الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هينز الفريد كيسنجر

خالد صبيح

2023 / 12 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


بشكل ملفت وبوقت قصير انتقل الأستاذ الجامعي، هنري كيسنجر، من العمل في معسكر روكفلر، رب عمله، إلى العمل في معسكر منافسه على مرشح الرئاسة عن الحزب الجمهوري، ورب عمله القادم، نيكسون، والذي كان يرى فيه قبل أيام قلائل فقط (رجلا ضحلا محبا للسلطة ولا يصلح لحكم الولايات المتحدة التي بحاجة لقائد يوحدها).

وصف بعض خصوم هنري سلوكه هذا بأنه أعلى أشكال الانتهازية، فيما قال مناصروه أنه (رجل يشعر أن الواجب العام يعلو على الاعتبارات والتحيزات الشخصية).

والسؤال: في أي من الوصفين تكمن حقيقة الرجل؟

قد نعثر على ما يفسر سلوك هنري هذا في تركيب شخصيته أولا، وفي عمق الثقافة الأمريكية، ثانيا، تلك الثقافة التي تربى عليها منتقيا منها قيما تناسب انحداره كابن أقلية يهودية مضطهدة، زرع اضطهاد الأوربيين، خاصة النازيون، لها الخوف المزمن في بنيتها السيكولوجية، ما جعل الفتى المراهق هنري يخاف الصبية في شوارع نيويورك (كلما رآهم يتجهون نحوه).

وفي بلده الجديد، أميركا، حيث غير اسمه إلى هنري، نشأ ابنا مخلصا للبراغماتية الأمريكية وغدا في سلوكه العام شخصا نفعيا، ولأن النفعي لا يهتم بغير النتائج ولا يبالي بالوسائل التي يصل بها الى "سعادته" ومصالحه (مادية أو معنوية) فإن انحداره نحو السلوك الانتهازي سوف لن يثير الاستغراب.

ومن سمات النفعي أيضا أنه لا يحفل بالمشاعر والعواطف الإنسانية، وعادة ما تكون رهافة الحس ورقة المشاعر مرتبطة ومتجاذبة مع نمو الحس الجمالي لدى الإنسان، ولأن هنري يفتقد لهذا الحس فقد أهمل في صباه البيانو المركون في إحدى زوايا البيت ليركز اهتمامه على الكتب وعالمها التجريدي. وبعد سنوات طويلة، في عام 1957، سيثبت من جديد جفافه العاطفي حين يعكف على تأليف كتابه المهم، (الأسلحة الذرية والسياسة الخارجية) الذي حظي باهتمام الأوساط السياسية والأكاديمية والذي استغرقت مدة كتابته 16 شهرا، حيث اعتزل هنري فيها العالم وطلب من زوجته أن لا تكلمه خلالها، ولم يكترث للملاحظات التي وصفت سلوكه إزاء زوجته بغير الإنساني.

وهذه، برأيي، لمحة فارقة وجوهرية في شخصيته.

فهذا القدر من القسوة والبرود الذي مارسه هنري إزاء زوجته يتجاوز بكثير مسألة الإخلاص للموهبة والعمل التي يمارسها أغلب المبدعين، فهؤلاء مهما كبر عملهم واشتد اخلاصهم له قد أبقوا على قدر مقبول من العلاقة العاطفية بمحيطهم وبالقريبين منهم.

وهنري هو (رجل نظام ومبادرة) كما وصفه أحد أقرب رفاقه في مهمة إعادة بناء المانيا بعد هزيمة النازية. وهو شخص عملي حد التقشف بالكلمات، فكان يذهب إلى ما يريد قوله دون تجميل، بينما طلاوة اللسان وجزالة التعبير، كما يعرف الناس وتكرسه الدبلوماسية التي سيبرع فيها هنري لاحقا، ليست فقط من ضرورات التواصل العملي بين الناس، بل هي من حسن الأخلاق أيضا، فجوهر الإنسان في النهاية يكمن في " أصغريه: قلبه ولسانه".

ليس هذا وحسب، فسجل هنري في عالم الأحاسيس حافلا ومتنوعا، فقد وصفه زملاؤه فترة شبابه الأول، أنه كان (جامد المظهر، ولا يهتم إلا بذاته التي يتركز عليها كل اهتمامه)، وكان، بنزعته العملية، لا يقيم علاقات إلا مع من هم أعلى منه وليس مع أقرانه، فقد كان يعتقد أن القوة هي العنصر الفعال في التاريخ... وفي الحياة أيضا.

وهكذا ركز حين انتسب طالبا في هارفارد على إقامة علاقات مع أساتذة ذوي نفوذ، ومع ذلك فقد رفضت الجامعة العريقة فيما بعد توظيفه عندها رغم تفوقه لأنها رأت أنه (لن يخدم هارفارد وإنما سيستعملها).

اليس في هذا السلوك ميولا وصولية واضحة؟

بعد نجاح كتابه ( السلاح الذري والسياسة الخارجية) واشتهاره في الوسط السياسي اعتبر نقاده من الوسط الأكاديمي أنه استهدف من كتابه الدعاية والكسب الشخصي، وهي سمة ستبرز في سنين عمره المتأخرة أكثر وأكثر حين أخذ يستغل اسمه وشهرته للتكسب، فكانت مؤلفاته المتأخرة أقل قيمة ويغلب عليها التصنع وصولا إلى كتابه الأخير عن الذكاء الاصطناعي الذي ختم به مسيرته الفكرية والمهنية والذي قيل أنه لم يكتب كلمة واحدة منه لعجزه الذهني، بحكم السن، على البحث في هذا المجال الدقيق والتخصصي والمنتمي لميدان بعيد نسبيا عن السياسة التي برع بها بشكل عملي ونظري.

مائة عام وستة أشهر كانت سنوات عمر "هينز الفريد كيسنجر"، الذي وصفه رئيسه روكفلر بأنه (الرجل الذي يتألق في جو المؤامرات، والوحيد الذي يستطيع أن يجعل المواقف تبدو صحيحة)، عمر طويل عاش هنري فيه حياة اشكالية مليئة بالنشاط والإنجازات، جعلت لاسمه لمعانا ولرأيه ثقلا، لكنها تركت أيضا آثارا وذكرى ثقيلة جعلت كارهيه في الحياة أكثر بكثير من محبيه.

هناك طرفة تروى عنه تقول أنه حين زار الفاتيكان أطال النظر في في جدارية الجحيم (يوم الحساب) التي زين بها الفنان مايكل آنجلو جدران كنيسة "سيستينا"، إحدى كنائس الفاتيكان، فمازحه زميل له بالقول:

ها هنري، لماذا تطيل النظر، هل تبحث عن شقة لتسكنها هناك؟

وفعلا، يمكن القول لو أن الجحيم موجودة فعلا فسيكون لهنري، بالتأكيد، "سكنه اللائق" فيها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغم المعارضة والانتقادات.. لأول مرة لندن ترحّل طالب لجوء إلى


.. مفاوضات اللحظات الأخيرة بين إسرائيل وحماس.. الضغوط تتزايد عل




.. استقبال لاجئي قطاع غزة في أميركا.. من هم المستفيدون؟


.. أميركا.. الجامعات تبدأ التفاوض مع المحتجين المؤيدين للفلسطين




.. هيرتسي هاليفي: قواتنا تجهز لهجوم في الجبهة الشمالية