الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب (المعونة) في استحضار المؤونة

قيس كاظم الجنابي

2023 / 12 / 1
الادب والفن


-1-
يحيل محقق كتاب(المعونة على دفع الهم) الأستاذ محمد مصطفى الجاروش، الى (أمثال ومعانٍ لها صلة بلقمان الحكيم، ولكننا لم نجد لها صلة واضحة وعميقة بما جمعه شوقي عبد الأمير من مقتطفات نثرية من الادب الجاهلي وصدر الإسلام تحت عنوان(مجلة لقمان) وهو عنوان لم يبتكره وانما ورد في سيرة ابن هشام، كما جاء في مقدمة الباحث، كما وردت كلمة (مجلة) في قول النابغة الذبياني:
مجلتهم ذات الاله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقبِ
وكما يبدو من مدلولها في رواية سويد بن الصامت، وفي بيت النابغة الآنف الذكر، انها تعني(الكتاب)وبشكل أدق هو الكتاب المقدس(ذات الاله) حسب تعبير النابغة في كون سويد بن الصامد استخدمها للتعبير عن (لوائح) مكتوبة ذات طابع ديني وقدسي لأنه أوردها في المفارقة مع القرآن ، حسب رواية ابن هشام.[ص 5-6/ مجلة لقمان، منشورات الجمل، بغداد 2008م].
يشبه كتاب لطف التدبير : الخطيب الاسكافي، تح أحمد عبد الباقي، دار الجمل ( بغداد، 2013م)، كتابنا(المعونة على دفع الهم) والذي يتكون من مقدمة بدأها مؤلفه بقوله:" بسم الله الرؤوف الرحيم – وعلينا رحمته كتاب المعونة على دفع الهم تأليف الاب القديس مار إيليا مُطران نُصيبين نيّحَ الله نفسه وانار ضريحه"؛ ويتكون من (12) باباً كل منها يتكون من مجموعة حكايات ونصائح كمؤونة لليوم الآخر، وترويح الهموم والاحزان، ثم أرفق بنهايته (41) مثلاً على شكل حكايات ومواعظ دعاها بـ( كتاب حكايات لقمان)، ثم أردف لها عنواناً ثانوياً هو(الموسوم بأمثال ومعاني لقمان الحكيم)؛ كان هذا الكتاب عبارة عن مخطوط ، ثم حقق اكثر من مرة حسب مخطوطاته التي استقى منها ،وهذه نشرته الثالثة ، كما يشير المحقق، بعد ان نسبه الى مطران نصيبين (إيليا بارشينايا) ؛ ومن الجدير بالذكر ان الكتاب نشر سابقاً منسوباً الى ابن العبري ،ابن العبري: غريغوريوس بن أهرون( ت 685هـ/ 1286م)، مصنف كتاب (تاريخ مختصر الدول، تح انطوان صالحاني ، دار الرائد اللبناني ، بيروت، 1402هـ/ 1983م). ولكن اسم مصنفه في هذه النشرة (إيليا عيسى)، ثم عرف لاحقاً باسم(بارشينايا) نسبة الى (السن) مدينة بالسريانية، تقع على الضفة اليسرى من نهر دجلة عند مصب الزاب الصغير بقليل، و سميت أيضاً(قرديلابارد)، المولود سنة 364هـ/975م،واشتهر بالنصيبي ، والكتاب من كتب الحكايات والامثال والحكم والامثال ذات الطبيعة الأخلاقية، وفيه تبدو شخصية لقمان الحكيم ذات مواصفات اسطورية أو متعدة؛ ففي الذهن العربي تتعلق شخصية لقمان بصاحب النسور السبعة ذات الطبيعة الأسطورية التي كان آخرها نسره لُبد، ومن هنا يبدو ان إيليا جمع ما يمكن جمعه من حكايات وامثال وصنف منها هذا الكتاب بما يشبه حكايات (إيسوب) وما كان متداولاً، بحيث تبدو هوية الكتاب عربية وشرقية، وفيه لمسات مسيحية مشوقة وثرية.
التمهيد الذي كتبه المصنف للكتاب متصل، وعبارة عن هيكل واحد، لا يشبه كتابة النصوص الوعظية أو أدب الرسائل الذي برع فيه الجاحظ، لهذا بدأه بقوله:
" لما كانت الهموم بقدر الهمم، والفرحُ والسرور بقدر النعم، وكانت هممك - أدام الله توفيقك – ونعم الله تعالى عليك أوفر، وجب أن تكون هُمومك كثيرة وسرورك أكثر".[ص41]
وهنا يتركز التمهيد حول (الفرح والسرور) بوصفهما نعمة واجبة الشكر، قثم يسترسل بالتدريج، على وفق توجهات تؤكد لنا أن زيادة "الشكر على الذم لا تكون الّا من نفس خيرة قوية، تُرى مُواصلة الشكر على السلامة من الآفات فَرضاً، والشكوى كفراً محضاً".[ص41] مما يشير الى أن الهدف الأخلاقي وطلب الشكر ينطلق ليؤسس لـ(12) باباً أولها باب(فضيلة الديانة ومنقصة المعصية) وآخرها (في فائدة الحِلم وخسارة السفه)؛ متضمة (الشكر، العفة، التواضع، الرحمة، التوبة، العقل ،المشورة، الكرم، العدل)... وهكذا.
-2-
لقد جاء التمهيد مفتاحاً عاماً لأبواب الكتاب الوعظية، والقائم على توالي النصائح والحكايات ،وبالتأكيد كانت الفكرة في تصنيف هذا الكتاب تحوم حول ما أثارته حكايات (كليلة ودمنة) التي تتحدث على لسان الحيوانات وهي تخفي مظهراً من مظاهر صراع أشار اليه عبد الرحمن بدوي في كتابه (الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام) وهو صراع دار في غضون الدولة العباسيين، بين أنصار الثقافة الفارسية وأنصار الثقافة اليونانية، وكأنّ الأخيرين هم من قاموا بوضع "كتاب أمثال ومعاني لقمان"، ليناهض نجاح كليلة ودمنة، الذي اعتبر ،ومازال، من أبرز أمثال نفوذ الحضارة الفارسية "وان كان هندي النشأة على الثقافة العربية الإسلامية".[ص17]
يتمتع التمهيد بودة الموضوع ،وبقوة الفكرة، وبتسلسل منطقي يقوم على دفع الهم بالوعظ والحكاية، وهو يشبه ما قامت به حكايات (ألف ليلة وليلة) التي قامت على دفع الخيانة بالسرد/الحكي؛ وغالبه من بنات أفكار المصنف ، فهو لا يشير الى مقولة قائل أو حكمة حكيم، ولكنه من خلال الترابط بين الجمل السابقة مع الجمل اللاحقة، في أسلوب شبه تكميلي أحياناً، يميل الى تفسير ما سبقه وترسيخ ما يحيل اليه، كقوله عن الاستهلال الأول للتمهيد، حيث يقول:" واذا كان السرور أكثر من الهم ، فقد وجب أن يكون الشكر أكثر من الذم".[ص41] كما تخلل ذلك الكثير من عمليات التفصيل والتفسير بحيث يبدو التمهيد متصلاً من خلال اتصال البدايات بالنهايات ، من دون فصل بين فقرة وأخرى.
وهدفه في ذلك إشاعة الفضيلة في اخلاق الناس، لهذا قال عن الفضائل:" وأقوى الفضائل الدينية التي تدفع بها الآفات السماوية المحدثة للهموم ست فضائل. الأولى منها الديانة وضدها المعصية ،والثانية العفة وضدها الشره، والثالثة الشكر وضدّها القساوة، والرابعة التواضع وضدّها الكِبَر".[ص45] وهكذا حتى تكتمل ست فضائل، تبدا بالعقل وضدها الجهل ،وتنتهي بالحِلم وضدها السّفه، ثم يحاول ان يختتم هذا التمهيد قبل أن يفصل أبواب الكتاب ، فيقول :" وانا بمشيئة الله تعالى وحُسن توفيقه أفرد لكل خِلة من هذه الخلال المحمودة وضدها من الخلال المذمومة باباً أورد فيه من أقاويل القدماء وآداب الحكماء ومواعظ العلماء بما يبعث على اقتناء تلك الفضيلة وعلى اجتناب الرذيلة الضارة لها، واجعل الكتاب ثلاثة أجزاء".[ص45] ثم يفصّل أجزاء الكتاب الثلاثة:
الأول، وصف الفضائل المقدم ذكرها ، المعنية بدفع الهموم، ومن الثاني المواعظ والآداب والاقاويل المفيدة بما يُعين على اقتنائها.
الثاني، يتضمن الاخبار والقصص التي تعين المقتدي بها على اكتساب الفضائل المعينة على دفع الهم.
الثالث، حيل أهل الفضائل والعلم والذكاء التي تعين على دفع الهم.
ثم يشير الى الفصول المأخوذة من الكتب المصنفة في صرف الأحزان، بما "صنفه جالينوس الحكيم ويعقوب بن إسحاق الكندي وغيرهما من العلماء، بما أرجوه كافياً بمشيئة الله تعالى وعونه".[ص46] ثم ذكر أبواب الكتاب الاثني عشر على وفق تسلسلها.
ولأن المصنف لهذا الكتاب مسيحي ومطلع على الشريعة الخاصة بديانته، ومطلع على الثقافة اليونانية، فانه مزج ما تلقاه من الثقافة السريانية في بلاد الشام وتأثرها بالتراث اليوناني بحكم الاحتكاك والسفر والترجمة عن اللغة اليونانية، حيث كانت السريانية وسيطاً لنقل الحضارة اليونانية الى اللغة العربية منذ أواخر العصر الاموي، مما يعني ان هذا الكتاب الذي يحتوي على الحكايات/القصص والمواعظ يمثل مرحلة تالية لحركة القص بعد انتشار الليالي العربية وشيوع ما فيه من أحاديث النساء والجنس؛ فقد رأى رجال الدين من المسلمين والمسيحيين وجوب مواجهة أفكار التي عبرت عنها (ألف ليلة وليلة) بقصص أخلاقية ،ولعل إحالة هذه الحكايات/القصص الى لقمان الحكيم كان يهدف الى ترغيب المتلقي ومنحه مشروعية وقدسية أكثر توهجاً.
انهى المصنف كتابه بعد أن سرد(41) مثلاً بقوله:
"كمل نقل هذا الكتاب المثال ،وكان كماله أول ثوث يوم نيروز المبارك سنة ألف وستة عشر للشهداء الابرار، وذلك ممّا اهتمَّ به المولى المالك والأرخُن المسيحي الارثودوكسي الشيخ الرئيس الرشيد برصوما عضده الله بيمينه القوية وأعانه على إرث ملوكيته الأبدية، وناقله الحقير المسكين الغارق في بحر الخطايا والذنوب".[ص211]
-3-
النظام السردي لأبواب الكتاب لا تختلف عن بعضها البعض، منذ الباب الأول حتى الباب الأخير، ثم يفرد لبعض الامثال المنسوبة الى لقمان الحكيم، مجالاً خاصاً في نهاية الكتاب، وكانه يلخص او يعرّف المثل والأخلاق التي قام عليها كتاب(المعونة...). أما حكايات وامثال لقمان الموسومة بأمثال ومعاني لقمان الحكيم، فهي كتاب ألحقه المصنف لإتمام الفائدة واغراء المتلقي؛ وهو عبارة عن حكايات تراثية تحاكي حكايات (كليلة ودمنة) بطريقة غير مباشرة وسنتحدث عنها في حينها.
يبدأ الجيل الأول بـ(فضيلة الديانة ومنقصة المعصية) محاولاً تعريف الديانة ثم يتلوه بمحاولات لتدعيم ذلك، وهي نوع من السرد التفصيلي/التفسيري الذي يقترب من أسلوب الميتا سرد، والذي يسمح للمصنف بالاستشهاد وسرد الحكايات المضمنة أو المسرودة مباشرة، والتي تعبر عن الموقف الأخلاقي، بطريقة ذات طبيعة متسلسلة وغير مفككة، كقوله:" وكما ان الظل لا يُفارق الجسم ، كذلك التوفيق لا يفارق الدين".[ص47]
ثم يسوق الدعوة لاستمرار العمل بالديانة والاستشهاد بالتوراة والانجيل وأقوال الحكماء، ولم يستشهد بحديث نبوي وان استشهد بأقوال الخلفاء والامراء، مع انه كتبه لوزير مسلم هو أبو القاسم الحسين بن علي المغربي (ت 418هـ/1027م)،كما استشهد بحكايات وحكم العرب من الاعراب والفرس ، مثل سابور وأنوشروان وكسرى، ثم اختتم الباب بخاتمة فيها شيء من الحكمة.
لقد قادت المقدمات الى النتائج المطلوبة، فحسن الديانة تقود الى حسن التوفيق وزيادة الخير والسرور واستقامة الأمور؛ وهذا يكشف من هذه البداية عن كثرة الاستطراد من خلال الاستشهاد بالحكايات والاقاويل ،ولكن من غير الخروج عن الموضوع الرئيس، فلان صنف وضع منذ البدء، خطة لنفسه تجعل التمهيد استهلالاً ناجحاً لموضوعه المتعدد الأبواب، ولكنه يدور حول بؤرة مركزية واحة كالعادة يكون السرد عبر الحكاية ذات الموعظة، او الحكمة ذات الهدف الواضح ، وهذا السرد يحمل مواصفات متشابهة في معظم الأبواب من حيث بناء الباب وطبيعة الجمل والآلية التي تتحرك فيها والفضاء الذي تدور فيه.
أما الباب الأخير(الباب الثاني عشر) فعنوانه( في فائدة الحِلم وخسارة السفه)، فيبدأه بقوله:" الخلة الثانية عشر كم الخلال المُعينة على دفع الهم والحلم، والحلم هو ترك الانتقام عند شدة الغضب مع القدرة على ذلك".[ص179] وهذه المقدمة هي تعريف معجمي لمعنى الحلم، ثم يبدأ بشرحها وبيان المقصود بما هو ضد الحلم، ثم يستشهد بأقوال بعض الحكماء. مثل قول أحدهم " متى أردت ان يزيدك الله سبحانه وتعالى عزاً، فاحلم عن عباده، ومتى أردت ان يرفعك الله فتواضع لهم"[ص180]، ثم يردف ذلك بأقوال أخرى مسبوقة بكلمة (وقيل)،أو(قال بعض العلماء) حتى نهاية الباب حين قال:" وشتم رجل رجلاً فقال له آخر: أتحلم عنه وقد جهل عليك؟ فقال له : انّي لا أكافئ من عصى فيَ بأكثر من أن أطيع الله فيه".[ص187]
وقد قام هذا الكتاب على وفق هذا السياق في سوق الحكم والمواعظ؛ مما يشير الى ان المصنف حاول التعبير عن الفكرة الأساسية للكتاب، وهي (دفع الهم)؛ والتفاؤل بالمستقبل مع طاعة الله وحسن التدبير ، وقد جاء تبويب الكتاب بهذا الشكل بمثابة إحالة ضمنية الى تراتب وتوالي أهمية الموضوعات التي خصص لها الأبواب الـ(12)؛ لهذا كان الباب الثاني (الشكر) من أجل إتمام ما عرضه في التمهيد، ثم الديانة وكأني به أفاد بطريقة ما من بناء المقامات العربية على وفق نظام المسبحة ،وهو ما قامت عليه فكرة بناء الليالي العربية، في وجود حكاية اطارية تجري العودة اليها في نهاية الكتاب، فكان ذلك عبر حكايات لقمان.
-4-
أما الأبواب الأخرى التي سبق ذكرها من الثاني الى الحادي عشر، فان هذا النظام الذي قام عليه الكتاب في الأبواب من(1-12)؛ يشير ضمناً الى النظام السداسي السرياني ومضاعفاته، وهو ما قام عليه حساب ساعات الليل والنهار، فكان هذا الاسترسال يخفي حكمة واضحة في البحث عن مقدمات استثنائية وخواتيم استثنائية خارجة عن تسلسل الاعداد. فالمنهجية لكتاب(المعونة...) هي منهجية متشابهة في معظم الأبواب من دون استثناء، فهي تمزج حكمة الشرق بحكمة الغرب ،وحكمة الإسلام بحكمة المسيحية؛ ففي الباب الثاني نقل نصاً جاء فيه:" وقيل: الدين انارة والعدل عمارة والعلم وزارة والصبر ظفر والجود ثقة والعفاف تقوى والشكر جمال".[ص71] ما يلاحظ على هذا القول السابق انه عبارة عن جُمل اسمية متتالية من مبتدأ وخبر، وكل جملة هي عبارة عن حكمة قائمة بحد ذاتها ، ثم صار يعطف الحكمة على الحكمة الأخرى.
ومن ذلك الجمع بين الإسلام والمسيحية في الموارد كقوله:" قيل لأعرابي كان يرعى إبلاً له: لمن هذا الابل؟ فقال: هي لله عز وجل عندي".[ص73] وقوله:" قال بعض الرهبان لتلاميذه: أنتم أغنى من الملوك. قالوا: كيف ذلك؟ وعند الملوك الأموال ونحن فليس عندنا شيء. قال: أنتم ليس عندكم شيء وتشكرون ولا تدرون ،والملوك عندهم أموال ولا يكفيهم ولا يشكرون".[ص75]
وعن الجمع بين الشرق والغرب روايته الحكم عن افلاطون بجانب روايته عن الاحنف، ثم انهى الباب الثاني بحكاية الاحنف بن قيس ، فكأن الحكمة تبدأ بالجحود وتنتهي بالثناء والشكر.
ونظام الكتاب في جلّ هذه الأبواب يبدأ بالتعريف/التوطئة للباب وموضوعه، ثم يجري سرد الحكم والحكايات حتى النهاية، من دون خاتمة الا في نوع من الحكايات ذات الثراء السردي ،كما جاء في استهلاله للباب الثالث ،حيث يشير الى قيام بعض الملوك بمحاصرة الحصون ومنع المؤونة عنها حتى يضعف أهلها، وختامه لهذا الباب، في توكيد منع ذلك عن النفس المتحصنة "أن يمنع أن يدخل الى حصنها ،أعني الجسد، القوت والماء، لتَضعف تحت حكمه".[ص86]
ولا يفوته ان يستشهد بأقوال الحكماء والملوك والفلاسفة والاباطرة والحكماء والانبياء كما استشهد بمقولات للسيد المسيح عيسى، عن طريق تلاميذه ،كقوله:" ان الزناة وسفاكي الدماء ومُداومي السكر لا يصلون الى نعيم الآخرة".[ص82ي
فلا علاقة بالشخصية في أهمية القائل، ولكن ما يقوله الحكيم أو الناسك أو رجل الدين يأتي مناسباً ومتماشياً مع سياق الكلام في الأبواب كل باب حسب مضمونه وتوجهه، وهو يستخدم الفعل المبني للمجهول(قِيل) تلافياً لذكر الراوي للحكاية ،او قال بعض الحكماء او بعض النساك ،أو " وقيل للإسكندر: لم لا تزوجت إمرأة دارا؟ فقال :قبيح بنا أن نغلب الرجال وتغلبنا النساء".[ص86] واحياناً يذكر أقوال الأنبياء ويتحاشى ذكر النبي محمد نبي المسلمين ؛ لهذا حظي النبي عيسى وأتباعه باهتمام واضح، فكان يقول:" قال سيدنا المسيح لتلاميذه: من آثر منكم أن يكون بينكم عظيماً فليكن خادماً".[ص87] وغيرها من النصوص المعزوة للإنجيل والرهبان والاسكندر واغير ذلك.
ومما يلفت النظر هو قلة المادة المذكورة في الباب السادس المعنون(في فائدة التوبة وخسارة الإصرار) حيث عاد نحو التوبة الى النبي سليمان بن داود في حكمه المعروفة والة يوحنا الإنجيلي ،وبعض العلماء؛ فهو يشير الى ان الخطيئة محنة والتوبة نعمة، والإصرار معصية ،والتوبة موهبة ، والخطيئة مرض، والتوبة دواء؛ ثم يستمر في تفسير ذلك بحيث يضم الباب السرد وما وراء السرد حتى ينتهي الباب.
وفي الباب السابع (في فضيلة متابعة العقل ومنقصة متابعة الهوى) عرّف أولاً خلة (العقل) ومتابعته، ثم ذكر أقوال بعض العلماء ،وبعض الحكماء والحكام، ومن هؤلاء (جالينوس) ولكنه ختم هذه الحكاية بحكاية عربية تراثية عن عبيد الله بن ظبيان حين دخل على أبيه وهو يجود بنفسه فقال الابن عبيد الله أبلغ من أبيه حين قال له:" اذا لم يكن للحي غير وصية واحدة فالميت هو الحي والحي هو الميت".[ص129]
وهكذا كانت طبيعة الأبواب وما توفر فيها من الحكم والحكايات؛ فكان المصنف دليلا الى قارئه لمعرفة الأبواب الأخرى وما ترميه وتبثه من معانٍ وحكم وما تختزنه من رؤية وما قامت عليه من بناء، وهو بناء يقوم بعد التوطئة على توالي الاخبار والحكايات ،ومن حيث البناء السردي وما يحتويه من حوارات تتخلل السرد وتكشف عنه.
-5-
أما (كتاب حكايات لقمان) الموسوم(بأمثال ومعاني لقمان الحكيم) فقد تضمن(41)مثلاً ،وهو عبارة عن حكايات مكتنزة تُسرد على لسان الحيوان والانسان ، بدأ هذا القسم من الكتاب بقوله:" الحمد لله حمد الشاكرين نبتدئ بعون الله حسن توفيقه بنقل أمثال ومعاني(!) للقمان الحكيم".[ص193] ثم يسرد كل مثل/ حكاية مستهلاً ذلك بفعل القول ، ثم يسرد حكاية المثل ،والتي تتضمن معنى المثل والحكمة الموغلة فيه ،وقد قام المحقق بترتيب الامثال وترقيمها مع ذكر عنواناتها على وفق موضوعاتها ، فكان عنوان المثل الأول(أسدٌ وثوران)،ويتكون من خمسة أسطر، وعلى فقرتين :الأولى نص الحكاية، والثانية ملخص للحكاية. ويبدأ الحكاية بقوله:
" أسدٌ مرةً خرج على ثورين فاجتمعا جميعاً، وكانا ينطحانه بقرونهما ولا يُمكنّاهُ من الدخول بينهما. فانفرد بأحدهما ووعده بألّا يعارضه إن تخلى عن صاحبه. فلما افترقا افترسهما جميعاً".[ص194]
ويبدو ان تفسير وبيان الحكمة من كل مثل كانت من حصة المصنف وليس نقلاً عن غيره، لهذا يبدو تركيزه على الفكرة مشتتاً، يحيل فيه الى أن معنى المثل الذي يشير الى وحدة الصف والتعرض للخطر في حالة الفرقة، والغالب لدى المصنف ذكر اسم الحيوان او الانسان او الموضوع قيد الحكاية والمثل في بداية الحكاية، ثم اكمال تلك الحكاية ؛ مما يشير الى ان المصنف اختار عدداً من الحكايات ذات الأفكار الحكمية لكي يؤرخ لمضامين الامثال ويسرد موضوعاتها على وفق ما يراه مناسباً، ثم يستمر في سرد مثل آخر، لهذا اختار (الأسد) رمزاً للسلطان والقوة وهو رمز واضح وجلي ورد ذكره في الامثال(1،4، 5، 6، 7)، واستخدم معه الايل في الامثال (2، 3، 8،9)واستخدم الارنب والثعلب والنسر في الامثال(10،11، 33، 37) وكذلك استخدم رمز البعوضة ورمز الكلب والذئب والخنوص والوز والعوسج والخنفساء والحمامة والقط والسلحفاة والخطاف والعقرب والنمس والدجاج والديك والخنزير والكبش والفرس والثور والحية والجرذ؛ مما يعني حضور صفة الحيوان ورموزه في هذ الامثال. وقد استحوذ الكلب على الامثال(32 – 37)، أما الانسان فله حضور يشارك فيه الحيوانات ، من المرأة والانسان بشكل عام والبستاني ؛وقد ورد رمز الانسان في الامثال( 2، 14-20، 27-29، 40،38)؛فقد كان المثل (3) حول الايل وهو حيوان معروف، قال عنه:" أيل مرةً مرض فكان أصحابه من الوحوش يأتون اليه ويعودونه ويرعون ما حوله من العشب. فلما أفاق من مرضه التمس شيئاً يأكله فلم يجد، فهلك جوعاً".[ص194]
يستشف المصنف من هذه الحكاية المعنى الذي يعبر عنه وهو كثر أهله وإخوانه كثرت أحزانه؛ فالحكاية على قصرها قيلت على لسان الايل الذي يعيش في الصحراء والوديان والغابات، وهو حيوان غير أليف ولعل مغزى الحكاية هو ان كثرة الأصدقاء لا تعني الاكتفاء، بقدر ما تعني الخسارة. وللمصنف حكاية أخرى عن(الايل والأسد)،وكذلك حال الامثال الأخرى حول الارنب والمرأة والدجاجة والبعوضة ،وفي المثل(15) يقول:
" إنسان مرةً نظر حيتيّن تقتلان وتتناهشان، وإذا بحيّة أُخرى قد أتت ، فأصلحت بينهما. فقال لها الانسان: لولا أنّك شرّ منهما لم تدخلي بينهما".[ص199] وقد سبط المصنف معنى الحكاية بأن الانسان السيئ يصير الى أبناء جنسه، كما لا تخلو هذه الامثال من التواشج والتوافق مع الأبواب الـ(12) التي سطّرها في هذا الكتاب ، كما في المثل (17) الذي سبك المصنف فكرته الرئيسة ان من ينفق ماله في الخطيئة ثم يحتج بان الله أفقره؛ في إشارة صحة الدين ولو تتبعنا هذه الامثال لوجدنا مضامينها وحكمها التي جاهد المصنف في سبكها تتمحور حول وحدة الصف والهوان على العاقل أشد من الموت، ومن فرّ من خوف يسير وقع في بلاء عظيم، وعدم التفرد بالرأي واستحسان المشورة وعدم المغامرة والولد الواحد الباذل خير من الأولاد الكثيرين العاجزين، وان المطبوع ما يتغيّر طبعه وان يُسدى المعروف الى أهله ومستحقيه ،ولا يجوز للإنسان أن يفتخر بقوته وشدة بأسه، وكأنّي بالمصنف أحكم سيطرته على كتاب الامثال ليكون دليلاً نافعاً لكتاب (المعونة على دفع الهم)؛وهكذا كان هذا الكتاب بمجمله في كل أبوابه وحكاياته محاولة لرفد الحكايات الموازية لكليلة ودمنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقطات من عرض أزياء ديور الرجالي.. ولقاء خاص مع جميلة جميلات


.. أقوى المراجعات النهائية لمادة اللغة الفرنسية لطلاب الثانوية




.. أخبار الصباح | بالموسيقى.. المطرب والملحن أحمد أبو عمشة يحاو


.. في اليوم الأولمبي بباريس.. تمثال جديد صنعته فنانة أميركية




.. زوجة إمام عاشور للنيابة: تعرضت لمعاكسة داخل السينما وأمن الم