الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نصان للفتيان الفقمة الساحرة طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 11 / 28
الادب والفن


نصان للفتيان







الفقمة







طلال حسن






" 1 "
ــــــــــــــــــــ
منذ أن جاءوا به ، حوالي المساء ، قبل ثلاثة أيام ، وهو يرقد محموماً ، يهذي في فراشه ، دون أن يعي ما يدور حوله .
وخلال هذه الأيام الثلاثة ، لم تفارقه أمه ، لا في الليل ، ولا في النهار ، تساعدها ابنة عمه الشابة ، التي كانت تسكن مع والديها ، في بيت قريب .
وفي هذيانه المحموم ، كان الفتى يردد كلمات مضطربة ، لا رابط بينها ، البحر .. الأمواج .. الفقمة .. القارب ، ويصرخ مستغيثاً ، ثم يهدأ لحظات ، ليبدأ من جديد هذيانه المحموم ، وكلماته المضطربة .
وتصغي أمه إليه ، قلقة دامعة العينين ، وتتوسل إلى إله البحر ، الذي يسبح عارياً في الأعماق ، ويثير الأمواج ، أن يرأف به ، ويعيده إليها معافى ، بعد أن انتشله من بين الأمواج ، ولم يترك تلك الفقمة اللعينة ، التي قلبت قاربه ، أن تغرقه في الأعماق .
وتحدق أمه فيه ، بعينيها المحبتين الغارقتين بالدموع ، آه إنه عنيد كأبيه ، وسينتهي يوماً كما انتهى أبوه ، بين أمواج البحر ، التي يثيره إله البحر المرح ، وهو يحاول اصطياد فقمة ضخمة ، يظن أن لا مثيل لها ، في المنطقة المنجمدة كلها .
وبعد مساء هذا اليوم ، أغمضت الأم عينيها الدامعتين المتعبتين ، وأغفت على الرغم منها ، بعد أن هدأ الفتى قليلاً ، واستغرق في النوم .
وأفاقت الأم على دبيب الفتاة الشابة ، وهي تقترب منها ، ورفعت رأسها إليها ، فقالت الفتاة بصوت خافت : عفواً ، لقد أيقظتك .
وقالت الأم مغالبة النعاس : لا عليكِ ، يا بنيتي ، هذا وقت العشاء ، سأعد له بعض الحساء ، لعله يأكل شيئاً منه إذا استيقظ .
ومالت الفتاة الشابة عليها ، وقالت بصوت خافت : دعي هذا الآن ، لقد أعددتُ له حساء أرانب ، إنه يحب هذا النوع من الحساء .
وابتسمت الأم ، وقالت بصوت خافت : سيؤنبك أبوك ، فأنت تقضين على الأرانب ، التي اصطادها في جولاته وسط الغابة .
وابتسمت الفتاة ، وقد توردت وجنتاها ، وقالت : ليؤنبني ، مادام ابن عمي سيشفى ، وينهض سالماً .
وهنا تململ الفتى ، فالتفتت الأم إليه ، وقالت : انظري ، يا بنيتي ، انه يفيق .
وفتح الفتى عينيه ، وقال بصوت محموم مضطرب : تلك الفقمة اللعينة ، ربما كانت هي نفس الفقمة ، التي أغرقت أبي .
ومالت أمه عليه ، وقالت : بنيّ ، دع ِ الفقمة الآن ، أنت لم تأكل شيئاً منذ يومين .
والتمعت عيناه ، وهو يحدق في الفراغ ، وقال بصوت محموم : سأقتلها .. تلك الفقمة اللعينة .. لابدّ أن أقتلها .. مهما كلفني الأمر .
وتمتمت الأم بصوت باكٍ : بنيّ ..
وغرق صوتها في الدموع ، فمالت الفتاة الشابة عليه ، وقال : جئتك بحساء تحبه ، أعددته لك بنفسي ، حساء أرانب ، كلْ شيئاً منه ، وسترتاح .
وتطلع الفتى إليها ، بعينيه المضببتين المحمومتين ، وقال : لن أرتاح .. إذا لم أقتل تلك الفقمة .
كادت الأم أن تجهش بالبكاء ، لكن الفتاة الشابة أسرعت ، وجاءت بإناء الحساء ، وغرفت منه ملعقة ، أدنتها من فم الفتى ، وهي تقول بصوت هادىء : تذوق الحساء ، سيعجبك جداً .
وعلى غير ما توقعت الأم ، فتح الفتى فمه ، ورشف الحساء ، وهو يتمتم : سأقتلها .
وقالت الأم للفتاة الشابة متحمسة : إنه يأكل ، عجلي بملعقة أخرى من الحساء .
وبسرعة غرفت الفتاة ، ملعقة أخرى من الحساء ، ودستها في فم الفتى ، فابتلع الحساء ، وهو يقول : تلك الفقمة .. لن تفلت مني .
وبدل أن يستمر الفتى في ارتشاف الحساء ، همّ أن ينهض من فراشه ، لكن أمه طوقته بذراعيها ، وهي تقول بصوت باكٍ : لا يا بنيّ ، ابقَ في مكانك ، أنت متعب ، وبحاجة إلى الراحة .
وتمدد الفتى في فراشه ، وأخذ يهدأ شيئاً فشيئاً ، وهو يهذي محموماً : سأقتلها .. تلك الفقمة اللعينة .. سأقتلها .. سأقتلها .. سأقتلها .

" 2 "
ـــــــــــــــــــــ
هذه الليلة ، جاءت الفتاة الشابة حوالي العشاء ، ورأت الأم تجلس على طرف فراش ابنها ، وهي تغالب النعاس ، فمدت يدها ، ولمستها برفق .
وفتحت الأم عينيها الناعستين المتعبتين ، وقالت : آه بنيتي ، أهلاً ، أهلاً بكِ .
وقالت الفتاة بصوت خافت : تبدين متعبة ، يا خالتي ، اذهبي إلى فراشك ، وارتاحي قليلاً ، سأبقى أنا إلى جانبه ، وسأوقظك إذا أفاق .
ونهضت الأم متحاملة على نفسها ، وقالت بصوت خافت ناعس : أيقظيني إذا تأخرتُ في النوم ، حتى وإن لم يفق ، لتعودي إلى البيت .
فهزت الفتاة الشابة رأسها ، وقالت بصوت خافت : حسن ، اذهبي وارتاحي .
وذهبت الأم إلى فراشها ، في الغرفة المجاورة ، تكاد تتعثر بنعاسها ، وجلست الفتاة الشابة على طرف الفراش ، وراحت تتأمل الفتى ابن عمها .
وتململ الفتى في منامه متأوهاً ، وخفق قلب الفتاة الشابة قلقاً وإشفاقاً ، وفتح الفتى عينيه ، وشيء من الرعب يلمع في أعماقهما ، فمالت عليه الفتاة الشابة ، وقالت : اعتدل قليلاً ، سآتيك ببعض الماء .
ومدّ الفتى يده ، وأمسك يد الفتاة ، وهو يتمتم : لا ، لا أريد ماء ، ابقي إلى جانبي .
وشدت الفتاة الشابة على يده ، وقالت : اطمئن ، إنني إلى جانبك ، وسأبقى إلى جانبك دائماً .
ونظر الفتى إليها ، وقال بصوت محموم : في منامي ، رأيتُ الفقمة اللعينة .
وقالت الفتاة الشابة : دعكَ من هذه الفقمة ، المستقبل أمامكَ ، ستصطاد أفضل منها .
ولاذ الفتى بالصمت لحظات ، ثم قال : أبي كان صياداً ، لكن عمي ، أباكِ ، هو الصياد البارز .
وابتسمت الفتاة الشابة ، وقالت : ستكون مثله ، بل وأفضل ، أنت ما تزال شاباً .
ونظر الفتى إليها ، وقال : أبي قتلته فقمة ..
وقاطعته الفتاة الشابة قائلة : قال أبي ، إنها كانت ضخمة وشرسة جداً .
وقال الفتى : لعلها مثل الفقمة التي ضربت قاربي ، وقلبته في الماء ، وكادت أن تقتلني .
وأبرقت عيناه ، فشعرت الفتاة الشابة بالخوف ، ثم تابع قائلاً : لن تفلت مني ، سأثأر لأبي ، فقد تكون هي نفسها ، التي قتلت أبي .
ومن بين أسنانه ، راح الفتى يقول : سأطاردها ، حتى نهاية العالم ، وسأقتلها ، سأقتلها .
وارتمى على فراشه ، وهو يئن متوجعاً ، وراح صوته يخفت شيئاً فشيئاً ، حتى غدا أنيناً متوجعاً ، ثم هدأ واستغرق في النوم .



" 3 "
ـــــــــــــــــــ
فزّت الأم صباحاً ، كأن أحداً هزها بقوة ليوقظها ، فأسرعت راكضة إلى غرفة ابنها ، وكاد قلبها أن يتوقف ، عندما وجدت فراشه خال ٍ .
ترى أين ذهب ؟
وتلفتت حولها منصتة ، كانت الريح تعوي في الخارج ، كقطيع من الذئاب الجائعة ، إنه يوم يبقى الصيادون فيه ، أسرى بيوتهم ، فالبحر خطر للغاية ، خاصة وأن إله البحر يلهو بإثارة الأمواج ، يداعب بها الدلافين والفقمات ، والحيتان ، وكذلك الصيادين .
وبحثت عنه عبثاً ، في أرجاء البيت ، وحين عرفت أن عدة الصيد قد اختفت ، أسرعت إلى بيت عمه ، لعلها تجده هناك .
وفوجىء عمه بالأمر ، وتساءل ، وابنته تقف مذهولة أمامه ، ترى أين يمكن أن يكون قد ذهب ، في مثل هذا الجو العاصف ؟
وخطر له ، إنه ربما ذهب إلى البحر ، عندما أخبرته الأم باختفاء عدة الصيد ، وتأكدت ظنونه عندما لم يجد قارب الصيد في مكانه من الشاطىء ، يا للجنون ، أيعقل أنه ذهب إلى البحر ؟
وعلى الفور ، ورغم المخاطر الشديدة ، استقل العم قاربه ، يرافقه ثلاثة من أصدقائه الصيادين الأشداء ، وانطلقوا إلى عرض البحر .
وعند منتصف النهار ، لاح لهم ، من بعيد ، قارب يطفو بين الأمواج المتصارعة ، التي يثيرها الإله ، فأسرعوا إليه ، يصارعون الأمواج المجنونة ، وإذا الفتى يقف محموماً وسط قاربه ، وإلى جانب القارب تطفو فقمة ضخمة جداً ، وقد انغرزت في ظهرها عميقاً حربة مشدود إليها حبل طويل وقويّ .
ولاحظ العم ، في عنق الفقمة جرحاً عميقاً ، حديث العهد ، ترى أهذه الفقمة ، هي نفس الفقمة ، التي كادت تغرق الفتى قبل أيام ؟ من يدري .
وقبيل المساء ، وقفت الأم والفتاة ، عند شاطىء البحر ، ورأتا الجميع يعودون سالمين من البحر ، ومعهم قارب الفتى ، وإلى جانبه تطفو فقمة ضخمة جداً .


3 / 6 / 2015
















الساحرة












" 1 "
ـــــــــــــــــــ
فتحت ميزاتوم الباب بهدوء ، وعبرت العتبة ، وبهدوء أغلقت الباب ، رغم أنها واثقة ، أن سيدتها ايلي قد سمعت الباب يُفتح ثمّ يُغلق .
صحيح إنها لا ترى ، لكن سمعها مرهف للغاية ، وكما تقول ، فإنها ترى بأذنيها ، حتى إنها ترى وتسمع النملة ، وهي تدب على مقربة منها .
ومضت ميزاتوم تسير إلى السوق ، حاملة سلتها ، التي نسجتها بنفسها من الخوص ، لقد طلبت منها سيدتها ، قبل أن تأوي إلى فراشها ، ليلة البارحة ، أن تذهب مبكرة إلى السوق ، وتأتيها ببعض الحاجيات ، وها هي تلبي رغبة سيدتها ، وتذهب إلى السوق .
وسارت في الطريق ، دون أن تتلفت حولها ، لكن أحاسيسها المرهفة ، كانت تترصد ما يدور حولها ، فريماني سيحاذيها كما يفعل كل يوم ، وكأن الأمر صدفة ، وسيهمس لها بصوته العذب الدافىء : طاب صباحكِ .
وسترد وكأنها فوجئت : طاب صباحكَ .
ويسيران معاً إلى السوق ، ويشتري كلّ منهما ما كلف به ، فتشتري ميزاتوم ما كافتها به سيدتها ايلي ، ويشتري ريماني ما كلفه به سيده الشاعر ، وغالباً ما يساعدها ريماني في حمل بعض حاجياتها ، ويوصلها إلى الباب ، ثم يودعها .
وصلت السوق هذا اليوم ، دون أن يكون لريماني أثر ، من يدري ، ربما جاءت اليوم مبكرة ، فلتتباطأ في الشراء ، إنها ليست مستعجلة ، وكذلك سيدتها ، وكادت أن تتم شراء ما أرادت شراءه ، حين شعرت به يقف على مقربة منها ، ويهمس لها بصوته العذب الدافىء : طاب صباحكِ .
جفلت ، وبدا وكأنها يئست من حضوره ، والتفتت إليه ، وقالت : طاب صباحك َ .
وقال ريماني : يبدو أنكِ جئت اليوم مبكرة .
فردت ميزاتوم قائلة : نعم ، جئتُ مبكرة ، وقد انتهيت من شراء ما أريده .
ومدّ ريماني يده ، وأخذ بعض ما اشترته ، وهو يقول : دعيني أساعدكِ .
ورمقته ميزاتوم بنظرة سريعة ، وقالت : لم تشتر ِ أنت شيئاً بعد .
وردّ الفتى قائلاً : لن أشتري شيئاً اليوم ، هيا .
وسارا جنباً إلى جنب ، مبتعدين عن السوق ، بخطى غير متعجلة ، وقال الفتى : عملك كثير ومتعِب ، مع هذه الساحرة العجوز .
فقالت ميزاتوم : سيدتي ايلي ليست عجوزاً ، وهي تعاملني وكأني ابنتها الصغيرة .
وتجاهل ريماني ما قالته ، وقال : زوجة سيدي الشاعر ، امرأة طيبة ، وهي تبحث عن خادمة شابة .
وردت ميزاتوم قائلة : خادم سيدتي ، رجل عجوز مريض ، وسيترك العمل بعد أيام ، ويعود إلى قريته ، وقد تحتاج سيدتي إلى خادم شاب .
وقال ريماني ، وهما يقتربان من البيت : ها قد وصلنا ، سأذهب إلى سيدي الشاعر .
وعند الباب ، توقفت ميزاتوم ، وأخذت ما حمله عنها ريماني ، وقالت : أشكرك ، لقد أتعبتك .
وردّ ريماني قائلاً : عفواً .
ثم مضى مبتعداً ، بعد أن قال لها : أراكِ غداً .


" 2 "
ـــــــــــــــــــ
دفعت ميزاتوم الباب برفق ، الفناء خال ٍ ، هذا يعني أن سيدتها مازالت راقدة في فراشها ، فلتبقَ مرتاحة ، وتسللت إلى المطبخ ، ووضعت فيه ما اشترته من السوق من خبز ولحم وخضار .
ثم مضت بخطوات خافتة إلى غرفتها ، واستلقت فوق فراشها ، وومض في داخلها ريماني ، كما يومض البرق ، وأضاء أعماقها الظامئة .
كلا ، لن تترك سيدتها ايلي ، وتعمل عند زوجة سيده الشاعر ، فايلي ربتها منذ أن كانت طفلة صغيرة ، وهي لا تعاملها كخادمة ، بل ابنة صغيرة مدللة .
لقد حدثها ريماني مراراً عن سيده الشاعر ، وقال لها مرة : إنه شاعر كبير معروف ، وقد ألف قصيدة طويلة مؤثرة عنوانها " المعذب والحكيم " .
وردت ميزاتوم وقتها قائلة : هذه القصيدة تحبها سيدتي ايلي ، وهي تقرأ لي أحياناً مقاطع منها ، إنها حقاً قصيدة مؤثرة .
ونظر ريماني إليها ، وقال : البعض لا يحبها ، بل إن أحد الكهنة هاجمها بشدة .
وقالت ميزاتوم : لا أدري ، إن سيدتي نفسها تقول ، إنها تشكك في عدالة السماء .
وابتسم ريماني ، وقال : ربما هذا صحيح ، وأنتِ ماذا تقولين ، يا ميزاتوم ؟
ونظرت ميزاتوم إليه حائرة ، وقالت : لا أدري ، لكني أظن أن الإلهة عشتار عادلة تماماً .
وردّ ريماني قائلاً : لكن ليس من العدالة ، أن تعطيك عشتار هذا الجمال ، وتحرم الكثيرات منه .
والتمعت عينا ميزاتوم ، لكنها قالت وكأنها تحتج بشيء من الدلال : ريماني .
فنظر ريماني إليها ، وقال : أنت جميلة جداً .
وبشيء من الدلال احتجت ثانية : ريماني .
فقال ريماني ، وكأنه يدافع عن رأيه : بينما هناك الكثيرات متواضعات الجمال .
وسحبت ميزاتوم الغطاء فوق وجهها المتورد ، تخفي في طياته ، التي تحمل عبقها ، ابتسامتها المشرقة ، وفرحتها التي أضاءت أعماقها .


" 3 "
ــــــــــــــــــــ
هذا الصباح ، هجست ايلي في داخلها ، ورغم عتمة الخارج ، بأن الباب الخارجي ، سوف يُطرق بعد قليل ، ورأت الطارق ، أو بالأحرى رأت الطارقة الشابة تقترب وتقترب وتقترب .
وتلفتت حولها ، فخادمتها ميزاتوم ليست هنا ، فقد ذهبت إلى السوق ، ولن تأتي إلا حوالي منتصف النهار ، من سيفتح الباب للطارقة إذن ؟
وتحاملت على نفسها ، ونهضت بشيء من الصعوبة ، وتلمست طريقها إلى خارج الغرفة ، واجتازت الفناء بخطوات بطيئة حذرة ، وحين لمسست الباب ، رفعت السقاطة ، وواربت الباب قليلاً ، ثم قفلت عائدة ، وجلست تحت الشجرة ، وسط الفناء .
وأرهفت سمعها ، ها هي الطارقة تقترب ، وتقف مترددة ، سيطرق الباب الآن ، وعلى الفور طرق الباب الخارجي ، فرفعت وجهها قليلاً ، وبدل أن تصيح ، من بالباب ، صاحت : ادخلي .
وسمعت الباب يُدفع برفق ، وتناهى إليها وقع أقدام خجولة مترددة تقترب منها ، فقالت : تعالي ، إنني هنا تحت الشجرة .
وتوقفت الفتاة أمامها مذهولة ، وقالت : كيف عرفتِ أنني فتاة ، يا سيدتي ؟
وردت ايلي بصوت متنبيء : وأعرف منذ أيام ، أنك ستطرقين الباب .
ولاذت الفتاة بالصمت ، فتابعت ايلي قائلة : ترددتِ أياماً وأياماً ، حتى جئتني هذا اليوم ، أما هو فما زال متردداً ، لكنه سيأتي .
وتساءلت الفتاة مذهولة : من هو ؟
فردت ايلي مبتسمة : من جئتِ من أجله .
وتمتمت الفتاة : سيدتي ..
ونظرت ايلي إليها ، بعينين جامدتين ، وقالت : اطمئني ، إنني أراه ، كما رأيتك ، أنت وهو تسيران يداً بيد ، على طريق محفوف بالأزهار .
وهتفت الفتاة فرحة ، وهي تستدير ، وتمضي إلى الخارج ، سيدتي .. أشكركِ .. أشكركِ .
سمعت الباب يُغلق ، ومعه هجست بقلبها ينقبض شيئاً فشيئاً ، فوضعت يدها المرتعشة على صدرها ، وتمتمت : آه .. عشتار .


" 4 "
ــــــــــــــــــــ
خلال الأيام القليلة الماضية ، لا تدري ايلي ، أكان ذلك في الحلم ، أم في الحقيقة ، رأت الإله تموز ، يهرب خائفاً ، يطارده سبعة من شياطين الكالا .
ويوماً بعد يوم ، تزايد قلقها ليس على تموز فقط ، بل على زوجته الإلهة عشتار أيضاً ، فعشتار تحب تموز حدّ العشق ، وقد فضلته على المزارع انكمدو ، واختارته ليكون زوجاً لها .
وعاشت معه حياة هانئة ، ولعل هذا ما أثار إلهة العالم الأسفل ، شقيقتها ايرشكيكال ، فأرسلت سبعة من شياطينها الكالا ، وطاردوه حتى القوا القبض عليه ، واقتادوه إلى العالم الأسفل .
آه ، وتأوهت ايلي متألمة ، وقلبها يزداد انقباضاً ، لقد رأت بعيني بصيرتها ما جرى ، لكن يصعب عليها أن تصدق ذلك ، فهذا أمر خطير للغاية ، قد يهدد الحياة برمتها ، في كلّ مكان .
وحوالي منتصف النهار ، سمعت الباب يدفع بهدوء ، وتناهى إليها وقع أقدام تعرفها جيداً ، فرفعت رأسها قليلاً ، وقالت : ميزاتوم .
وتوقفت ميزاتوم أمامها ، وقالت بصوت باكٍ : تموز .. يا سيدتي ..
تمتمت ايلي : أعرف ..
وتابعت ميزاتوم قائلة : أخذته شياطين الكالا ..
وتمتمت ايلي ثانية : أعرف ..
وقال ميزاتوم باكية : أخذته إلى العالم الأسفل .
وقالت ايلي : الويل لنا من الآتي .
ومرت عدة أيام ، والباب صامت ، لا يطرقه أحد ، لا الفتاة عادت ، ولا الفتى اقترب من الباب ، لقد بدأ زمن القلق والصمت .
وميزاتوم نفسها ، ولعدة أيام متتالية ، تذهب إلى السوق ، حتى ولو لم ترسلها سيدتها لشراء شيء ما ، لعلها ترى فتاها ريماني ، لكن دون جدوى .
ومع سيدتها ، كانت ميزاتوم تتساءل : ترى ما الذي ستفعلع عشتار ، بعد أن اختطف شياطين الكالا السبعة ، الإله تموز إلى العالم الأسفل ؟


" 5 "
ــــــــــــــــــــ
على عادتها ، استيقظت ميزاتوم مع شروق الشمس ، ودخلت على سيدتها ايلي ، وكانت كالعادة في مثل هذا الوقت ، تتمدد مستيقظة في فراشها .
فمنذ أن غيّب تموز ، في العالم الأسفل ، بدأ النوم يغيب عنها ، إلى ساعة متأخرة من الليل ، ويغادرها مبكراً ، قبل شروق الشمس .
واقتربت ميزاتوم منها ، وقالت : طاب صباحك ، يا سيدتي .
وردت ايلي قائلة : طاب صباحك .
وقالت ميزاتوم : حان وقت ذهابي إلى السوق ، يا سيدتي .
وبدل أن تقول لها كالعادة ، اذهبي ، أنصتت لحظة ، ثم قالت : ميزاتوم .
فردت ميزاتوم : نعم ، سيدتي .
فقالت ايلي : لا أسمع زقزقة العصافير .
ونظرت ميزاتوم ، عبر نافذة الغرفة الصغيرة ، إلى الشجرة وسط الفناء ، وقالت : لعلها ذهبت إلى البساتين القريبة ، يا سيدتي .
وهزت ايلي رأسها ، وقالت : لا ، إنه تموز ، آه عشتار ، قلبي معكِ أيتها الإلهة .. الزوجة .
ولاذت بالصمت لحظة ، ثم قالت : اذهبي إلى السوق ، مادمتِ تريدين الذهاب .
وتساءلت ميزاتوم : ماذا تريدين أن أشتري من السوق ، يا سيدتي ؟
فردت ايلي قائلة : اشتري ما تريدين ، اذهبي .
ومضت ميزاتوم إلى السوق ، حاملة سلتها الخوص ، على أمل أن ترى ريماني ، لكنها ولليوم الثالث على التوالي ، لم تقع له على أثر ، لا في الطريق ، ولا في أي مكان من السوق .
وهمت أن تنتقي بعض الخضار ، من البائع الذي تعودت أن تشتري منه ، لكن الخضار لم يعجبها ، ولاحظ البائع ذلك ، فقال لها : الخضار كله هكذا ، في السوق اليوم .
وتساءلت ميزاتوم مندهشة : لماذا ؟
فردّ البائع قائلاً : هذا ما نسأله للبستانيين ، فيجيبوا بكلمة واحدة ، تموز .
وصمتَ لحظة ، ثم قال : والآتي أسوأ ، أنصتي .
وأشار إلى رجل ، يقف وسط الناس ، وهو يُنشد :
كان قلبه يفيض أسى
فهام على وجهه في المروج
ومزماره يتدلى من رقبته
وهو يبكي ، ويقول ..
النواح ..
النواح أيتها المروج
لتذرف عيناي الدموع على المروج
وأخذت ميزاتوم بعض الخضار ، رغم ذبوله ، ووضعته في سلتها البوص ، وقفلت عائدة إلى البيت ، وهي تتلفت لعلها ترى ريماني ، في مكان ما .
وتراءى لها ، وهو يهمس لها ذات يوم ، وهما يقفان في السوق : حدثتُ سيدي الشاعر عنك ، فقال لي ،سأعطيك حريتك إذا أرادتك هذه الفتاة .

" 6 "
ـــــــــــــــــــــ
تمددت ايلي في فراشها ، هادئة ، كئيبة ، جامدة العينين ، وكما تذوي شجيرة ورد ، يشحّ عنها الماء ، بدأت تذوي ، وتذبل أزهارها شيئاً فشيئاً ، وتشحب ألوانها ، ويتلاشى شذاها .
مع الأيام ، غدا كلّ شيء حولها صامتاً ، بعد أن كان يضجّ بالحياة ، الريح ساكنة ، الشجرة لا تتحرك أغصانها ، العصافير لا تزقزق ، والباب الخارجي نفسه ، ظلّ معظم الوقت مغلقاً ملفعاً بالصمت .
ماذا يجري ؟
ميزاتوم تستيقظ كالعادة كلّ صباح ، لكنها تستيقظ كما الشمس في سماء غائمة ، شاحبة ، باردة ، كئيبة ، يلفها الحزن والصمت ، تأخذ سلتها البوص ، وتذهب كالشبح إلى السوق ، وكالشبح تعود إلى البيت ، وسلتها البوص تكاد تكون فارغة .
وخلال ذهابها وعودتها ، وهي تسير ببطء ، لا تلتفت يميناً ولا يساراً ، لا يقترب منها أحد ، في الطريق أو في السوق ، ولا تسمع أحداً يقول لها بصوت دافىء : طاب صباحكِ .
وتأوهت ايلي ، وهي راقدة في فراشها : آه ..
لقد أخذوا تموز ، أخذه شياطين الكالا السبعة ، بأمر من ايرشكاكيل ، إلى العالم الأسفل ، إلى أرض اللاعودة ، حيث لا تشرق الشمس ، أخذوه من عشتار ، وذهبوا به إلى ايرشكاكيل ، إلهة العالم الأسفل .
ترى أين عشتار ؟
وماذا تفعل الآن ؟
ورأتها ايلي بعيني بصيرتها ، وهي راقدة في فراشها ، يلفها الصمت والذبول ، رأت الإلهة عشتار ، بعد اختطاف تموز ، غاضبة ، منهارة .
لقد غيّب عنها تموز ، غيب زوجها وحبيبها ، غيّبه شياطين الكالا ، وأخذوه إلى أختها ايرشكيكال ، في العالم الأسفل .
فما العمل ؟
وسمعتها بعين بصيرتها ، تصيح بأعلى صوتها مستنجدة : ننشوبر .
وننشوبر هذا هو وزيرها المخلص ، جاء في الحال ، وقال : مولاتي ..
وحدقت عشتار فيه ، وهي لا تكاد تراه لشدة غضبها ، وقالت : سأذهب إلى العالم الأسفل .
وردّ ننشوبر يحذرها قلقاً : لا يا سيدتي ، إنه عالم لا تشرق فيه الشمس ، ولا يعود منه من يدخله .
وبإصرار تقول الإلهة عشتار : سأنزل مهما كلفني الأمر ، تموز في العالم الأسفل ، ولا حياة لي في الأرض دون وجوده .
ويصمت ننشوبر ، فتقول عشتار : حين أنزل إلى العالم الأسفل ، اذهب إلى آبائي الآلهة انليل وننا وانكي ، واطلب منهم أن يعيدوني إلى الحياة ، ويخرجوني أنا وتموز من العالم الأسفل .
فيقول ننشوبر بصوت تغرقه الدموع : أمرك يا مولاتي ، سأذهب إلى الآلهة ، وأنقل رسالتك إليهم .
ونزلت عشتار إلى العالم الأسفل ، حيث لا تشرق الشمس ، وحيث تشرق الشمس ، وقد غابت عشتار ، بدأت الحياة تذبل ، وتميل إلى الأفول .
وايلي نفسها ، التي ظلت في فراشها ، الصمت يلفها والذبول ، الريح ساكنة ، والشجرة لا تتحرك أغصانها ، والعصافير لا تزقزق ، والباب الخارجي نفسه ، ظلّ مغلقاً يلفه الصمت .


" 7 "
ـــــــــــــــــــــ
أشرقت الشمس هذا اليوم ، كما لم تشرق منذ أسابيع عديدة ، هذا ما هجست به ايلي ، وهي راقدة في فراشها ، وعيناها الجامدتان تتطلعان إلى أعماقها .
ربما كان ضوء النهار ، أكثر دفئاً وسطوعاً ، هذا ما أبصرته ايلي في أعماقها ، وما تسمعه الآن ، شيء آخر ، لم تسمعه منذ فترة طويلة .
وأرهفت سمعها المبصر جيداً ، الريح لم تعد ساكنة على ما يبدو ، إنها تهب محركة أغصان الشجرة ، وزقزقة العصافير ترتفع شيئاً فشيئاً ، يبدو أن لديها عرساً ، وهذا ما غاب فترة طويلة .
ماذا جرى ؟
لا يمكن أن يجري هذا ، وتموز في العالم الأسفل ، وهذا ما لا يمكن أيضاً أن يجري أيضاً ، وعشتار بعيدة ، مغيبة ، في العالم الأسفل .
آه إنه ننشوبر ، وزير الإلهة عشتار ذو الكلمات الطيبة الصادقة ، والآلهة العظام ، وخاصة الإله انكي ، وهذا ما تأكدت منه ايلي فيما بعد .
لقد أمر الإله انكي ، أن يُنثر على عشتار ، التي علقتها ميتة ايرشكيكال على وتد ، ماء الحياة وطعام الحية ستين مرة ، فعادت إلى الحياة .
وعلى الفور ، أخذت الإلهة عشتار ، زوجها الحبيب تموز ، وخرجت من العالم الأسفل ، إلى حيث تشرق الشمس ساطعة دافئة .
وأشرقت الشمس ، كما لم تشرق منذ أسابيع ، وعادت الحياة إلى مجراها السابق ، وكأن تلك الأيام والأسابيع السابقة ، لم تكن في يوم من الأيام .
وهنا دُفع باب الغرفة برفق ، ورفعت ايلي رأسها ، إنها ميزاتوم ، فبادرتها قائلة : خذي سلتك الخوص ، واذهبي إلى السوق .
وتوقفت ميزاتوم مندهشة ، على مقربة منها ، فتابعت ايلي قائلة : اذهبي ، والتقي بالقمر .
وابتسمت ميزاتوم حائرة ، وقالت : نحن في رابعة النهار ، يا سيدتي .
فقالت ايلي : أنا أعرف ، وأنت تعرفين ، قمر النهار والليل ، اذهبي بسرعة .
وبسرعة أخذت ميزاتوم سلته الخوص ، ومضت على عجل إلى السوق ، وبعكس الأيام المنطفئة الماضية ، كانت مشاعرها متوقدة ، تنتظر وتتوقع ما تحبه ، مع كلّ خطوة تخطوها على الطريق .
وعلى مقربة من السوق ، سمعت قمرها بصوته الدافىء ، يقول لها : طاب صباحكِ .
والتفتت إليه مبتسمة هذه المرة ، وردت قائلة : طاب صباحكَ .
ومال ريماني عليها قليلاً ، وقال : ذكرتُ سيدي الشاعر بما وعدني مرة .
وتوقفت ميزاتوم ، وعيناها متعلقتان بشفتيه ، تنتظر ما قاله الشاعر ، فتابع ريماني بصوته الدافىء الفرح : فقال أنا عند وعدي .
وصاحت ميزاتوم بصوت جعل بعض المارة يلتفتون إليها : أنتَ حرّ !
ابتسم ريماني ، وقال : إذا كنتِ تريدينني .
ومدت ميزاتوم يدها بشكل عفويّ ، وأمسكت يده مبتسمة ، وهي تقول : أريدكَ طبعاً .
وتلفت ريماني محرجاً ، وقال : ميزاتوم ، نحن نقترب من السوق .
فقالت ميزاتوم ، وهي تواصل السير ، ويده في يدها : ليعرف الجميع .. أنكَ قمري .
وفي فراشها ، داخل غرفتها المغلقة ، ابتسمت ايلي ، رغم أن شعورها بالوهن ، لم يزايلها تماماً ، فهاهي ميزاتوم ، التي تحس أنها ابنتها ، تسير وسط السوق ، ويدها في يد قمرها ، و ..
وسمعت طرقاً على الباب ، وأنصتت ملياً ، ونظرت جيداً بعيني بصيرتها الحادتين ، ثم شاعت ابتسامة فرحة ، في أعماقها ، التي بدأت الحياة تعود إليها ، كما لو كانت شابة في مقتبل العمر .
فها هي ترى عند الباب ، تلك الفتاة ، ومعها فتاها هذه المرة ، وتنهض ايلي من فراشها ، لتفتح الباب الخارجي ، وتبارك لهما سعادتهما ، التي رأتها منذ أن طرقت الفتاة الباب أول مرة .

9 / 6 / 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش


.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان




.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي


.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح




.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص