الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرأسمالية إنتصرت، لكن؟ مع نظرة نقدية لأخلاقيات المنشأة

فارس إيغو

2023 / 11 / 30
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


هل الرأسمالية أخلاقية؟ هو عنوان كتاب صدر في فرنسا، للكاتب الفرنسي أندريه كونت ـ سبونفيل (من منشورات ألبان ميشال، 2004)، وقام بترجمته الى العربية أ. بسام حجار (دار الساقي، بيروت 2005).
لقد ارتأيت تلخيص هذا الكتاب نظراً للأهمية الكبيرة للأفكار المطروحة فيه، والتي لم تأخذ حيزاً مهماً من النقاش والجدال، وحتى السجال إذا أمكن، في الساحة الثقافية العربية. وأنوه من البداية، بالترجمة الرائعة التي أنجزها السيد بسام حجار، فقد نقل أفكار الكاتب الفرنسي بأمانة، وبأسلوب رائع ، وسلس وجذاب. وأعتبر الترجمات الي قام بإنجازها هي أمثلة للترجمة العربية التي تحقق الفائدة والمتعة، وتوصيل المعرفة بصورة أسلوبية سهلة على القارئ.
أطروحة الكتاب الرئيسة تتجاوز مقولة الأمريكي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ وإنتصار الرأسمالية، وتسخر من المثقفين الغربيين والعرب الذين ما زالوا في نوستالجيا البديل الاشتراكي أو "الأطروحة الشيوعية" للفرنسي ألان باديو (1).
فوكو ياما، مع نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي، كتب في مؤلفه نهاية التاريخ والإنسان الأخير: لقد انتصرنا، إذن نحن الأفضل. بينما سبونفيل يبدو متأكداً من انتصار الرأسمالية، لكن مشككاً في قدرتها على إدارة تناقضات المجتمع. يقول سبونفيل: لقد سقط الاتحاد السوفياتي وتبيّنا أن النظرية الماركسية تنتج حين تُطبق في الحكم بيروقراطيات شمولية قاسية جداً. لكن سبونفيل يقول إن الرأسمالية لم تنتصر، لأن المشاكل أمامنا. الرأسمالية ـ صحيح أنها لم تفشل ـ لكنها مريضة حسب سبونفيل.
إن فكرة الكتاب تتجاوز أطروحة ما زال بعض المثقفين العرب (من ماركسيين الى قوميين، وأخيراً إسلاميين) يروجونها، هي البحث عن البديل المناسب للرأسمالية، بالنسبة للبعض فإنهم ما زالوا يشككون في هزيمة الاشتراكية، وبالنسبة للبعض الآخر، فإن الأمر يتعلق بوهم الاقتصاد الإسلامي. الجديد الإبداعي في أطروحة سبونفيل، أنه يعترف بهزيمة الاشتراكية، لكن الرأسمالية بالنسبة له بحاجة للعناية الطبية المشددة.
لا بديل عن النظام الرأسمالي في الأفق المنظور، إذ يجب الاعتراف بالأمر الواقع والتعامل مع الرأسمالية نقدياً، ومحاولة حل إشكالياتها، وخاصة ما تنتجه من مشاكل بيئية خطيرة على الصعيد الداخلي لكل بلد، وعلى صعيد العالمي، بالإضافة للتفاوت في النمو الذي تخلقه بين الشمال المتقدم والجنوب المتأخر، بالرغم عمليات نقل الصناعات التي تتم نتيجة العولمة من الشمال الى الجنوب حيث اليد العاملة الرخيصة، والحوافز الضريبية المعطاة لصالح المنتجين.
يدور كتاب سبونفيل حول العلاقة بين الرأسمالية والأخلاق، وهو يرد على القائلين بأن الرأسمالية أخلاقية، وعلى الذين يقولون بأنها لا أخلاقية؛ إنها بالنسبة لسبونفيل غير أخلاقية، أي محايدة أخلاقياً، أي لا علاقة لها بالأخلاق، فهي نسق خاص، وإن كان غير مستقل استقلالاً تاماً عن الأنساق الأخرى.
سنحاول في البداية، تلخيص أطروحة سبونفيل بعدة كلمات قبل الدخول في تفاصيل الكتاب الكثيرة: الرأسمالية نسق اقتصادي يتبع النسق التقني ـ العلمي، أما الأخلاق فهي تتبع نسق آخر هو نسق الأخلاق، وبالتالي لا يمكن أن تكون الرأسمالية أخلاقية أو لا أخلاقية بذاتها، وطالما أن الاقتصاد تابع للنسق التقني ـ العلمي، والرأسمالية نمطاً وقانون في الاقتصاد، هو قانون السوق الحرة، فإنها خاضعة لـ "المبدأ الوحيد المنظم للعالم التقني"، أي المبدأ الذي يقول إن "كل الممكن سينجز على الدوام" شريطة وجود سوق حرة (2).
وليصل سبونفيل الى هذه النتيجة، فإنه يلجأ الى مسار طويل، سنحاول اختصاره قدر الإمكان.
يقسم المؤلف الأنساق الاجتماعية الى أربعة أقسام (3)، هي:
1ـ النسق الاقتصادي ـ التقني ـ العلمي: وهو النسق الأول بالمعنى الباسكالي للعبارة (4)، أي مستوى أول ومضماراً واسعاً يتميز بتجانسه الخاص، واستقلاله النسبي عن المضامير الأخرى. هذا النسق الاقتصادي ـ التقني ـ العلمي مبني من الداخل على تعارض "الممكن" و "غير الممكن". تقنياً، هناك ما يمكن أن نفعله (الممكن) وما لا يمكن أن نفعله (غير الممكن). علمياً، هناك ما هو قابل للتفكير (ما هو صحيح احتمالاً)، وما هو غير قابل للتفكير (ما هو خطأ يقينياً) (5).
أي حدود للاقتصاد؟ أي حد للرأسمالية؟ أي حدود للسوق وقانون السوق؟ هل نسمح مثلاً لأسعار سلعة ما أن تخضع لقانون السوق بالهبوط، وتدمر اقتصاد بلد يعتمد أساسياً على هذه السلعة؟ هذا سؤال أساسي لا تستطيع قوانين الاقتصاد أن تحلها من دون تدخل سياق آخر، هو النسق القانوني ـ السياسي.
2ـ النسق القانوني ـ السياسي: وهو الذي يأتي من خارج النسق الاقتصادي ـ التقني ـ العلمي ليحدُه. عملياً، يتشكل هذا النسق من القانون والدولة بأشكالها المختلفة. هذا النسق مبني في داخله على التعارض بين ما هو "شرعي"، وما هو "غير شرعي". قانونياً، هناك ما يسمح به القانون (الشرعي)، وما يحظره القانون (غير الشرعي). سياسياً، هناك ممثلو الشعب (في الديموقراطيات) يسنون القوانين في البرلمانات، وهناك أغلبية تحكم وأقلية تعارض. هذا في الشكل الديموقراطي لهذا النسق. لكن، هذا النسق يحتاج الى نسق آخر من خارجه لكي يحده، لأنه قاصر داخلياً على حد نفسه بنفسه. إذا تركنا النسق السياسي من دون تحديد خارجي، قد تصبح الأغلبية إنقلاباً كاملاً على الشرعية والعدالة والمساواة.
إن سبونفيل يشكك في أن تكون "السيادة" مطلقة للشعب في الأنظمة الديموقراطية، ويعطي أمثلة كثيرة على إنحراف هذه السيادة الشعبية التي كرسها روسو في كتابه العقد الاجتماعي، وذلك باختيار الناخبين في ألمانيا عام 1933، الحزب الاشتراكي الوطني، وهو الحزب النازي، والكوارث التي تسبب فيها صعوده الى السلطة.
3ـ النسق الأخلاقي: وهو النسق الثالث، ويخضع لعدد من المقتضيات الأخلاقية البحتة. وإذا كانت الكفاءة هي محور النسق الأول، والقانون هو محور النسق الثاني، فإن الضمير هو محور النسق الثالث. إنه مبني من الداخل على التعارض بين الخير والشر، والواجب والضمير. قد يخيل لنا أن هذا النسق هو النسق الأكمل، وأنه لا يستطيع أن يحده شيئ من خارجه، إلا الدين بالنسبة للمؤمن، الذي يعتبر الأخلاق هي ما تسطره الكتب المقدسة. لكن، سبونفيل يفاجئنا بالقول، بأن هذا النسق يحتاج الى نسق رابع، لا لضبطه من خارجه، وإنما لكي يكمله، لأن الأخلاق في ذاتها غير كافية (6).
4ـ النسق الإيتيقي أو نسق الأخلاقيات
يقيم المؤلف هذا النسق على التفريق بين الأخلاق والإيتيقا (الأخلاقيات). الأخلاق هي كل ما نفعله بدافع الواجب كما يقول كانط، أما الإيتيقا فهي كل ما نفعله بدافع الحب (7).
عودة الخطاب الأخلاقي أو ما يسمى بدين حقوق الإنسان
يحلل كونت ـ سبونفيل في كتابه ظاهرة عودة الخطاب الأخلاقي في الغرب بصورة تنم عن شمولية فكر هذا الفيلسوف. هذه العودة تتسم باهتمام الشباب ـ خصوصاً ـ بالقضايا الإنسانية، وكذلك زيادة الشعور بالتضامن بين البشر، ويتجلى ذلك بانتشار جمعيات المجتمع المدني الغير الحكومية، والتي يطغى عليها الاهتمام بالقضايا الإنسانية. ويمكن أن نسمح لأنفسنا بأن نطلق على جيل الثمانينيات والتسعينيات بـ "الجيل الأخلاقي"، مقارنة مع جيل الثورة الثقافية (جيل أيار 1968) الذي اعتبر "كل شيئ سياسي" (8). يعطي كونت ـ سبونفيل لظاهرة عودة الأخلاق وخطاب حقوق الإنسان، ثلاثة تفسيرات هي:
أـ التفسير الأول: وهو التفسير على المدى القصير، وهو الانتقال من جيل الى آخر، والأزمة السياسية التي يعبر عنها هذا الانتقال، أي أفول الأيديولوجيات والنظريات الطوباوبة الكبرى، والتي عبر عنها الفيلسوف الفرنسي جان ـ فرانسوا ليوتارد صاحب البيان الأول لما بعد الحداثة الفلسفية بنهاية عصر السرديات الكبرى للحداثة، وعلى رأسها مفهوم التقدم والعقل؛ أما الفيلسوف الفرنسي ادغار موران فتحدث عن نهاية الميثولوجيات والحماسات الكبرى.
هذا الشعور باليأس من السياسة، دفع الشباب في الغرب الى تبني الخطاب الأخلاقي أو خطاب حقوق الإنسان. فقد انتقلنا من جيل يعتبر أن "السياسة كل شيئ" أو "كل شيئ سياسي"، أي جيل أيار 1968، الى جيل اعتبر الأخلاق كل شيئ، أو إذا أردنا أن نكون دقيقين، الأخلاقيات دون طوباويات.
ب ـ التفسير الثاني: وهو التفسير على المدى الطويل، ويتجلى بالعلمنة المطلقة للمجتمعات الغربية، والذي يلخص بواقعة "الموت الاجتماعي لله"، والذي يحيل كلّ واحد منا الى السؤال: ماذا ينبغي لي أن أفعل؟ بوصفه سؤاله الخاص. هذه السيرورة بدأت منذ عصر الأنوار، واستمرت في القرن التاسع عشر والعشرين، حيث أدت الى ظهور النزعة الفردية وظاهرة "التشرنق" أو الإنكماش على الذات. لقد مثّلّ الدين في العصور السابقة رابطاً اجتماعياً قوياً، لم تستطع المواطنة الحديثة والهوية القانونية الجديدة التي يتكلم عنها هابرماس ـ خصوصاً مع انهيار الشعور القومي والجماعة الوطنية والأمة ـ في تعويضه (9).
جـ ـ التفسير الثالث، وهو التفسير على المدى المتوسط، والذي يتجلى بسقوط الاشتراكية وانهيار دول المنظومة الشيوعية، وانتصار الرأسمالية كنظام اقتصادي وحيد يمتلك الأفق للمستقبل. لقد شكل سقوط الماركسية، انهيار أهم حكاية من الحكايات والسيّر الحديثة، والتي اكتسبت شعبية كبيرة لدى الشباب. ومن الطبيعي أن يتجه هؤلاء الى مجال آخر يشبعون غيه عطشهم للمثالية، ولكي يفرغوا فيه فائض الطاقة "اليوتوبي" لديهم في الأخلاق وخطاب حقوق الإنسان. إنّ نهاية الأديان العلمانية في الغرب (والمصطلح للسوسيولوجي ريمون آرون)، أي النزعة القومية والنزعة الماركسية فتحتا المجال لسيطرة خطاب حقوق الإنسان كدين بديل أحيانا.
إخفاق النظام الاشتراكي لا يعني انتصاراً للرأسمالية
يحاول كونت ـ سبونفيل التخفيف من هذا الشعور بالانتصار الذي عمّ الغرب، والتشكيك ـ على الأقل في جزء من شرعية هذ الانتصار ـ يقول:
((إنه، لا شيئ يؤكد في حالة وجود نظامين متنافسين، أن انهيار أحدهما يعني بالضرورة انتصار الآخر، قد يخفق الاثنان. إن إخفاق سبارتاكوس لم يكن كافياً لإنقاذ الإمبراطورية الرومانية)) (10).
ما هو واضح بالنسبة للمؤلف أن النظام السوفياتي قد انهار. هذه حقيقة أصبحت ثابتة، مع تفكك الاتحاد السوفياتي السبق الى العديد من الجمهوريات، ولكن هل الرأسمالي تبدو منتصرة؟ هل تخرج متعافية بعد سقوط المعسكر الشيوعي الذي شكل النموذج النقيض لنظام اقتصاد السوق؟ تبدو الأطروحة التي يقدمها كونت ـ سبونفيل في كتابه الذي ظهر عام 2004 راهنية في ضوء الازمة التي عصفت في النظام الرأسمالي العالمي، خاصة في طرفه المالي عام 2007 ـ 2008، والتي سوف يكون لها تأثيرات سلبية كبيرة على الجانب الإنتاجي من الاقتصاد الرأسمالي، أي الاقتصاد الحقيقي.
لكن ما صلة الرأسمالية بالأخلاق، والتي راجت في فترة ما؟
يبدو أن هذه الصلة كانت مرتبطة بالصراع بين الرأسمالية (ممثلة بالغرب الليبرالي أو العالم الحر)، والأنظمة الحديدية في الطرف المقابل الجدار الفاصل بين المعسكرين. لقد استمدت الأنظمة الرأسمالية، بما تتيحه من حريات عامة وأنظمة سياسية تداولية، بعض الشرعية الأخلاقية من خلال صراعها المستميت مع النظم الاشتراكية التي تغلبت على سلطاتها النزعة الشمولية. ومارست هذه الأنظمة سياسات تقويض الحريات المدنية والسياسية، وانتهاك حقوق الإنسان، وقمع المعارضين ونفيهم خارج البلاد وتصفيتهم، كما حدث للزعيم الشيوعي تروتسكي الذي تم اغتياله في المكسيك من قبل عملاء جهاز الاستخبارات السوفياتية الـ ك. ج. ب. إذن، العلاقة بين الرأسمالية والأخلاق ـ حسب كونت ـ سبونفيل ـ تبدو علاقة ملتبسة، بمعنى أن غيابها في الطرف المقابل للعالم الحر سوف يبدو على أنها حاضرة في النظم الرأسمالية، وملتصقة بالرأسمالية ذاتها. لكن، مع إختفاء الاتحاد السوفياتي ودول منظومة أوروبا الشرقية، الكل اليوم إنضوى تحت نموذج الاقتصاد الحر وحرية الأسواق. هل الأزمة التي تمر بها ناتجة عن غياب (الآخر) الذي تمت شيطنته غربياً، وبالخصوص أمريكياً؟ إن حضور (الآخر) الشيطاني هو الذي كان يعطي لـ (الأنا) الريغانية ـ التاتشرية بعض التميز والشرعية، وخاصة عندما يُنعت هذا الآخر في أدبيات هذا التيار بأنه جزء من (محور الشر).
لقد استمدت الرأسمالية شرعيتها الأخلاقية من خلال تصديها للأنظمة التوتاليتارية التي احتمت ضد رياح الحرية بالستار الحديدي الذي تمثّل أولاً بالأجهزة البوليسية الرهيبة، وكذلك تجسدّ من خلال جدار برلين المشؤوم الذي فصل برلين الى مدينتين وعالمين.
لكن، هل تحل الجماعات الإسلاموية مكان الأنظمة الشيوعية السابقة كبديل للآخر الذي كان يمثل نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مختلفاً؟
السؤال، لا يغيب عن تفكير المؤلف، لكن كونت ـ سبونفيل يرفض تسمية الخيار الإسلاموي "الشمولي" بـ (آخر) للرأسمالية "المنتصرة"! وتعليله بأن الإسلام السياسي والجماعات التي تمثله من كافة التيارات لا يشكل تحدياً للرأسمالية "المنتصرة"؛ فالأيديولوجية الإسلاموية قائمة على احترام الملكية الخاصة لأدوات ووسائل الإنتاج والسوق الحرة والعمل المأجور، ولا تأبه للإستغلال الذي تعانيه الطبقة الشغيلة ولا لفائض القيمة، وهي الركائز الأساسية للأنظمة الرأسمالية.
إذن، الإسلام السياسي لا يشكل بديلاً اجتماعياً واقتصادياً للرأسمالية، بل يرمز الى قيم ومُثُل ثقافية وحضارية أخرى، تأتي من قراء سياسية محضة لنصوص معينة للإسلام، دون الإكتراث بالنصوص الأخرى ذات المضامين الميتافيزيقية والروحانية والرحمانية.
ولكي نقيم التضاد المانوي بين الرأسمالية كنظام والإسلام السياسي، يجب أن ننتقل من المستوى الاجتماعي والاقتصادي ـ أن تكون مع اقتصاد السوق ومجتمع السوق أو ضدهما ـ، الى المستوى السياسي والأخلاقي والحضاري. وفي هذه المستويات الأخيرة، يجري التضاد بين قيم الغرب العلمانية والليبرالية والقيم المحافظة والمتشدّدة للأصولية الإسلاموية. وهذا يتماشى مع ما يقوله الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس من أن النزاع الثقافي الأساسي الراهن هو نزاع بين "غرب مُعلمن في أغلبه" و"عالم إسلامي أصولي أكثر بأكثر" (11).
إذن، يشخص المؤلف بأن الخصم موجود، لكن هذا الخصم هو خصم الغرب "الحضاري"، وليس خصماً للرأسمالية (12).
لم يبق للرأسمالية خصوم، سوى الخصوم من داخل النظام. ومن حضن الرأسمالية المالية خرج الخصم، وخرجت "الفقاعة" المالية، التي سوف تزلزل النظام الرأسمالي، ولمدة سنتين كاملتين ـ بحسب الخبراء الماليين ـ هذا في حال قامت الدول الرأسمالية في المركز، بالتعاون مع الدول الصاعدة، بعمل ما يلزم من تعديلات على أنظمتها المالية والبنكية، وذلك من أجل وقف النزيف في الاقتصاد المالي العالمي، والذي تمت عملية تحريره الفوضوي، منذ بداي الثمانينيات على يدي الثنائي "السينمائي" (الريغاني ـ التاتشري)، الى أن أصبح وحشاً ضارياً، أكل الأخضر واليابس من جيوب الطبقات المتوسطة الشعبية في الدول الرأسمالية.
وفي ضرب من السوداوية التحليلية، يجمل المؤلف انتصار الرأسمالية بالقول: ((في الوقت الذي تفقد الرأسمالية خصمها التاريخي (أي الشيوعية)، تفقد الرأسمالية أيضاً ذلك الضرب من التبرير السلبي الذي كان هذا الخصم يوفره لها على طبق من فذة. هكذا نرى أن "انتصار" الرأسمالية لا يعادله، سوى البلبلة التي نشهدها. فيتولد في روعها الشك في أنها انتصرت في أنها انتصرت من أجل لا شيئ. فما جدوى أن ننتصر إذا كنا لا ندري من أجل ماذا نحيا؟)) (13).
هل تحِّد الرأسمالية نفسها بنفسها
هكذا كان اعتقاد الليبراليين المؤسسين في القرن الثامن والتاسع عشر، أصحاب مقولة الاقتصاد الطبيعي التي فككها ماركس بامتياز، وكان على رأسهم ريكارد، وصاحب كتاب ((ثروة الأمم)) آدم سميث (1723 ـ 1796)، الذي ابتدع مقولة "اليد الخفية". إن الليبرالية الجديدة اليوم، تريد أن تطبق ما جاء به آباء الاقتصاد الطبيعي حرفياً، غير آبهة بكل التراكمات التاريخية والمعرفية خلال قرن ونصف من الزمن. يطيح كونت ـ سبونفيل في كتابه بنظريات النيوليبرالية، ويعيد للسياسة والأخلاق مكانهما الأساسي، من خارج النظام الاقتصادي الرأسمالي.
إن قانون الاقتصاد الحر، هو كل ممكن تقنياً سينجز على الدوام، إذا أتيحت له الأسواق. وعندما تنحو الرأسمالية في عصرها الإستهلاكي العولمي الى إيجاد الأسواق بشكل "قبلي" لتغذية الإنتاج، عندها يكون لكل شيئ ينتج سوق بوساطة الإعلام ـ الإعلان أو الماركيتينغ المعولم. إن منطق السوق الإستهلاكي "السوقي" الذي يكرس الإنتاج للإنتاج، مُدمر للثروات الطبيعية ومسبب للكوارث البيئية الخطيرة والتغيرات المناخية.
يشيد كونت ـ سبونفيل بالاقتصاد الحر، لكن ليس من دون قيود سياسية وقانونية وأخلاقية: ((إن الرأسمالية وجدت لتخلق الثروة، وهي تقوم بذلك على أكمل وجه، فلا حاجة الى الكذب بشأنها. هل نتقبلها؟ يبدو لي أن تقبلها هو عين العقل ما دمنا لا نملك ما من شأنه الحلول محلها. غير أن هذا لا يعني بحال من الأحوال، أن نسجد لها راكعين)) (14).
ويحذر كونت ـ سبونفيل من جعل الرأسمالية نسقاً اقتصادياً حراً، وأخلاقياً بذاته: ((إن السعي لجعل الرأسمالية أخلاقاً هو أشبه بالسعي لجعل السوق ديانة، والمنشأة وثناً. فلو غدت السوق ديناً لكانت أسوأ الديانات قاطبة، لكانت ديانة العجل المذهب. ولعل أتفه أشكال الطغيان لهو طغيان الثروة)) (15).
ولكن، أليس ما يحصل حالياً، من تحوّل المواطن الى "مستهلك محموم ـ وهو ما بدأنا نشهده في جميع البلدان النامية مع انتشار ظاهرة المولات والسوبرماركات الضخمة ـ يحول تلك الأسواق الكبيرة للتسوق الى أماكن يتعبد فيها المواطنون ـ المستهلكون في طقوس جماعية من الحمى الشرائية التي سوف تطيح بكل عومل الاستقرار الاجتماعي للفرد والعائلة.
إن وهم التحرر الكامل من قيود الدولة غير موجود إلا في الخطب الليبرالية "المحمومة" والمعبأة بقوة الأيديولوجية للمكرين الذين يتبعون آباء الاقتصاد السياسي الطبيعي في القرن الثامن والتاسع عشر (ريكاردو، آدم سميث، جيمس ـ ستيوارت ميل وجيريمي بنتام). وقد رأينا المآسي التي سببتها الحكومات الأكثر رأسمالية في العالم، أي الحكومتان الريغانية والتاتشرية؛ لقد أدت سياساتهما بعد ثلاثين عاماً، الى أكبر أزمة مالية واجهت العالم منذ الإنهيار المالي عام 1929، بالرغم من أن القيود والقوانين المراقبة للاقتصاد لم ترفع تماماً، وإنما كانت في حدودها الدنيا، الحدود التي سمحت لأساطين المال والأعمال لكي يعربدوا في الأسواق المالية دون حسيب ولا رقيب.
إذن، هل يستطيع النسق الاقتصادي أن يحد نفسه بنفسه، من دون أن يتسبب في كوارث اجتماعية؟ بمعنى أوضح، هل تستطيع الرأسمالية المنتصرة، أن تصنع قوانينها وحدودها، أي قوانين السوق وحدوده من داخل منظومتها ذاتها دون الرجوع للسياسي؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، عندها تكون الرأسمالية أخلاقية، وتكون "اليد الخفية" لآدم سميث يداً مباركة. أما إذا كان الجواب بالسلب كما بيّن المؤلف في كتابه، فإن على المجتمع أن يطوّر آليات سياسية واجتماعية في المستوى القانوني ـ السياسي، ويشرّع أخلاقيات عامة في المستوى الأخلاقي، وذلك لتحديد الاقتصاد الحر، وبالتالي الرأسمالية، من خارجها.
إذا أردنا أن نرمّم الآثار السلبية للرأسمالية والسوق الحرة، فإن الترميم سيأتي من أنساق أخرى غير النسق الاقتصادي ـ التقني. علينا أن نجعل المجتمعات التي تأخذ بالاقتصاد الحر فيها أخلاق، فالسوق هي السوق، ستبقى خاضعة لقوانين المنفعة، وهي قوانين ليست أخلاقية، وليست أيضاً لا أخلاقية، إنها محايدة أخلاقياً ـ حسب المؤلف.
لا يمكن إقامة اقتصاد يملك عناصر أخلاقية من ذاته، هذا شيئ مستحيل؛ ومن هنا خطأ ماركس والماركسيين الذين مشوا في خطاه. ليس هناك إمكانية إلا بالرجوع الى المقولة القديمة: ((لا عمل في الإنتاج))، العمل في التوزيع، أي التيار الديموقراطي الاجتماعي أو الاشتراكية الديموقراطية، وهذا يذكرنا بأحد زعماء ومفكري الماركسية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هو الألماني ادوارد برنشتاين (1850 ـ 1932)، والذي ظلمه الكثير من الماركسيين في عصره، فقد كانت نظرياته متقدمة على العصر الذي عاش فيه عصر الراديكالية السياسية الثورية.
أخلاقيات المنشأة
مع انتشار الخطاب الأخلاقي في الغرب، بدأنا نقرأ ونسمع عما يُسمى بـ ((أخلاقيات المنشأة))، وعن تأثيرها الإيجابي في تحسين الأجواء الداخلية للمنشأة، وزيادة الإنتاجية، وكذلك، في نهاية المطاف، عن تأثيرها في تحسين المبيعات. أي أن الأخلاقيات أصبحت تبيع، تعطي مردوداً، أي تصبح عامل ربح لأحد ما، أي تصبح نفعية، وهو أمر يتنافى مع الأخلاقيات الكانطية "المثالية" و "المتعالية"، التي ترفض أي توسل لمنفعة أو ((غنيمة)) من وراء العمل الأخلاقي. على عكس الأخلاق النفعية في القرن التاسع عشر مع جيريمي بنتام (1748 ـ 1832) وجيمس ستيوارت ميل (1803 ـ 1873)، والنظريات البراغماتية التي تتلاعب في الحقيقة لصالح المنفعة عند شارل ساندرز بيرس (1839 ـ 1914) ووليم جيمس (1842 ـ 1910). وقد ترافقت هذه الفلسفات مع صعود الرأسمالية في الغرب، وانتقالها الى مرحلة الإمبريالية، بمعنى فرض نموذجها كأفق تاريخي مستقبلي وحيد على العالم غير الغربي.
إذن أخلاقيات المنشأة، هذا الخطاب الرائج في زواريب الماركيتنغ (الإعلام ـ الإعلان)، والخبط الإعلامي المسيطر، يعني جني الأموال من الفضيلة، أو لنقها بصراحة من إدعاء الفضيلة، وتحويل هذه الأخيرة الى سلعة، الى تسليعها بحيث تباع وتشترى في أسواق النال والأعمال ويكون لها مروجيها والمستفيدين منها، أي الفلاسفة الامتثاليين الذين لا تسابقوا على إلقاء المحاضرات لرجال الأعمال والمتعهدين الكبار وجني الأموال الكثيرة. إن هؤلاء الفلاسفة لا يقبلون إلا أن يعيشوا في حالة من الرفاه والدعة بعيداً عن الطبقات الشعبية أو بعيداً عن أصحاب السترات الصفراء، الذين يمكن وصفهم بسهولة بالرعاع والعامة التي لا تعرف كيف تصوّت.
بالطبع، لو كان الفيلسوف كانط يعيش بين ظهرانينا لأدان هذا التصرف ووصفه باللاأخلاقي، لأنه جاء بمنفعة مادية للرأسمالي وصاحب المؤسسة والمنشأة، وكذلك للفيلسوف الذي يذهب ليلقي المحاضرات في تقريظ هذا الاتجاه الجديد.
لو كانت الأخلاق تتماشى دائماً مع القرارات الاقتصادية لهان الأمر، لكن في غالب الأحيان، لا تبدو الأمور كذلك، فما العمل؟ الأسباب الأخلاقية أم الضرورات الاقتصادية؟ الواجب أم المصلحة؟ هذه جزء من الأسئلة المثارة في إطار ما يسمى بأخلاقيات المنشأة، ويثيرها المؤلف في فصل مخصص في نهاية كتابه الشيق، ويحاول كونت ـ سبونفيل من خلال المناقشات التي يثيرها في الكتاب أن يدحض أي إمكانية للتلاقي بين الأخلاق والاقتصاد، لا لأن الاقتصاد (ويتجسد من قرنين وأكثر بالنسق الرأسمالي) ليس أخلاقي، بل لأنه يتبع النسق الاقتصادي التقني الذي هو يعمل خارج إطار الأخلاق، فهو ليس أخلاقي، وليس في نفس الوقت لا ـ أخلاقي.
إن ما يميز القيمة الأخلاقية لفعل ما، هو الترفع. هذه هي الأخلاق الكانطية. بالطبع، أصحاب الموقف الذي يريد التوفيق بين الاقتصاد والأخلاق يتبعون أخلاقيات المنفعة عند جيريمي بنتام، وليس أخلاقيات الواجب عند كانط. وحتى فلاسفة أخلاق المنفعة، اعتقدوا ـ ولو على خطأ في كثير من الأحيان ـ بتوافق المنفعة الفردية والمنفعة العامة. وهذا هو التفسير لمفهوم ((اليد الخفية)) عند آدم سميث (1723 ـ 1790). لكن، مديرو الشركات المالية الكبرى والحقائب التأمينية والبنوك التي تدير الأسهم المالية في البورصات وتتلاعب في السوق، لم يفهموا اليد الخفية لفلاسفة أخلاق المنفعة سوى أنها اليد التي تمتد الى جيوب الطبقات الوسطى والصغيرة لتثري بعض الأشخاص. لقد أعطى هؤلاء أنفسهم مميزات خيالية ومكافآت أسطورية، وتصرفوا بالقروض وصناديق التأمين بصورة كلبية، كانت أحد الأسباب في الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم عامي 2007 ـ 2008.
إن الاقتصاد ليس أخلاقياً، والأخلاق ليست للبيع والشراء. غير أن المجتمع لا يستطيع التخلي عن كليهما إلا بالمخاطرة بأمنه الاجتماعي. لكن، كيف يمكن للأخلاق أن تؤثر على الاقتصاد؟ هنا يأتي دور السياسة والقانون، وعن طريقهما يستطيع الأفراد في نظام ديموقراطي، أن يؤثروا في الواقع الاجتماعي.
يختم كونت ـ سبونفيل كلامه حول أخلاقيات المنشأة الرائجة اليوم في الغرب، متهكماً حول أخلاق السوق، بالقصة التي أوردها كانط في كتابه ((أسس ميتافيزيقا الأخلاق))، (حول التاجر الحذق)، وهو التاجر الذي لا يتصف بالإستقامة والأمانة إلا لأنه يريد الإحتفاظ بزبائنه.
خاتمة
يختم أندريه كونت ـ سبونفيل كتابه ((هل الرأسمالية أخلاقية؟)) بهذه العبارة الموجزة والمعبرة:
((لو كانت الأخلاقيات مصدراً لمنفعة، لكان العالم مصدراً لمتعة عظيمة؛ فلا حاجة الى العمل، ولا حاجة الى المنشآت، ولا حاجة الى الرأسمالية، وكانت المشاعر النبيلة تكفي. ولو كان الاقتصاد أخلاقياً لكانت الحياة مصدراً لمتعة مضاعفة، فلا تعود هناك حاجة الى دولة أو فضيلة ـ إذ يكون السوق وحده كافياً. غير أن الأمور ليست على هذا النحو الوردي. وعلينا أن نستخلص العبر. فلأن الاقتصاد (وخاصة الرأسمالية) ليس أخلاقياً، ولأن الأخلاق غير مربحة (لأنها ليست نفعية)، نحن نحتاج اليهما كليهما. ولأنهما، معاً، غير كافيين، نحتاج، جميعاً، الى السياسة!)).
هذه السياسة، التي يحاول هيستريو أيديولوجية العولمة، الإطاحة بها، وتحويل الدول الى نوع من الشركات الخاصة.
إن رسالة الكتاب الرئيسة هي، لا تفتشوا عن الأخلاق في الاقتصاد، بل في المجتمع. يجب أن نجعل الأفراد لا يقبلون بالآثار السلبية للرأسمالية، ويحاولون بأساليب غير اقتصادية التخفيف منها. إذا إنخفض سعر سلعة ما وأدى الى خطر انهيار أحد البلدان الذي يعتمد اقتصاده بشكل رئيسي على هذه السلعة، يجب السعي لمساعدة هذا البلد وبسرعة لمنعه من الانهيار. هذه هي الرسالة المستخلصة من الكتاب، إنها أيضاً، استحالة اشتراكية الإنتاج كما أثبتت التجارب الفاشلة لمدة سبعين عاماً في العديد من البلدان في العالم. نعم لاشتراكية التوزيع، والتي تعمل ضمن النظام الديموقراطي التي يحافظ على الحريات، ليس الأمر إرادوي ورغبوي ومن منطق فقه النكاية بالتيارات الماركسية والاشتراكية، بل لإن اشتراكية الإنتاج تُنتج الى جانبها أنظمة هي أسوأ بكثير من الأنظمة التي حكمت في الغرب واتبعت في أنساقها الاقتصادية الرأسمالية واقتصاد السوق الحرة.
إن الاقتصاد هو رجال ونساء يعملون لكي يعيلوا أنفسهم وأسرهم، فهو أمر يختلف عن باقي النسق التقني ـ العلمي، أي عن العلوم الدقيقة، إنه يتعامل مع كائنات إنسانية. كيف يكون الاقتصاد بلا أخلاق؟ تساؤل شرعي يُطرح من قبل العديد من الأفراد المثاليين! الاقتصاد، بالفعل، الرجال والنساء الذين يعملون يومياً في مجالات عديدة، لكن هذا الاقتصاد لا يخضع لأي منهم، فكيف يمكن أن يكون أخلاقياً.
إن الاقتصاد ليس له أخلاق، سواء أكان رأسمالياً أو اشتراكياً، أو حتى إقطاعياً في الزمن الغابر، وإسلامياً كما يشيع بعض المفكرين الإسلاميين عن وجود مثل هذا الاقتصاد. هذه هي الرسالة التي يمكن تلخيصها من قراءة هذا الكتاب الشيق والمثير. ولكن، نحن كأفراد، كذوات فاعلة، يجب أن نتميز بالأخلاقيات، وعلى النظام السياسي والاجتماعي أن يهيأنا ويسمح لنا أن نكون كذلك.
إذن، لسنا أمام فكر يريد قلب الطاولة على أصحابها، فكر يريد تخطي الرأسمالية بإيجاد بديل لها سواء بإتباع الطرق الديموقراطية كما بالنسبة لتيارات اليسار الراديكالي التي بدأت تقوى بعد الآثار المُدمرة للأزمة المالية الأخيرة، ولا بالخصوص باللجوء الى الطرق الثورية العنيفة التي يدينها بشدة المؤلف باعتباره من أنصار الديموقراطية الليبرالية. إن البديل ـ حسب المؤلف ـ ليس موجوداً بالأفق المنظور. نحن أمام فكر ومفكر مهموم بما تفرزه الرأسمالية من أمراض وآثار خطيرة، سواء في المستوى الاجتماعي بزيادة التفاوتات الاجتماعية وما ينتج عنها من عودة الصراعات الطبقية العنيفة الى عهدها السابق، أو في المستوى البيئوي. إنه فكر يريد أن يعالج الآثار السلبية للرأسمالية، عن طريق وضع حدود من خارج النسق الاقتصادي ـ التقني. هذا الأمر، يتطلب تعزيز الديموقراطية وتوسيع الحريات وطرق الوصول الى الإعلام الرسمي وشبه الرسمي المهيمن على المشهد الإعلامي في الغرب، وتعزيز الأدوار الاجتماعية المستقلة عن سلطة المال والسلطة السياسية، أي تنظيمات المجتمع المدني، لتأخذ فعلياً دورها في الحوار الاجتماعي، وفيي خلق عقلانية التواصل والتبادل.
لكن، المسكوت عنه في كتاب أندريه كونت ـ سبونفيل المهموم بوضع المصدّات الأخلاقية الفردية للنسق الرأسمالي التقني، ينسى بأن أهم السلطات التي توازن إنفلات هذا النسق وتحوله الى نسق مهيمن توتاليتاري هو الدولة ـ الأمة، والتي تؤمن دوام حياة الأمة، الأمة التي تشكل الإطار الأساسي الذي تعمل ضمنه الديموقراطية، والأمة كإطار ثقافي من القيم الجامعة تحمي الجماعة الوطنية من أن تتحول الى مجتمع جماعاتي، ومجتمع متعدّد الثقافات، حيث تصبح السوق هي الفضاء الوحيدة لجمع شتات الأفراد المتذررين في جماعات متحاربة، وهو ما لا يمكن أن تستمح به الفلسفة الليبرالية التي يعتنقها مؤلف الكتاب، لأن هذه الأخيرة لا تقوم إلا على الفرد، وخاصة في صيغها الما بعد الحداثية.
إذا تصرفت أخلاق السوق بحسب قصة ((التاجر الحاذق)) لكانط، كان لنا أن نأمل ونتفاءل ولو قليلاً بمستقبل مجتمعاتنا العربية في ظل الرأسمالية ((الهاجمة)) علينا بقوة في مرحلتها النهائية العولمية المعلوماتية. أما إذا كان تاجرنا حاذقاً ومستعجلاً جداً في إقتناص الأرباح، هنا تكون الرأسمالية ((لا أخلاقية)) بالمطلق، وبالخصوص، إذا أتتنا ((متعريّة)) من المفاهيم المحايثة كما تطورت في منشأها الأوروبي، أي الديموقراطية والعلمانية والمجتمعات المدنية....
الهوامش
(1) انظر مثالاً على هذه الأطروحة، ما يقوله المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز في كتابه ((في البدء ككانت الثقافة)) (دار إفريقيا، 1998).
يعتبر بلقزيز أن الذي انهزم ليس هو "النص الأصلي" للاشتراكية، وإنما هو أحد نصوصها المشوهة، إنه رأسمالية الدولة، أو (النص الاعتباطي).
(2) أندريه كونت ـ سبونفيل هل الرأسمالية أخلاقية؟ ، ترجمة بسام حجار (دار الساقي، بيروت 2005) ص: 47.
(3) إن المجتمع كلما تقدم في الإنتاج زاد تقسيم العمل وبناء المؤسسات السياسية، كلما بنن أنساقاً منفصلة، وهذه الأنساق لها تأثيرها على الأفراد. لكن تمييز هذه الأنساق لا يعني الفصل فيما بينها. كل نسق له منطقه الخاص، له أبجدياته الرمزية كما يقول بيير بورديو
(4) إن النسق لدى باسكال هو: كلٌ متناسق ومستقل، تحكمه قوانين، ومنحاز لنمط ما، ومن هنا ينشأ استقلاله عن نسق آخر أو عن عدد من الأنساق الأخرى.
(5) ((هل الرأسمالية أخلاقية؟))، ترجمة أ. بسام حجار، ص: 46 ـ 47.
(6) السؤال المهم: هل
(7) ينوّه المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1935 ـ 2010) في كتابه قضايا في الفكر المعاصر (مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 1997، ص: 35) الى أن هذه العودة الأخلاقية، ولكن الجابري يعطي لهذه العودة تفسيراً مختلفاً عن التفسير الذي يقدمه كونت ـ سبونفيل لهذه الظاهرة الجديدة التي عمت الغرب منذ بداية الثمانينيات. إن الجابري يشير الى أن هذه العودة الأخلاقية ناتجة عن اجتياح العلم وتطبيقاته التكنولوجية على جميع مظاهر الحياة في المجتمعات الصناعية المتقدمة. يقول الجابري: يعيش العالم اليوم، على مشارف القرن الواحد والعشرين، وضعية جديدة تماماً تتمثل في هذا الإحراج، بل التحدي المتزايد الذي يسببه العلم وتطبيقاته للأخلاق والضمير الأخلاقي، والذي أثار ويثير ردود فعل تسمح بالحديث عن عودة الأخلاق.
(8) أطلق بعض المعلقين على ثورة أيار 1968 الطلابية اسم الثورة الشبقية أو الإيروسية، على خلفية الاهتمامات والمطالب التي أبدتها والشعارات التي رفعتها.
(9) نبّه الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير، الى أن الجذر الاشتقاقي لكلمة الدين في اللغة الفرنسية (ريليجيون) يعود الى الجذر اللاتينيي (ريليجيو) ـ ومنه اشتقت كلمة الدين باللغة الفرنسية ـ يجد مصدره في الفعل (روليغير) الذي يعني بدوره (الربط)، بحيث أن الدين بحسب ميشيل سير، هو ما يربط أو ما يوجد الرابط، وهو المعنى التحديدي لدى المؤسس الفعلي للسوسيولوجيا إميل دوركهايم (1858 ـ 1917) في كتابه الشهير ((الأشكال البدائية للحياة الدينية))، والكتاب صدر حديثاً باللغة العربية، وهو من ترجمة رندة بعث (المركز العربي للدراسات وأبحاث الدراسات، 2019).
(10) ((هل الرأسمالية أخلاقية؟)) ترجمة أ. بسام حجار، ص: 31.
(11) فتحي المسكيني ((الفيلسوف والامبراطورية في تنوير الإنسان الأخير)) (المركز الثقافي العربي، بيروت 2005، ص: 31).
(12) يمكن التأكد من أن الخصومة بين الإسلام السياسي بالخصوص والعالم الإسلامي على العموم وبين الغرب، ليست خصومة اقتصادية متعلقة بالرأسمالية وإنما حضارية ـ قيمية من انتشار حُمى التسوق والاستهلاك في المجتمعات العربية والإسلامية، وكذلك انتشار منتجات (الآخر) في كل مكان. ويمكن أن نضيف بأن السوق أصبحت من العوامل التي يستعملها الإسلاميون والمسلمون الجُدّد في تسويق نوع من الإسلام الذي يتوافق تماماً من الرأسمالية. انظر في هذا الشأن كتاب السويسري باتريك هايني ((إسلام السوق)) ترجمة عومرية سلطاني (دار نماء للبحوث والدراسات، بيروت 2015).
أما انتشار الكتب والمقالات والبرامج عن الاقتصاد الإسلامي فهي ليست سوى فقاعات غير علمية، ويمكن التأكد منها في عمل المصارف الإسلامية في كل عواصم العالم الإسلامي. إذن، الإسلام السياسي لا يمكن أن يحمل نظرية اقتصادية بديلة، فهو ليس الخيار الثالث بين الاقتصاد الرأسمالي الاقتصاد الاشتراكي. إنه يطرح تحدياً وتساؤلات في وجه الحداثة في البلدان الإسلامية، وكل المحاولات الفكرية والعملية لتأصيل وأسلمة الحداثة لم تسفر سوى عن ثيوقراطيات كما في إيران (ثيوقراطية شيعية وعاصمتها قم) وأفغانستان (ثيوقراطية سنية وعاصمتها قندهار)، أو نظم اعتقلت الحريات السياسية والشخصية، وقمعت المعارضات باسم الأخلاق الإسلامية.
(13) هل الرأسمالية أخلاقية؟ ترجمة أ. سعيد حجار، ص: 33.
(14) المرجع السابق، ص. 79.
(15) المرجع السابق، ص. 79.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تأخذ استراحة بشكل صحيح؟ | صحتك بين يديك


.. صياد بيدين عاريتين يواجه تمساحا طليقا.. شاهد لمن كانت الغلبة




.. أمام منزلها وداخل سيارتها.. مسلح يقتل بلوغر عراقية ويسرق هات


.. وقفة أمام جامعة لويولا بمدينة شيكاغو الأمريكية دعما لغزة ورف




.. طلاب جامعة تافتس في ولاية ماساتشوستس الأمريكية ينظمون مسيرة