الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قد يدخل ( أحمد ) الجنة بعد الموت

ممدوح رزق

2006 / 11 / 19
الادب والفن


التاريخ صاحب مشروع .. لن يتنازل عنه لمجرد أن التاكسي الذي أعاد ( أحمد ) من المستشفى الاستثماري إلى بيته قد مر بالصدفة على قصر الرئاسة وتحت سماء الله .. التاريخ أكثر احتراما لمشروعه من ذلك بكثير .. ( أحمد ) لن يدخل التاريخ .

* * *

( أحمد ) يكره الألم .. لذا أراد أن يتفادى المزيد من قسوته ، فوضع شيك الـ 2500 دولار في جيب بنطلونه الأيمن كي يقلل من إحساسه بالفراغ العميق الذي يمزق جانبه الأيسر .. ولأن للألم أحيانا طبيعة انتقامية تنشط لإثباته كلما تمت مجابهته بالمراوغة والتضليل ، فقد ازداد فراغ الجانب الأيسر عمقا وقسوة .. بيد مرتعشة وبطيئة .. أعاد ( أحمد ) الشيك إلى جيبه الأيسر .. حينئذ .. ورغم كل الألم .. شعر ( أحمد ) بمنطقية غريبة واتساق مبهم .. أن كل شيء في موضعه بطريقة ما ، وأنه ابن شرعي لهذه الدنيا .

* * *

كان من الممكن أن يكون ( أحمد ) شابا وسيما .. أنيقا ولامعا ، فيصلح لأن يقوم الوطنيون الديمقراطيون باستدعائه ويجعلونه يقف بابتسامة واسعة ومتصالحة للغاية أمام عدسات التصوير مرتديا ملابس فلاح ثم ينتصب بشموخ وسعادة داخل حقل ما ممسكا بين يديه بثمرة طماطم في حجم حبة البطيخ ويتطلع بعينين صافيتين وبمنتهى النشوة نحو الامتداد اللانهائي للمساحة الخضراء برفقة أغنية تتحدث عن الرخاء والنهضة والمستقبل المزدهر في مشهد لا ينقصه سوى الحور العين والولدان المخلدون .
كان من الممكن أن يقف بنفس الابتسامة الواسعة والمتصالحة للغاية وأمام نفس عدسات التصوير مرتديا زي عامل أمام ماكينته بينما ملامح وجهه ترتعش احتفالا بالفرح والسكينة القصوى وفي عينيه بريق من بهجة عميقة توحي بأنه يعيش في زمان ومكان منحاه القدرة على كشف الحجاب والوصول إلى الحكمة الغيبية النورانية المقدسة التي أهدت إلبه السلام الأبدي مع نفسه ومع الكون .. هكذا.. سيبدو كأصدق تعبير عن العامل العادي الذي حينما يفرغ من العمل سوف يغلق باب المصنع ويضع مفاتيحه في جيبه ببساطة محسومة وتلقائية قبل أن يعود إلى منزله .
خطيئة ( أحمد ) الكبرى .. أنه كان مجرد شيء حقيقي فحسب .

* * *

لم يعترض .
لم يحمل لافتة .
لم يهتف .
لم يعتصم .
لم يُضرب عن شيء .
لم يحتج .
لم يوّقع على بيان .
لم ينشيء مدونة إلكترونية يوثق بها رفضه .
لم يتأبط ذراع عجوز كفيف بيده عود ليغني معه سبابا وسخرية في الشوارع والمقاهي وفي الجلسات الخاصة المسجلة للتوزيع والتداول .
فقط
كل ما أراده ( أحمد ) أن يكون بطلا داخل بيته .

* * *

قد يكون ( أحمد ) محظوظا بشكل ما
هو على الأقل لم يكن :
ـ على متن العبّارة ( السلام 98 ) .
ـ داخل مسرح قصر ثقافة ( بني سويف ) .
ـ في إحدى عربات قطار الصعيد .
لم يكن متواجدا بأماكن كثيرة ، فامتلك مزيدا من الوقت كي يتخيل بهدوء أكبر السيناريو المحتمل لطريقة موته .

* * *

( يستطيع الإنسان أن يعيش بربع كلية )
تذكر ( أحمد ) أن هذه العبارة كان يسمعها كثيرا في طفولته .. داخل المدرسة ومن التليفزيون والراديو وأفواه الآخرين .. الآن فقط فهم كل شيء .. أن لأبناء الوطن أدوار محددة ينبغي الإعداد لها مبكرا .

* * *

ذات يوم كان يتجول بين القنوات التليفزيونية :
القناة الأولى : شاب أنيق يتحدث بمنتهى الرصانة والثقة عن الفكر الجديد للجنة السياسات .
قناة الجزيرة : امرأة سوداء نحيفة تتحدث بثبات عن الشرق الأوسط الجديد .
قناة إقرأ : رجل مبتسم يتحدث عن ذنوب الإنسان والتوبة وعذاب يوم القيامة .
قناة ميلودي : امرأة عارية الفخذين تغني وترقص قبل أن تضع فوهة زجاجة ( الكوكاكولا ) في فمها وهي تغمز بعينيها الضاحكتين .
وحينما أغلق ( أحمد ) التليفزيون رأى نفسه على الشاشة الرمادية المعتمة داخل المقهى الشعبي وهو يتنقل بين مقاعد الزبائن حاملا صينية المشروبات .. رغما عنه ضحك ( أحمد ) ضحكة خافتة .. مبتورة وواهنة حينما بدا له التليفزيون في تلك اللحظة وسيلة أمينة للتعبير عن سعي الإنسان للحصول على لقمة عيشه .

* * *
من حق الله ـ بصفته إلها ـ أن يترك شخصا ما ليكون حاكما على شعب ما .
من حق هذا الشخص ـ بصفته حاكما ـ أن يحتل مركزا متقدما في قائمة أغنياء العالم .
من حق ( أحمد ) ـ بصفته ليس إلها ولا حاكما ـ أن يبيع إحدى كليتيه .

* * *

بعد موت الأب قد يكفي ثمن كلية واحدة لمواصلة الحياة بطريقة ما :
ـ توفير الأدوية اللازمة لتخفيف آلام أم مريضة بأكثر من مرض .
ـ شراء لوازم زواج الأخت الكبرى من أثاث وملابس وغير ذلك من المتطلبات الضرورية .
ـ توفير المصاريف الدراسية لشقيقتين في المرحلة الثانوية .
ـ .......................................................................
ـ .......................................................................
ـ ......................................................................
بشكل لاإرادي .. بدأ ( أحمد ) يتحسس جانبه الأيمن .

* * *
أن يضطر شخص ما إلى بيع إحدى كليتيه فهذا لايمكن تصنيفه كحدث كبير .. كما أن دموع نفس الشخص بعد أن أفاق من غيبوبة العملية الجراحية التي اُقتطع جزء من جسده خلالها لاتمثل إضافة هامة للحدث بحيث تجعله بعد سنوات كثيرة ضروريا لبرامج مثل ( حدث في مثل هذا اليوم ) أو ( من ذاكرة التاريخ ) مثلا .. حتى الشخص الذي يعيش في مكان ما مواصلا الحياة بسبب الجزء الذي يحمله في جسده والذي كان فيما مضى يخص جسد شخص آخر .. حتى هذا الشخص قد لا يعرف أن صاحب هذا الجزء اسمه ( أحمد ) .. ربما سيشعر بقدر كبير من الامتنان لذلك الشخص الذي لا يعرف اسمه رغم أنه سيذكّر نفسه جيدا بأنه دفع الثمن ليضبط مؤشر امتنانه على درجة منخفضة تجعله ينتهي تدريجيا من داخله بشكل تلقائي .. ربما في حالة أخرى سيؤكد لنفسه أن كائنات مثل ( أحمد ) ليست أكثر من أوعية متاحة لحمل قطع غيار آدمية تنتظر دورها في الاستخدام لتجعل البشرالحقيقيين يواصلون أدوارهم التي يحتاجها العالم .
التاريخ لا يستحق ( أحمد ) إذن .. ( أحمد ) لن يتنازل عن جزء من خلوده الحقيقي ويعطيه للتاريخ .. الخلود الكامل الذي يمنحه النسيان العادي لأبنائه المتعاقبين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عوام في بحر الكلام - حفيد الشاعر الكبير فؤاد حداد مع الشاعر


.. عوام في بحر الكلام - علي الحجار مع الشاعر الكبير فؤاد حداد




.. الفنانة ماري سليمان تؤدي أغنية -في عينك بدور- على مسرح The S


.. مسرحية -شو يا قشطة- تصور واقع مؤلم لظاهرة التحرش في لبنان |




.. تزوج الممثلة التونسية يسرا الجديدى.. أمير طعيمة ينشر صورًا