الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدونة الأسرة وبعض الأسئلة المغيبة

محمد زيادي

2023 / 11 / 26
دراسات وابحاث قانونية


يطرح سؤال المرجعية كلما تعالت بعض الاصوات المطالبة بمراجعة مدونة الاسرة، حيث يتمحور النقاش حول الملاءمة بين المرتكزات الدينية الثابتة والقيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، ويتولى عملية التوفيق كل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وذلك بالنظر لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع كما قيل، على أن تشرك بشكل وثيق في هذا الإصلاح الهيئات الأخرى المعنية بصفة مباشرة، وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين.
تاريخيا ظل مجال الاسرة خاضعا لأحكام الشرع الإسلامي من منظور المذهب المالكي وللأعراف المحلية، وفي سياق الإصلاحات القضائية التي باشرتها سلطات الحماية الفرنسية، أحدثت المحاكم الشرعية بمقتضى ظهير 7 يوليوز 1914 ومن ضمن اختصاصاتها قضايا الأسرة، كما أنشئت المحاكم العرفية بمقتضى ظهير 11 شتنبر 1914 التي تنص على أن القبائل المسماة بقبائل العرف البربري تبقى خاضعة لقوانينها وأعرافها الخاصة تحت رقابة السلطات ومن ضمنها الأحوال الشخصية، بالإضافة الى الظهير المثير للجدل الصادر في 16 ماي 1930،ثم ظهير 7 فبراير 1944 المتعلق بتنظيم المحاكم الشرعية، من جهتها السلطات الاسبانية اقامت محاكم شرعية في المناطق الخاضعة لحكمها، ولم تخرج طنجة الدولية عن القاعدة، دون اغفال انه بصدور ظهير 12 ماي 1918 تم تنظيم المحاكم العبرية التي صارت تنظر في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية للمغاربة اليهود، وبمقتضى ظهيرين شريفين بتاريخ 23 فبراير 1957، تم تنظيم تلك المحاكم من جديد.
مباشرة بعد الغاء معاهدة الحماية، صدرت مدونة الأحوال الشخصية بموجب 5 ظهائر، أولها في نوفمبر 1957 وآخرها في أبريل 1958، تتعلق بالزواج وما اليه، انحلال ميثاق الزوجية، الولادة ونتائجها، الأهلية والنيابة الشرعية، الوصية والميراث، وقد استمدت مرجعتيها الأساسية من احكام الشرع الإسلامي من منظور المذهب المالكي مع الانفتاح على المذاهب الاخرى بحكم السبق في تقنين احكام الاسرة عند دول المشرق، ولعل تسمية الأحوال الشخصية خير مثال عن ذلك، فكان من الأثار المترتبة عنها اختلاف في الحقوق والمسؤوليات بين أطراف الأسرة وتكرست هذه المرجعية مع إقرار اول دستور للإسلام كدين الدولة وللملك كأمير للمؤمنين وحامي حمى الدين، وبذلك حدد الاطار الذي لا ينبغي تجاوزه في الدعوة لتعديل المدونة.
في سياق تاريخي دولي تميز بنهاية الحرب الباردة وبروز الأحادية القطبية وبداية الحديث عن تعميم النموذج الديمقراطي الغربي، كانت له انعكاسات على المستوى الوطني من أهمها المراجعة الدستورية سنة 1992 حيث تم التنصيص في ديباجة الدستور المعدل تشبت المغرب بحقوق الانسان كما هو متعارف عليها عالميا، وبالموازاة رفعت الحركة النسائية مطلب مراجعة المدونة، فانحصرت تعديلات مدونة الاحوال الشخصية لسنة 1993 في موضوعات الزواج والطلاق؛ الولادة ونتائجها؛ الاهلية والنيابة الشرعية. بعد عقد من الزمن فرضت المتغيرات الداخلية معاودة طرح مطلب التعديل، فصدر قانون جديد سنة 2004 يحمل اسم مدونة الاسرة من اهم التعديلات تحديد سن الزواج لكل من الزوجين في 18 سنة مع الإبقاء على الاستثناء؛ وضع الأسرة تحت رعاية ومسؤولية الزوجين؛ رفع الوصاية والحجر على جميع النساء الراشدات؛ وضع الطلاق تحت مراقبة القضاء؛ استفادة الزوجة المطلقة من الأموال المكتسبة أثناء قيام الزوجية؛ الاعتراف بالزواج المدني المبرم من طرف أفراد الجالية المغربية لدى السلطات المحلية في بلدان الإقامة؛ حماية الطفل عند افتراق الأبوين سواء من حيث السكن أو مستوى العيش الذي كان عليه قبل الطلاق.
مع انطلاق المشاورات الحالية بشأن تعديل مدونة الاسرة، يعود لواجهة النقاش العام مطالب منع زواج القاصرات دون أي استثناء، منع الزواج العرفي غير الموثق؛ عدم سحب حضانة الام المطلقة لطفلها بعد زواجها من رجل اخر؛ التنصيص على حق الأم في النيابة الشرعية على أبنائها إلى جانب الأب، واعتبار الأب والأم متساويين معا في الولاية القانونية على أبنائهما؛ تقسيم الممتلكات المكتسبة اثناء الزواج بالتساوي عند الطلاق؛ الغاء التعصيب في الإرث، تقييد التعدد دون الغائه، في المقابل يتم تغييب السؤال الجوهري عن النقاش بشكل صريح او ضمني من الجانب الرسمي والطرف الاخر، وهو سؤال المرجعية علما ان المغرب صادق على عدة اتفاقيات دولية لها علاقة بشكل أو باخر بالمساواة بين الجنسين وبالأسرة، منها العهدين الدوليين لكل من الحقوق المدنية والسياسية ثم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في 27 مارس 1979 ، و كل من اتفاقية القضاء على اشكال التمييز ضد المرأة (مع ابدائه بعض التحفظات عليها ) واتفاقية حقوق الطفل في 21 يونيو 1993 ، كما ورد في تصدير دستور 2011 حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما ؛ مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء ؛ حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو الللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي، مهما كان؛ جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة. وبصرف النظر عن التحفظات والشروط التي تقيد سمو الاتفاقيات الدولية على التشريع الوطني، فإن الاتفاقيات السالفة الذكر تم نشرها، وبالتالي أصبحت الدولة ملزمة باحترامها بمقتضى الدستور
تسري أحكام مدونة الاسرة حسب المادة 2 على جميع المغاربة ولو كانوا حاملين لجنسية أخرى؛ اللاجئين بمن فيهم عديمو الجنسية، طبقا لاتفاقية جنيف المؤرخة بـ 28 يوليوز لسنة 1951 المتعلقة بوضعية اللاجئين؛ العلاقات التي يكون فيها أحد الطرفين مغربيا؛ العلاقات التي تكون بين مغربيين أحدهما مسلم؛ اما اليهود المغاربة فتسري عليهم قواعد الأحوال الشخصية العبرية المغربية. وبذلك تصبح المدونة ذات المرجعية الإسلامية وفق المذهب المالكي والعقيدة الاشعرية مفروضة قسرا على جميع المغاربة المسلمين السنة غير المقتنعين بالمرجعية الرسمية، والمغاربة المعتنقين للمذهب الشيعي وللدين المسيحي وأيضا البهائيين واللادينيين، وهو ما يتناقض مع الدستور في تنصيصه على حظر اشكال التمييز بسبب المعتقد، والمادة 18 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تنص على أن لكل انسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في ان يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين او معتقد يختاره.
سؤال اخر مغيب مرتبط بالمساواة في الحقوق والمسؤوليات، فاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة تدعو إلى اتخاذ جميع التدابير المناسبة، بما في ذلك التشريعي منها، لتغيير أو إبطال القائم من القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكل تمييزا ضد المرأة، و تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على الاعتقاد بكون أي من الجنسين أدنى أو أعلى من الآخر، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة، فالزوج ملزم بالنفقة على زوجته بغض النظر عن أوضاعها المالية، وبغض النظر عن يسرها. وإذا عجز الأب كلياً أو جزئياً عن الإنفاق على أولاده، وكانت الأم موسرة، وجبت عليها النفقة بمقدار ما عجز عنه الأب، لكن في حالة الطلاق يمكن تطبيق مسطرة الإكراه البدني في حالة عدم تنفيذ الأحكام الصادرة ضدالاب المعسر بدعوى اهمال الاسرة، لكن بمجرد وفاة الأب تصبح النفقة واحبة على الأم ، في المقابل تخول حضانة الطفل في المرتبة الاولى للام مما يجعلها مسؤولة بشكل رئيسي عن القيام بواجبات المحضون من خلال اتخاذ كل التدابير الممكنة للنمو الطبيعي للطفل بالحفاظ على سلامته الجسدية والنفسية والعناية بصحته وقاية وعلاجا، و مراقبة المحضون في المتابعة اليومية لواجباته الدراسية. هذه امثله عن عدم الالتزام بدعوة كل من العهد الدولي للعقوق المدنية والسياسية الى اتخاذ الدول الأطراف التدابير المناسبة لكفالة تساوى حقوق الزوجين وواجباتهما لدى التزوج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله. وفى حالة الانحلال يتوجب اتخاذ تدابير لكفالة الحماية الضرورية للأولاد في حالة وجودهم؛ واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة على ضمان نفس الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج وعند فسخه، نفس الحقوق والمسؤوليات بوصفهما أبوين، بغض النظر عن حالتهما الزوجية، في الأمور المتعلقة بأطفالهما وفى جميع الأحوال، يكون لمصلحة الأطفال الاعتبار الأول، ونفس الحقوق والمسؤوليات فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم.
كما يتم تغييب مسؤولية الدولة في رعاية الاسرة، فالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية يعتبر ان الأسرة هي الوحدة الجماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة، ومن جهته أكد العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على وجوب منح الأسرة، التي تشكل الوحدة الجماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، أكبر قدر ممكن من الحماية والمساعدة، وخصوصا لتكوين هذه الأسرة وطوال نهوضها بمسؤولية تعهد وتربية الأولاد الذين تعيلهم. كما ان الفصل 32 من الدستور ينص على ان الدولة تعمل على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة، بمقتضى القانون، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها. وبما ان مدونة الاسرة هي القانون الذي بنظم مجال الاسرة، فإنها تخلو من أي اجراء يفيد تدخل الدولة بشكل من الاشكال لحماية الاسرة استنادا الى الاتفاقيات الدولية السالفة الذكر، فعلى سبيل المثال لا الحصر ضمان العيش الكريم بتوفير ما يفي من حاجات الاسرة من الغذاء والكساء والمأوى، توفير حماية خاصة للأمهات خلال فترة معقولة قبل الوضع، تغذية كافية للمرأة أثناء الحمل والرضاعة، تشجيع توفير الخدمات الاجتماعية المساندة اللازمة لتمكين الوالدين من الجمع بين الالتزامات العائلية وبين مسؤوليات العمل والمشاركة في الحياة العامة، ولا سيما عن طريق تشجيع إنشاء وتنمية شبكة من مرافق رعاية الأطفال.
من تجليات التغييب أيضا، فبوفاة الاب تنص القوانين المتعلقة بالتقاعد، سواء فيما يتعلق بالصندوق المغربي للتقاعد أو الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على حق الأرملة في تسلم نصف تقاعد زوجها الراحل، وقد تتسلمه جزئيا أو كاملا إذا كان لها أطفال قاصرين وبعد بلوغهم سن الرشد أو انتهاء مدة الدراسة تعود لنصف المبلغ، ويجب على الأرملة أن تدلي كل مرة بما يثبت أنها غير متزوجة، وفي حال تزوجت من جديد تحرم من مبلغ المعاش أو التقاعد، لأن نفقتها حسب انتقلت إلى زوجها الجديد. ويستمر هذا الحرمان حتى في حالة طلاقها او ووفاة زوجها الجديد، وتلجأ الكثير من الأرامل إلى زواج الفاتحة أو زواج عرفي للإفلات من تبعات هذه القوانين المجحفة، بل الأكثر من ذلك فالمادة 28 من القانون المتعلق بإحداث نظام جماعي لمنح رواتب التقاعد تشرط تحديد مدة الزواج للاستفادة من حق المعاش التقاعدي في وقت لم تحدد مدونة الاسرة أي أجل لعقد الزواج بغية التمتع بحقوقه.
لقد عملت الدولة على التنصل من مسؤولياتها اتجاه الاسرة، وألقت بالمسؤولية كاملة على كل من الرجل والمرأة على قاعدة اختلاف الحقوق والمسؤوليات، فمن دون الإقرار بالمساواة الكاملة في الحقوق بين الجنسين مع ما يترتب عن ذلك من مسؤولية مشتركة، وتحمل الدولة مسؤوليتها في مساعدة وحماية الاسرة، يبقى كل تعديل مرتقب مجرد تمديد إلى وقت لاحق لقانون خارج سياق العصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. معاناة النازحين في رفح تستمر وسط استمرار القصف على المنطقة


.. الصحفيون الفلسطينيون في غزة يحصلون على جائزة اليونسكو العالم




.. أوروبا : ما الخط الفاصل بين تمجيد الإرهاب و حرية التعبير و ا


.. الأمم المتحدة: دمار غزة لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية ا




.. طلاب جامعة ييل الأمريكية يتظاهرون أمام منزل رئيس الجامعة