الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-تآكل الإرث التاريخي (1)-

طه يوسف

2023 / 11 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


بحلول نهايات عام 2010، كان اللواء السابق في سلاح الجو المصري حسني مبارك قد أمضى قرابة الثلاثين عامًا فى حكم مصر. أخذ مبارك على عاتقه تأمين الطريق لابنه الأصغر جمال ليخلفه على حكم مصر. بخلاف ذلك، ثمة عراقيل لاحت فى أفقه السياسي. فقد كان الجيش يمثل حجر عثرة شديد المراس بتهديده لنظام الحكم على فترات متقطعة، إلا أنه نجح في تقليص قوته فى عام 1989 بإنزال ضربة نالت من سمعة وزير الدفاع المشير عبد الحليم أبو غزالة، صاحب الشخصية النافذة فضلًا عن تعزيز نفوذ قوات الأمن والمخابرات، فأفرد لها مكانًا منافسًا للجيش، وأداةً قمعية لكل حركات التعبير السياسي تحت قيادة اللواء عمر سليمان مدير المخابرات العامة. وغدا الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم مطية لابنه جمال، الذي لم يألُ جهدًا لتوسيع نطاق نفوذه الذي امتد لأجهزة الدولة، ومد شبكة واسعة من العلاقات ساهمت في إحكام السيطرة على الحياة السياسية لفترة طويلة. تمخض عن الانتخابات البرلمانية التي أجريت في وقت سابق من العام نفسه، والتي كانت مصحوبة بتزايد وتائر أساليب الاحتيال والترهيب، بفوز ساحق للحزب الوطني الديمقراطي، مما رفع من إجمالي مقاعده البرلمانية إلى 420 من أصل 444 مقعدًا مقارنةً بعدد 330 مقعدًا فاز بها في انتخابات عام 2005 والتي صنفت الأكثر حرية ونزاهة. على الجانب الآخر، فقد تقلص عدد مقاعد جماعة الإخوان المسلمين، التي تعتبر القوة المعارضة المنظمة الوحيدة، من 88 مقعدًا فازت بها في انتخابات 2005 إلى مقعد واحد فقط. وبالتالي، كان يُتوقع أن يكون البرلمان المنتخب حديثًا في عام 2010 أقل صخبًا، ولا يُشكل تهديدًا لعملية خلافة الابن.

أما فيما يتعلق بالسلطة التشريعية، التي تعد الفرع الثالث للسلطة، فلم يدخر مبارك جهده في سبيل نزع شوكتها. وقد حول اهتمامه إليها في أعقاب انتخابات عام 2005، فعمد إلى التغييرات الدستورية، وترهيب القضاة المستقلين في نادي القضاة، والتدخلات السافرة في إدارة القضاء لإخضاع هذا الفرع الثالث ليكون أداة طيعة لتكون سلطة تنفيذية واسعة النفوذ بحلول عام 2010. وانتهى الأمر بتعرض منظمات المجتمع المدني لقبضة قانونية أشد صرامة وتقييدًا، وباتت تئن تحت وطأة الحظر الذي تفرضه الحكومة المصرية على مصادر تمويلها، وخاصة الأجنبية منها. وعلى صعيد آخر فقد امتثلت وسائل الإعلام الخاصة، حديثة النشأة، على مضض "للخطوط الحمراء" التي خطها النظام بشكل أكثر إحكامًا. خلاصة القول، كان مبارك في العام الجديد 2010-2011 على رأس نظام قمعي استبدادي ينمو بشكل مطرد به مسحة من الاستقرار، عاقدًا عليه الأمل في توريثه لابنه، رغم المقاومة المهتزة من القوات المسلحة والتذمر غير الفعال من قوى المعارضة ونشطاء المجتمع المدني.

لم يمض كثير وقت وفي الخامس والعشرين من يناير / كانون الثاني 2011، حدث انفجار سياسي حقيقي عندما تدفق آلاف المتظاهرين، بتشجيع من نشطاء المجتمع المدني الذين تواصلوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي – أو كما يطلق عليهم باللغة العربية "الفيسبوكيين"- إلى الشوارع للتعبير عن استيائهم من مبارك، وتعالت نداءاتهم مطالبة بسقوط نظامه. في غضون أيام، اهتزت القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية ومراكز حضرية مختلفة في الدلتا بهتافات المتظاهرين في واحدة من أكبر التجمعات منذ جنازة الرئيس عبدالناصر عام 1970. ومع تزايد تقاطر الحشود في مواجهة قوات الأمن التي أثبتت فشلها في تعاملها نتيجة إعدادها السيئ، وبموافقة ضمنية من الجيش، انهار نظام مبارك الذي ظل قائمًا لمدة ثلاثة عقود تقريبا وذلك فى غضون ثمانية عشر يومًا، وبعدد قليل من الدماء المراقة نسبيًا. وانطلق مبارك إلى مكمنه في شرم الشيخ على الطرف الجنوبي لشبه جزيرة سيناء فى انتظار مصيره.

للوهلة الأولى، بدت هذه الأحداث الدرامية وكأنها مثال حي على "الثورة الملونة"، الشبيهة بتلك التي اجتاحت الاتحاد السوفيتي السابق ومنطقة البلقان. والتي أحاطت بها أجواء غير عنيفة وقادتها منظمات غير حكومية، وارتكزت على قوة الشعب دون غيرها للإطاحة بالنظم الاستبدادية والتحول إلى الديمقراطية. وقد بدا أن مئات الآلاف من المتظاهرين في ميدان التحرير بالقاهرة يجسدون هذه القوة الشعبية، بما في ذلك المسلمون والمسيحيون، والمهنيون والعمال من الطبقة المتوسطة، والشباب والعجائز، والنساء والرجال. ولكنها ما إن خطت خطوات نجاحها الأولى حتي تصدعت هذه اللُحمة بفعل قوتين متنافستين. إحداهما كان الجيش، الذي زعم كذبًا أنه "يد واحدة" مع المتظاهرين، وشرع على الفور في تأكيد سلطته تحت قيادة محمد حسين طنطاوي الذي خدم لفترة طويلة كوزير للدفاع في عهد مبارك والعمل على التغلب على الحماسة التي اكتنفت المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية. أما القوة المنافسة الثانية فهي جماعة الإخوان المسلمين، التي شاركت بكل تفانٍ في التصدي لقوات الأمن في ميدان التحرير ومحيطه، ومن ثمّ فقد اعتقد قادتها وأعضاؤها أنهم -وليس المتظاهرين الفيسبوكيين العلمانيين- من خططوا لإسقاط مبارك. وبالتالي فلهم كل الحق في الانخراط سياسيًا داخل النظام الوليد الذي سيقيمونه بالتعاون مع الجيش.

خلال العامين اللاحقين، لعبت القوات المسلحة دورًا ينطوي على المكر ضد جماعة الإخوان المسلمين*، فقامت أولاً بتسليمها السلطة المدنية نكاية في القوي العلمانية الديمقراطية، ثم الالتفاف عليها وتقويضها ببراعة قبل أن تطيح بها بانقلاب عسكري في يوليو 2013. خلال هذه الفترة، تعاون الضباط والإخوان لإصلاح الهيكل الأمني سيئ السمعة، وسعى كلاهما لتحويل دفة الأمن ضد الآخر وضد عدوهم المشترك، وهم العناصر الفاعلة في المجتمع المدني الذين أشعلوا جذوة التظاهرات في البداية. كما تعاونوا أيضًا على صياغة دستور جديد منح القوات المسلحة صلاحيات لم تمارسها من قبل، مقابل قانون انتخابي يضمن الفوز للإخوان، ويفتح أبواب البرلمان على مصراعيه أمامهم. انعكس كل ذلك على المؤسسات الحكومية، فقد عانت مؤسسات القضاء والبرلمان وجزء كبير من الجهاز الإداري، من أضرار سبّبها ذلك النزاع على السلطة والذي كثيرًا ما يدور داخل هذه المؤسسات وبينها، وأفقدتها أي دور لحيادها ومهنيتها. أما المجتمع المدني، فقد تم تهميشه باستخدام القبضة الغاشمة للأجهزة الأمنية المعاد هيكلتها والمدعومة من المؤسسة العسكرية.استقال محمد البرادعي، الحائز على جائزة نوبل، والذي يمكن اعتباره رمزًا للاحتجاجات والرجل الوحيد القادر على رأب الصدع بين قوى الثورة، من منصب نائب رئيس الجمهورية احتجاجًا على سفك دماء أكثر من 800 مؤيد لجماعة الإخوان على يد قوات الجيش والأمن في ساحتي رابعة العدوية والنهضة في القاهرة في أغسطس 2013. ذاهبًا إلى منفاه بإرادته ولم يعد إلى الآن، ويرمز غيابه إلى غياب المجتمع المدني بشكل عام.

وهكذا تبين أن الانتفاضة أبعد ما تكون عن "الثورة الملونة"، بل ثورة تحمل بين أحشائها انقلابًا، كتحليل لممارسات المجلس العسكري. فقد وجه الجيش ضربات قاصمة لكل من نشطاء المجتمع المدني والإخوان المسلمين، فطفا على السطح تفسيران الأول هو الاعتقاد بأن الضباط سيحققون إصلاحات سياسية جذرية، والثاني أن هؤلاء الضباط سيعتمدون على الاخوان كأداة رئيسية للحكم المدني. في الواقع كان قادة المجلس العسكري يعتزمون منذ البداية التخلص من مبارك، ثم حمايته بعد ذلك، للحيلولة دون فقدان الدور السياسي الذي تلعبه المؤسسة العسكرية ومن ثمّ العمل على تمدد هذا الدور. ورغم أن ذلك تطلب مناورات سياسية ترمي لتحقيق الهدف – بما في ذلك تغييره لقيادته واستبدال المشير طنطاوي بالجنرال عبد الفتاح السيسي في سبتمبر / أيلول 2012 – وآتت المناورات أُكُلها. فقد استخدم المجلس العسكري الإخوان في البداية لسحق "الثوار" من ذوي الأيدلوجية العلمانية واستغلال ضعفهم التنظيمي وتشتتهم، ثم أعاد تأهيل بعض تلك الوجوه الشابة نفسها لتبرير الانقلاب الذي كانوا يدبرونه ضد الرئيس الإخواني محمد مرسي.

إذا وصفنا هذه الثورة بأنها ملونة، فإنها مصبوغة باللون الأسود. كانت محصلة نتيجتها هي إزالة الطبقات المدنية التي تكونت فوق النظام العسكري الذي بدأت بوادره مع انقلاب جمال عبد الناصر في يوليو 1952 الذي أطاح بالملك فاروق وأسدل الستار على الحكم الملكي. هذه الطبقات المدنية تمثلت في مؤسسات وعمليات حكومة على شكل رئاسة مدنية وبرلمان وانتخابات، منظمات المجتمع السياسي مثل الأحزاب السياسية، وهيئات المجتمع المدني. شكلت مع بعضها بوتقة واحدة خففت على مر السنين من وطأة الحكم العسكري، وجعلته متواريًا عن أعين الرأي العام. ولكن انقلاب 2013 أعاد إلى الواجهة الحكم العسكري المباشر، ممهدًا الطريق للضباط لزعزعة جميع مظاهر الحكم المدني، سواء كانت إدارية أو سياسية أو حتي اقتصادية. وقد تفوقت تلك الإجرائية القمعية الموجهة لتقويض المؤسسات والمنظمات والجهات المدنية على نظيرتها التي استخدمها عبد الناصر وزملاؤه من "الضباط الأحرار" عندما عبثوا بالحكومة والسياسة في خمسينات القرن الماضي. في كلا الحالتين كانت جماعة الاخوان هدفًا رئيسُا للاضطهاد، فقد استخدم الجنرال السيسي وسائل أشد فتكًا وقسوة مما استخدمه عبد الناصر، بما في ذلك سفك دماء أعضائها في ساحات رابعة العدوية والنهضة بالقاهرة، وهي أولى الأحداث المشينة في تاريخ مصر "الجمهورية". بعد ارتقاء السيسي كرئيس في يونيو 2014، أُعيد تأهيل المسؤولين الذين فقدوا مصداقيتهم في عهد مبارك تدريجيًا، ليمارسوا أدوارًا تفوق صلاحياتهم السابقة. تلخصت الثورة المضادة في قلب ميزان القوى بين مبارك وحاشيته المباشرة من جهة، والجيش من جهة أخرى، مما أدى إلى إقامة جمهورية عسكرية أكثر وحشية من أي وقت مضى منذ الأيام المظلمة لعصر ناصر، مما جعل العديد من "الثوار" والإخوان يتوقون إلى عصر مبارك، بل ووصل الشطط ببعضهم إلى عهد الملكية.

أثارت الأحداث الدرامية التي وقعت منذ يناير/كانون الثاني 2011 أربعة أسئلة لا تنفك عن بعضها. أولًا: ما هي أسباب اندلاعها؟ وثانيًا: لماذا لم يتوقعها سوى قلة قليلة، بما في ذلك المشاركون فيها؟ ثالثًا، لماذا فشلت؟ وأخيرًا: ما هي العواقب التي ترتبت على هذه السنوات القليلة المضطربة في الأفق السياسي للبلاد؟

يتبع...

*استخدم المؤلف في وصف الجيش كلمة mongoose وتعني حيوان النمس، واستخدم في وصف الاخوان كلمة cobra حية الكوبرا للدلالة على العداء بين النمس والكوبرا في عالم الحيوان والذي ينتهي دائما بانتصار النمس فهو يهاجم الأفعى ويقتلها في أغلب الوقت (المترجم).
المقال ترجمة للجزء الأول من الفصل الأول من كتاب Egypt للمؤلف روبرت سبرنبورج








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إسقاط مسيرة إسرائيلية بعد استهدافها في أجواء جنوبي لبنا


.. كيف ستتعامل أمريكا مع إسرائيل حال رفضها مقترح وقف إطلاق النا




.. الشرطة تجر داعمات فلسطين من شعرهن وملابسهن باحتجاجات في ا?مر


.. مظاهرة في العاصمة الفرنسية باريس تطالب بوقف فوري لإطلاق النا




.. مظاهرات في أكثر من 20 مدينة بريطانية تطالب بوقف الحرب الإسرا