الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجيش والحرب ضد أشقياء الجنجويد-مقدمة-(2-4)

محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)

2023 / 11 / 28
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


قدمنا في الجزء الأول من هذا المقال المقدمة خلفية للنزاع بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع وكيف أنه انحصر فقط في الصراع على السلطة السياسية بغرض الإبقاء على التوجه والسياسات المحافظة التي ظلت تنتهجها حكومات الفترة الوطنية عقب استقلال البلاد عن السيطرة البريطانية في 1956. وبما أن الهدف من المقال الاقتصار على عرض ملامح المقومات الأساسية في الساحة السياسية التي تستوجب الاعتبار للقيام بالتقويم الصحيح للحرب وتبعاتها، ننتقل في هذا الجزء من المقال بالعودة الى الوراء لإلقاء عرض لطبيعة الجيش السوداني والدور الذى ظل يلعبه في السياسة السودانية وعلى الأخص بالتركيز على الدينامية السياسية التي جعلته يحتكر السلطة السياسية طوال الفترة الوطنية ويقاتل في سبيل الاحتفاظ بها، كما يشمل العرض حقيقة مليشيا الدعم السريع (الجنجويد) وعلاقتها بالجيش.

بداية، إن التعريف الليبرالي الدارج للجيش، وسط إنتلجنسيا البورجوازية الصغيرة، ينظر للجيش على أنه مؤسسة قومية للدولة منوط بها التصدي للاعتداءات الخارجية التي يتعرض لها الوطن وحماية مقدراته (ثمة من ينسب، على نحو خاطئ تماما، التعريف للماركسية). لكن هذا تبسيط مفرط لمفهوم الجيش، اذ أن الجيش هو عبارة عن تشكيلات مسلحة في يد القوى الاجتماعية الحاكمة لتثبيت سلطتها والزام المحكومين بأفكارها وسياساتها وقمع المعارضين لها اذا ما اقتضت الضرورة ذلك. ولديناميات سياسية معينة، ينتقل للجيش القرار السياسي بواسطة القوى الاجتماعية المتنفذة سياسيا، وهى ظاهرة شائعة في حالة الدول المتخلفة.

وهكذا، فإن التجريد الذى يتحدث عن سلطة عسكرية مطلقة والتغاضي عن طبيعتها الطبقية، يخفى حقيقة نهجها في إدارة الاقتصاد وموقفها من الديمقراطية، أي عن مصالح أي من القوى الاجتماعية يعبر عنها الخطاب السياسي للعسكر. كما أن تجاهل طبيعة حكم الجيش الطبقية يحجب حقيقة توجهه فيما يتعلق بالعلاقات الدولية. وجدير أن نفس الشيء ينسحب على ما يسمى بالدولة المدنية عندما يجردها مروجيها من محتواها الطبقي.

إن انتقال القرار السياسي للجيش لا ينفى خصوصية الجيش كجيش- الجيش لا تنتفى صفته كجيش اذا ما صعد للسلطة السياسية؛ فان الجيش كيان موجود وقائم على ركائز عسكرية ثابتة، ونظام تراتبي (hierarchical command system) قائم على الامتثال للأوامر، وهذه الخصوصية هي ما يجعل حكم الجيش يأخذ الشكل الأوتوقراطي. (ومن الجدير بالذكر أن التراتبية العسكرية عادة ما تؤدى الى التناقض بين السلطة العسكرية وبين الكيانات المدنية التي تتحالف معها.)

ومن خلال السيطرة الواسعة على النشاط الاقتصادي يصبح كبار جنرالات الجيش جزءا من الطبقة الحاكمة، بينما يظل صغار الضباط وضباط الصف والمجندين والجنود ينتمون للطبقات الكادحة.

ننتقل للسودان، ونجد أن قيادة الجيش ( قوة دفاع السودان) تمت سودنتها في أغسطس 1954. ومنذ السودنة خلال (69 عاما)، حكم الجيش البلاد لمدة 56 عاما ( بالأخذ في الاعتبار السيطرة الكاملة للجيش على الدولة بعد الإطاحة بنظام الإسلاميين في 2019 وحتى الآن). وكان انتقال الفرار السياسي للجيش بإيعاز ومباركة القوى الاجتماعية التقليدية المتنفذة سياسيا ممثلة في احزابها، رغبة منها نشدان سلطة مركزية حازمة وقوية لكبح جماح الحركة الشعبية بديلا عن الأحزاب الناشئة في آخر سنوات فترة السيطرة الاستعمارية المنتهية في 1956. فالأحزاب التقليدية السودانية كانت على قدر كبير من الضعف، كما انتشر التشاكس المستحكم بينها وبالتالي لم تكن تمتلك القوة لمواجهة الحركة الشعبية والنقابية المطلبية التي ظهرت قوتها منذ من الأشهر القليلة لبداية المرحلة الوطنية كحركة قوية وصعبة المراس بعد أن تصلبت خلال معارك ضارية لها خلال مرحلة الاستعمار الإنجليزي المباشر. كذللك، فان الدينامية السياسية الداخلية تميزت بالسيادة السياسية للقوى الاجتماعية التقليدية التي تقودها طبقة مرتبطة برأس المال العالمي (كمبرادور) -كما ذكرنا في الجزء الأول من المقال- الأمر الذى تسبب في تبعية وثيقة للخارج. وقد أسفرت هذه التبعية عن صعود الجيش للسلطة السياسية لقهر الشعب الرافض بقوة رهن القرار السياسي والاقتصادي للخارج الذى أدى لإجراءات اضرت كثيرا بمصالحه.

خلال حكم الحكومات العسكرية السودانية الممتد لعقود طويلة، فان سيادة البلاد هُتكت بوضع البلاد في طريق الاتكال على القروض الخارجية (المشروطة) والمعونات الشيء الذى قلل من تعزيز الاعتماد على الذات بتفجير الطاقات المحلية لتحقيق النهضة الاقتصادية. كما اهدرت الحكومات العسكرية، بشكل سافر، الحقوق الأساسية للمواطنين السودانيين؛ فقد جرى تدمير الحياة السياسية من خلال القسوة والتنكيل بالمعارضين السياسيين ومحاربة المثقفين والمفكرين وإلغاء دور منظمات الحركة الجماهيرية الخاصة بنقابات العمال وتنظيمات المزارعين واتحادات المهنيين باحتوائها وتدجينها.

كما لجأ الجيش السوداني، خلال قيادته لنظام الإنقاذ الزائل، لحسم النزاع بين جنوب البلاد وبين شمالها عسكريا وعدم السعي للبحث عن الحلول السياسية؛ وفى هذه الفترة بلغ خيار الحل العسكري ذروته بتحويل حكم الإنقاذ للحرب بجنوب السودان الى حرب جهادية ضد سكان الجنوب، الذين يشكل الوثنيون والمسيحيون أغلبيتهم، سقط من جرائها مئات الآلاف في هذه الفترة. كما أسست السلطة العسكرية لنظام الإنقاذ قوات ”الدفاع الشعبي“ لقتال المواطنين الذين انتفضوا في انحاء البلاد ضد نير الظلم وتسلط النظام؛ وتفاقمت وتيرة الحرب ضد المواطنين بتأسيس نظام مليشيا (الجنجويد) كقوات تابعة للجيش والزج بها في الحرب للقتال بالصورة التي تمنع المسؤولية الدولية الجيش من القيام بها. كما سمحت الحكومة للجنجويد التنقيب بشكل غير قانوني عن الذهب والمعادن الأخرى الامر الذي مكنها من تكوين ثروات مالية ضخمة.

نختتم بتأكيد أن الحكومات العسكرية السودانية جاء تشكيلها ليس نتيجة مغامرات جامحة لبعض الجنرالات الحمقى، بل هي ضرورة املتها ظروف موضوعية تتعلق بواقع البلاد السياسي والاقتصادي. ونواصل في الجزء التالي (الثالث) الفاء مزيد من الضوء على طبيعة الجيش ومليشيا الدعم السريع وكيف أن احتكار الجيش للقرار السياسي ظل يمثل العائق الذي يقف أمام نضال الشعب لتحرير سيادة البلاد الوطنية وتحقيق طموحاته المتعلقة بالتحول الديمقراطي الحقيقي الذى يتعدى الدعوات البائسة التي تعلق التغيير على الأوهام الطوباوية المتعلقة بالدعوة الى الديمقراطية الليبرالية.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا تريد الباطرونا من وراء تعديل مدونة الشغل؟ مداخلة إسماعي


.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط




.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص


.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل




.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري