الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإدهاش الإبداعي..في أفق قصائد الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي (قصيدة : حين يتشظى القيد..على صخرة الإرادة-نموذجا)

محمد المحسن
كاتب

2023 / 11 / 28
الادب والفن


القصائد طريقة لتقبل ما هو محتوم،وأيضاً لإيقاف الزمن أو الخطو خارج مداراته (الناقد)

تصدير :
لدى قرَّاء الشعر في العالم سجل حافل بأسماء الشعراء الذين حملوا راية التعبير عن قضاياهم الوطنية، لكن شعرهم اتسع في نفس الوقت ليحمل سمة إنسانية أعمق، ومن ثَمَّ يمكن لقرَّاء أشعار لوركا وبول إيلوار وبريخت وبابلو نيرودا، أن يشعروا اليوم بالكثير من الامتنان لما تمنحه أشعار هؤلاء من مشاعر تفيض بالتضامن الإنساني، وتعزز من حضور القيمة الجمالية بوصفها المعيار الأهم في الحكم على جدارة النص الأدبي.

تكتسب كتابات الشعراء عن تجربتهم الشعرية قيمة خاصة قد لا تتوافر في كتابات النقاد المحترفين وأساتذة الأدب الأكاديميين،ذلك أن كتابة الشاعر عن فنه تجيء ثمرة معايشة حميمة لهذا الفن، وخبرة شخصية مباشرة بمسالك الشعر وشعابه ومضايقه على نحو يبرأ من التجريد الجاف والتنظير البارد.
إن الدهشة الجمالية التي تثيرها قصائد-الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي تخلق متغيرها الجمالي من خلال تنوع الأنساق،والرشاقة في الانتقال من هذا النسق الجمالي إلى آخر،وهذا ما يشير إلى أن منتوج رؤيته يعتمد الحراك،والكثافة في الصور الإبداعية،ورموزها الكثيفة التي تتعدد وتتنوع بكثافة عالية في نصوصه الشعرية كلها دون استثناء..
إن فواعل الرؤيا الشعرية-في قصائد هذا الشاعر التونسي السامق د-طاهر مشي- تعتمد الحدث الشعري المكثف،وموحيات المشهد الصوفي المتنوع في حساسيته ورموزه،ورؤاه المختلفة،وهذا ما يجعل المشهد مؤثراً في إصابة المعنى،وتكثيف الدلالات البالغة الإيحاء،والشاعرية والتأثير.
الشعر بالنسبة إليه،صوت المعاناة،لأنه قد يحفظ ذكرى الوطن في كلمات،لأنه فرار من الماضي وإعلان استقلال،لأنه ذو سحر خاص وجمال لا يقاوم،لأن أشكاله دعوة إلى شعور أشد عمقاً وفكر أكثر دقة،لأنه يمثل التكثيف والاستقطار،لأنه ينتمي إلى كل إنسان،لأنه توأم للامعنى،وهو مع ذلك يقول الحقيقة بطريقة غير مباشرة،لأنه منعزل،لأنه يجعل العزلة سبيلاً للتواصل،لأنه - بتعبير بايرون-(شعور بعالم سابق ومستقبل)،لأنه لا يحوجه إلى أسباب أو أعذار،لأنه-أولا وأخيرا-ليس شكلاً من أشكال المعنى وإنما هو طريقة للوجود..
كانت الكتابة كما يراها ذهنه سبيلاً لرسم خريطة للزمن،لدوائره وخطوطه المستقيمة على السواء،وكانت الكلمات على الصفحة سبيلاً لقول : "إني هنا"
هذا الشاعر القدير يكتب لأن الكتابة-في تقديري-موقع يوفر له الخصوصية،لأنها أعانتنه على تعميق ما يشعر به (وأحياناً على فهم ذاته بطريقة أفضل) فالقصائد بالنسبة إليه طريقة لتقبل ما هو محتوم،وأيضاً لإيقاف الزمن أو الخطو خارج مداراته.
وإذن؟
يعتمد إذا،الشاعر الكبير-د-طاهر مشي-في تبئيرالرؤيا الشعرية التركيب المزجي في النسق التصويري الواحد،للدلالة على الرؤيا الصوفية المركبة في قصائده،وهذا يعني ولع الشاعر في إنتاج الدلالات المضاعفة الجديدة،والمعنى المبطن
تمتاز قصائد هذا الشاعر المبدع بالحدث العميق والرؤيا المكثفة للمشاهد والرؤى المتحركة أو المنزلقة في نسقها مما يدل على اتقان جمالي بهذا الشكل أو ذاك،دلالة على الاستثارة والتركيب.
إن لقصائد "الطاهر"(وهذا الرأي يخصني) قيمها المؤثرة في تحريك حساسية القارئ،من خلال دهشة الصور والاستعارات والفيوضات الوجدية التي يبثها في الأنساق بين الفينة والأخرى،مما يجعلها غاية في الرقة والحساسية والجمال.
وبعد،فإن المثيرات الجمالية التي تؤسسها قصائد-د-طاهر مشي-ترتكز على الصور اللاهبة بدلالاتها،وكثافتها،وحركتها الجمالية،مما يدل على شعرية بالغة التنوع،والمواربة،والاختلاف في رؤاها ومؤثراتها الجمالية،وهذا ما يحسب له على الصعيد الإبداعي.
لنعانق معا هذا الإيغال الفني والإدهاش الشعري في القصيدة التالية التي رسمتها في شكل لوحة فنية رائعة أنامل-شاعرنا الفذ -د-طاهر مشي-

حين يتشظى القيد..على صخرة الإرادة

فاللهُ أهدى لِلأسير َكرامةً
وَهَدى لِقسّامٍ خَلاقاً يأْسِرُ
أسرى عدُوٍّ يُفتَنونَ بِفِعلِه
ويُفاجأونَ،أمِثلُ هذا يُزجَرُ؟
وهوَ العدُوّ وهَمُّهُمْ بِزواله
وبِنَا الرّحيمُ وكلُّ مِنّا يشكُرُ !
مَن كان بالأسرى رحيماً يستوي
مع قاتِلٍ الأسرَى وفيهِمْ يغدُرُ !
طاهر مشي
إن موضوعة الأسير والسجين والمعتقل السياسي ستكون أكثر بروزاً في الشعر الفلسطيني عند شعراء الخمسينيات والستينيات بشكل خاص : هارون هاشم رشيد،فدوى طوقان،إبراهيم طوقان،عبد الرحيم عمر،وراشد حسين،يوسف الخطيب،معين بسيسو،كمال ناصر،عبد اللطيف عقل وغيرهم من شعراء،وذلك تبعاً لفضاءات السجن «الإسرائيلي» المفتوح منذ ما يقرب من سبعين عاماً.
واليوم..
تتحوّل كلمات الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي إلى رصاص يخترق سجوف الصمت والرداءة ويلعلع داخل المعتقلات والسجون الأكثر حلكة من القبور..
كلمات تبني هرما شامخا لأسير يرسف في القيود،وترسم صورة لا تخطئ العين نورها لأبطال المقاومة الفلسطينية الجاسرة وعلى رأسهم-كتائب الشهيد عزالدين القسام-التي تخوض بإرادة فذة معركة العزة على أرض غزة..وتمرّغ أنوف الغزاة في التراب..
وإذن؟
الكتابة إذا،عن الشيء تعادل حضوره في الزمن،ووجوده واستمراره في الحياة.ولأنّ الأمر كذلك فإنّ-د-طاهر مشي-يصوغ كلماته شعرا حارقا،علّها تصل إلى كل أسير فلسطيني عبر شيفرات الحرية،أو لعلّها تصل إلى كل زنزانة محكمة الإغلاق،وإلى كل معتقل عالي الأسوار،وإلى كل منفى داخل الوطن أو وراء البحار.
وكأني أسمعه (د-طاهر مشي) يهمس في أذن الأسير الفلسطيني قائلا :"ما عليك -أيّها الشامخ في نضالك-بل أيها الواقف على التخوم الفاصلة بين البسمة والدمعة إلا أن تحييّ-الثورة الفلسطينية الجاسرة-التي ألهمت الشعوب العربية المعنى الحقيقي للحرية،ورسمت بحبر الروح على صفحات التاريخ دربا مضيئا يعرف آفاقه جيدا عظماء التاريخ وكل الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل أوطانهم من الأبطال والشهداء منذ فجر الإنسانية: صدام حسين،سبارتكوس،عمار بن ياسر،عمر المختار،يوسف العظمة،شهدي عطية،الأيندي،غيفارا وديمتروف..وقد تجلّت في -ثورتنا الخالدة-كما في رفضنا الصارخ بطولة الإستشهاد وتجسّدت في مواقفنا الجاسرة آسمى أشكال الفعل الإنساني النبيل..
ثم يضيف جهرا..وليس همسا : أيها الأسير الفلسطيني الصامد في وجه طوافي الليل وعراة الضمير: أنت تشيخ وليس الزمن.الزمن يشيخ وليس أنت.ولكن الأرضَ تدور كما تعلّمت في الطفولة.وإذا بك تدور معها وأنت تدري.ظللت ترفض وترفض وترفض سنوات طوالا،كان حزنك أثناءها يتلوّن أحيانا بألوان الطيف أو ألوان الورد.
بعد صبر جميل على القهر والظلم وجنون القوة،طفح الكيل وانفجر البركان فلم تجفل.
قاومت وصمدت،وكنت في المرآة عملاقا.لقد قلت”لا”بملء الفم والعقل والقلب والدّم،ظلّت فلسطين قضيتك.فلسطين العربية كلّها..
أما أنا فأقول :
ابن فلسطين-الرابض على تخوم الجرح-لا تخف،فالمعركة ستجئ،لكن قبل الموعد أو بعده،ولأنّها مستمرة فأنتَ مطالَب بأن تكون حاضرا متى تُطلَب وأينما طُلبت:إلى السجن،المعتقل،القبو الجهنمي،المستشفى الأكثر بياضا من العدم،المنافي المتحركة الأرصفة إلى المجهول..وعليك الإستبسال أردت ذلك أو رغبت عنه،لأنّ فلسطين قضية مقدّسة،من أجلها تؤمّم الديمقراطية،فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة،وفلسطين هي المعركة،لذلك عليك أن تجيد سماع الصّوت وأن تبدع في صداه.
على سبيل الخاتمة :
إذا كان الأسلوب طريقة المبدع في التعبير عن أفكاره وأحاسيسه وانفعالاته (صياغة لغوية)؛ فإن الأسلوبية طريقة المتلقي في قراءة النصوص وتأويلها (الكشف عن الخصائص الفنية للعناصر اللغوية وصولًا إلى دلالتها العميقة والمقصودة)،أي تكامل بين الشكل والمضمون أسسته الظواهر أو المقولات الأسلوبية الثلاث وهي: الاختيار،والتركيب،والانزياح.
الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي في هذه القصيدة اتخذ الأسير الفلسطيني معادلًا موضوعيًا ليفرغ عليه مشاعره وأحاسيسه وعاطفته التي تلوج في صدره،فجسّد من خلال هذا المصطلح النقدي الحداثي علاقته به،وبيّن موقفه تجاهه بأسلوب شعري حارق،وعكس تجربته الواقعية،فهو يصوره-تصويرا تراجيديا-دون أن يسكب عليه فائضا من الشفقة إيمانا منه بأنّ القضايا العادلة تحتاج إلى السياسة الصائبة أكثر من حاجتها إلى قبور الشهداء..
ختاما أقول :على الرغم من الشهرة التي تحققت له تونسيا وعربيا،فإن الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي ظل يستجيب إلى ألم عميق لا يتوقف عن حفره عميقًا هو ألم فلسطين في جرحها الغائر،ويؤكد في شعره على مفهوم منفتح للعروبة،لا بصفتها هوية مغلقة على نفسها، وإنما مفهوم منظور إليه عبر اللغة بصفتها أداة لهذه التعددية،لذلك ظل يتحاور في شعره مع هويات متعددة وإرث إنساني متنوع.
لك مني يا "الطاهر"باقة من التحايا..مفعَمَة بعطر فلسطين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا