشروع الملك ، لا خدمة المشروع الذي صوت عليه الناخبون ، وتعرضوا للخيانة عندما رمت تلك الأحزاب بكل الماضي الراديكالي عرض الحائط ، وتحولوا الى مجرد مخزنيين سلطانيين في خدمة السلطان ، وخدمة دولة السلطنة التي يحكم فيها الأمير باسم الإسلام لا باسم البرنامج الذي يكون (الشعب ) الناخبون قد صوتوا عليه . فالساحة أصبحت فارغة من هذه المعارضة ، التي لا تزال كعنوان انتخابوي بأسماء أصابها التلف ك " الاتحاد الاشتراكي " ، " التقدم والاشتراكية " ، و " أحزاب الفدرالية الانتخابوية التي طلقتها نبيلة منيب ، التي ( دخلت ) بمفردها الى برلمان الملك ، لتمارس معارضة الملك لحكومة الملك . ونفس الشيء دخل حزب المؤتمر الاتحاد بامرأة واحدة الى برلمان الملك ، في حين فشل حزب الطليعة في الدخول الى برلمان الملك ، ليصبح معولا لخذمة برنامج الملك .
لكننا في تحليلنا سوف نستعمل للتجاوز عن حالة الإحباط ، الإشارة الى تلك الأحزاب التي لم تبق كما كانت ، لنخاطب من اجلها التكوينات السياسية التي تنتظر الانشاء والظهور ومن وسط الشعب ، اذا حصل غدا فراغ في الحكم ، ونزلت الجماهير الى الساحة وتحولت الشعارات الى شعارات مطالب أساسية ،على راسها مطلب الدولة الديمقراطية بالخصوصية الكونية ، وايا كان عنوان هذه الدولة ، ملكية برلمانية على الطريقة الكونية ، او جمهورية برلمانية على الطريقة الإيطالية ، مع رفض حتى شكل النظام الفرنسي الشبه رئاسي ، والنظام الأمريكي الرئاسي .. لذلك فان تحليلنا لما ينتظر الساحة من تغييرات سياسية من اجل الدولة الديمقراطية ، سيكون من خلال فرز ماضي تلك التنظيمات معارضة برجوازية ، او معارضة راديكالية ، فيكون المخاطب في تحليلنا السياسي هذا ، التنظيمات التي ستتبلور من قبل الشعب والجماهير ، حتى لا يسقطوا في نفس الفخاخ التي نصبها النظام لتلك الأحزاب التي أصبحت مجرد عناوين انتخابية لا غير ..
وان أي نزول الى الشارع من قبل الشعب ، عند حصول فراغ في الحكم ، للمطالبة بالدولة الديمقراطية ، سيكون مدعما من قبل مجلس الامن ، الجمعية العامة للأمم المتحدة ، الاتحاد الأوربي ، الاتحاد الافريقي ، وحتى من أكثرية الدول العربية .. وهنا فالجيش لا ولن يستطيع تكرار مجازر 23 مارس 1965 ، ولا مجازر الدارالبيضاء في يونيو 1981 ، ومجازر يناير 1984 ، ودجنبر 1990 .. لان عند اية حماقة تحصل ، ستتدخل هذه الهيئات ، وطبعا الجميع يسرع لقرع أبواب المحكمة الجنائية الدولية .
كما ان اية حماقة تحصل ، إضافة الى مجابهتا من قبل المجتمع الدولي ، ومن قبل القضاء الدولي ، ستسرع ذهاب الصحراء من دون حرب التي ستتوقف ، عندما سينزل الصحراويون في المدن التي لا تعترف بها الام المتحدة ، رافعين شعار الاستقلال عن الدولة المخزنية ، وليتذكر النظام تقرير البرلمان الأوربي ، والموقف الموحد للاتحاد الأوربي ، وتقرير وزارة الخارجية الامريكية ، والهجمة الاوربية على (اعتراف ) الرئيس Trump بمغربية الصحراء .
ان النظام قصير النظر إذا كان يصفق لخرجات Pedro Sanchez الميكيافيلية ، فتلك المواقف لم تكن قيمة مضافة لاكتساب مؤيدين لمغربية الصحراء . بل ان موقف Sanchez الحقيقي ، هو موقف الاتحاد الأوربي ، خاصة الموقف الفرنسي المضبب ، ومن ثم فان التزام Sanchez ، بموقفه من دون الدولة الاسبانية ، لن يؤثر في ملف مغربية الصحراء ، ومن ثم يكون Sanchez ، قد سجل دورا خافتا ، لكن لن يؤثر على موقف الدولة الاسبانية الكاثوليكية ، ولن يؤثر على موقف الاتحاد الأوربي الذي اسبانية جزء منه ، وتعطي الاسبقية والاولوية في التطبيق لقرارات الاتحاد الأوربي ، على حساب القرار السيادي الاسباني ..
وحتى إسرائيل لوحت مؤخرا من خلال خرجات لرئيس الوزراء Nathan Yahoo ، وهو يعرض خريطة المغرب من دون الصحراء ، بمقر الوزارة الأولى الإسرائيلية ، ضاربا عرض الحائط انبطاح الملك امير المؤمنين الذي قامر القضية الفلسطينية بأطروحة الصحراء المغربية ، عندما وقع صاغرا " اتفاق ابراها " . لذا ومن خلال أخطاء معارضة السبعينات وحتى الثمانينات ، سنوجه الخطاب للتشكيلات التي ستنبع من قبل الامة ومن قلب الشعب ، عند حصول الفراغ القاتل في الدولة ، بان دراسة أخطاء الماضي ، وطرح البديل الاستراتيجي عن هذا الماضي النكسة ، يكون قد حدد خريطة الطريق التي توصل الى الدولة الديمقراطية ، ويكون النزول عند رفعه شعارات الدولة الديمقراطية ، تحقيق موعد مع التاريخ ، لن يتكرر ابدا ، والا اذا حصل العكس ، واخلف النازلون مع موعد التاريخ ، وقرروا الاجماع على بقاء الدولة التوتالتارية ، La monarchie totalitaire ، فهو اختيار يجب ان يحترم ، لكن لا عودة للتباكي على الدولة الديمقراطية التي اخلفوا الموعد معها مثل ما حصل عند موت الحسن الثاني . فهل من مقارنة بين " ملك الفقراء " الذي لم يكن ابدا ملكا للفقراء ، لأنه غنيا حتى التخمة وليس بالفقير ، و " المفهوم الجديد للسلطة " ، و " السؤال عن اين الثروة " وهو الممسك بها ، و " وإعلان الملك بفشل مشروعه . أي اعتراف بفشل نظام حكمة " .... الخ ، ستنطلي هذه المرة على ( الشعب ) ؟
فاذا اخلف الشعب مع موعد التاريخ ، بالإيجاب او بالسلب يجعل ( الشعب ) في مفتقي طرق :
-- إمّا ان يصبح شعبا حقيقة ، له كل حقوقه ، عند مطالبته بالدولة الديمقراطية ، فيتحول من رعية الى شعب ، ويكون قد ركز على المحاسبة لممارسي السلطة
-- واما حذر الرأس الى سافل ، والاستمرار في العيش كرعايا ، غارقين كدائما في الدروشة والمسكنة والعيش الذليل .. فإمّا حر وإمّا عبد .. فلكم الحرية في الاختيار .
اذن بعد هذه المقدمة التي كان لابد منها ، لنفرش لتحليلنا السياسي كمثقفين مرتبطين بالشأن العام لبلدنا ، سندخل صلب الموضوع لنؤكد انه لابد من الإقرار بان الوضع الخاص بنا ، ما كان ليصل الى حيث هو ، لو ان القوى السياسية التي طرحت البديل السياسي ، عرفت كيف تربط بين السياسة ، أي المشروع ، وبين التنظيم ، والوضع الداخلي العام في صلاته مع دول الجوار ، وفي صلاته بالأوضاع الدولية المتقلبة .
ان التطور الذي شهده العالم ، ومنه العالم العربي ، ومثّل الارتداد الفعلي لكل نظام ، كان سيفعل فعله في المعارضة المغربية ، ولكن ليس محتما ان يكون هذا الفعل بالاتجاه الذي حدث ، وبالشدة التي حصلت . ان أساس العيب كامن في تلك المعارضة ، أي في وضعها الذاتي ، وتفاعله مع محيطه الموضوعي ، الجغرافي المحلي والعربي ، ومن ثم الدولي . واذا كانت المراجعة مطلوبة ، فإنما هي مطلوبة في اتجاهين :
1 ) الوعي بالنواقص الذاتية أولا ، والاستعداد لإجراء مراجعة شاملة وموضوعية ، تتجرد فيها القوى السياسية المعارضة عن الحساسيات والقضايا الصغيرة ، وتبدي اكبر قدر ممكن من الاستعداد لنقد الذات ، ولنقد التجربة ، ونقد ما تم إنجازه ، والا ستتحول تلك المعارضة الى بطّائين يؤمنون بجبرية لا ترد ب " الموضوعي " ، متناسين طبعا ان تلك المعارضة كانت جزءا منه .
2 ) وعي التجربة الموضوعية التي عاشها الجميع ، وكانت المبادرة فيها خارج سلطة وتحكم التنظيمات المعارضة . والاستعداد الحقيقي بان تعاد نفس التجربة ، ولمن ليس على أساس التكرار ، بل على طريقة إعادة التأسيس . فالتاريخ ليس سوى عمليات إعادة تأسيس متصلة ، تأخذ من الماضي احسن ما فيه ، لترسي حاضرا قادرا على الامتداد نحو المستقبل ، دون ان يقف عند حدود نقل التجربة ، وانما يتجاوزها ، الى دمج التجربة المنتقدة في سياق نظري وعملي يستطيع الإمساك مجددا ، بالمبادرة وتطويرها على كل الأصعدة ، نحو اجراء التغيير المنشود ، في الذات أولا ، وفي الذات والظروف الموضوعية ذاتها .
في الظرف المشخص الذي نعيشه فيه اليوم ، نرى ان يتبلور هذا النشاط حول القضايا التالية :
1 ) الاتجاه الحاسم والجذري نحو الجماهير الشعبية ، بقصد إعادة احياء المجتمع ، كمجتمع سياسيا ، وبلورة سياسة خاصة به ، مستقلة عن الاقطاع ومناقضة له ، حيث يجب ان تكون كذلك .
ان الصورة التي عرضناها لآليات عمل الدولة ، لا تترك مجالا للشكل في ان هذه قد تحولت اكثر فاكثر ، الى مركز أساسي للحياة الاقتصادية ، وللحياة السياسية . فهي المتصرفة بالثروات ، والمالكة لقسم لا بأس به من وسائل الإنتاج ، وهي المشرفة على التراكم ، وعلى توزيع الدخل الوطني . ان هذا الوضع سيكون مقبولا في حالتين :
ا – لو كانت الدولة المخزنية البوليسية ممثلة لمصالح الشعب والمجتمع .
ب – لو كانت ثمة حركة سياسية اجتماعية ناشطة ، قادرة على موازنة دور الدولة الاقتصادي والطبقي هذا .
ان السياسة التي تقوم على الاستيلاء على الدولة ، عن طريق الرضوخ لسياستها ، والدخول في لعبة مصالحها ، والتي تحني رأسها اكثر فاكثر امام العواصف التي تهب من فوق ، فهي قمينة بتحويل الأحزاب " السياسية " الى تجمعات مصالح لا شأن لها في حياة الشعب ، وبتدمير الدور الشعبي المنشود ، الذي تسعى الدولة بالأساس الى تدميره .
وتترتب على سياسة كهذه وضعية لا تنقد ما يمكن إنقاذه ، ريثما تمر الظروف الصعبة . بل سياسة تُضيّع ما يجب الحفاظ عليه وتطويره .
الى ذلك ، فان سياسة كهذه تعزز دور الدولة المحولة الى مركز للحياة السياسية ، بدل ان تضعفه ، فتسد افق الاحتمالات امام الشعب ، وتضعه في مركز حرج ، جوهره التسابق نحو خطب ود الدولة ورجالاتها ، او التخلي تماما عن أي نشاط سياسي او عام .
ان تأسيس الحركة السياسية الشعبية ضرورة لا بد منها ، وحتى لا نخدع انفسنا ، فان أي حزب يفتقر الى قاعدة شعبية حقيقية ، واعية ومقاتلة ، لن يستطيع الوقوف بوجه " الدولة الحديثة " الراهنة ، فكيف سيستطيع بالأحرى قيادة المجتمع والانتقال الى الهجوم المضاد ؟ .. هذه المسألة ، مسألة مجابهة الدولة السائدة والطبقات المساندة لها بأوسع الجماهير الشعبية ، لا يجوز ان تفلت من وعينا لحظة واحدة ، اذا كنا نريد ممارسة السياسة الثورية بمعناها الحقيقي ، أي بوصفها تعبيرا عن مصالح مجتمع معين ، وجماهيره المنتجة والمضطهدة ، حيا اية قوة تحول دون وصوله الى مصالحه . والحقيقة ان ما حل بالأحزاب السياسية عموما ، لم يكن سببه تناقص حجمها او تزايده ، ولا علاقتها بالدولة أساسا . بل كَمِنَ سببه دوما في علاقتها مع الجماهير الشعبية ، التي أدى انقطاعها عنها ، الى تقليصها حينا ، والى وقوعها في اغراء مسايرة سياسة الدولة في اغلب الأحيان . وهذا ما ابعدها عن الشعب ، ودفعها بالتالي الى حلقة مفرغة دفعتها الى الدوران اكثر فاكثر في تلك القوة تلك القوة السائدة ، التي وصفنا بعض ملامحها الراهنة سابقا .
طريق واحدة للمعالجة
ان تمركز الحياة الاقتصادية في يد الدولة المخزنية البوليسية ، والطبقات المساندة لها ، وامساكها بالمبادرة السياسية ، يضعنا طبعا امام حالة جديدة يجب ان نقر بخصائصها النوعية ، وان نعالجها كحالة نوعية . وفي تقديرنا انه لا بد من رد الاعتبار من قبل التنظيمات المنتظرة عند حصول الفراغ الكبير في الحكم ، وينزل الشعب الى الشارع في كل المغرب ، وخاصة في الصحراء وفي الريف .. ، للشعب البسيط ، الذي اثبت طوال تاريخنا المعاصر ، انه يملك إحساسا سياسيا صحيحا وسليما ، وانه يعرف تماما كيف يميز بين القمح وبين الزؤان ( حبوب طيور الاقفاص ) . لكن راد الاعتبار هذا ، لن يتم الا عبر طريق واحدة . هي ان يرد الشعب للقوى القادمة الاعتبار كقوة سياسية فاعلة وقادرة ، فتقلع عن ان تكون تكوينات كمية تعتبر نفسها ارقى من الشعب ، وادنى من الدولة التي ستكون تهتز ، فتنظر بازدراء الى تحت ، وبخشوع واخترام الى فوق . ان الطريق الى فوق يجب ان يمر عبر تحت ، وكل طريق لا تمر من تحت ، من عند الشعب ، هي طريق الى الدرك الأسفل ، حتى ولو كان الحزب وأحزاب الجبهة او الكتلة التاريخية الثورية ، مطلق حزب في السلطة .
التوجه الحاسم والجذري نحو القضايا المرتبطة ببنية المجتمع من جهة ، وبطابع وعمل الدولة من جهة أخرى . النوع الأول من القضايا ، يجب ان يركز على التعاطي مع المجتمع ، بوصفه كيان موحد المصالح ، في مواجهة الدولة والتحديات التي تجابهه ، وبوصفه من ثم ، مصالح حيوية . ذلك لا يعني بالطبع تجاهل المصالح الطبقية الخاصة بكل طبقة . لكن المصيبة ستكون تامة ، اذا ما توقفنا عند الحدود التي تفصل مصالح الطبقات عن بعضها ، ولم نعرف كيف نبرز ما هو مشترك بينها .
وعلى كل حال . اذا كانت المرحلة الماضية قد شهدت سياسات تقوم على مجابهة المصلحة الشعبية ، بمصالح طبقات وفئات وشرائح " حاكمة " ، فان هذه المرحلة ، يجب ان تبرز التعارض بين مصلحة غالبية المجتمع ، ومصالح الدولة والفئات المساندة لها والداعية لسياستها .
ان هذا التطور يحتمه الدور الجديد الذي اخذت تحتله الدولة منذ سنة 1956 ، والذي أعطاها استقلالا ذاتيا نسبيا عن مصالح الطبقات المساندة لها ، ووضعا بالتالي على رأس القوى التي تخوض الصراع ضد القوى الشعبية . مع تأكيدنا على ان هذه النقطة النابعة من الوضع الحالي ومستجداته ، نرى ان نقطة الضعف الأساسية التي تواجهها دولة الاقطاع ، هي علاقتها مع غالبية الشعب ، وتعارض مصالحها بالأساس مع مصالح الأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية .
ان هذا الجانب الأساسي الذي يجعل الدولة ( الجبارة ) ضعيفة البنية سياسيا ، ويحولها الى القمع بصورة متزايدة ، ويسحب من ايداها الأوراق السياسية القادرة على اقناع الشعب بالخضوع والركوع ، يجب ان يكون محل اهتمام خاص بالمناضلين التقدميين والديمقراطيين والثوريين . والحقيقة التي لا بد من إيجاد معالجة جدية لها ، هي ان المجتمع لن يجد طريقه مرة أخرى الى عالم السياسة ، اذا لم تقدم له القوى المنتظرة التشكيل عند حصول الفراغ الكبير في الحكم ، واذا لم نقدم له صعيدا من الوعي والممارسة يقنعه مرة أخرى بقدرته على مجابهة عالم الدولة البوليسية الإرهابية ، وهذا يقتضي ما يلي :
1 ) دراسة التجارب المماثلة للتجربة المغربية ، وبصورة خاصة ، تجربة جديدة هي تجربة الثورة الإيرانية ، وهنا المقصود حشد الشعب للنزول الى الشارع ، ولا يعني الأسباب التي دفعت حركة الاختيار الثوري الى اصدار بيان من باريس سنة 1982 ، يقضي بطرد الفقيه محمد البصري ، وخادمه بودرگة عباس من التنظيم ، خاصة استمرار الفقيه في ربط علاقات مع ضباط الجيش لقلب النظام ( فشل اللقاء الذي كان مبرمجا بالجنرال احمد الدليمي في باريس ) .
2 ) متابعة النضالات العفوية التي تقوم بها الجماهير الشعبية ، وتحويلها الى نضال عام موحد ، له بعد اجتماعي كامل ، ذو طابع سياسي واع ومنظم .
3 ) الشروع عند التأسيس ببناء الجبهة الوطنية التقدمية ، او الكتلة التاريخية الثورية التي يجب الا تسقط من نظرتها نضالات الصحراويين بالجنوب ، ونضالات الريفيين بالشمال .
4 ) تقديم عمل برنامج استعجالي جوهره وقف التردي الذي دفع الشعب والوطن اليه دفعا ، والانطلاق في وحدة أولى من نضالات صغيرة ومتفرقة ، يجب ان نعرف كيف نصبّها فيما بعد في تيار نضالي عريض وجارف . هذا البرنامج يجب ان يشخص الوضع القائم تشخيصا صحيحا وصريحا ، وان يتصور احتمالات التطور الممكن ، وان يحب لكل منها حسابه العلمي المقنع . كما يجب ان يقدم عالما سياسيا متعارضا مع العالم الذي تقدمه الدولة البوليسية ، وان يكون عالما شاملا ومنظما ، فنقلع عن سياسة ردود الأفعال ، او سياسة الإحاطة الجزئية بهذه القضايا الجزئية او تلك ، وننتقل الى وضع التصور الشامل للقوى التقدمية والديمقراطية ، امام الشعب في مواجهة تصور الدولة لسائر القضايا ، بدءا من القضايا الاجتماعية والمطلبية الصغيرة ، وحتى مسألة النظام البديل ، والاطوار الانتقالية التي يحتمل ان يمر بها المغرب ، من الحالة الراهنة الى الوضع البديل ، على ان نحدد طابع ودور كل قوة اجتماعية في سيرورة نضالية كهذه ، ونعرف مصالحها بدقة ووضوح ، ونقول للشعب الحقيقة حول ما قد يجابهه من صعوبات ومتاعب ، لان طريقه وطريقنا لن يكونا مفروشين بالورود ، بل محفوفين بالمخاطر والتضحيات .. لكن لا ننسى رقابة مجلس الامن ، الجمعية العامة للأمم المتحدة ، الاتحاد الأوربي ، الاتحاد الافريقي ، المحكمة الجنائية الدولية ... التي سيحسب لها النظام البوليسي الف حساب قبل الشروع في حماقة من حماقاته .
5 ) التركيز فيما يخص المجتمع ، على قضاياه الاساسية ، والتركيز فيما يخص الدولة ، على المسألة الديمقراطية ، على ان نفهمها كشيء يتجاوز التمثيل والانتخابات ، واللعب التزويري الذي تمارسه السلطة السلطوية الطقوسية الرسمية .
ان قضايا المجتمع بالدرجة الأولى ، قضايا تفقير الجماهير العريضة ونهبها المنظم ، وتشتيتها وتضبيعها ، وتجويع قسم كبير من الفلاحين ، وتخريب الإنتاج الصناعي ، وضرب الاشكال النضالية التي تتيح للعمال وللشغيلة حرية نسبية من الحركة ، حتى المطلبية . وهي قضايا التبعية المتعاظمة للخارج ، الناجمة عن خراب الفلاحة ، وجمود التنمية الصناعية ، وارتهان ثروات المغاربة لدى الشركات والقوى الخارجية التي تنهب مستقبل الشباب المغربي والاحفاد ، وتكديس الثروة المنهوبة بالابناك الاوربية ... الخ . وهي أيضا قضايا التعليم ، والصحة ، والسكن ، والطعام ، وقضايا الحرية الشخصية والمساواة امام قوانين السلطان ... الخ ، في حين نرى في الديمقراطية وسيلة لتغيير طابع الدولة وبنيتها ، ووضعها كدولة في مجابهة الوعي الشعبي . وهذه عملية طويلة ، لان استرداد الشعب لذاته سياسيا ، ليس مسألة إرادة ، وانما هي سيرورة موضوعية أيضا ، يجب ان نعرف مفاتيحها ، واقنيتها ، وشعاراتها .
ان هذا الضعف البنيوي للدولة ، الذي يتجلى في خروج الشعب من عالمها السياسي ، لن يكون قاتلا لها ، اذا لم ندخل الشعب في عالمنا السياسي . لكن هذا الدخول مشروط بجملة اعتبارات ، في رأسها تقديم برنامج شامل ومقنع ، يتأقلم على حالة العداء الشعبي للدولة القائمة ، وللمصالح المساندة لها ، ويأخذ بالاعتبار الوضع الجديد ، الذي تجابه فيه الأغلبية الشعبية المضطهدة ، الدولة كممثلة لمصالح قلة ، ولكنها منظمة احسن تنظيم ، في حين لا تزال هذه الأغلبية متشتتة وعفوية . ويزيد من الحاح هذه المهمة ان خروج الشعب من عالم الدولة السياسي ، يهدد بتحوله الى العوبة في يد قوى مغامرة من كل الأصناف ، والى نشاطات ربما الحقت الضرر بروحه الكفاحية المتجددة ، التي تتجلى في تفاصيل وجزئيات كثيرة ، يجب ان نحولها الى تيار عريض وجارف بالاتجاه الصحيح .
6 ) آخذين بعين الاعتبار تطورات الاجتماعي المعقد منذ سنة 1999 ، فان التطورات التي شهدتها بعض الأحزاب التي تحولت الى المخزنة ، لما شاركت في انتخابات الملك ، للدخول الى برلمان الملك ، أحزاب الفدرالية ، كانت باهتة وخجولة ، خاصة عندما فشل حزب الطليعة مرتين من دخول برلمان الملك ، رغم ان انتخابات الملك مرت ضمن دستور الملك ، ولم تمر ضمن دستور الشعب وسمفونية المجلس التأسيسي الذي سيحرر دستور الشعب ، بدل دستور الملك . فالوضع الذي عليه أحزاب ( الفدرالية ) مقزز ، اللهم لا شماتة ..
اذن يجب ان نطرح السؤال : هل ورثة حزب ( الاتحاد الاشتراكي ) ، وبمختلف عناوينهم اللاحقة ، كان فعلا بشكله التاريخي المعروف ، أداة فعالة لقيادة النهوض بعد وضع مستلزماته ، ام ان العيوب اللصيقة بنمط هذا الحزب ، والمقصود هنا ، حزب الطليعة قبل انسحابه في 8 مايو 1983 ، كانت عقبة بدورها امام الحزب الطليعي الحقيقي والشعب في آن واحد ؟ .
كما يجب طرح السؤال : هل تكفي النماذج النظرية المنقولة عن مجتمعات أخرى ، لإحداث التبديل المطلوب ، بعد ان عجزت في الطور السابق والحالي عن منع التدهور الكبير الحاصل اليوم ؟ .
ان أي عمل للمنتظر من الكيانات القادمة ، يجب ان ينطلق من انطلاقة شاملة من هاتين النقطتين ، لان الأداة النضالية هي عنصر من عناصر النجاح او عامل من عوامل الفشل . ولا يمكن تحقيق نضال ناجح بأداة فاشلة ، كما يصعب للأداة المناسبة ان تكون بحد ذاتها سبيل في الفشل . كما ان المراجعة للظرف الموضوعي ، لا يجوز ان تتوقف امام الشرط الذاتي ، بل يجب ان تبدأ به ، سيما وان " الحركة الشعبية " اخذت تتجاوز القوى التي تلاشت ، وبقاياها في ( الفدرالية ) .. واذا كان للتصحيح التي تنتظره التكوينات السياسية التي ستبزغ من قلب الشعب عند حصول الفراغ في الحكم ، والطبيعة ترفض الفراغ ، فان المراجعة لفشل تنظيمات السبعينات والثمانينات حتى لا تحصل الانتكاسة ، يجب ان تشمل :
-- الانكباب على نقد تجربة الماضي .
-- نقد سياسة التأقلم .
-- وضع خطة سياسية شاملة ، تبدأ بالتجارب الفاشلة ، ولا تنتهي عند حد رسم خارطة للاحتمالات ، وإمكانات العمل في شروط تلغى فيها السيطرة الأحادية على الساحة السياسية .
-- احتلال رؤوس جسور شعبية تحولها الى ميدان معركة لا حقا ، ولكن من ضمن خطة سياسية شاملة بالأساس ، تنمو تكتيكاتها وشعاراتها مع توسع رؤوس الجسور ، وتحولها الى ارض معركة .
ونحن نعي تمام الوعي ، بان عملا بهذا الشمول ، لا يمكن ان يكون من صنع فرد او حزب لوحده . بل هو من صنع كل القوى الراغبة فيه ، والمدركة لضرورته ، ومن صنع النضالات الشعبية . ولهذا فانه عمل يتسم بأكبر قدر ممكن من الثورية والروح التقدمية والديمقراطية ، والانفتاح على القوى المماثلة وعلى الجماهير الشعبية .
ان العمل العصبوي قد ينقذ حزبا ، لكن ما ينقد الوطن هو العمل الشعبي الذي تقوم به الجماهير بقيادة قواها الطليعية المنظمة احن تنظيم .
7 ) يجب ان نقر بوجود تفاوت في علاقة القطاعات الشعبية المختلفة بالسياسة الراهنة ووضعها . ونرى ان اكثر هذه القطاعات تذمرا من الحالة السائدة ، هي قطاعات الطلاب ، والمحامين ، والأساتذة والمعلمين ، وأساتذة الجامعة ، والمهندسين ، والأطباء، واساسا الاجراء ، والعمال ، والموظفون الصغار والمتوسطون ، ثم قطاعات من الشرائح العليا المتضررة بالانفتاح على الخارج ، وبالنهب الغير محدود في الداخل . ان هذا الواقع يجب ان يؤخذ بعين الاعتبار عند رسم خطط السياسة العملية التي وحدها تساعد على الخروج من مرحلة أولى ، من وضع الاختناق السياسي الحالي ، أي ان باب النشاطات الديمقراطية والمطلبية يجب ان يفتح على مصراعيه ، سيما ان قواه على قدر لا بأس من الجاهزية السياسية والنضالية .
واجمالا يجب التفكير في وضع خطة نضالية متدرجة ، تأخذ الحالة القائمة بعين الاعتبار .
8 ) يجب ان نذرك ان الامبريالية ككل دعمت التطورات السابقة ، لكنها الان ، اصبح لها موقف اخر أساسه نظام الحكم المعزول ، وبالضبط شخص الملك ونظامه .. فبدأت القوى الامبريالية تمدد الجسور مع أي مشروع يغير النظام لصالح نظام اخر مقبول .. ووجدت ضالتها في نزاع الصحراء الغربية ، التي تعتبرها المدخل الرئيسي لاي تغيير في التراب ، الصحراء والريف ، ومن ثم فرض حاكم مقبول من قبل الجميع، يكون متفتحا على القيم الغربية ، ومنصهرا فيها ، ويقبل وعن طواعية تبني الحل الديمقراطي لنزاع الصحراء الغربية ، واساسه المشروعية الدولية المبنية فقط على الاستفتاء وتقرير المصير . فالغرب الذي كان ابان الحرب الباردة متحالفا مع النظام ، اصبح بعد نهاية تلك الحرب ، متقلبا عن ( من تحالفوا معه ) . وبما ان الغرب يعلم علم اليقين ان تنظيم الاستفتاء وبإشراف الامم المتحدة ، يعني استقلال الصحراء ، لان نسبة قد تصل الى 99 في المائة من المستفتين ستصوت لصالح الجمهورية الصحراوية ، وهذا يعني سقوط النظام العلوي ، فالغرب رغم ذلك ينتصر فقط لحل الاستفتاء وتقري المصير ، دون غيرها من الحلول التي طرحها النظام المخزني كحل الحكم الذاتي المرفوض دوليا .. أي ان الغرب يبحث عن سبب يكون مشروعا لإسقاط النظام ، والسبب الاستفتاء وتقرير المصير في الصحراء..
المغرب مقبل على تحول جذري ، يقوده الغرب ، وينفخ فيه داخليا ، لإعلان انتفاضة ستكون شعاراتها الدولة الديمقراطية ، لكن على حساب وحدة التراب ووحدة الشعب ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. داعش يتغلغل في أوروبا.. والإرهاب يضرب بعد حرب غزة | #ملف_الي


.. القرم... هل تتجرأ أوكرانيا على استعادتها بصواريخ أتاكمز وتست




.. مسن تسعيني يجوب شوارع #أيرلندا للتضامن مع تظاهرات لدعم غزة


.. مسؤول إسرائيلي: تل أبيب تمهل حماس حتى مساء الغد للرد على مقت




.. انفجار أسطوانات غاز بأحد المطاعم في #بيروت #سوشال_سكاي