الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سرّي الدفين .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2023 / 12 / 4
الادب والفن


ضاق أبي ذرعاً بزيارات قريب أمي الى بيتنا لكثرة تكرارها ، وأخذ يصفها بالسمجة وغير المبررة .. يستقبله ويودعه بتحية فاترة ، وبقلب متوجس كاره ، أما أمي ، فكانت تستقبله وتودعه بحرارة ، وتُضمنه تحياتها الى أهله ، وما أن ينصرف حتى يضج البيت بصراخهما ، وينشب شجار عنيف يتبادلان فيه الاتهامات والاهانات ، ثم تغشي البيت غَمامة سوداء من الكآبة والحزن .. !
وفي يوم ..
لا أعرف تفاصيل الحديث الذي فجّر الموقف ، وأفقد أبي صوابه كأنه جُن .. انفجر فجأةً بوجه أمي كما ينفجر الدُمل المحتقن بصديده ، وعيناه تنفثان شرراً .. جرجرني وأنا أرتعد بين يديه .. أوقفني أمامها ، ثم زعق بصوت هستيري جاف ، وهو يشير الى وجهي :
— أنظري اليها .. أنظري جيداً .. هل ترين فيها شيئاً مني .. ؟!
أصرخ باكية وأنزع نفسي من بين ذراعيه .. أجري مسرعة الى أحضان أمي .. أتأملها من خلال دموعي ، أراها ثابتة لم تهتز ، ولم تنبس .. رمته بنظرة قصيرة باردة ، ثم أدارت ظهرها في نفور .. شدتني بقوة من يدي وانصرفنا .. تركناه مضعضعاً يرغو ويزبد دون أي فعل !
ظلت كلماته تدوي كالطبل في رأسي ، وترسخ في ذهني .. تعمل عملها المدمر في نفسي الهشة ، وتشغل حيزاً مهماً من تفكيري ..
كانت فكرة مكاشفة أمي لاستجلاء الحقيقة ، وكشف غموضها تصيبني بالفزع ، فأنا أعرفها .. قوية ، قاسية ، سليطة .. لكني وجدت نفسي يوماً متورطة في السؤال الذي بات يحيرني ، ويلح علي دائماً :
— ماما ، هل صحيح ما قاله بابا بأني لست أبنته ؟
التفتت اليّ غاضبة ، وقالت بنبرة وعيد :
— ما هذا الهراء الذي تقولينه ؟ إياك ثم إياك ( وهي تلوح لي بسبابتها .. ) أسمع هذا الكلام على لسانك مرة ثانية .. سامعة !
خفق قلبي بشدة ، وأنا أتلقى نظراتها الحادة ، لكني قلت بنبرة باكية :
— ألم تسمعيه .. كأنه واثق مما يقول .. ؟
صرخت في وجهي :
— اخرسي ..
رغم أني فتاة في الثانية عشرة إلا أني فهمت سبب ثورة أبي وشكوكه ، وربطتها بأمي وقريبها ( عزيز ) .. لكني استجبت لها في النهاية رغماً عني ..
ما لبث عزيز أن أختفى تاركاً وراءه مأساة لم تبرد بعد ، ولم تكتمل خيوطها ، ومرت سنين .. كبرت فيها ، وكبرت معي حيرتي وأحزاني .. لم يمهل الموت أبي كثيراً .. أسلم الروح بشكل مفاجئ ، ورغم كل ما كان بيننا ، إلا أن لحظة وفاته أحدثت هزة عنيفة في داخلي ستبقى عصيةً على النسيان ..
لم تمضي سوى أشهر قليلة على وفاة أبي حتى طفا وجه عزيز بعد سنين طويلة من الفقدان ، لكن بصورة مختلفة .. لقد كبر هو الآخر ، وازداد ثقلاً وحناناً .. احتل مكاناً في حياتي وحياة أمي ، فأخذ يُكثر من زيارتنا دون مانع هذه المرة .
وذات يوم ..
وأنا عائدة من كليتي في غير وقتي ، وبمجرد دخولي اكتشفت أن أمي وعزيز كانا منشغلين في حديث يبدو هاماً .. وصلتني كلمات شاردة ، حزينة ، ذات مغزى بصوت عزيز :
— كيف لا أقلق عليها .. أليست بنتي .. ؟
ثم همسٌ حَذِرْ :
— ششش ..
أتسلل الى غرفتي كالهاربة ، وكلمات عزيز ترن في رأسي .. أتكوم على فراشي في كامل ثيابي .. أُحيط وجهي بوسادتي كأني أفر من الضجيج الذي يدوي في رأسي ، ثم اهتز جسدي في نشيج حاد ..
إن كان عندي ثمة شك في كلام أبي ، فما سمعته قبل لحظات بملء أذنيّ قد نزع مني ذلك الشك .. لقد كان حدس أبي إذاً بأني لست ابنته في محله .. لا شك أني بنت لحظة الضعف التي وقعت فيها أمي وعزيز عندما تلاعبت بهما الأهواء ، واستطاعت أن تنجو بفعلتها ، وتلصق عارها بالمسكين أبي !
يترامى اليَّ دبيب أقدام .. تدخل أمي مزهوة منتشية يسبقها عطرها .. ألمح وجهها منشرحاً ، وعيناها أشد ألقاً كأن عمرها بدأ من جديد .. تهتف بصوت رائق :
— هذه أنتِ يا سارة .. لم عدتِ مبكرة ؟
— لا شيء مهم ، ماما .. مجرد صداع ..
تتقدم خطوة .. تجلس على حافة السرير .. تمد يدها ، وتتحسس جبيني ، ثم تغمغم مدهوشة :
— ماذا جرى .. هل كنت تبكين ؟
ولما لم تتلقى رداً مني .. أكملت :
— إتصل محمود يسأل عنكِ قال بأنه اتصل بك عدة مرات لكن تلفونك مغلق .. لماذا تغلقين تلفونك ؟ افرضي احتجناك في أمر هام .. ماذا سنفعل حينها ؟
— ماما ، أرجوك .. قلت لك عندي صداع ، ولا أطيق الثرثرة في التلفون .
— هل كلام خطيبك أصبح ثرثرة ؟ ما هذا الكلام الغريب ؟! هيا .. قومي اتصلي به وطمنيه .
كل ما رغبتُ به في تلك اللحظة ، أن تقول ما عندها بسرعة ، وتخرج لكي أنفرد بنفسي ، وأستوعب ما كان يدور حولي من غرائب .
— سأفعل ..
— هل تريدين أن تسلمي على عزيز .. أنه دائم السؤال عنكِ ؟
— ليس الآن .. أنا تعبانة ..
— طيب .. سأتركك الان ترتاحين ، وبعدها أريد أن أُخبرك بشيء ، لكن لا تغضبي ..
هززت رأسي رافضة ، وقلت في جفاء :
— أُفضل ألا تفعلي ..
— لماذا .. ؟!
— لأني أعرفه ..
— وكيف عرفتيه .. ؟
— يخص زواجك بعزيز ، اليس كذلك ؟
صمتت قليلاً ، ربما ارتأت بأن الوقت غير ملائم لمواصلة الحديث .. زفرت في ضجر ، ثم غادرت .
أنتزع نفسي من أحضان فراشي .. وأقف أمام المرآة .. أتأمل وجهي ، وأجري مقاربة بين ملامحي الدقيقة المنسجمة التي هي صورة منقولة من ملامح أمي الجميلة ، مع ملامح عزيز الجامدة الغليظة لعلي أقع على وجه الشبه بيننا .. أي شبه .. لكني لم أجد سوى شعري الكثيف المجعد الفاحم السواد ، أما عدا ذلك ، فلا شيء ، والغريب أني لم أعثر على أي شبه بيني وبين المرحوم أبي !
هل أنفجر بوجه أمي كما فعل أبي؟ وهل أقوى على تخطي سلطتها وجبروتها ، وتجاوز كلامها الذي حذرتني فيه بعدم الخوض في هذا الموضوع ؟ ما الذي سأستفيده من كل ذلك غير خلق بلوى جديدة لا أعرف مداها ، لا سيما إذا تدحرجت شرارتها الى محمود ؟ .. أم من الأجدى والأسلم أن أنسى الموضوع برمته درءاً للفضيحة التي ستدمرني ، وتدمر أمي معي ، وربما عزيز أيضاً ، وتزيد من تعاستي .. علي أن أحفظ سري لا أبوح به لأحد ، وأغلق عليه الى الأبد .. يكفيني أن لي إسماً ونسباً لا غبار عليهما ، ووضعاً اجتماعياً آخذاً في النمو ، ومستقبلا واعداً مع خطيبي محمود ، وما علي سوى إعادة تركيب حياتي من جديد ، واستعادة المزيد من الدفء المفقود اليها ..
أوف ، تعبت .. يا إلهي .. أعني على ما أنا فيه .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا