الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معاقل الرأسمالية: لندن جَنّة الأثرياء وجحيم الفُقراء

الطاهر المعز

2023 / 11 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


عاصمة مالية دولية
تستمد بريطانيا القوة الاقتصادية والسياسية والرمزية الحالية من ماضيها الإستعماري ومن القوة المالية المُرَكّزة داخل محيط لا تتجاوز مساحته الميل المربع الواحد في العاصمة لندن، والذي يضم فروعًا للمصارف العالمية والبنية التّحتية الأساسية للتمويل العالمي، كما أنها موطن لمؤسسات تعود أصولها إلى القرون الوسطى والتي يمتد تأثيرها إلى ما هو أبعد من بريطانيا...
كانت لندن أحد محركات الرأسمالية العالمية بفعل استغلال المستعمرات البريطانية في منطقة البحر الكاريبي وفي آسيا ثم في إفريقيا، وبفعل الأسطول التجاري الضخم الذي ينقل ثروات المُستعمرات إلى "المَرْكز" (لندن)، ويُمارس تجارة الرّقِيق التي كانت تجارة مُرْبِحة للغاية، سيطرت عليها الشركة الملكية الأفريقية، ومقرها في لندن، لفترة طويلة، وكان تَطَوُّر التجارة الإستعمارية في القرن السّابع عشر مُرتبطًا بتمويل البعثات إلى جزر "الهند الشرقية" أو الأمريكتين وكانت هذا النّشاط محفوفًا بالمخاطر بقدر ما كان مربحًا، فقد كانت السلع المنتجة في المزارع التي تُشغّل العبيد، مثل التبغ أو القهوة أو النيلي، ذات قيمة كبيرة في أوروبا، وخصوصًا السّكّر (الذّهب الأبيض كما كان يُسمّى) الذي غذى الآلة المالية الاستعمارية في لندن...
ساعدت تجارة منتجات المُسْتعمرات وتجارة العبيد في تضخيم ثروة التّجّار ثم المصْرفِيِّين في لندن قبل تدفُّق عائدات تجارة الأفيون التي ساهمت في تراكم رأس المال وفي تطور الخدمات المالية والقانونية في لندن وقامت الشركات الاستعمارية – مثل شركة الهند الشرقية البريطانية وشركة بحر الجنوب والشركة الملكية الأفريقية – بإصدار أسهم في شكل ورقي، بالتوازي مع تطور التأمين – تأمين السّفن التّجارية ( البريطانية والإسبانية والفرنسية وغيرها) الذي أكسب إدوارد لويدز - صاحب مؤسسة التّأمين "لويدز"- ثروة طائلة في القرن الثامن عشر، لتصبح اليوم أكبر بورصة تأمين في العالم، ليتم بذلك الترابط بين تطور الإمبراطورية البريطانية وتطور مدينة لندن كقوة مالية للإمبراطورية البريطانية لفترة قاربت القَرْنَيْن، حتى العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 الذي كان إيذانًا بتراجع الإمبراطورية البريطانية وفقدان نفوذها العالمي لصالح الإمبريالية الأمريكية...
تضم العاصمة البريطانية لندن ما يقرب من 250 مؤسسة مالية، على مساحة ميل مربع واحد، تُدِيرُ نحو 43% من معاملات الصرف الأجنبي العالمية أو حوالي ضعف عدد الدولارات المُتداوَلَة في أسواق الصرف الأجنبي الأمريكية، ويعمل حوالي 420 ألف موظف في قطاع الخدمات المالية بلندن، ولذلك فإن لندن هي أكبر تجمع للمصارف الأجنبية، متجاوزة نيويورك أو سنغافورة.
أدّى انسحاب القوات البريطانية (والفرنسية والصهيونية) من مصر إلى خروج أحجام كبيرة من رؤوس الأموال إلى الخارج وإلى ضُعْف الجنيه الإسترليني، غير إن لندن استعادت مكانتها المالية العالمية بفعل تطوير عمليات التهريب وإخفاء رأس المال وتأسيس شبكة من الملاذات الضريبية بالمُستعمَرات وبالجُزُر التابعة لبريطانيا، بتواطؤ من "بنك إنغلترا" الذي تم تأميمه بعد الحرب العالمية الثانية، للقيام بدور سلطة الإشراف على التداولات والتحويلات ومختلف العمليات المصرفية، واعتبر المُشرفون على "بنك إنغلترا" إن مهمته لا تشمل المضاربة والنشاط المالي الذي تقوم به المصارف البريطانية، بالعملات الأجنبية، نيابة عن الزبائن غير المقيمين، ما يفتح الباب أمام التهرب من أي رقابة، وبذلك تم إنشاء سوق في لندن لتبادل وإقراض الدولارات في الخارج – خارج سيطرة السلطات الأمريكية والبريطانية - وخالية من أي ضوابط وقيود تنظيمية على رأس المال وعلى بيع وشراء وتحويل العملات، وبذلك تم إحياء مكانة لندن كمركز مالي تمكن – منذ ستينيات القرن العشرين - من اجتذاب حاملي الدولار والمصارف من جميع أنحاء العالم - بما في ذلك المصارف الأمريكية التي تمكنت من الوصول إلى زبائن ومُقترضين جدد على نطاق دولي وتحقيق أرباح عالية، دون رقابة الهيئات التنظيمية الأمريكية. وأنشأت المؤسسات المالية البريطانية شركات تابعة في العديد من الولايات القضائية البريطانية في الخارج (المُسْتَعْمَرات)، مثل جزر كايمان وبرمودا وجزر القنال في جيرسي وغيرنسي، ضمنت لزبائنها السرية المصرفية والمالية، ما أتاح لهذه المؤسسات المالية اجتذاب رؤوس أموال "غير المقيمين" من دولارات النفط ومن عصابات المخدرات ومن مختلف أصناف المُهَرِّبين وتُجار الأسلحة والمُتهرّبين من الضرائب، وبذلك تتخلص رؤوس الأموال من سيطرة الدولة ويتمكن أصحابها من إعادة تدويرها ــ أو غسلها ــ دون صعوبة بواسطة السوق المالية في لندن.
تُشكل العلاقة بين المركز المالي في لندن والملاذات الضريبية – بتواطؤ من بنك إنغلترا - أهَمَّ أُسُسِ التوسع الهائل في التمويل الخارجي، منذ نحو ستة عُقُود والذي مَكّنَ لندن من منافسة سوق نيويورك، معقل الرأسمالية العالمية، خصوصًا بعد تحرير القطاع المالي من القيود التنظيمية، منذ ثمانينيات القرن العشرين، تحت رعاية مارغريت تاتشر التي أزالت حكومتها، سنة 1986، العقبات التنظيمية لفروع المصارف الأجنبية، ما أدّى إلى إحياء وتطوير سوق الخدمات المالية، لتصبح بريطانيا المصدر الرئيسي للخدمات المالية على مستوى العالم، بفائض يزيد على 60 مليار جنيه استرليني، ومركزًا هامّا لعمليات أهم المصارف العالمية، ومن بينها جي بي مورغان وغولدمان ساكس وبلاك روك (وهي مصارف أمريكية) و "إتش إس بي سي" وباركليز وسيتي غروب ولويدز (وهي مؤسسات مالية بريطانية المَنْشَأ) وسوسيتيه جنرال وبي إن بي باريبا وكريدي أغريكول، وأكسا (وهي مؤسسات فرنسية المنشأ)، بالإضافة إلى دويتشه بنك (ألمانيا) ونومورا (اليابان)، ومؤسسات مالية أخرى مثل "إرنست أند يونغ" و (KPMG ) و (PwC ) وغيرها، ودفعت مجموعات الضغط (ذات الصبغة المالية) نحو خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، بهدف التّخلّص من المعايير الأوروبية.
يُمثل القطاع المالي 12% من الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا، ويوظف 2,3 مليون شخص في البلاد (منها 420 ألف في لندن)، ويُحقّق فائضًا بقيمة 46 مليار جنيه استرليني في بريطانيا وأكثر من ستين مليار جنيه استرليني على مستوى العالم، وقدّمت الحكومة البريطانية قانونًا جديدًا للخَدمات المالية (يوم 20 تموز/يوليو 2022) بهدف "تقليل العبء التنظيمي في القطاع المالي ( ) وتعزيز القدرة التنافسية الدولية للخدمات المالية".
يُساهم غياب الرقابة على مَصْدر الأموال في جعل المدينة مركزًا مفضلاً لتداول أموال الإحتيال والجريمة المُنظّمة والتّهرّب الضّرِيبي، وقدّرت الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة المنظمة أن بريطانيا تستقطب قرابة 100 مليار جنيه إسترليني سنويا من الأموال القذرة التي يتم غسلها في المملكة المتحدة كل عام"، وتُعد لندن على وجه الخصوص مكانًا مفضلاً للزعماء الأجانب والأثرياء الذين يعتبرون مدينة لندن قاعدة خلفية لتأمين ثرواتهم والتراجع في حالة حدوث تعقيدات في بلدهم الأصلي، وأصبحت لندن ملاذاً للمليارديرات من جميع أنحاء العالم، ويُشكل هؤلاء زبائن المركز المالي المزدهر والمُنتَفِعِين المَحلِّيِّين من المركز المالي، ولا تُستثمَرُ رؤوس الأموال - من الصين والولايات المتحدة وأوروبا والخليج وغيرها - في الإقتصاد الإنتاجي بل في العقارات أو سوق الأوراق المالية أو عمليات الإندماج والاستحواذ، وفقًا لصحيفة "إيكونوميست" التي اعتبرتها نموذجًا للرأسمالية الريعية، التي تركز على استخراج الثروة من خلال المُضاربة، غير إن هؤلاء لا يُمثلون سوى أقلية من سُكّان العاصمة البريطانية، وبالنسبة لبقية السكان فقد أصبح السكن باهظ الثمن بشكل غير عادي، خصوصًا بعد هَدْمِ مئات الآلاف من وحدات الإسكان الاجتماعي لإفساح المجال أمام مشاريع "المطورين"، أي بناء وحدات سكن ومكاتب فاخرة، وبُنية تحتية لرأس المال في الأحياء التي كانت تُؤْوي الفئات الشعبية والعُمّال وصغار المُوظّفين، ما ساهم في رَفْع الأسعار وطرد السكان السابقين، ولا تزال أسعار العقارات مُستَمِرّةً في تحطيم الأرقام القياسية ــ زيادة في الأسعار بأكثر من 10% على أساس سنوي في عام 2022 ــ وأصبحت لندن من بين أغلى المدن في العالم، فارتفعت قيمة الإيجارات بنسبة 20%، خلال سنة 2022، وأصبحت تكاليف المعيشة مرتفعة بسبب ضعف السياسات الاجتماعية وارتفاع سعر الجنيه، وفي صيف 2022، احتلت لندن المرتبة الرابعة في تصنيف أغلى المدن في العالم، وفق وكالة "بلومبرغ" "، بتاريخ الثامن من حزيران/يونيو 2022.
يعتمد نموذج النمو المالي على تدفق رؤوس الأموال من جميع أنحاء العالم إلى لندن لتغذية الاستثمار في الأنشطة غير الإنتاجية (العقارات، الأسواق المالية) وتشجيع استهلاك السلع الفاخرة أو على الائتمان، ومن الممكن أن تؤدي الأزمات الأخيرة إلى انهياره فقد أدت أزمة الطاقة والتضخم والتشديد النقدي الذي بدأه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى "هروب رأس المال إلى الأمان" نحو القيم الأمريكية، مما عزز الدولار مقابل العملات الأخرى.
كما ظهر ضعف الاقتصاد الريعي البريطاني، الذي تفاقم بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم مع انحسار موجة رأس المال الرخيص، ومع انخفاض قيمة الجنيه الاسترليني الذي أدّى إلى زيادة التضخم، ويتهدّد الإقتصاد البريطاني الركود وانخفاض قيمة الأسهم والسّندات، وبدأت أسعار العقارات في الإنخفاض بعد عِقْدَيْن من الارتفاع المستمر في أسعارها، كما عادت الإحتجاجات الإجتماعية إلى الظهور في مواجهة تكاليف المعيشة المرتفعة، مع إضرابات ضخمة في العديد من القطاعات، وعلى نطاق غير مسبوق منذ عقود من الزمن.
المراجع:
المراجعة السنوية للخدمات المالية في المملكة المتحدة 2022”، تقرير مشترك من وزارة الخزانة البريطانية ومؤسسة مدينة لندن، تموز/يوليو 2022.
صحيفة لوموند ديبلوماتيك التي نشرت ( عدد شهر أيار/مايو 2023) بحثًا مُطوّلا عن مكانة لندن في المنظومة المالية الدّولية، كما نشرت صحيفة "إيكونوميست" مقالات عن الإقتصاد البريطاني بتاريخ 6 و 23 أيلول/سبتمبر و25 تشرين الأول/اكتوبر 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران