الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفوق الأطفال على الكبار والأمل بالخلاص لدى يعقوب الشاروني

أدهم مسعود القاق

2023 / 11 / 24
الادب والفن


في إحدى أمسيات مختبر السرديات بمكتبة الإسكندريّة تمّ الاحتفاء بالكاتب الكبير يعقوب الشاروني، سيرته وأعماله، ومن بين المتكلّمات كانت هبة عبد الفتاح التي رأت بالشاروني حكّواتيًّا كالجدّات والأمّهات، ثمّ كرّرت عبارته: "بابا البجعة" مرات عديدة مبديّة إعجابها بقصة مرمر وبابا البجعة، التي انتصر الشاروني عبرها لأبوة البشر على الطيور الضعيفة، وذلك عندما قدّم عمّ فتحي مسخِّرًا نفسه لإطعام بجعة قضم التمساح منقارها، بعدما حاولت انتزاع حريتها والتحليق خارج الحاجز لتحطّ حول بحيرتها. وإذا كان الشاروني قد قدّم رجلًا محبًّا مبديًّا موقفًا نبيلًا اتجاه البجعة، وصار يستحقّ لقب بابا البجعة، فإنّ من بين قصصه التي تجاوزت الأربعمئة، نجد شيوع القيم التي تنتصر للمرأة، وتقدّم الطفل مخلّصًا في مجتمع أبوي بطريركي.
عندما شبّهت هبة عبد الفتاح الكاتب الشاروني بالحكّاءة، فهي قصدت انتصاره لروح الأنوثة التي أفعم بها قصصه، التي تومئ لتفضيل الشاروني للجانب الأنثوي بشخصيته المحبّة، كما لا يُخفي هذا الكاتب الكبير حنينه لطفولته المتعلقة بأمّه وجدّته، لحكايات الطفولة الموجّهة للإلفة والمحبة والسلام، حتّى تغلغلت هذه المعاني بنتاجه الضخم؛ وبالمقابل غاب عن قصصه عالم الحكواتي المختص بحكي قصص الذكور في المقاهي والحارات، الذكور الذين ما يزالون يتشاجرون مظهرين مزيدًا من الأحقاد والكراهية في نفوسهم. وإذا كان الشاروني قد استدعى موضوعات من التراث المفعم بالقهر والصراعات المدويّة، فقد وظّف حكاياته بما يخدم عالم الإلفة والسلام، وأقصى عن قصصه سير الفحولة الذكورية التي لا تؤدي إلّا إلى مزيدٍ من طاقات الغضب لدى الرجال.
في كلّ قصص الشاروني التي أتيح لي الاطلاع عليها لم أجد قيمة واحدة تشجع على العنف أو إظهار بطولة ذكورية، إلّا بالمقدار التي تتناغم مع أفعال لإناث أو أطفال أو تكشف عن جوهرهم؛ بل يقرأ المتابع صورًا ومشاهد لبطلات يقدّمن سلوكًا فاعلًا، ففي رواية ملكة الملوك يقدّم الكاتب حتشبسوت الشخصية التاريخية التي قادت شعبًا منذ آلاف السنين، ثمّ يقدّم حسناء ذات الإرادة الصلبة بمواجهة الصعاب وغضب الطبيعة في قصة حسناء والثعبان الملكي، ويعالج شخصية قطر الندى الشابّة المصريّة التي خطفها الفرنسيون ثم انتصرت لحريتها ووطنها عندما حاولت الفرار من الأسر سباحة بالنيل، وينتصر لرادوبيس وهي سندريلا المصريين القدماء، وللجدّة في سرّ الجدّة التي يستشيرها رجال القرية لتدلّهم على دروب لتجاوز محنهم ومشاكلهم. ويخلّص حكاية الأميرة حياة النفوس من أسطرتها ليظهر عقلانية المرأة وواقعيتها. ويقدّم نماذج نسويّة فاعلة في أسرار بيت الطالبات وفي مرمر ودواء ماما الطفلة التي تُمنَح الثقة من أمّها. ويستدعي التراث في كنز جزيرة عروس البحر ليقدّم سماح الابنة التوٌاقة لدخول مغامرة المعرفة فتدلّ أباها عالم الآثار على موقع السفينة الغارقة. ثمّ يعالج شخصية ريم التي تضاهي أخيها في مغامرة في الفضاء؛ يحكي الشاروني قصته، كمن يعيش بالمستقبل، وها هو ذا يقدّم فتاة وشاب بعمر الصبا يعيشون خارج أطر المجتمع الأبوي الذكوري، ويصورهما أنموذجين للشباب المتطلع إلى حياة مغايرة لأحوال التخلّف والقهر. وفي قصة الأبناء لهم أجنحة ينتصر للطفولة التي تلاقي الحيف من الكبار، ويجعل من الطفل منقذًا لمشروع زوجة العم التي ضمرت له كراهية غير مبرّرة بإصلاحه للكمبيوتر وتقويم حسابها المصرفي. قصة الأمير الجبان تكشف عن تخفّي أميرة بزي الرجال وقيادة الجيش ليؤكّد تفوقها على الرجال. وفي رواية موجّهة لسنّ الفتوّة يبدأ الكاتب منذ العنوان بإشاعة النسق الثوري الذي تحمله الرواية، ثورة الأمهات في بيت الأسد، عنوان لا لبس في فهم مقاصد الكاتب، ثورة وأمهات على أنانية الأسد الذي كرّس تقاليد باليّة تمنع إعانة أومساعدة حامي قبيلة الأسود من قبل كائن من كان، فتثور اللبوة - الأنثى – المرأة – الأم، وتشجّع الأخريات على التّوحّد لمواجهة المعتدي، وعند الشروع بالتحرّك تحفّز أشبال – شباب – صغار الأسود، فتبدأ الثورة ضدّ سلوك الزعيم القهري وضد التقاليد وضد التفتت، إنّها دعوة للاعتماد على الأنوثة أولًا، عين عقل أطفال - أشبال الجماعة، وتشجيعهم للشروع بالثورة. كما يبرز في كثير من قصصه انتصاره للأطفال فها هو ذا حسين يمسك باللصوص بعد إدراكه عدم وجود عفاريت في قصة عفاريت نصف الليل، ليثبت فساد التفكير الخُرافي. وفي قصة أبناء في العاصفة ينقل الحكمة من الكبار الذين قدمهم متنافسين لدرجة المرض إلى الطفلين اللذين استطاعا حلّ مشاكل أبويهما، ... إلخ. لاشكّ، أنّ هذا التوجّه الاجتماعي في قصص الشاروني منحه ريادة أدب الأطفال بمحطة مغايرة لريادة كامل الكيلاني الذي عالج بقصصه الطفليّة موضوعات مستمدّة من التراث الشعبيّ والأسطورة والميتا تاريخ، بينما الشاروني انتزع ريادته التي لم تتوقف عند حدّ معيّن، بل ظلّ يتجدد مع متغيرات الحياة المعاصرة حتى يومنا الراهن.
وها هو ذا يفوز بمرتبة الشرف الأولى العالميّة، لاختياره من أفضل كتّاب العالم في أدب الأطفال وذلك عن روايته ليلة النّار التي أكّد فيها على مسيرته منتصرًا لجيل الأطفال، الجيل القادر على أن يكون فاعلًا بمحيطه، فكان الفتى النبيه وأخته ياسمين على حيرة من فوضى سوق حيّهم ومن الأخطاء التي يكرر ارتكابها الكبار، فما كان منهما إلّا أن شرعا بإنتاج الأفكار عندما التهمت النار السوق برمته، وحلّا مشاكل الكبار ابتداء من إعادة بناء السوق، وليس انتهاء بتحفيز الأب للتنازل عن وثيقة ملكية للأرض الذي بنيّ عليه السوق.
لقد خلّص الشاروني قصص الأطفال من الميتا تاريخ والأسطرة وحكايات التراث ودفعها على درب معالجة تيمات اجتماعيّة، مبرزًا أهمية أنساق ثقافيّة إيجابيّة، كاشفًا خطورة عيوب المجتمع البطريركي الذكوري العربي، وداعيًا للتفكير العلمي بمواجهة التفكير الخُرافي بأسلوب مشوّق وواضح، وقد جعل أبطال قصصه أطفالًا أو نساء بمعظمها، وجلّ قصصه محفّزة للأطفال ليدخلوا المغامرة بغية انتزاع حقوقهم وامتلاك مصائرهم، ويقدّمهم الأكثر قدرة على تقديم الحلول، والأكثر فعالية في مواقف حياتية تنمّ عن مشاكل يعيشها مجتمعهم.
استقى الشاروني من مخيال الذاكرة الجمعية كثيرًا من قصصه، ولكنّه حرص على صبغها بروح العصر وعلى تحميلها دلالات عن مشكلات مجتمع مؤسّس على تاريخ القهر القروسطي، وبذلك فقد عالج معظم أهداف الطفولة السلوكيّة، المندرجة على سلمّ القيم المعرفية والجماليّة، منها المتعلّقة بالوطن والتربية والأخلاق الرفيعة وأخرى بالعلم والعمل والبيئة والفقر ورعاية المواهب وغيرها. ولكنّ تقديم جيل التكنولوجيا الرقمية، وهو من الأطفال غالبًأ، على الأجيال السابقة هو سبق يسجّل لهذا الكاتب الفذّ الذي تنبّه إلى تفوّق جيل المهام المتعددة والمعارف المتنوعة والأفكار المتجددة، جيل الذات الفاعلة بمواجهة طغيان المجتمع والدولة على الفرد، الجيل الساعي على درب خلق أنساق ثقافيّة جديدة، التي نجد صداها في قصصه الأخيرة، كأبناء في العاصفة وليلة النار وأسرار بيت الطالبات ومرمر وغيرها.
من سمات أسلوب الشاروني عدم الكشف عن العيوب النسقية المتغلغلة في بنية المجتمع، بل يقدّم أنساقًا مجتمعيّة دالّة على رغبته ببناء المستقبل، وليس توصيف الحاضر، حتّى لو عالج قصصًا تراثيّة فهو يسقط أحداثها على مشكلات الواقع، متطلعًا نحو الأمام دومًا، وهذا يتناسب مع أبناء الجيل المعاصر، الذي لا يطيق عادتي الانتظار والبطء بصفتهما تدلّان على الحكمة والوقار لدى الأجيال السابقة، بل هم سريعو الإيقاع بحياتهم، لا يصبرون على المآسي، يلجون فعل تغييرها فور وقوعها. هذا الجيل الذي يلبي الشاروني توقه للوصول إلى إجابات سريعة عن أسئلته في معظم قصصه التي كتبها، فهو مدرك للتغيرات المذهلة التي يمرّ بها تاريخ البشر، وهذا ليس بمستغرب فقد كتب قصصه من وحيّ طاقات الطفولة التي لم يغادر الشاروني أسئلتها ومغامراتها حتّى اللحظة الراهنة، لحظة تسيّده عرش أدب الطفولة العربي، فالشاروني يقدّم أسئلته للطفولة، ويحاول الإجابة عنها من موقع الطفل الذي يأبى مغادرة روحه العظيمة بأنوثتها الخلّاقة للحب والخير والمعرفة.
يعالج الشاروني موضوعات قصصه ويشبعها بالمعلومات تمامًا، مثلما يستحوذ طفل الجيل الرقمي الجديد على معلوماته من مناهل ثورة التكنولوجيا الرقميّة، هذه المناهل التي لا عهد للأجيال السابقة بها، جيل يختلف عن سابقيه بطبيعة المعرفة التي تكوّنه، جيل لا يجد نفسه إلّا بمقدار ما يغيّر السائد من قيم وقواعد وأعراف تناسبًا مع المتغيرات الدراماتيكية التي تحصل على مدار الساعة في الكون، هذا الجيل الذي حطّم كل التخوم بين الأنواع المعرفية والأجناس الأدبية، وغيّر مفهوم صراع الأجيال وفتّت المراحل العمرية المتعارف عليها، وجعل فعاليات الجيل الواحد وسماته تحدّد في كلّ سنة أو أقل تبعًا لما تقدّمه الثورات العلميّة المعاصرة وتغيّر من مفاهيم وافكار، جيل متعدد الأفعال، يقرأ كتابًا ويرسل رسالة من جهازه ويأكل ويحادث من حوله بذات الوقت، مجتهد بدروسه، ومتابع للأفرقة والنشاطات الرياضية ويعزف آلات موسيقية؛ لا يطيق تردّد الكبار وحيرتهم اتجاه حل مشكلات عالقة، فينبري أطفال هذا الجيل لاقتراح الحلول المناسبة، فينذهل الكبار أمام معارفهم، وهذا ما نجده في قصص الشاروني المنتصر أبدًا للطفولة الخلًاقة التي تحتاج إلى سيادة روح الأنوثة الحقّة حتّى تخلّص البشر من عدوانية الفحولة الذكورية المفرطة المؤديّة إلى هذا الكم الهائل من الموت نتيجة الحروب الموجّهة من بؤر الفساد في المجتمعات البطريركية.
إنّ يعقوب الشاروني واحد من أولئك المتفاعلين مع هذا الجيل الرقمي، القادر أن يواكب توجّهات الأطفال الذين يتوجّه إليهم، يحاول أن يلج مساراتهم بكلّ طاقاته الخلّاقة، ليعي حقيقة عواطفهم المغايرة، ومعارفهم الجديدة التي يستحوذون عليها من مواقع لها صفة العالمية، وهو الذي كتب: "... ومع تزايد اهتمام أبناء جيل الإنترنت بالسياسة، فلا شكّ أنّهم سوف يُزيحون نموذج السياسة التقليدي القائم على الخطب والتلقين، فنشأتهم الرقميّة – نتيجة ما استمدّوه من تعاملهم مع الإنترنت بمميزاته – تجعلهم يتوقّعون التعاون وليس الإصغاء فقط. يريدون المشاركة المباشرة والتفاعل وتقديم الأفكار، والعمل من أجل تحفيز المبادرات. إنّهم يغيّرون السياسة ونُظُم الحكم." إنّ الشاروني يدرك أن من يتخلّف عن ركب التقدم وانتصار الثورات العلميّة المعاصرة، لا يمكنه أن يقدّم معرفة أو تربية لأبناء أجيال هذه الثورات، فهو متابع ممتار لتداعيات ثورة التكنولوجيا الرقميّة، لا سيما على الطفولة العربية.
كما أن الشاروني لا ينتصر للأنوثة الكاشفة درب البشر نحو النور فحسب، بل يعرف عظمتها وأسرار جمالها من خلال مناجاته لروح الأنوثة داخل شخصيته، إنّه يحبّ أنوثته، ويحاول أن يفعّلها على شكل إبداعه القصصي، فمعظم أبطال قصصه أطفال ونساء، ولا يقدّم الذكور بصفتهم الفحولية إلا لإشعار المتلقي مزيدًا من التقزز والرفض للفحولة الزائفة، وليكشف عن طريق هشاشتها ألق الأنوثة المستجيبة على الدوام في قصصه لبراءة الطفولة، ولإبراز توقهم للمعرفة والحرية.
وأخيرًا وليس آخرًا، فالشاروني لا يزال يحلم، كما كان يحلم بطفولته، لم يغادره الطفل المتحفّز للسؤال، والتوّاق للمعرفة والعلوم، لا يزال الطفل الهادئ والجميل يعيش بداخله، لا يزال إلى اليوم يعدّ نفسه تلميذًا أمام هذا الكمّ المعرفي الهائل الذي أتخمت به البشريّة، لأنّه مدرك تمام الإدراك حقيقة ما يحصل في أكناف هذا العالم الكبير، فهو يطرح أسئلة معرفية طفلية ويسعى للإجابة عليها كطفل محبّ لجمع المعلومات.
الإسكندرية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل