الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان تار والسندباد طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 12 / 5
الادب والفن


رواية للفتيان







تار والسندباد








طلال حسن



شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ السندباد

2 ـ تار

3 ـ باكول

























" 1 "
ـــــــــــــــــــ

قبل أن يستيقظ باكول ، ويعتدل في فراشه ، متأوهاً متوجعاً ، أفاقت تار ، وفكرت دون أن تفتح عينيها السوداوين ، أن تتوغل اليوم في الغابة ، وتبقى طول النهار ، في الملاذ ـ الكوخ الذي أعدته ، منذ سنين عديدة ، بين الأشجار الكثيفة ، وسط الغابة ، لتلجأ إليه عند الضيق .
ونهضت تار من فراشها بهدوء ، وتسللت إلى خارج الكوخ ، ولاح لها البحر ، في ضباب الفجر ، يستيقظ بدوره على الأضواء الأولى للفجر ، وبدا لها ، وكأنه يلوّح لها ، ويناديها : أن تعالي .
وأولت ظهرها للغابة ، وتناست ما فكرت فيه ، ومضت بخطوات نشيطة إلى البحر ، ستتوغل اليوم بالقارب في المياه الصافية الهادئة ، وربما ستحاول اصطياد بعض الأسماك ، لتبرر وجودها ، طوال ساعات النهار ، بعيداً عن الكوخ ـ القفص ، إنها عصفورة ، عصفورة فتية ، ولم تعد تحتمل أن تبقى مكبلة ، صامتة ، في القفص .
وتنفستْ ملء صدرها ، الذي يضج بالفتوة ، وتمنتْ أن تبقى في هذا الفضاء المفتوح ، بعيداً عن الكوخ وأبوها باكول ، أطول فترة ممكنة ، إنها تختنق أكثر وأكثر ، كلما تقدمت الأيام ، دون أن تجد أملاً في التغيير ، أو الخروج إلى العالم الواسع ، الذي لا تحده حدود ، كما خيالها وآمالها الغامضة .
وتراءى لها باكول ، بوجهه الشاحب ، وشعره المكلل بالثلج ، وعينيه اللتين راحت تطفئهما الأيام ، وهزت رأسها رغم شعورها بالضيق ، المسكين ، إنه وحيد مثلها ، وكما أنه ليس لها غيره في هذه الجزيرة ، فإنه ليس له فيها غيرها .
وكأنما أرادت الاحتجاج على عواطفها هذه ، فقد حثت خطاها على رمال الشاطىء ، ولاح لها قارب الصيد ، على الرمال التي تبللها مياه البحر ، وفوقه المجذافان ، وشبكة الصيد ، لقد أصلحتها قبل يومين ، وأبقتها في القارب ، ولماذا تأخذها معها إلى الكوخ ؟ من سيسرقها ؟ وهذه الجزيرة ، الجنة الخضراء ، التي ليست جنة ، فهي خالية تماماً ، إلا من الطيور ، والسحالي ، وبعض السلاحف ، التي تأتيها أحياناً ، لتضع بيضها في حفر ، داخل رمال شواطئها الرملية الدافئة .
وبلغت تار القارب ، فمدت يديها ، ومالت عليه ، وراحت تجره إلى مياه البحر ، وفجأة توقفت مندهشة ، مذعورة ، فقد ارتطمت قدمها الحافية بشيء طري ، مبلل ، ترى ما هذا ؟ دولفين نافق ، دفعته الأمواج ، كما يحدث أحياناً إلى رمال الشاطىء ، أم سمكة .. أم .. ؟
والتفتت ببطء وتوجس ، واتسعت عيناها ، وخفق قلبها بشدة ، لم يكن دولفيناً أو سمكة ، بل ويا للعجب ، كان إنساناً ، إنساناً شاباً ، ربما لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره ، وإلى جانبه لوح من الخشب ، بدا وكأنه جزء من خشب مركب شراعي ، تحطم في البحر .
ومالت تار عليه ، وقلبها مازال يخفق بشدة ، ثم مدت يدها المرتعشة إلى صدره ، المبلل بمياه البحر ، إنه دافيء ، الشاب إذن ليس ميتاً ، صحيح أن أنفاسه خافتة جداً ، ونبضات قلبه لا تكاد تُحس ، لكنه حيّ ، إنسان ، شاب ، حيّ ، آه .
وهزته تار بتردد ورفق ، لعله يفيق مادام حياً ، لكن دون جدوى ، وتلفتت حولها ، ترى كيف وصل إلى شاطىء هذه الجزيرة ؟ ونظرت إلى اللوح ، لابد أنه جاء من البحر ، ولكن كيف ؟ مهما يكن ، فهاهو إنسان ، شاب ، حيّ ، يتمدد على الرمال أمامها ، وهذا ليس حلماً ، بل حقيقة .
وفكرت أن تسرع إلى الكوخ ، وتخبر أباها باكول بالأمر ، لكنها توقفت مترددة ، لا ، فباكول ، وربما لغرض في نفسه ، يحذرها دائماً من الإنسان ، وخاصة الإنسان الشاب ، ومن يدري ، فقد يُؤذيه ، بل ويقتله .
وانحنت عليه ، ومدت يديها ، ورفعته قليلاً ، وأسندته إلى صدرها ، ثم نهضت به بصعوبة بالغة ، ثم خطت عل الرمال ، وهي تكاد تتهاوى ، تحت ثقل جسده المتراخي ، لكنها تماسكت ، وتوجهت به خطوة بعد خطوة ، إلى ملاذ طفولتها الآمن ، وسط الغابة ، بين الأشجار الكثيفة .
















" 2 "
ـــــــــــــــــــ

أفاق باكول من النوم متأخراً ، وإمارات الوجع لم تزايل وجهه ، لكنه تناسى أوجاعه ، عندما تلفت باحثاً عن تار ، ولم يجدها في الكوخ .
ورأى أشعة الشمس الدافئة ، تدخل عبر الكوة الصغيرة ، وتضيء كقنديل ساطع النور ، الزوايا الرثة المعتمة للكوخ .
وخمن أنّ تار استيقظت قبله ، وربما خرجت لتأتي بشيء من الوقود ، من الغابة القريبة ، لتشعل النار في الموقد ، وتعدّ الفطور .
وتحامل باكول على نفسه ، ونهض بتثاقل من الفراش ، وصاح : تار .
وعلى العكس مما توقع ، لم يسمع تار تردّ عليه ، ربما لم تسمعه ، أم أنها مازالت زعلانة من حديثه إليها ليلة البارحة ؟ ولماذا تزعل ، هذه الساحرة ، الغالية ، الحمقاء ؟ إنه لا يريد لها إلا الخير .
وتطلع إلى الباب ، وصاح ثانية ، بصوت أعلى : تار .. تار .
ومرة ثانية ، لم يسمع تار تردّ عليه ، إنها زعلانة ، ولا يمكن إلا أن تكون قد سمعت صياحه ، ولم تشأ أن تردّ عليه ، لا بأس ، لتزعل ، وستعرف عاجلاً أو آجلاً أنه على حق ، وأنها مازالت صغيرة ، لا تدرك تماماً ما يريده لها .
وفتح الباب بيد ضعيفة مرتعشة ، ومضى خارج الكوخ ، وتلفت حوله ، لعله يرى تار في مكان ما ، دون جدوى ، ورغم ذلك صاح مرة أخرى بشيء من القلق : تار .. تار .. تار .
وتوقف منصتاً ، متمنياً أن يأتيه ردها ، لكن لا ردّ ، وتلفت حوله ، ترى أين مضت هذه المجنونة ؟ لعلها توغلت في الغابة كعادتها ، عندما تزعل ، أم أنها استقلت القارب ، وتوغلت في البحر ؟
والتفت إلى الغابة ، التي تمتد على طول الجزيرة وعرضها ، ونظر متمعناً في أشجارها الزاهية الخضرة ، المكللة بالأزهار والثمار والطيور ، لكنه سرعان ما استدار نحو البحر ، بخطواته البطيئة ، المتعبة ، ومن بعيد رأى القارب ، يرقد على الشاطىء ، وفوقه المجذافان وشبكة الصيد .
وتوقف باكول ، ثم تراجع محبطاً ، وقفل عائداً إلى الكوخ ، إنها في الغابة ، هذا أمر مؤكد ، لتبقَ حتى تتعب ، وستعود عاجلاً أو آجلاً ، وقد زايلها زعلها الطفولي الأحمق .
وهزّ رأسه بشيء من التأثر ، ربما قسا عليها ، فهي قد تبدو شابة ، بل امرأة صغيرة ، لكنها مع ذلك صغيرة ، ولعلها ستبقى صغيرة ، في عقلها وتصرفاتها ، مادامت تعيش منعزلة عن أترابها ، في هذه الجزيرة الصغيرة الضائعة .
ولاح الكوخ من بعيد ، يقف قزماً عجوزاً على حافة الغابة ، وتمنى باكول أن يرى تار قد عادت ، ونسيت زعل ليلة البارحة ، لكن ، ويا للخيبة ، لا أثر لتار ، لا خارج الكوخ ، ولا في داخله .
وطاف باكول حول الكوخ ، لعلّ وعسى ، وتوقف متعباً ، لا أثر لتار ، مهما يكن ، فهي في مكان ما من هذه الجزيرة ، ولا خوف عليها ، فهنا لا وجود لغير الطيور والسحالي والسلاحف البحرية ، وستعود حتماً ، مهما طال غيابها .
وبالفعل عادت تار إلى الكوخ ، قبيل غروب الشمس ، وقد رآها من مجلسه ، قرب الباب ، تقبل من أعماق الغابة ، كأنها ترتدي حلة من الخضرة وأشعة الشمس ، وعندما اقتربت منه ، قال لها ، دون أن ينهض : أين كنتِ ؟
وردت تار ، بنبرة لا أثر فيها للزعل : أنتَ تعرف أين كنتُ .
فقال بصوت مهادن : كلا ، لا أعرف .
فقالت تار بصوت هادىء : أين يمكن أن أكون ؟ داخل الغابة طبعاً .
ونهض باكول بتثاقل ، متحاملاً على نفسه ، دون أن يتفوه بكلمة ، فنظرت تار إليه ، وقالت : لا تقل لي ، إنك لم تأكل شيئاً حتى الآن .
فردّ باكول قائلاً : أنتِ تعرفين ، يا تار ، إنني لا أستطيع أن آكل ، مهما كنتُ جائعاً ، إلا معكِ .
ولاذت تار بالصمت لحظة ، ثم مضت إلى داخل الكوخ ، وهي تقول : سأعدّ الطعام ، ونأكل معاً ، فأنا أيضاً لم آكل حتى الآن .
















" 3 "
ــــــــــــــــــــ

تململ سندباد متأوهاً ، في فراشه القش ، والحمى تشويه ، وتقلب متوجعاً ، مدمدماً ، تحت وطأة صور مضببة ، تلمع في مخيلته الغائمة ، كما يلمع البرق للحظة ، في قطيع من الغيوم المتزاحمة ، المتدافعة ، الشديدة السواد .
وشهق متوجعاً ، والبروق تتوالى في مخيلته ، صوراً مضطربة ، وحروفاً .. وكلمات .. تتدافع فوق شفتيه ، اللتين أيبستهما الحمى ، سفينة تتقاذفها الأمواج .. رجال مرعوبون .. طائر كأنه غيمة ضخمة سوداء .. وصراخ .. وأمواج .. ثم صمت .. صمت تام مطبق .
وفتح سندباد عينيه صارخاً ، كأنه يستغيث بمن ينقذه من غرق محتم ، وفغر فاه مذهولاً ، ما هذا المكان ؟ أين هو ؟
وتلفت حوله ، أغصان يابسة ، متشابكة ، تتعامد وتتكىء على جذع شجرة عملاقة ، مشكلة ما يشبه الكوخ الصغير .
واعتدل بصعوبة في فراشه القش ، وثانية فكر ، أين هو ؟ وأين كان ؟ نعم أين كان ؟ ومن أين أتى ؟ وعبثاً بحث في متاهات ذاكرته ، لا شيء غير الضباب ، والعتمة ، غير بروق خاطفة ، تضيء صوراً مشوشة ، وأصوات متداخلة ، لا تقول ، ولا تفصح عن أي شيء .
وتحسس بلسانه الجاف ، شفتيه اليابستين ، اللتين تشويهما الحمى ، وأحس مذاقاً غريباً .. لا هو حلو .. ولا مرّ .. ولا حامض .. ولا .. ووقع نظره الحائر على كومة من الفواكه ، وإلى جانبها كوز ماء ، يا للعجب ، من أين هذه الفواكه ؟ ومن أتى بها ؟ ثم ما هذا المكان ؟ وكيف جاء إليه ؟ آه إن غيوم ذاكرته ، وبروقها الخاطفة ، لا جواب فيها عن أي من هذه الأسئلة الحائرة .
ونهض متحاملاً على نفسه ، وخرج من مدخل الكوخ الضيق ، وإذا هو في أجمة ، تحيط به أشجار كثيفة ، متشابكة .
وسار مترنحاً ، خارج الأجمة ، وهو يتلفت مذهولاً ، أشجار زاهية على مدّ البصر ، مثقلة بالأزهار والثمار والطيور ، يا للعجب ، ما هذا ؟ لعلها الجنة ، لكنه حيّ ، من يدري .
وبين الأدغال الكثيفة ، لمح مسيل ماء ، جدولاً صغيراً يترقرق صافياً فوق حصا كأنه اللؤلؤ ، يلمع تحت الأضواء الأولى للفجر ، فاندفع إليه مترنحاً ، وخاض فيه ، ثم انحنى ، وراح يعبّ من مائه ، يا للغرابة ، وبدا له أنه تذوق هذا الماء ، لكن أين ؟ ومتى ؟ هذا ما لا يعرفه .
ونهض من مسيل الماء ، وقد بدأ يستيقظ ، وكأنه استعاد بعض عافيته ، لكن مخيلته ، على ما بدا له ، لم تستيقظ تماماً بعد ، فهي مازالت معتمة ، مشوشة ، رغم البروق الخاطفة ، التي تضيئها بين حين وآخر ، كما تضيء شمعة غابة من الليل .
وتوغل في الغابة ، بخطوات أكثر تماسكاً ، لعله يعثر على ما يضيء غيوم ذاكرته ، لكن دون جدوى ، فلم يرَ حوله غير أشجار .. وسحال .. وطيور تضج مغردة بين الأغصان .
وتوقف متعباً ، حائراً ، ولعله خاف أن يضل طريقه ، فقفل عائداً إلى الكوخ المختبيء في الأجمة ، والمتكىء على تلك الشجرة الضخمة ، الوارفة الظلال .
ولاحت الشمس من بعيد ، تنهض شيئاً فشيئاً من وراء الأشجار ، وترسل دفأها في كلّ مكان ، فحث خطاه حتى وصل الأجمة ، ثم دخل الكوخ ، وارتمى متعباً فوق فراشه القش .
وعاد إلى غيوم ذاكرته ، وانتظر برقاً قوياً يضيء له ما خفي فيها من الإجابات على أسئلته ، التي كانت تُوقعه في حيرة شديدة .
من هو ؟
من أين جاء ؟
ومن أتى به إلى هذا المكان الغريب من الغابة ؟
وبدل البرق ، الذي انتظره طويلاً ، تسلل النعاس إلى عينيه ، وأسدل فوقهما ستائره ، وأخذه إلى نوم عميق ، مثل عمق بحر مضطرب .



















" 4 "
ـــــــــــــــــــ

قبل شروق الشمس ، أفاق باكول ، وقد خفّ توجعه ، ربما لأنه لا يريد أن تفيق تار قبله هذه المرة ، وتتسلل من الكوخ ، وتتجول على غير هدى ، في أرجاء الجزيرة ، طول النهار .
ومن مكانه ، رمق فراشها بنظرة خاطفة ، دون أن يعتدل ، وشعر بشيء من الراحة والاطمئنان ، عندما رآها في مكانها ، مغمضة العينين .
لكن تار لم تكن نائمة ، وهذا ما لم يعرفه باكول ، فقد أفاقت قبله ، لكنها لم تفتح عينيها ، وظلت راقدة في فراشها ، دون حراك ، ترصد بأذنيها المرهفتين ، كلّ نأمة تصدر عن باكول .
وأشرقت الشمس ، وارتفعت فوق الأشجار ، مرسلة أشعتها المرحة الدافئة داخل الكوخ ، عبر الكوة الصغيرة ، كأنما تقول لتار : كفى رقاداً ، هيا افتحي عينيك ، وانهضي .
لكن تار لم تفتح عينيها ، حتى سمعت باكول يسعل ، ربما لينبهها بأنه استيقظ ، وأن عليها أن تنهض ، وتعدّ طعام الإفطار .
واعتدلت تار متظاهرة بالتثاؤب ، وقالت بصوت مهادن : صباح الخير .
وارتاح باكول للهجتها الهادئة المهادنة ، فردّ قائلاً : صباح النور ، يا بنيتي .
ونهضت تار من فراشها ، وهي تقول : ليتنا نتعشى اليوم سمكاً .
ونظر باكول إليها ، وقال : ليكن ، لكن لن أدعك أنتِ تذهبين إلى البحر .
والتفتت تار إليه ، وقالت متظاهرة بالاحتجاج : لا يا أبي ، أنت متعب ، وأخشى أن يزيد الصيد في البحر من تعبك .
وردّ باكول قائلاً : لستُ متعباً ، ولن تتعشي اليوم إلا سمكاً من صيدي .
وهزت تار رأسها بشيء من الدلال ، وقالت : آه منك ، أنت تغلبني دائماً .
وانكبت تار على إعداد طعام الإفطار ، وهي تقول : سأعد لك صرة من الطعام ، خذها معك ، ولا تنسَ أن تتناول ما فيها أثناء الصيد .
وتناول باكول طعام الإفطار مع تار ، دون أن يلاحظ تعجلها ، وكالعادة لم يأكل إلا الشيء القليل ، وسرعان ما نهض ، متظاهراً بالنشاط والحيوية ، وقال : الأفضل أن تبقي في الكوخ حتى أعود بصيدي من البحر .
واتجه إلى الخارج ، وهو يقول ، كأنما يحدث نفسه : إنني أخاف عليك .
ولحقت به تار إلى الخارج ، وقدمت له صرة الطعام ، وقالت : هذا طعامك ، أنت تنساه دائماً ، اذهب رافقتك السلامة .
وأخذ باكول صرة الطعام ، ومضى نحو الشاطىء ، دون أن يتكلم ، فتوقفت تار ، تتابعه بنظرها ، وصاحت : لا تتأخر .
والتفت باكول إليها ، دون أن يتوقف ، وصاح : أعدي الموقد ، سنشوي سمكاً اليوم .
ولوحت له ، فاستدار باكول ، وواصل طريقه إلى الشاطىء ، حيث القارب ، ليأخذه ، وينطلق به في البحر ، ليصيد سمكاً للعشاء .
وما إن ابتعد باكول ، حتى قفلت تار عائدة إلى الكوخ ، وعلى عجل راحت تضع بعض الطعام في صرة ، متأهبة للمضي إلى ملاذها ـ الكوخ ، حيث تركت " لقيتها " ، الذي أهداه لها البحر .
وبلغ باكول الشاطىء ، حيث قارب الصيد ، وفوقه المجذافان وشبكة الصيد ، وتوقف مذهولاً ، وقلبه يخفق بشدة ، فقد رأى آثاراً غريبة على الرمال ، في محيط القارب .
وانحنى باكول ، متمعناً في الآثار ، إنها ليست فقط آثار أقدام ، وإن كانت هذه الآثار نفسها غريبة ومتداخلة ، بل هناك أيضاً آثار جسد بشري ، لا يبدو واضحاً تماماً ، ربما لأن مياه البحر ، في تقدمها إلى الشاطىء ، وانسحابها منه ، أزالت الكثير من معالمه .
واعتدل باكول مفكراً ، لعل تار استحمت في البحر ، ثم تمددت على رمال الشاطىء كعادتها ، وهزّ رأسه ، من يدري ، فليسأل تار عن ذلك ، عند عودته مساء إلى الكوخ .
ومدّ باكول يديه ، اللتين لم تعودا قويتين ، ودفع القارب بصعوبة إلى البحر ، ثم صعد إليه ، وأخذ المجذافين ، وراح يجذف مبتعداً عن الشاطىء .













" 5 "
ـــــــــــــــــــ

فزّ سندباد شاهقاً بعمق ، كأنه يستغيث من الاختناق غرقاً ، باحثاً عن كوة ، مهما كانت صغيرة ، في الأعماق القاتمة ، طلباً للهواء .
واعتدل في فراشه القش ، وراح يتلفت ، وعيناه الضاجتان بالرعب ، تبحثان حوله ، وفي داخله ، عما يخرجه من هذا العماء ، إلى النور ، الذي انطفأ ، في مكان ما من ذاكرته .
وأغمض عينيه التائهتين ، لعل برقاً في داخله يضيء للحظة ، ويشير له إلى موطن النور في أعماقه ، وللحظة خاطفة لمع برق ، فلاحت له بشكل خافت ومشوش ، غمامة ضخمة ، كأنها طائر عملاق ، تنقض عليه صارخة بصوت هزّ العالم حوله ، ففتح عينيه هرباً من تلك الغمامة الطائر ، ومن صراخها القاتل .
وتناهى إليه من الخارج ، وقع أقدام خافت متوجس ، هذه ليست سحلية ، ولا سلحفاة ، أهي غزالة ؟ لكنه لم يرً غزالة ، أو أثراً لغزالة ، عندما تجول في محيط الكوخ ، من يدري .
وتوقف وقع الأقدام على مقربة من الملاذ ـ الكوخ ، فالتفت إلى المدخل بسرعة ، وإذا فتاة شابة تدخل بهدوء ، وبين يديها صرة ، فهبّ واقفاً ، محدقاً فيها ، لا يدري ماذا يفعل .
وتوقفت الفتاة ـ تار ، حين فوجئت به أمامها ، وراحت تتأمله بعينين مذهولتين ، فيهما شيء من التردد والخوف والتعاطف ، وقالت وهي تتأتىء مشيرة إلى نفسها : أنا .. أنا تار .
ثم أشارت إلى الخارج ، وقالت : أنا .. أنا أعيش .. في هذه الجزيرة .
ولاذ سندباد بالصمت ، وهو مازال يحدق فيها متحيراً ، فاقتربت منه ، وأرته الصرة ، التي بين يديها ، وقالت بصوت مطمئن : أنظر ، جئتك بشيء من الطعام .
ونظر سندباد إلى الصرة ، لكنه لم يمد يده إليها ، وانحنت تار ، ووضعت الصرة قرب كوز الماء وكومة الفواكه ، وهي تقول : تذوق طعامي ، آمل أن يعجبك .
وصمتت تار ، ونظرت إلى سندباد ملياً ، ثم تساءلت : من أنت ؟
وحدق سندباد فيها حائراً ، صامتاً ، ثم هزّ رأسه ، وكأنه يقول : لا أدري .
وأشارت تار إلى فراش القش ، وقالت : تفضل ، أجلس ، تبدو متعباً .
وجلس سندباد متردداً ، فجلست تار على مقربة منه ، وقالت : رأيتك صباح البارحة ، مرتمياً فاقد الوعي ، على رمال الشاطىء ، قرب لوح من الخشب ، بدا وكأنه جزء من مركب .
وصمتت مرة أخرى ، وعيناها تتأملانه ، ثم تساءلت : من أنت ؟ ومن أين أتيت ؟
وحدق سندباد فيها ، باحثاً في العماء الذي يكتنف أعماقه ، عما يجيب به على تساؤلات هذه الفتاة الشابة ، الغريبة ، التي لا يعرف بالضبط من أين برزت له ، لكن دون جدوى .
وأحست تار بحيرته ، وقلقه ، وتحيرت هي الأخرى ، واعتراها القلق ، فنهضت قائلة : أنت متعب الآن ، نم الآن لعلك ترتاح .
ثم أشارت إلى صرة الطعام ، وابتسمت قائلة : هذا الطعام أعددته بنفسي لك ، كل شيئاً منه ، قبل أن تنام ، فأنت بحاجة إلى الطعام .
وصمتت برهة ، ثم قالت : سأذهب الآن ، وأعود غداً ، وستكون أفضل بالتأكيد ، وعندها سنتحدث عن كلّ شيء .
وتطلع سندباد إليها ، كأنه يرجوها أن تبقى ، لكنها استدارت بهدوء ، وهي تنظر إليه ، ثم مضت عبر المدخل الواطىء ، إلى الخارج .
وهمّ سندباد أن ينهض ، ويلحق بها ، أو يقف عند المدخل ، يتابعها بنظره حتى تغيب ، لكنه توقف ، ثم ألقى نفسه على فراشه القش ، وأغمض عينيه المتعبتين ، لعله ينام .
نعم ، من هو ؟
ومن أين أتى ؟
هذا ما يريد هو نفسه أن يعرفه .
وراح يجوس متلهفاً ، في العماء الذي يغمر أعماقه ، بحثاً عن جواب ، لكن دون جدوى ، وسرعان ما استغرق في نوم مضطرب ، وبدا له أنه إنما قشة تتقاذفه أمواج هائجة مجنونة .










" 6 "
ـــــــــــــــــــ

توغل باكول ، مجذفاً قاربه ، في البحر ، مبتعداً عن الشاطىء شيئاً فشيئاً ، ليرمي شبكته في مكان معين ، عرف بالتجربة أنه زاخر بالسمك ، لكنه رغم ذلك ، لم يستطع أن يبتعد بذهنه عن الآثار الغامضة ، التي رآها على رمال الشاطىء .
وتوقف باكول بقاربه ، دون أن يتوغل كثيراً ، كما كان يفعل دائماً ، فقد كانت تشغله أسئلة كثيرة ، ترى ماذا كانت تلك الآثار ؟ هذا السؤال ألحّ عليه كثيراً ، دون أن يجد له جواباً مقنعاً .
وحاصرته تلك الآثار الغامضة ، ولعله أراد أن ينفك عنها ، ولو إلى حين ، فأخذ الشبكة بين يديه ، وألقى بها في البحر .
وغابت الشبكة في الأعماق ، لكن آثار الشاطىء لم تغب في أعماقه ، وظلت طافية على السطح ، أيعقل أنها آثار تار فقط ؟ ربما لا ، بل لا بالتأكيد .
وسحب الشبكة بشيء من العصبية ، كأنما يريد أن يبعد عن ذهنه ، إجابة لا يرتاح إليها ، وكما أن ذهنه كان خال من إجابة ، فإن الشبكة ، كانت خالية أيضاً من السمك .
لا بأس ، فالصيد ليس سهلاً ، ورفع الشبكة ثانية ، وألقاها بكل قوته ، إلى البحر ، فلينتظر هذه المرة بعض الوقت ، لعله سحب الشبكة بسرعة في المرة السابقة ، حسن ها هو ينتظر .
وتوقف مفكراً ، ماذا لو أن تلك الآثار ، لم تكن آثار أقدام تار فقط ؟ وهزّ رأسه ، وبعصبية سحب الشبكة من الأعماق ، يا للعنة ، إنها خالية هذه المرة أيضاً من أي سمكة ، مهما كانت صغيرة .
والتفت تحت وطأة الأسئلة ، هذه الجزيرة ، الصغيرة منعزلة ، تكاد تكون ضائعة ، في هذا المكان المجهول من العالم ، ولهذا اختارها ملاذاً له ولتار ، وخلال هذه السنين ، لم يرَ إنساناً ينزل في شواطئها ، وأطرق رأسه ، أيعقل أن أحدهم ، ممن هرب منهم ، جاء يبحث عنه ؟
وهرباً من هذا السؤال ، شدّ الشبكة بيديه ، ثم ألقاها مرة أخرى إلى البحر ، فغاصت إلى الأعماق ، باحثة عن سمكة تصطادها ، كما راحت ذاكرته تبحث عن جواب يشفي غليله ، ويكشف له ما يمكن أن يريحه .
وسحب الشبكة بعصبية وانفعال ، وازدادت عصبيته وانفعاله ، عندما لم يرَ فيها سمكة واحدة ، فألقاها في جوف القارب ، وأخذ المجذافين ، وأخذ يجذف عائداً من حيث أتى .
وما إن بلغ الشاطىء ، حتى نزل من القارب ، وسحبه قليلاً فوق الرمال ، ثم انطلق مسرعاً إلى الكوخ ، ومما أثار غضبه وقلقه ، أن تار لم تكن موجودة ، لا في داخل الكوخ ، ولا في خارجه ، وراح يضرب في الجوار باحثاً عنها ، حتى وصل إلى الجدول الرقراق ، دون جدوى .
وعاد باكول إلى الكوخ ، يغالب غضبه وقلقه ، لقد طلب من تار ، قبل أن يذهب إلى البحر ، أن تبقى في الكوخ ، وتنتظره فيه حتى يعود ، فأين مضت هذه العنيدة المجنونة ؟
وبعد منتصف النهار ، رآها تقبل من بعيد ، وبدت له ساهمة شاردة الفكر ، وما إن وقعت عيناها عليه ، يجلس عند مدخل الكوخ ، حتى توقفت مترددة ، لكنها سرعن ما واصلت سيرها ، بخطوات مصممة قوية ، بدت له متحدية .
ونهض باكول ، وقبل أن يسألها : أين كنتِ ؟
بادرته قائلة : لقد عدت مبكراً هذه المرة ، لقد ذهبت للصيد ، أين السمك ؟
وتجاهل باكول سؤالها ، وتساءل ثانية : أجيبيني ، أين كنتِ حتى الآن ؟
وهزت تار رأسها مبتسمة ، وردت قائلة : وأين يمكن أن أكون ؟ تجولتُ في الجوار ، ريثما تعود ، لم أكن أعرف أنك ستأتي مبكراً هكذا .
وصمتت هنيهة ، وتساءلت بصوت مهادن : أين السمك ، الذي سنتعشى به ؟
وردّ باكول قائلاً : لم أصطد شيئاً .
ولاذت تار بالصمت ، فتابع باكول قائلاً : على رمال الشاطىء ، قرب قارب الصيد ، رأيت عند ذهابي آثاراً غريبة .
ونظرت تار إليه ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقال باكول : لا يبدو عليها أنها آثار قدميك فقط .
ومضت تار إلى داخل الكوخ ، وهي تقول : أنت واهم ، فلا أحد يعرف بأمر هذه الجزيرة الضائعة ، أو يتواجد فيها غيرنا .
ولحق باكول بها ، وحاول أن يأخذها بين ذراعيه ، وهو يقول : تار ، إنني أخاف عليك ، فليس لي في هذا العالم غيرك .
وتملصت تار من بين ذراعيه ، لكنها وقفت قبالته ، وقالت بصوت مهادن : اطمئن ، سنبقى معاً في هذه الجزيرة ، حتى النهاية .
ولاذ باكول بالصمت لحظة ، ثم تراجع ، ومضى إلى خارج الكوخ .




" 7 "
ــــــــــــــــــــ

فتح سندباد صرة الطعام ، التي جاءته بها تار ، ووجد فيها ، ويا للعجب ، رغيفاً من الخبز الطازج ، وقطعة جبن ، وبعض الفواكه .
ورغم أنه لم يكن شبعاً تماماً ، إلا أنه لم يأكل شيئاً من الطعام ، وشدّ الصرة ثانية ، ووضعها إلى جانب كومة الفواكه ، التي جاءته بها تار ، قبل أن يفيق من إغماءته ، يوم أمس .
وتمدد في فراشه القش ، ثم أغمض عينيه ، لقد قالت له تار ، حين همت بالخروج من الكوخ : أنت متعب الآن ، نم لعلك ترتاح .
وطفت على شفتيه ابتسامة شاحبة ، ها هو يطيعها ، يطيع تار ، فأغمض عينيه ، وسيحاول جهده أن ينام ، لعله يرتاح فعلاً ، ويعرف ما لم يعرفه ، عما يدور حوله ، حتى الآن .
وقبل أن يغفو ، راح يتأمل تار ، وكأنها تقف أمامه ، هذه الفتاة الشابة الحلوة ، لو أنها جارية في بغداد ، لاشتراها بأي ثمن ، لا ، ولماذا جارية ؟ لو أنني رأيتها .. ولمع برق في عتمات ذاكرته .. آه بغداد .. ونهضت في أعماقه قباب .. وأسواق .. وتجار .. وقافلة تنحدر نحو .. نحو البصرة .. ثم .. سفينة .. وبحار .. و .. وداهمه عتمة .. أغرقته .. كما لو كانت أعماق سحيقة .. لا تصلها الشمس .
ولمع البرق ثانية .. أضاء للحظة .. جزيرة مضببة .. وأناساً يدورون حول ما يشبه البيضة .. ولكن أتوجد بيضة بهذه الضخامة ؟ وجنّ بعضهم .. ورجموها بالحجارة .. حتى كسروها .. يا للغرابة ، أهي بيضة ! لكن بيضة من ؟
وفجأة غابت الشمس .. وانقضت عليهم من أعالي السماء .. غيمتان ضخمتان بهيئة طائرين .. تصيحان صيحات غاضبة .. كأنها الرعود .. هزت الجزيرة .. وارتفع صوت خائف .. إنه الربان يصيح : إلى السفينة .. أسرعوا .. أسرعوا .. جاء الرخ .. جاء الرخ وأنثاه .
وتقلب في فراشه هلعاً ، يشهق من أعماقه ، كغريق يتشبث بأهداب الحياة .. بأي ثمن ، دون جدوى ، ولاحقتهم صيحات الغضب .. وهم في لجة البحر .. وراحت الغيمتان الغاضبتان .. ترجمانهما بصخور ضخمة .. من أعالي السماء .. و ..
وهبّ سندباد صارخاً ، وفتح عينيه المرعوبتين ، وتنفس ملء صدره ، ثم راح يتلفت حوله مندهشاً ، أين هو ؟ وما الذي جاء به إلى هذا المكان ؟ وتراءى له المركب ، الذي حاول أن يبتعد بهم عن تلك الجزيرة ، دون جدوى ، فقد لحق بهم الرخ وأنثاه ، بعد أن كسر التجار الحمقى بيضتهما في الجزيرة ، وأمطراهم بالصخور ، حتى حطما المركب ، فتداعى بمن فيه ، وغاص في أعماق البحر .
ونهض سندباد ، بشيء من الصعوبة ، ولكن بلهفة وتشوق ، ليستكمل الصورة التي استعادها في ذهنه ، بعد أن غابت عنه ردحاً من الزمن .
وخرج من الكوخ ـ الملاذ ، وتوقف متلفتاً حوله ، هذا المكان ليس غريباً عنه ، لقد رآه من قبل ، بل وربما رأى على مسافة منه مسيل ماء ، وتقدم بخطوات ثابتة ، وسار عبر الأشجار المثقلة بالأزهار والثمار والطيور .
ومن بين الأحراش الكثيفة ، لمح الجدول الرقراق ، تلمع الشمس فوق مياهه الصافية الشفافة ، وتوقف مندهشاً ، إنه هو مسيل الماء الذي رآه سابقاً ، إذن ما رآه حقيقة ، وليس حلما طاف به في منامه .
وتوغل في الغابة ، متلفتاً حوله ، ليحفظ في ذهنه بعض المعالم البارزة ، حتى لا يضل الطريق ، عند العودة إلى الكوخ ـ الملاذ .
وبدا له أنه وصل إلى نهاية الجزيرة ، فقد لمح من بين الأشجار ، شاطئاً رملياً يمتد بعده البحر إلى الأفق البعيد .
وتوقف على المرتفع المطل على الشاطىء ، وراح يتطلع إلى البعيد ، لعله يلمح سفينة شراعية ، تمر ولو من بعيد ، لكن دون جدوى ، فلم يكن على امتداد البحر ، سوى الأمواج تتدافع تحت ضوء الشمس ، التي كانت تسطع في كبد السماء .
واستدار سندباد ، وقفل عائداً من حيث أتى ، مستدلاً بالمعالم البارزة ، التي حفظها جيداً في ذهنه ، إذن ما رآه حقيقة ، ولعل الفتاة نفسها حقيقة ، آه ليتها حقيقة ، وتراءت له ، سأذهب الآن ، وأعود غداً ، آه ليتها تعود .
أنا تار ، هذا ما قالته له ، عندما جاءته في المرة الأولى ، ووقتها لم يستطع أن يقول لها من هو ، لأنه لم يكن يعرف هذا ، والآن هو يعرف ، وعندما تأتي ، سيقول لها : أنا سندباد ، من بغداد عاصمة هارون الرشيد ، وسيروي لها ما جرى له بالتفصيل ، لكن من يقول أن تار حقيقة ؟ لعلها حلم ، مرّ به ، وهو في غيبوبته وسط العماء ، أهذا ممكن ؟ فلينتظر ، قالت أنها ستأتي غداً ، وغداً لناظره قريب ، آه ليت تار الحلم .. ليست مجرد حلم .




" 8 "
ــــــــــــــــــــ

في نومه المضطرب ، المتقطع ، رأى سندباد فيما يراه النائم مراراً تار ، ومراراً كانت تقول له ، وهي تشير إلى نفسها : أنا .. تار .
حتى كاد يظن ، أنها حلم مما يراه في نومه ، وليست حقيقة واقعة ، لولا كوز الماء ، وكومة الفواكه ، وصرة الطعام ، فهو لا يذكر أنه رآها ، إلا عندما كان أسير عمائه الغامض .
وأفاق قبل شروق الشمس ، جائعاً ، ومتعباً بعض الشيء ، ورمق صرة الطعام ، الذي جاءته به تار يوم أمس ، بنظرة خاطفة ، وهمّ أن يفتحها ، ويسكت جوعه بما تبقى فيها من طعام ، لكنه أرجأ ذلك ، على أمل أن تأتي تار قريباً ، ويتناولان معاً طعام الإفطار .
وأغمض عينيه ، وراح مرة أخرى يتأملها ، وكأنها تقف أمامه ، شعر فاحم ، وعينان سوداوان ، وبشرة فتية وصافية ، و .. ترى من أين هي ؟ وهل يعقل أنها تعيش وحدها مع أبيها ؟ و .. وتسلل النعاس إلى عينيه مرة أخرى ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .
وأفاق سندباد بعد حين ، دون أن يعرف كم استغرق في النوم ، وفوجىء بتار ، تقف على مقربة منه ، وبين يديها صرة طعام .
وعلى الفور ، اعتدل في فراشه القش فرحاً ، إنها حقيقة إذن ، وليست حلماً ، فنظرت إليه بشيء من الدهشة ، وقالت : صباح الخير .
وابتسم سندباد ، وقال : صباح النور .
وصمت لحظة ، ثم قال مشيراً إلى نفسه ، وقد اتسعت ابتسامته : أنا .. أنا سندباد .
واتسعت عينا تار فرحاً وحيرة ، فتابع سندباد قائلاً ، وهو يشير إليها : وأنتِ .. أنتِ تار .
وتمتمت تار فرحة : سندباد .
وابتسمت وكأنها انتبهت إلى نفسها ، وجلست إلى جانبه ، ثم فتحت الصرة ، وهي تقول : لابد أنك جائع ، تعال نأكل معاً .
وراحا يأكلان على مهل ، وهما يتبادلان الحديث ، وقال سندباد متأملاً تار : رأيتك الليلة في منامي مراراً ، كما أراك الآن ، حتى خشيتُ أنك حلم من الأحلام ، ولست حقيقة .
وتضوعت على شفتي تار ابتسام فواحة ، وقالت : الحلم أنتَ ، أنتَ يا سندباد .
وتوقف سندباد عن تناول الطعام ، وهو يتأملها وقال بصوت فرح : تار ..
ونظرت تار إليه ، ثم قالت : لم أستطع أن أحضر باكراً ، فقد تأخر أبي في الذهاب إلى الصيد ، ربما كان متعمداً .
ونهض سندباد ، ونهضت تار معه ، وأمسك يدها ، وقال : تعالي نتجول قليلاً في الخارج .
وانقادت تار له ، دون أن تتفوه بكلمة ، وحين خرجا ، وراحا يسيران بين الأشجار ، قال سندباد : حدثيني عن نفسكِ ، يا تار .
وردت تار قائلة : بل أنت حدثني عن نفسك ، أريد أن أطمئن إلى أن ما أراه ، وما أعيشه ، ليس حلماً ، وإنما حقيقة .
ونظر سندباد إليها ، ثم قال : أنا سندباد ، تاجر من بغداد ، أتنقل من مكان إلى مكان ، وذات يوم ..
وراح سندباد يروي لها بالتفصيل ، ما حدث له ولأصحابه في جزيرة الرخ ، وكيف غرق الجميع ، وكاد يغرق معهم ، لو لم يتعلق بلوح من الخشب ، وألقاه الموج ، ربما بعد أيام ، على شاطىء هذه الجزيرة ، وهو في الرمق الأخير .
وتوقف سندباد عن الكلام ، وهما تقريباً على مشارف المرتفع المطل على شاطىء البحر ، وتقدما صامتين ، وتوقفا عند المرتفع ، ونظر سندباد إلى تار ، وقال : هذا أنا .. سندباد .
وصمت لحظة ، ثم قال : هذه الجزيرة جنة ، وبك يا تار جنة أروع ..
وابتسمت تار ، وتمتمت فرحة : أشكركَ .
وتابع سندباد قائلاً : لكني أريد أن آخذك بعيداً ، آخذكِ إلى جنتي .. بغداد .
ودمعت عينا تار ، ولم تتفوه بكلمة ، فأمسك سندباد يدها ، وقال : لنعد الآن ، يا تار ، وأريد أن تحدثيني في الطريق عن نفسكِ .
وسحبت تار يدها برفق من يده ، وقالت : سأحدثك في ما بعد ، عليّ أن أعود الآن ، فأنا أخشى أن يعود أبي ، ولا يجدني في الكوخ .
وأضافت وهي تتراجع : اذهب إلى كوخنا مباشرة ، سآتي غداً ، انتظرني .
ومضت تار منحدرة نحو الشاطىء الرملي ، ووقف سندباد يتابعها ، حتى غابت .









" 9 "
ــــــــــــــــــــ

فوجئت تار ، حين وصلت الكوخ ، بأبيها يجلس عند المدخل ، وما إن اقتربت منه ، حتى نهض واقفاً ، وقال : جئتِ في وقتك ، يا تار ، أكاد أموت من الجوع .
وتوقفت تار على مقربة منه ، وقالت : لم تتأخر اليوم أيضاً في البحر .
فردّ باكول قائلاً : لكني هذه المرة ، جئتُ بثلاث سمكات رائعات .
ودخلت تار الكوخ ، كاتمة دهشتها ، فأبوها اليوم يبدو غريباً في هدوئه وتعامله معها ، ولحق بها باكول ، وهو يقول : لقد نظفتُ السمكات الثلاث ، وأشعلت النار في الموقد .
ونظرت تار إلى السمكات الثلاث ، وقالت بصوت أرادته هادئاً : لن تنتظر الغداء طويلاً ، سأشوي واحدة منها في الحال .
وتوقف باكول صامتاً للحظة ، ينظر إليها ، ثم قال : الجو دافيء ، لنتغدّ في الخارج إذن .
وردت تار ، دون أن تلتفت إليه : كما تشاء .
وشعرت تار بأبيها ، يقف للحظة صامتاً وراءها ، ثم يستدير ، ويمضي خارج الكوخ ، وبقيت جامدة بعض الوقت ، ثم أخذت إحدى السمكات الثلاث ، وراحت تشويها على النار .
وفكرت تار ، وهي تشوي السمكة ، ثم وهي تأكل مع أبيها ، تحت شجرة قريبة من مدخل الكوخ ، إن أباها ، على غير عادته ، هادىء اليوم ، رغم ما يبدو عليه أحياناً من شرود ، أيعقل أنه عرف بأمر سندباد ؟ لا ، وإلا لثار ، وغضب ، و .. مهما يكن ، لتنتظر ، لعل ما تفكر فيه مجرد أوهام .
وفي صباح اليوم التالي ، استيقظت تار على أبيها ، يهمّ بالخروج من الكوخ ، فنهضت على عجل ، وقالت : لدينا ما يكفينا من الطعام ، لا داعي لأن تذهب إلى البحر اليوم .
وردّ باكول ، وهو يخرج من الكوخ : لن أذهب إلى البحر ، أريد أن أتغدى اليوم حماماً .
ولم ترتح تار لقول أبيها ، فلحقت به إلى الخارج ، وقالت : أرجئها للغد ، فقد آتي معك ، ونصطاد ما تريده من حمام .
وقال باكول ، وهو يبتعد : لا ، سأصطاد الحمام اليوم ، ابقي أنتِ في الكوخ ، حتى أعود .
لكن تار لم تبقَ في الكوخ ، فما إن ابتعد باكول ، متوغلاً في الغابة ، حتى مضت مسرعة ، تكاد تهرول ، إلى ملاذها ـ الكوخ .
وفوجىء سندباد ، وكان ما يزال راقداً في فراشه القش ، بدخول تار عليه ، وهي تلهث ، فهبّ واقفاً ،
وقال : تار .. !
وقاطعته تار قائلة ، وهي تكاد تدفعه : سندباد ، هيا أخرج من هنا ، واختبىء ..
وقال سندباد مندهشاً : مهلاً ، يا تار ، اهدئي ، وأخبريني ما الأمر .
وأمسكت تار يده ، وسحبته وراءها إلى الخارج ، وهي تقول : أبي يصيد الحمام في الجوار ، وأخشى أن يراك .
وتوقف سندباد وراء إحدى الأشجار ، وقال : على العكس ، يا تار ، هذا ما أريده .
وتطلعت تار إليه متأثرة ، وقالت : ليس الآن ، يا سندباد ، ليس الآن .
وابتسم سندباد ، وقال : لابد أن أراه ، وليكن هذا عاجلاً وليس آجلاً ، فأنا أريدك ، يا تار ، وأريد أن آخذك معي إلى بغداد .
ودمعت عينا تار ، فرحاً ! من يدري ، وقالت : سندباد ، كم أخشى أن لا أرى بغداد .
فقال سندباد : بل سترينها ، قولي نعم ، يا تار ، وسترينها ، سترين بغداد .
ولاذت تار بالصمت ، ودمعتان تجولان صامتتين في عينيها السوداوين ، فقال سندباد : لم أسمع منك بعد ، نعم ، يا تار .
وتكلمت دمعتاها ، وانحدرتا فرحتين على وجنتيها ، ثم قالت : نعم .
وتناهت إليهما حركة من بين الأشجار ، فتلفتت تار خائفة ، وقالت : لعله أبي .
ونظر سندباد صوب مصدر الحركة ، ثم قال : لا تخافي ، لعله غزال .
ثم التفت إليها ، وتابع قائلاً : يا غزالي .
ورفرفت ابتسامة فرحة فوق شفتي تار ، وقالت : من الأفضل أن أسرع إلى الكوخ الآن ، قبل أن يعود أبي من الصيد .
وتراجعت متلفتة ، فتبعها سندباد ، وقال : سأنتظرك ، يا تار ، سأنتظرك .
فدفعته تار برفق إلى الشجرة ، وقالت : ابقَ هنا ..
، يا سندباد ..
ثم ابتعدت عنه قليلاً ، وقالت : ربما غداً .
وقال سندباد : ليس ربما ، يا تار .
ومضت تار مبتعدة ، وهي تبتسم قائلة : غداً .. غداً .. غداً .

" 10 "
ـــــــــــــــــــــ

وصلت تار إلى الكوخ ، لاهثة متقطعة الأنفاس ، فقد قطعت تلك المسافة مسرعة ، فرحة ، قلقة ، تكاد تجري ، خشية أن يعود أبوها من الصيد ، ولا يراها ، كما أرادها ، في الكوخ .
وشعرت ببعض الراحة ، عندما عرفت أن أباها لم يعد بعد ، وعاودها القلق ، إذ تذكرت ما تناهى إليهما ، هي وسندباد ، من حركة مريبة ، صدرت من بين الأشجار ، وفكرت أنه ربما لم تصدر عن غزال ، كما ظن سندباد ، وإنما عن أبيها ، الذي كان يراقبهما من بين الأشجار .
ثم ما الذي ذكره اليوم بصيد الطيور ؟
إنه لم يصد طيراً منذ فترة طويلة ، وهو يقول دائماً ، إنه يفضل تناول السمك على الطيور ، وحتى على الأرانب والغزلان .
لابد أن في الأمر سراً .
أيعقل أنه لمح سندباد مرة ، أو شك في وجود أحد في الغابة ؟
من يدري ، إنه حذر دائماً ، ويحرص أن لا يعرف أحد ، من سكان الجزر المجاورة أو غيرها ، بوجودنا على هذه الجزيرة .
وجاء باكول ، بعد منتصف النهار ، يحمل حمامتين يلوث الدم ريشهما ، ومدّ يده بهما إليها ، وقال : نظفي هاتين الحمامتين ، واشويهما .
وأخذت تار الحمامتين ، وهي ترمقه بنظرة سريعة ، وبدا لها طبيعياً ، وخمنت أنه لا يعرف شيئاً عن سندباد على الأغلب ، ولم يلمحه على الجزيرة مطلقاً ، وإلا لثار وغضب و ..
وانصرفت تار تنظف الحمامتين ، وتعدهما لتشويهما على النار ، وانتهت من تحضير الطعام ، عند العصر تقريباً ، فجلسا داخل الكوخ ، وراحا يتناولان طعامهما صامتين .
وعلى عادته ، لم يأكل باكول إلا لقيمات قليلة ، حتى نهض ، وهو يقول : طعام لذيذ ، أنت ماهرة كأمك الراحلة .
ورفعت تار عينيها إليه ، وتفحصته بنظرة خاطفة ، وقالت : أنت لم تأكل شيئاً يذكر .
وردّ باكول قائلاً : لقد شبعت .
وتطلع من مكانه عبر الكوة ، ثم قال : أنت شابة ، كلي حتى تشبعي .
ثم اتجه إلى الخارج ، وهو يقول : سأغتسل في النهر ، ثم أتجول في الجوار قليلاً ، وقد لا أعود إلا عند حلول الظلام .
وما إن خرج باكول ، ومضى مبتعداً ، حتى نهضت تار مفكرة ، ترى أين سيمضي ؟ إلى النهر حقاً ، أم .. ؟ من يدري .
وعلى الفور تسللت إلى الخارج ، وراحت تتابع أباها بنظرها ، من وراء إحدى الأشجار ، ورأته يسير نحو الجدول ، كلا ، إن شكوكها ليست في محلها ، فها هو يذهب ليغتسل و .. وربما يتجول قليلاً هنا وهناك ، ثم يقفل عائداً إلى الكوخ ، ويأوي إلى فراشه ، وينام .
وما إن غاب باكول ، وهو في طريقه إلى الجدول ، حتى عادت تار حالمة إلى الكوخ ، وتراءى لها سندباد ، إنه مثلها شاب ، ربما أكبر منها بقليل ، وهذا أفضل طبعاً ، أسمر بعض الشيء ، وكأن الشمس لوحته كما لوحتها ، آه سندباد .
وتراءى لها سندباد ، وهو يحضنها بعينيه السوداوين المحبتين ، ويقول لها : أريدك ، يا تار ، وأريد أن آخذك معي إلى بغداد .
آه بغداد ، وفكرت ، كم أخشى أن لا أرى بغداد ، ونظرت عبر الكوة إلى البعيد ، إلى ما وراء الجزيرة ، وإلى حياتها القاحلة فيها ، وقالت : بل سأراها مهما كان الثمن .
وخطر لها باكول ، وبدا وكأنه ينظر إليها مترقباً ، آه ما العمل ، لابد من بغداد ، وإلا الموت في العزلة والجدب و .. ، ولكن أباها .. باكول .. إنها جزء من حياته .. ما العمل ؟
وهزت رأسها .. والدموع تجول في عينيها .. وتمتمت : سندباد .. لا .. لا .. لكني أريد بغداد .. أريد بغداد .. أريد بغداد .















" 11 "
ــــــــــــــــــــــ

أوى سندباد إلى فراشه القش ، رغم أنه لم يكن يشعر بالتعب أو النعاس ، ربما لأنه أراد ، أن يغمض عينيه ، وينفرد بتار .
لكنه ما إن أغمض عينيه ، وأراد إحضار تار ، حتى انتبه إلى وقع أقدام خفيفة ، تدب على الحشائش في الخارج ، أهي تار !
وفتح عينيه الملهوفتين ، وبدل تار رأى رجلاً ربما تجاوز الخمسين ، يقف في مدخل الملاذ ـ الكوخ ، محدقاً فيه كأنه يدرسه .
واعتدل سندباد ، وعيناه على الرجل ، ثم قال : أنت باكول ، والد تار ، على ما أظن .
فرد باكول قائلاً : نعم ، أنا باكول .
ونهض سندباد ، وقال : أهلاً ومرحباً .
وقال باكول : أهلاً بك .
وأشار سندباد متردداً ، إلى فراش القش ، وقال : ليس هنا غير هذا ..
واستدار باكول ، وقال : لنخرج ، ونتمشَ قليلاً في الجوار ، ونتحدث .
ومضى باكول إلى الخارج ، فلحق به سندباد ، وهو يقول : كما تشاء .
وراحا يتمشيان جنباً إلى جنب ، بين الأشجار الكثيفة ، المثقلة بالأزهار والثمار والطيور، وقال باكول بصوت هادىء : يبدو أنك لست من هذه الجزر ، يا ..
وصمت باكول ، فقال سندباد : اسمي سندباد .
ورمقه باكول بنظرة سريعة ، وقال : هذا ما توقعته ، واسمك غير معروف هنا .
وقال سندباد : نعم ، أنا تاجر من بغداد ، وقد حطم الرخ سفينتنا ، ولم ينجُ أحد غيري ، فقد تعلقت بلوح خشبي ، ورمتني الأمواج ، وأنا بين الحياة والموت على ساحل هذه الجزيرة ، وأنقذتني تار .
ولاذ باكول بالصمت ملياً ، ثم قال : سندباد .
وردّ سندباد : نعم .
وقال باكول : أريد أن أكون صريحاً معك .
وقال سندباد : هذا ما أريده .
ونظر باكول إلى البعيد ، ثم قال : هذه المنطقة من المحيط ، تتكون من جزر كثيرة ، متفاوتة الأحجام ، لكن معظمها جزر صغيرة ، حتى إن بعضها لا يكاد يسكنها أحد من الناس ، كهذه الجزيرة .
وصمت لحظة ، ثم قال : وليست كلّ هذه الجزر الصغيرة متآلفة ، فبعضها على خلاف شديد مع البعض الآخر .
ورمق سندباد بنظرة خاطفة ، ثم قال : وشاء القدر أن أرتبط بفتاة ، هي أم تار ، كان أهالي جزيرتها على خلاف شديد ، مع أهالي الجزيرة التي أعيش فيها ، وعلى هذا جئنا إلى هذه الجزيرة ، غير المأهولة ، وقررنا أن نعيش فيها .
ونظر سندباد إليه ، وقال : يبدو لي أن تار صغيرة بالنسبة لك .
وردّ باكول : نعم ، فنحن لم نرزق بها إلا بعد مرور أكثر من عقد عل اقتراننا .
وصمت لحظة ، ثم قال : ولم يمض ِ على مولدها سوى أربع أو خمس سنوات تقريباً ، حتى مرضت أمها مرضاً شديدا ، وسرعان ما رحلت .
وتوقف سندباد ، عندما صمت باكول ، وقد تحشرج صوته ، ثم نظر إليه ، وقال : هذا يعني أنكما عشتما ، وحدكما معاً ، في هذه الجزيرة المنعزلة ، طوال هذه المدة .
وقال باكول بصوت مبلل بالدموع : نعم ، فربما ما كان ليتقبلها أهل جزيرتي ، ولن يتقبلني أهل جزيرة أمها ، وهكذا بقينا وحدنا ، لا أحد لي في هذه الحياة غيرها ، وليس لها أحد غيري .
وسار سندباد صامتاً ، فسار باكول إلى جانبه ، وقال : هذه الجزيرة منعزلة ، لا تمر بها المراكب التجارية ، وإذا أردت أن تعود إلى بلدك ، فعليك أن تذهب إلى الجزيرة المجاورة ، وهي لا تبعد عن هذه الجزيرة مسافة طويلة ، يقطعها طوف به شراع ، في يوم واحد .
وتوقف سندباد ، ونظر إليه ، وقال : ليتني أحصل على مثل هذا الطوف .
ورد باكول ، وقد بدا عليه الارتياح : لدي طوف ، في الطرف الآخر من الجزيرة ، وسأزودك بشراع جيد ، أنت إنسان طيب ، يا سندباد .
ونظر باكول إلى سندباد ، وقال : الشمس ستغرب قريباً ، لابد أن أعود إلى الكوخ .
فقال سندباد : رافقتك السلامة .
ومضى باكول مبتعداً ، وهو يقول : رجاء إذا رأيت تار ، لا تقل لها إننا التقينا .
ولاذ سندباد بالصمت ، ولم يرد عليه بكلمة واحدة ، وظل يتابعه بعينية الحزينتين المحبطتين ، حتى غاب تماماً بين الأشجار .





" 12 "
ـــــــــــــــــــــ

في اليوم التالي ، مضى باكول إلى البحر مبكراً ، حتى قبل أن تستيقظ تار ، وقد غادر الكوخ ، دون أن يفكر في تناول طعام الفطور .
وحين استيقظت تار ، ولم تجد أباها في فراشه ، نهضت على عجل ، ومضت تبحث عنه خارج الكوخ ، وفي الجوار بين الأشجار ، لكن دون جدوى .
وعلى الأرض ، رأت تار آثار أقدام أبيها باكول ، تتجه قدماً نحو البحر ، وتوقفت حائرة مفكرة : ترى ماذا يجري ؟
لقد عاد أبوها باكول البارحة ، بعد حلول المساء بقليل ، وتناول معها طعام العشاء ، ثم أوى إلى فراشه ، دون أن يوجه إليها كلمة واحدة ، وسرعان ما غطّ في نوم عميق .
لابد أن في الأمر سراً ، وهذا ما عليها أن تعرفه عاجلاً أو آجلاً ، وقفلت عائدة إلى الكوخ ، وجمعت بعض الطعام ، ووضعته في صرة ، ثم انطلقت مسرعة إلى الملاذ ـ الكوخ .
وكما لم تجد أباها في الكوخ ، حين استيقظت صباحاً ، لم تجد سندباد في الملاذ ـ الكوخ ، فخرجت مسرعة ، تبحث عنه في الجوار ، لكنها لم تجد له أثراً في أي مكان .
وأسرعت إلى الجدول القريب ، المنساب بين الأحراش الزاهية الخضرة ، لعل سندباد يجلس على ضفته ، تحت إحدى الأشجار ، لكن لا أثر لسندباد هنا أيضاً .
وتوقفت على ضفة الجدول ، متلفتة حولها ، ترى أين مضى سندباد ؟ وهل ثمة علاقة بين اختفائه ، واختفاء أبيها باكول ؟
وقفلت عائدة إلى الملاذ ـ الكوخ ، على أمل أن يكون سندباد قد عاد ، بعد أن تجول في الجوار ، دون أن تصادفه ، لكن لا فائدة ، فسندباد لم يكن في أي مكان بحثت عنه فيه .
مهما يكن ، سيعود سندباد ، فأين يمكن أن يذهب ؟ والجزيرة صغيرة ، وغير مأهولة ، ولا سبيل للخروج منها .
وجلست تار ، في ظل الشجرة الوارفة ، أمام الملاذ ـ الكوخ ، تنتظر سندباد ، وستبقى تنتظره حتى يعود ، لعلها تقف على السرّ .
وقبيل العصر ، لاح سندباد قادماً ، من جهة شاطىء البحر ، فنهضت تار متشوقة ، وأسرعت إليه ، وهي تهتف : سندباد .
وتوقف سندباد ، وقال بدون حماس : أهلاً تار .
وتغاضت تار عن عدم حماسه ، وقالت : جئت منذ الصباح ، يا سندباد ، وقررت أن أنتظرك هنا ، مهما تأخرت .
ومضى سندباد نحو الملاذ ـ الكوخ ، وهو يقول : أخشى أن يكون الوقت متأخراً ، يا تار ، إن الشمس تكاد تغرب .
وقالت تار : سندباد ..
ونظر إليها سندباد ، دون أن يردّ بكلمة ، فتابعت قائلة : أين كنت ؟ إنني قلقت عليك ، ولقد انتظرتك منذ الصباح ، حتى الآن .
وأبعد سندباد عينيه الحزينتين عنها ، ناظراً إلى البعيد ، وهو يقول : هناك طوف ، في الطرف الآخر للشاطىء ، لقد أصلحته ، وهيأت شراعه ، وسأبحر به غداً صباحاً .
وواصل سندباد سيره ، متجهاً نحو الملاذ ـ الكوخ ، فلحقت تار به ، وهتفت مندهشة : سندباد .
وتابع سندباد قائلاً ، دون أن يتوقف : هذه الجزيرة الصغيرة منعزلة ، ولا تمر بها المراكب ، وسأبحر إلى الجزيرة المجاورة ، وهي جزيرة كبيرة ومأهولة ، والمراكب التجارية الكبيرة ترسو فيها بين فترة وأخرى .
وأسرعت تار ، وسبقت سندباد ، ووقفت في مواجهته ، عند مدخل الملاذ ـ الكوخ ، وقالت : سندباد ، ما الأمر ؟ أصدقني .
ونظر سندباد إليها ، ثم قال : تار ، والدك في هذه الجزيرة ، والعمر يتقدم به ، وليس له أحد في هذا العالم غيرك .
وأطرقت تار ، وقد لاذت بالصمت ، فتخطاها سندباد ، ودلف إلى داخل الملاذ ـ الكوخ ، دون أن يضيف كلمة واحدة .
ولبثت تار في مكانها برهة ، لا تدري ماذا تفعل ، ثم مضت منحدرة نحو الكوخ ، وفي عينيها السوداوين ، دموع حائرة متذمرة حزينة ، تريد أن تعرف الحقيقة ، لتنحدر فوق الخدين الشابين ، لعلها ترتاح قليلاً .








" 13 "
ـــــــــــــــــــــــ

وصلت تار إلى الكوخ ، وقد حلّ الليل ، ونظر إليها أبوها نظرة سريعة ، لكنه لم يسألها عن سبب تأخرها ، وأين كانت حتى ذلك الوقت .
وجلست في فراشها مقطبة ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فقال باكول مشيراً إلى سفرة الطعام : أعددتُ الطعام ، وانتظرتكِ ، هيا نتعشَ .
ورمقته تار بنظرة سريعة قاتمة ، دون أن تردّ عليه بكلمة واحدة ، فقال باكول : هيا يا ابنتي ، هيا ، تعالي نأكل .
وهذه المرة ردت تار قائلة ، من غير أن ترفع عينيها إليه : كل أنتَ .
ونظر باكول إليها ، وقال : تعالي كلي ، فأنتِ على ما يبدو ، لم تأكلي شيئاً طول اليوم .
وبدل أن تردّ تار عليه ، استدارت ببطء ، وتمددت في فراشها ، وقد جعلت وجهها إلى الحائط ، فاقترب باكول منها ، ثم جلس بجانبها ، وقال بصوت هادىء : تار .
لم تردّ تار ، فقال باكول بنفس الصوت الهادىء : أنتِ لم تعودي صغيرة ، يا تار ، وهذه الجزيرة الصغيرة ، المنعزلة ، وغير المأهولة ، لم تعد تناسبك .
وصمت ملياً ، وهو يعرف أن تار بدأت تنصت إليه ، ثم تابع قائلاً : هناك حولنا ، جزر كبيرة ، مأهولة ، سنختار واحدة منها ، وننتقل للعيش فيها ، في أقرب فرصة ممكنة .
وتململت تار ، ثم قالت بصوت دامع : أبي .
ورد باكول : نعم .
فتابعت تار قائلة ، بصوت تبلله الدموع : اليوم قابلتَ .. سندباد ..
ولاذ باكوم بالصمت ، فسكتت تار لحظة ، ثم قالت بنفس الصوت ، الذي تبلله الدموع : لم يقل لي هذا أحد ، لقد قابلتَهُ ، وتحدثتَ إليه .
ولبث باكول فترة في مكانه ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، ثم نهض بتثاقل ، وأوى إلى فراشه ، لكنه لم ينم إلى ساعة متأخرة من الليل .
وباكراً أفاق باكول ، صباح اليوم التالي ، على صوت نسائي ، يهتف به من أعماقه : باكول .. انهض .. ابنتنا تار .. تار .. تار .
هذا صوت زوجته ، لكن زوجته رحلت منذ فترة طويلة ، فمن أين تناديه ؟
وفتح باكول عينيه مذهولاً ، قلقاً ، ولم يجد تار في فراشها ، فهب من مكانه ، وأسرع إلى الخارج ، يبحث عنها في الجوار ، وتوقف بعد حين ، لم يكن لتار أثر في أي مكان .
ولمع في فكره هاجس ، لقد عرف أين هي ، وعلى الفور ، انطلق نحو الشاطىء ، فقد خمن أنها ستكون هناك ، وبالفعل رآها تقف على المرتفع ، الذي يطل على البحر ، فاقترب منها لاهثاً ، وتوقف إلى جانبها ، وراح ينظر حيث كانت تنظر .
ومن بعيد ، رأى الطوف ، الذي دلّ سندباد عليه ، يشق الماء ، بشراعه الأبيض ، مبتعداً عن الجزيرة ، وسندباد يقف فيه ، والدفة في يده .
وأحست تار ، منذ الوهلة الأولى ، بباكول يقف إلى جانبها ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، ويتابع معها سندباد ، وهو يبتعد ، ويبتعد ، حتى يكاد يختفي ، في الأفق البعيد .
وأنصت باكول ، وسمعها تتنفس من بين دموعها ، فقال بصوت متعاطف : تار .
ومن غير أن تلتفت إليه ، قالت تار : راح سندباد ، يا أبي ..
وقال باكول ثانية : تار .. تار ..
فتابعت تار قائلة : راح .. ولن أراه ثانية .
ومدّ باكول يديه ، وأخذها إلى صدره ، وقال : عندما التقينا ، أنا وأمك ، وكنا فتيين ، واجهتنا ظروف صعبة تعرفينها ، فاخترنا مصيرنا بأنفسنا ، هذا حقنا ، اخترنا الحياة في هذه الجزيرة الصغيرة المنعزلة ، وكان ما كان .
وتمتمت تار من بين دموعها : أبي ..
وقاطعها باكول قائلاً ، وهو يربت على ظهرها : إنني أعرف الجزيرة ، التي سيذهب إليها سندباد ، فأنا الذي دللته عليها ، هيا ، سنلحق به بقاربنا ، وقد نصل إليه ، قبل أن يصل إلى الجزيرة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض