الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاسوع الحمقى

محمد علي الطوزي
مترجم وقاص وروائي

2023 / 12 / 3
الادب والفن


كان صوت الجرس مختلفا، أشدّ حدّة وأطول زمنا. لم أكن مهتمّا بما حولي، لم يكن مظهر الطّلبة يتميّز بشيء يُذكر، أو حتّى تصرّفاتهم تختلف عمَّا شهدتُه سلفا. نفس الشّخصيّات، لكن بوجوه مختلفة. الأستاذة، على الأقلّ، كانت أقلّ إزعاجا، لقد كانت شابّة في مقتبل العمر، عريضة الكتفين وذات نظرة حازمة. صوتها كان يميل إلى العمق، ذات نبرة سلطويّة، ممّا روّض الطّلاّب على احترامها. لم أكن محبّا للدّراسة، كوني أميل إلى التّشكيك دوما في المعطيات الّتي تُقدَّم لي، لكنّي، رغم هذا، شعرت براحة داخل القسم. الأستاذة تدرّس بكفاءة واقتدار على ما أعتقد، والطّلاّب صامتون مثل صخور طينيّة. لقد كان مقعدي بمنتصف القسم، أمامي طالبتان، كنت أشعر بتوتّر ثقيل. "هل أحدثهنّ لاحقا؟" سألت نفسي، لكن وعيي المسكون بالرّهاب رفض. لقد كنت أدرك أنّ محادثتهنّ لن تؤدّي إلاّ إلى ضياع الوقت أو الوقوع في المتاعب. إنّه من الصّعب قراءة أفكار الآخرين، خصوصا الفتيات، ولا أشعر بالحاجة إلى التّواصل.
إمّا أن يكون الطّلبة جهلة بعقل بليد أو مثقّفين بشخصيّة خشبيّة قاسية، ربّما هناك استثناء، إلاّ أنّي أشعر أنّني لن أقابل هذا الاستثناء عمّا قريب. الطالبتان تتهامسان فيما بينهما، دائما ما تجلسان بجانب بعضيهما، حلقة لعينة معزولة. خلفي كان تلميذ أخرق، بيني وبينه أربع مقاعد، دائما ما يجلس في آخر الفصل ملامسا الجدار بظهره. إلى حدّ الآن لا أعرف لماذا يستمرّ في الدّراسة، إنّه دائم الغياب، وإن حضر فغالبا ما يُستدعى إلى مكتب المدير، ليس لديه حافز، دائما ما يلوم من حوله دون أن يبذل أيّ مجهود، فقط يتشدّق مرارا بفكرة الهجرة غير الشّرعيّة. فتاة تتذمّر وتجادل الأستاذة، تتصرّف كامرأة قويّة بمواصلة الجدل. أحيانا أتساءل، هل هذا البؤس من حولي طبيعيّا؟
طبعا، تحاول الأستاذة أن تتواصل مع الطّلبة كبالغين، إلاّ أنّهم، مجدّدا، يخيّبون ظنّها بأن يتصرّفوا كحثالة سافلة، متحدّثين عن أحيائهم كأنّها ممالك. ما يزعجني دائما هي نبرة الاستحقاق من قبل الطّلاّب، الّتي تظهر عند تذمّرهم من حال البلاد. ما يحوم في عقلي في هذه النّقاشات هو سؤال واحد: لماذا عليَّ أن أكترث إلى حمقى لا يريدون تحسين أنفسهم؟ لا تنخدع بفتواهم الزّائفة، هم يرغبون في العيش كطفيليّات في نظام آخر أجنبي. سيكون لهم كلّ القوّة والاجتهاد في ركوب زورق متّجه إلى الضّفّة المقابلة من المتوسّط، إلاّ أنّهم لن يقوموا بخلق بديل محلي للخلاص.
أنظر إلى السّقف، بينما الدّقائق تمرّ، متنهدا. إنّه من المثير للسّخرية كيف ترى متبلّدين من الجنسين يحاولون الهرب بشتّى الطّرق. يثرثرون حول خططهم وأمنياتهم للمستقبل. رغم "حاجتهم الماسة" للهروب من تراب الوطن، إلاّ أنّهم لا يتقبّلون التّغيّر.
رفعت يدي للأستاذة، طالبا الإذن كي أخرج للحمّام، بعد برهة من الإلحاح، قبلت. قمت من مقعدي وتوجّهت مسرعا نحو الرّواق. ثلاثة عشر قسما في كلا الجانبين، نفس التّرتيب، نفس التّلاميذ، نفس الحماقات. لقد كان ممرّا طويلا، ينتهي عند الدّرج الّذي يؤدّي إلى الطّابق السّفلي. أخيرا، الملل اللّعين!
لقد تجاوزت الحمّام، وبدأت أتمشّى في ممرّات المعهد، جدران على يميني، أعمدة متفرّقة عن يساري. أبواب ونوافذ قديمة، تعود بالعهد إلى بداية القرن الماضي، يمكنك رؤية الطّلاء القديم من خلال شقوق الأبواب المتهالكة. ممرّ طويل ذو ألوان زرقاء سماويّة. نور الشّمس يلامس في خجل لئيم الأرضيّة. الآجر الأحمر الكئيب يتبدّى للعين المجرّدة في قبح. يمكنك سماع الأصوات الهمجيّة من وراء الأبواب المتآكلة، شتائم، صراخ، سفالات صاخبة. تتناهى كلّها إلى مسامعي مثل مزامير أسباط الوثنيّة. رائحة الرّطوبة ودخان السّجائر الرخيصة تملأ الممرّ، كأنّني في رواق بيت دعارة.
كانت الجدران مغطّاة بكتابات ورسومات بسيطة، تتزايد كلّما خطوت تجاه الحمّام، وكذلك تفقد معانيها تدريجيّا، أكانت شعار مجموعات شغب معيّنة، جمل مبتذلة، أو حتّى مجرّد خطوط سوداء، تشكّل كلمات مبهمة. رموز مثيرة للاهتمام، كلمات جنونيّة مليئة بالهرطقات السّاخرة.
وقفتُ أمام جزء معيّن من الجدار بالحمّام، رائحة البول والبراز تصعق أنفي، لكن اهتمامي كان للوثن المرسوم. صورة رجل برأس على هيئة رأس ثور، لم تكن الرّسمة متقنة، بل ربّما مجرّد خربشة، تشكّلت على نحو مصادف. قد تكون تعبيرا باطنيّا، وهما عرضيّا، وثنا مطبوعا في عمق الوعي. يجتمع الرّأس والجسد ليشكّل ربّا ما. كأنّما كنت أتأمّل سماء عالم آخر. كلمة: "خلق" تحت الرّسمة، بالكاد تبرز، تقف كنجم في تلك السّماء. رفعت يدي، وقد تلمّست تلك الرّسمة. أحسست بدفء غريب تحت راحة يدي، بينما رائحة الطّبشور هيمنت على أنفي، تنهّدت قليلا بعدما سحبت يدي، وقد رأيت أنّ الرّسمة، والكلمة قد تشوّهت وأصبحت مشوّشة. بعد أن غسلت يدي، كان لا يزال ذلك الوثن عالقا في ذهني، لسبب ما، خصوصا رأسه الحيواني، ذا العينين الجاحظتين، تنظران إليّ بشكل حادّ، لكن كذلك غمرني دفء شاذّ.
سلكتُ ممرّات المعهد، بدأت أسعل قليلا، لأزيّف سبب تأخّري، وبدأت بالتّرنّح قليلا، مستندا إلى الحائط، مطلقا أنينا لا يعلو عن الهمس. عندما وصلت إلى القسم كان التّلاميذ قد غادروا بالفعل، استقمت، وأنا أشعر بمزيج من الارتياح والخيبة. رفعت حقيبتي، وخطوت خطوات حثيثة نحو باب القسم. لم يكن وزن الحقيبة ثقيلا، لكن الصّمت المدقع شبيه بصمت الأصنام يداعب ذهني بشكل مخدّر. لسبب ما، تساءلت عن خطة الخالق إن كانت قد بدأت، وأعمدة العالم قد سقطت. شعرت بالرّاحة المستنيرة، وأنا أتخيّل السّماء تقترب شيئا فشيئا من الأرض، كنهاية مناسب للوجود الكوني، نهاية بسيطة وهادئة. لكن مع صوت مرور السّيارات، تشتّت ذلك الحلم، فتمّ تذكيري مرّة أخرى بأنّ النّهاية لا تزال مجهولة الموعد والشّكل، وأنّ الخلاص لا يزال بعيدا عن متناولي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي


.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية




.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي


.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب




.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?