الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نوستالجيا: بين تاغنجا وصلاة الاستسقاء

ادريس الواغيش

2023 / 12 / 2
الادب والفن


نوستالجيا: بين تاغنجا وصلاة الاستسقاء
بقلم: ادريس الواغيش
......
في عام من الأعوام، لا أتذكره بالتحديد، انحبس المطر وجفت الأرض، وضرب الجفاف ربوع المغرب، ومن بينها حقول قريتنا "أيلة"، فهلك الحرث والنسل. لم نكن نملك يومها مذياعا ولا تلفزة في القرية، ولا كنا نعرف شيئا اسمه الأرصاد الجوية. كل ما فعلناه، وبشكل عفوي، كان بسيطا، توسلنا إلى الله رب العالمين، "عملنا النية" ودعوناه رافعين أكفنا للسماء أن يسقينا، فاستجاب مجيب الدعوات، سقانا غيثا نافعا وتغيرت أحوال العباد.
اجتمعنا كأطفال وبنات يدرسون في الكتاتيب القرآنية أمام مسجد القرية في الصباح، وانطلقنا في حشد كبير نردد ما يشبه أناشيد دينية وابتهالات لله عز وجل، بعضها كنا نحفظه، والآخر منها حفظه لنا فقيه المسجد والشيوخ، وأهالينا في البيوت. كان الأمر في تاغنجا يقتصر على الأطفال والبنات الصغار، لم يشركنا في المسيرة الاستسقائية شباب أو كهول، ولا نساء أو عازبات، كنا مجرد أطفال صغار يحفظون القرآن في الجامع، ولم تطأ بعد أقدامنا المدرسة.
لم يكن المسار سهلا علينا، كان طويلا وشاقا على أقدامنا الحافيات، عبرنا فيه دواوير ومداشر كنا نعرفها لأول مرة. كانت السماء في بداية المسير زرقاء صافية، لا أثر لبياض سحاب فيها أو غيمة عابرة، ولم تكن نسمة ريح فيها رائحة المطر تهب علينا في المسيرة. كان عتادنا يقتصر على ألواح خشبية، كتبت عليها خربشات ورسومات غير مفهومات وبعض الآيات القرآنية، وبين أيادينا قطع من قصب وأعواد طويلة تستعمل في جني الزيتون أو ما يعرف محليا ب"المسقاط"، تنتهي بعقد فيها"درة" أو ما كان يعرف قديما ب"السبنية" كغطاء لرأس المرأة، ولما يكن الحجاب قد ظهر في عاداتنا ولا تقاليد لباس نسائنا.
كان المنظر يوحي بمشهد جيش ذاهب لحرب أيام الجاهلية أو العصر الوسيط براياته المزركشة وفيالقه الراجلة، لم يكن ينقصنا غير خيول ليكتمل مشهد رحلة الزير سالم. حشد الأطفال، وهم يرددون بصدق ما حفظوه من ابتهالات طلبا في الشتاء، شكل منظرا مهيبا للناظرين، وألوان "درات" و"سبنيات" نساء القرية التي نزعنها من فوق رؤوسهن زادت المشهد هبة وخشوعا.
أثناء تلك الرحلة التي لم تكن قصيرة، تعبت أقدامنا من المشي، كنا حفاة، وكان من شروط "تاغنجا" أو طلب المطر أن نتحفى، وأن يقتصر الأمر على الأطفال من الإناث والذكور، كما تقتضيه طبيعة الاستسلام في حالة ضعف لرب العباد ومسقط الغيث من السماء، بدعوى أن الأطفال أبرياء، وأن طلباتهم مقبولة عند رب السماء، وإن كنا في حقيقة الأمر غير ذلك. كانت أفعال وسلوكيات بعض الأطفال منا لا يقدر عليها حتى الشياطين أنفسهم، ولكن الأعمال في الأخير تبقى بالنيات، ونياتنا كانت حسنة وأفضل من العمل.
ومن حسن حظنا، أن كان أغلبنا متعودا على المشي حافي القدمين، وبالتالي لم يكن شيئا جديدا علينا ولا على أقدامنا، لأن شراء الأحذية في زمن طفولتنا، لم يكن في متناول الجميع، ولم نكن نقتني الأحذية إلا للضرورة، وفي مناسبات معينة مثل مواسم الدخول المدرسي، وحتى في المدسة كان أغلبنا حفاة، كثيرا ما تحضرني إلى اليوم صور تلك الأرجل الحافية، وهي معلقة تحت الطاولات الخشبية ترتعش من قسوة البرد، لكي تتفادى رطوبة الزليج أو بياض الإسمنت وبرودته.
ولكن، والله ما اقتربنا من إكمال مشوار مسيرتنا، ونحن على مشارف الدوار قبل أذان العصر بقليل، إلا والمطر يعصف بالأرض عصفا، يسقط مدرارا من كل الجهات، ومن حيث لا نحتسب ولا نراه. غشينا الرعد والبرق يزمجران بين الوهاد والوديان والجبال والكديات، ولم تستقم نفسياتنا إلا بعد أن استقبلتنا بشائر الأهل فرحين بسقوط المطر، ومحتضنين لنا من شدة الخوف، وحرصهم علينا من أن تجرفنا كثرة السيول. شتان بين نية تاغنجا زمان، وصلاة استسقاء اليوم..!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال