الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لَيْلَةَ بَكَتْ فِيهَا أخْتُ أبِي آلْوَحِيدَة

عبد الله خطوري

2023 / 11 / 26
الادب والفن


وَآقتربتُ أكثر من عَمتي .. جالستُها .. حادثتُها .. وتسامرنا سويةً .. تضحك، أضحك، نضحك في وسط الدار (آماس نتادارت) الشديد الاتساع .. تناجينا بعد أنِ آنصرم من الليل نزرٌ كثير .. تعشينا فطائر (حَرْطِيطَا) (١) عملاقة جدا كطرابيش (تارَزا) (٢) مثقوبة الأحشاء مدهونة بسمن جبلي ذائب من فرط حرارتها (حَرْطيطا سُودي أمْحِيرُّو نَسّزرييتْ سلقهوة تابرشانتْ آمْ لْعِيشْتْ تابَرَّانتْ) (٣) كما تقول عمتي مرارا .. وضحكنا رغم كل التعب الذي تكابده والكرب ... وناجيْتُها، في غرفة عميقة واطئة، استلقيتُ بعد أنِ آمتنعتُ عن النوم وحيدا في علية الضيوف .. أنا لستُ ضيفا .. قلتُ أقنعُها بمبررٍ لَمْ يكفِ ليخفيَ عليها حقيقةَ مخاوفي المتواترة من حناديس الليل البهيمة. وهالني أنْ أرَى مَدى وضاعة حجرتها الخاصة، حقيقة عيشها المرير .. هذه المرأة الخَدوم الصبور الطائعة بلا حدود، المُلتاعة، المكتفية بسُـؤْر الحياة تنهل منه قناعتُها في شظف في ضنك في مسغبة في شقاء .. آه من هذا العناء .. من هذا الرضى .. من هذا الافراط في قَـبول الأشياء كما تَرِدُ، كما يفرضها الآخرون الذين يستغلون سَمْتَ الناس وبساطتهم ( النِّيييتْ أَيتْيَا عَمْتَشْ ) (٤) ساذجة هي عمتك .. سمعتُها مرارا من ألسنة الناس في الدوار .. هالني ما هالهم وأنا أتفقدُ حَميميتها التي تستعرُ بنيران جحيم بلا حميم .. إذَا أرَدْتَ أنْ تعرفَ فجيعةَ إنسان اُنظرْ حيث ينام .. لم تك غرفة كباقي غرف النوم التي نعرفها .. هي حجرة ضئيلة أشبه بجحر ضب أو يَربوع صحراء أو قرية نمل أُلْقِيَ فيه ببدن محكوم بالإعدام في آنتظار لحظة التنفيذ التي لا تصل أبدا .. ليس ثمةَ سرير ولا أرائك ولا مطارح ولا مساند ولا وسائد ولا نمارق ولا كراسي من خشب أو من غيره، ولا بُسُط من صوف أو قطف أو حنبل أو حتى تلاليس حائلة أو حصر متآكل الجنبات .. كان هناك عَـراء صادم تؤثث فجواته بطانيتان سوداوان كابيتان من نوع المستعمل عند صغار المجندين مطبوعتان بحروف لاتينية " فَ ا غْ FAR " بأصفر باهت في إحدى جوانبها، وهيدورة من جلد ماعز بشعر أحمر قان وأخرى بيضاء داكنة لنعجة ما (شَانْتِيخْسِي) كانت تعبُّ من الحياة ذات زمن هنا أو في الجوار .. وفي عمق العمق، وراء الأكوام المصفوفة على بعضها في فوضى عارمة، وُضعتْ حقيبةٌ من خشب عرعر مستطيلة متوسطة الحجم ذات يد من قصدير أبيض، يتوسطها خُـرْمٌ آتخذ شكل مفتاح يُستعمل بلا ريب من أجل فتحها أو غلقها؛ وآستغربتُ من وجود مثل هذا الحيز المتعلق ب (تامرجولت نلباليزا) (٥) فأي أشياء ثمينة يمكن أن تخبئها حقيبة آمرأة في وضع مزر كوضعها ؟؟ وأي أشياء تسترها عن أعين الآخرين والأخريات ؟؟ أغلب الظن، إنها تُراكم في بطنها الخاوية بعضا من حوائجها الخاصة، بعضا من فُتات الأيام والليالي، مما فَضُلَ عن غيرها ممن تعيش وإياهم أو يحيطونها .. ثم .. لا شيء .. اِمرأة بلا أسرار، بلا كيان، بلا ماهية تميزها سوى وجودها في قبر حياة بلا حياة داخل قبو من تراب بجدران من رماد دون نوافذ، بأرض حصباء وسقف واطئ دون (تانْفِيسْرا)(٦) تجدد الهواء، عامر بخشاش الأرض وسيقان زرع يابسة وأعمدة هشة مفحمة بأدخنة نيران تسمع في ثناياها وقع مطاردات لا تنتهي بين حيات وفئران في صراع لاغب أزلي على مخلفات الحياة، ومدخل بلا باب، فقط فجوة يضطر معها الداخل والخارج إلى طأطأة رأسه وطي جسمه كاملا نحو الأسفل كي يتسنى له المرور عبرها ...

_هنا .. هنا .. عمتي تنامين ..؟؟!!..

اِستفهمْتُ مستغربا ..

_إيمَـا يَعْنَــا ؟؟ (٧)

_ههمممم ...

همهمتُ بتعاطف حزين، وأرْدَفَتْ مستفسرةً ..

_ .. مايَنَّخْ ؟؟ أُورَشْ يَعْجِيبْشَايْ وُومْشَانْ ؟؟ (٨)

وبقِلة أدب سألتُ ...

_إيبَابْ وُوخّــامْ مَاني يَجّانْ ؟؟؟ (٩)

_ذي لْبِيتْ .. (١٠)

بكل بداهة أجابتْ ثم آسترسلتُ متطلعا في فضول...

_مَانِي ؟؟؟ (١١)

_كْــسَــاوَنْ (١٢)

وبجرأة فيها بعض الصلافة الطفولية آستعجبتُ بلا حياء ...

_ وأنتِ هناااا !!؟؟

_إيما يَنْ غْرَايِيغْ ؟؟؟ (١٣)

وتذكرتُ وأنا أرنو الى عينيْها الكسيفتيْن والرأسَ الحادرَ في كمد كئيب والجبينَ المكروبَ، كلامَ جدتي (تاهريدانتْ) الصارخ .. " عْلَاحَقَّاشْ شَمِّنْتِيينْ لاَلْ وَخّـامْ ..!!؟؟.. " .. كان فظيعا في قساوته كمبضع يَرُومُ شفاء فيضيف مزيدا من الملح على الجراح؛وكمحاولة يائسة منها لتبرير مثل هذا الوضع النشاز، قالت بصوت أقرب إلى الهمس كأنها تسر لي شيئا لا ينبغي البوح به أو لا يجوز إعلانه ...

_ وَاهَـــاتَـا البيت إينُو .. واهتينْ البيت نَّاسْ ...(١٥)

وبجرأة أكبر سألتُ :

_ آكــدْ يَاطنينْ ؟؟؟ (١٦)

فصمَتَتْ عمتي لبُرهة أحسستُ فيها أني خطوتُ خطوطا حمراء لا يجوز الوصول إليها وبالأحرى عبورها، بيد أن المرأة الحليمة ظلت متشبتة بحِلْمِهَا الدائب دون تذمر أو نفور أو بَرم .. اِبتسمَتْ .. أصدرَتْ نفسًا عميقا تَساوى فيه الشهيقُ والزفيرُ، ولَمْ تَنبسْ ببنتِ شفةٍ، فعالجتُها بضربةٍ أخرى مُلِحَّة كاسحة لجروحها الكسيحة ..

_إيـــوَا ؟؟؟

نهضَتْ من جلستها غير المُريحة وطفقتْ تتحرك في زوايا الغرفة المحتشمة الضياء وشهقت شهقة واحدة بنبرات مشتتة كما تكون آخر الأنفاس ...

_إيــوَا إيـــوَا ... إيـــــوَااا ..!!..

خرج ما يشبه الكلام مكلوما، مقطوع الأنفاس، مجروح النبرات، خامد الأوصال، فارغا بلا معنى .. هبـاااء .. تناثرتِ الحروفُ هنا هناك مبتورة عن بعضها البعض، في طريقها إلى تشظ ثم تلاش ثم اندثار .. من عدم لعدم .. تدورُ تَحُومُ تئن تَصِيتُ تَسُـوحُ تُحاول النبرات لَـمَّ شمل ما بآندفاع حائر يَروم وصالا مستحيلا لا يُرَى ولَحْمَ أجزاء في كُتل مُوَحَّدة ذات دلالة تفيد ما تفيد وتُفهم الآخرين دون جدوى .. محاولة خاسرة .. حركة فاشلة .. مجرد خشخشات مجرد رجع صدى يتردد في خلاء دون عزاء ... ولما لاحظَتِ الحيرةَ بادية على ملامحي والاستغراب يلفني، عمدَتْ إلى وجهي تمسكه بكلتا يديْها العَظْميتيْن المجدورتيْن .. لا، لَمْ أحسُّ فيهما بوَقْع وجيب النبضات، لم أستشعرْ مُرورَ دماء، لم أجس تدفق حياة .. كانتَا صلبتَيْن متخشبتَيْن متشنجتَيْن كصخور هرمة لأودية تجف الأمواه في مجاريها وتبقى هي معزولة في أقبيتها المقعرة تحرقها شموس هوجاء متعاقبة تظل تحرص بغباء معاند على وفاء شريد ينتظر مبسم عيد جديد .. لا مباسمَ في سُحناتها، كانتْ كابيةً واهنةً متعبةً معقوفةَ الظهر تتهاوى قامتُها المحدودة تحت ثقل حمولات صماء تقصم متنها، لا ينتهي وقعها الهاتكُ الكاسرُ إلا ليبدأ من جديد ... رَنَـتْ إلَى عَيْنَيّ مباشرة وقالتْ بحَدْب ذي شجن مُفعم بوجع خفي وحسرة مفجوعة ...

_ حَتَّااااا تَكْبَرْ أوغَادِي تَفْهَمممْ ...

ودون أنتظرَ الكِبَرَ يأتي على مهل أو أنتظرَ مَــا لا تَقْوَى على إتمامه قلتُ ..

_ ماذا سأفهم ؟؟؟

_ لا شيء .. والُو .. آلْ تْمَقَّرْتْ آتْزَرْتْ كولْشِي ... (١٧)

وبإلحاح مُصِر، صرخْتُ غير مشفق لحالها ...

_ مايَنْ غْرَا فهمااااغ آعَمْتيييي ؟؟؟ (١٨)

_ ..........(صمت)..........

_ عَمْتيييييي .....

_ ...........(صمت)..........

_ تكلمي .............

_ ..........(صمت)..............

_ قولي شيئا إينِي شَــاااا ....

_ .........(صمت)...........

وبعد صمت ثقيل، تنهدَتْ شهقَتْ زفرَتْ تنفسَتْ بصعوبة لكن بعمق ثم قالت:

_ غِي سوُسَمْ آوْمَـااااا غِي سُوسَمْ ...(١٩)

ثم آنقلبَتْ ليلتنا الضاحكة إلى طقس من طقوس العزاء، بَكَتْ فيها أختُ أبي الوحيدة ما سنح لها البكاء .. أذرفَتْ حناياها دموعا بتُؤَدَةٍ وخدر يَخنقُ العَبرات في ليلة جهماء صماء لا تبصر لا تسمع لا تسمن ولا تغني أهل الشقاء .. وآمتد صمتُها، صمتي، صمتنا داخل أغوار عالم من تراب من خش يضيق ويَـجُـورُ في عتمات بلا ألوان ...

☆إضاءات وترجمات :
١_حَرْطيطا : رغيف رطب يصنع من عجين لزج سائل من دقيق القمح والسميد يطهى في صحن من خزف، ويطلق عليها كذلك آسم (بَغْرير) ..
٢_تارازا : قبعة تقليدية يدوية من دوم تقي الرأس من حر الشمس
٣_حَرْطيطا سُودي أمْحِيرُّو نَسّزرييتْ سلقهوة تابرشانتْ آمْ لْعيشتْ تابَرَّانْتْ:
عجائن مخضبة بسمن حار نتجرعها بقهوة كالحة كعيشتنا الشقية
٤_النِّيييتْ أَيتْيَا عَمْتَشْ : ساذجة هي عمتك
٥_تامرجولت نلباليزا : خرم مفتاح الحقيبة
٦_تانْفِيسْرا : فجوة توضع في سقف دور التراب كمنفذ للضوء والهواء
٧_إيمَـا يَعْنَــا : لِمَ لا
٨_مايَنَّخْ ؟؟ أُورَشْ يَعْجِيبْشَايْ وُومْشَانْ ؟؟ : لماذا .. ألم يرق لك المكان ؟؟
٩_إيبَابْ وُوخّــامْ مَاني يَجّانْ ؟؟؟ : وصاحب الدار أين ينام ؟؟
١٠_ذي لْبِيتْ : في الغرفة
١١_مَانِي ؟؟ : أين ؟؟
١٢_كْــسَــاوَنْ : في العَلية
١٣_إيما يَنْ غْرَايِيغْ ؟ : وماذا عساي أفعل
١٤_عْلَاحَقَّاشْ شَمِّنْتِيينْ لَالْ وَخّـامْ ..!!؟؟.. : أنتِ لسْتِ ربة البيت رغم كونكِ زوجة صاحبه(كلام الجدة فيه لوم لقبول العمة لوضعها المزري وفيه إشارة لسوء معاملتها من زوجها الذي يعتبرها خادمة خصوصا لما استقدم الى المنزل زوجة ثانية)
١٥_وَاهَـــاتَـا البيتْ إينُو .. واهتينْ البيتْ نَّاسْ : هذه غرفتي وتلك غرفته
١٦_آكـدْ يَاطنينْ : يبيت فيها مع الأخرى
١٧_والُو .. آلْ تْمَقَّرْتْ آتْزَرْتْ كولْشِي : لا شيء .. ستدرك كل شيء عندما تكبر
١٨_مايَنْ غْرَا فهمااااغ آعَمتيييي : ماذا سأفهم يا عمتي ..
١٩_غِي سوُسَمْ آوْمَـااااا غِي سُوسَمْ : أرجوك كفى أرجوك أُخَيَّ اصمتْ كفى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??


.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??




.. فيلم -لا غزة تعيش بالأمل- رشيد مشهراوي مع منى الشاذلي


.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط




.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش