الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاولة عيش لمحمد زفزاف محاولة أن تكون مغربيا.

محمد الطويل

2023 / 11 / 30
الادب والفن


التفاحة لا تقع بعيدا عن الشجرة. حكمة إسبانية.
محاولة عيش هذا النص الصادر رأس سنة 1985، البالغ زهاء مئة صفحة، عن المركز الثقافي العربي الدار المعروفة بجمعها طرفي العالم العربي لبنان والمغرب، هو لمحمد زفزاف (زفزاف معناها الريح التي لا تهدأ) ومما هو معلوم أن زفزاف كان ريحا شرقية، هبّ بداية من المشرق في أولى أعماله "حوار في ليل متأخر" سنة 1970 بدمشق، ومجلات كالمعرفة السورية و"الآداب" اللبنانية و"الأقلام" العراقية تعرفه جيدا، قد كان مقروءا أول الأمر في الشرق هل كان قدره أن يبدأ "هناك" بكل ما يحمله "هناك" من نأي؟
عرفت زفزاف قبلا في أعمال "قبور في الماء" 1978، "الأفعى والبحر" 1979، و"غجر في الغابة" 1981، فبيض الديك 1984، و قصة السابع من مجموعة "العربة" 1993 ، كانت هذه النصوص جميعها قاعدة بيانات معينة لي تعرفني عما يكون خلف اسم زفزاف أدبيا، كنت أستشعر في قراءتي له نشوة التغلب على عقبة الكتابة فضلا عن ألفة التخييل، بسرعة عجيبة تنال منك شخصيات وفضاءات معروفة وتلفها غربة هي أشبه بالعثور على شبيهك، أواه إنه منا وإنه ليكتبُ ما نقوله: في السوق في الشارع في عراكنا في حميميتنا عن حيلنا وعاداتنا يكشف كل هذا بكل جرأة وبأدنى حياء.
قلت، وما معناه: أن وقوع عينك على نص لزفزاف هو أشبه بلقيا شبيهك إذا كنت مغربيا في إحدى متاهات العالم، فلا مبالغة إن قلت هي هجرة إلى الإنسانية، شعور فتح الأعين على ضوء الشمس.
أعود وأقول بعد متم قراءتي الرواية، وأول قولي: إن المحاولة مزدوجة على مستويين المضمون والطريقة، أولا أشهد بنجاح المحاولة، نجحت إن كانت في سرقة البلوط والحصول على مُشاش المجازر، في تبكيت جوع الصغار في جعل البراكة براكتين، في غفلة السلطة عن حماقات سكان الهوامش، في الفقر والبطالة، في تسلل الضوء إلى طبقة خانتها الحسابات الاقتصادية، وما خلقت إلا لتعاني وتلم الفتات، وخلقت لتحاول تجاوز الخَلف في صمت وفي خوف وترقب. نجحت الرواية في هذا الصدد، صدد وسطٍ مخلخلٍ قذر ٍ. وفي جو كهذا على حميد أن يتزوج، نعم، ولأن أمه تريد ذلك، يجب أن يتزوج وبه يجب أ تتضاعف البراكة براكتين والأسرة أسرتين، بعدما تباعَدَ الكتفان واشتد عرقه من بيع الجرائد، وبات على لذة من النساء يستشعر حاجته منهن على استحياء، فليتزوج الزواج يأتي بالبركة وتصبح البراكة براكتين.. تقول لقد أصبح رجلا. وأنا لن أستريح إلا إذا زوجته وأبقيته بجواري. أخشى أن تأخذه مني امرأة أخرى فلا أنا بالفلوس ولا أنا بولد. وهكذا تبدأ المحاولة.
وإن كانت المحاولة من الحيلة ولا حيلة مع الفقر، ينسحق هؤلاء تحت قسوة المفارقات وأوابد التناقضات: المسجد والحانة، السجائر والفقر، الرشوة والرخصة، الخمر والخنزير، الزواج والبغاء...، ولا تدري ما العمل وفي أي جهة تصطف هكذا تتركك الرواية حائرا أمام المشهد، لقد لامستني جدا كمغربي أو بالأحرى جزء من هذا المشهد وقد اقترب مني ما شاء أن يقربه وعلى ما كان عليه من بعد. منحني نظارات واضحة فالصحيح أن انتمت الرواية إلى ثمانينيات القرن الماضي، وانتميت أنا إلى الألفية الثالثة، في هذا الفارق هل تغير شيء؟ لا أظن، ما زالت تعنيني وهكذا شعرت.
محاولة عيش على صعيد إنساني هي صورة تحايل والمحاولة من الحيلة كما قلت؛ تحايل على السلطة المخزن/ الأسرة/ الفاقة.. أن تعيش فأنت تحاول، أن تفعل أي شيء لتعيش المباح والمحظور، المهم فعل شيء ما كيفما كان، ما سر هذا التشبث الأعمى بالحياة؟ هكذا هم الفقراء، وهذه روايتهم.
قلت قد نجحت المحاولة في هذا الجانب، أم الجانب الثاني وهو ما أجعله محور هذه القراءة قد كانت التفاحة قريبة من الشجرة، كيف انتظرنا إلى أن يأتي زفزاف فيجلو أشياءنا وبالألف وعميق الأثر، لقد كان يتبدى بي الاستغراب عند قراءة الرواية في الطريقة التي يضع بها المفتاح الصحيح ويحركه في الاتجاه الصحيح كذلك بحذقة وحرفية. كلما أتى هذا الباب وأشرعه امامي بكل وضوح.
يصف ناقد يوظب نظارته عن جهة الشرق كيف ترك الرواية منذ بدايتها وخلا بعدم إتمامها فكرانا منه بعدها عما ألفه وأزعجته النعوت الغريبة، والأظرفة العجيبة، يتهجى بعضها ويتملى عربيتها فلا يجد بُدًا من معونة شارحة، "يا لهذا العالم الغريب.. هذا بغي على البلاغة، إسفاف في العربية وما ابتغى زفزاف إلا اللامعقول من عمله، هذا محض عبث وكيف ما كان ما يحكيه زفزاف فلابد أن يحافظ على مركزية اللغة فلا إبداع خارج القواعد..."
كان هذا كلامه و وبه سرعان ما استرعى انتباهي حادث الصاحب بن عباد المشهور في تاريخ الأدب العربي، عندما أراد استطلاع كتاب « العِقد الفريد « لابن عبد ربه الأندلسي المغربي ، فقال كلمته «هذه بضاعتنا ردت إلينا، كنت أظن أنه يشتمل على شيء من أخبار بلادهم ، فإذا هو لا يعدو أخبار بلادنا، ردوه إلى صاحبه ، لا حاجة لنا به « مع اختلاف يسير أن بضاعة زفزاف لم تعد إليهم كما أخذت كان فيها شيء منهم، وغالبها كان منا، من أخبار بلادنا لربما الزفزاف اطلع على رد ابن عباد وغلبت الحميّة عليه، هل يعني ترك البلاغة شيئا؟ هل زفزاف يجرب في جماليات خاصة؟ أما عادت المنفلوطيات والحسينيات تعني شيئا لكاتب عربي ينتمي لأقصى جهة في العالم العربي؟ هل كان على اللغة أن تكون واقعية أيضا؟ هل كان زفزاف يحلم بسارد حقيقي أو رواية بلا سارد؟
وأجمع متفرق أجوبتي لأقول إن الزفزاف لربما استوعب الهشاشة، هشاشة الأشياء، فكلف لغته أن تكون مرآة هذه الهشاشة، قد يحسبها البعض احتماء بالسطحية وابتذالا، أو إنشائيةً البدايات لكنها المحاولة
كان عنوان الرواية محاولة عيش لكن قد نعدها _أقصد الرواية_ محاولة في العيش مغربيا في أساليب وأدوات البناء واستغناءً عن الاسمنت المسلح والتقانات الغريبة والتسميات المشرقية، عودة إلى قمحية السحنات، إلى غبار البوادي والأسواق إلى النعوت الدارجة على الألسن والمسكوك الشعبي المحلي إلى عربية لكن مغربية ومغرب بالعربية، أكتب العربية لكن بالمغربية. هذا التمفصل الذي يعد تجربة ناضجة في تسجيل الواقع بشكل دقيق وموجع، هو مزج بين الواقعي والبسيط رغبة دفينة في منح الواقع وضوحا أكثر صفاء. قراءة الرواية هي دعوة تعرف خطى زفزاف في تشكيل هذا المتخيل الحميمي لنا كمغاربة حميم لأنه من أوائل المرات أن تقرأ بعيدا عن حارات الشرق وفتواتها وبعيدا عن شخصيات لم تقترب من إلا لغة.
أعود وأقول بشيء من التأثر الجميل بالمحكي الزفزافي أنه ذو فاعلية خاصة من باب ((تمغرابيت)) في تخييله وقاعدة سرده، هذا القدر من الواقعي ليس بيان نقد سياسي أو أديولوجي معين، يصدر الحكي كما تحدث الأشياء تلقائية عفوية، يتابع السارد حركات الشخصيات ممارساتها القبيحة والسليمة على قدر واحد، لا تستشعر ذنب أي طرف خارج هذه الدائرة البسيطة، المدان الوحيد هو الواقع هذا الذي يجري ويقع.
لقد اشتغلت الرواية سرديا في فضاء أكثر خصوصية، أقصد تحقيق رواية مغربية تسعى إلى التماهي مع واقعها حد التخلي عن مقومات فنية كانت من المسلمات، صارت الرواية تجديفا بخصوصية مغربية ولأن خصوصية الكتابة مرتبطة بما تقرأ ،كانت خصوصية الزفزاف مرتبطة بما رأى فترى معه وترى نفسك مع حميد إلى المعمورة وبلوطها إلى البراكة ودروبها نتانة الزبالة، عن الحصى ينقذف تحت عجلة الدراجة بقايا السندويتشات وقناني الجعة الامريكية.
أعود وأشير إلى أن المحاولة محاولة زفزاف أولا هي في واد لا داعي فيه لتعود البضاعة إلى أهلها، على التفاحة أن تسقط قريبة من الشجرة وأن العربية "تلك" لها ومن حقها أن تكون من هنا: مغربية وتحمل عنا ما حملت اللغة للإنسان، وأن لا بأس بتفصيح الدارج وتكتيبه كما وصف ذلك أستاذي جباري مصطفى، وكما جاء على شيوران استبدال اللغة بالنسبة للكاتب هو بمثابة كتابة رسالة غرام باستعمال قاموس، على الحميمية أن تحافظ على بدائيتها وعفويتها لا يهم أن تكون كلاسيكيا أو واقعيا أو رمزيا بمعرض الألم الإنساني، فلربما يصير مستهجنا التأنق في جادة البسطاء و مكروها التجمل حين يصير الألم أمامك.
نعم كان الزفزاف يصف محاولة عيش وكان هو أمام محاولة أن يعيش مغربيا في أدواته، أن يخلق لغة ذات عالم مغربي، لغة تكون عربية بمغربية، لغة ملائمة تناسب بساطة حميد وسذاجة أمه وغشاوة أبيه، وقسوة الفارق والتناقض. لقد انتهينا من سطوة المنفلوطي وطه حسين.
كنت أجادل صديقي المشرقي في لغة الرواية، كنت أقتبس لأقول إنها فصيحة أترى ...:
"- انظر إلى كتفيك إنهما مثل كتف بغل.
-يا بنت الناس ما عندي صحة."
وكان يرد: نعم أعرف ذلك ولكن المرمى بعيد عني، ما هذا المأزق؟ هل ما من بد أن تكون المأساة كلها مغربية؟ كنت أقول نعم وبالمطلق ولابد وأن تسقط التفاحة أقرب من الشجرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا