الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هرم ذو أجنحة مهولة ...زحزحة لقناعات راسخة

عبد الجبار خضير عباس

2006 / 11 / 21
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


قراءة لقصة ماركيز:
هرم ذو أجنحة مهولة ...زحزحة لقناعات راسخة


هرم ذو أجنحة مهولة، فنطا زيا كتبها ماركيز، على وفق الواقعية السحرية.
تبدأ القصة بجملة افتتاحية،(في اليوم الثالث لهطول المطر)،لتحدد ملامح الثيمة الرئيسة في القصة ، المرتبطة بشبكة من الدلالات الميثولوجية واللاهوتية ذات العلاقة بالنسق اللاهوتي-الميثولوجي،فهذه الجملة تحمل دلالة سيميائية تحيلنا لبعث المسيح بعد موته،وبما إن الكاتب بث شفراته ضمن هذا المناخ،فسهل بذلك مهمة فك مغاليق الشفرات عبر اقناعنا بمتن معرفي مشترك.
حاولنا التركيز على هذا النسق في القصة دون سواه، إذ أن ما تيسر لي من قراءات نقدية أجنبية عن النص أكدت التركيز على الموازنة،بين البناء السحري والواقعي في القصة والاشارة الى جمالية الواقعية السحرية.
في البدء رسم لنا ماركيز صورة عن المكان فيه مقاربة مع بداية الخليقة ، البحر والسماء كانا قطعة واحدة من الرماد ورمال الشاطيء التي تلمع في ليالي آذار، مثل ضوء مطحون،قد أمست مزيجا من طين ومحار، بعدها يبدأ التسفيه بالكائن الاعجازي(الملاك) ، كان رجلا عجوزا ،عجوزا جدا،منكبا على وجهه في الطين،وعلى الرغم من كل الجهود المضنية التي يبذلها لا يستطيع النهوض، إذ أن جناحين هائلين كانا يعيقانه......،وكان يرتدي أسمال جامعي الخرق،لم تكن هناك سوى بضعة شعيرات على صلعته، وبضعة أسنان في فمه، وحالته مثيرة للشفقة،....أزالت أي شعور بالمهابة،...جناحاه الصقريان الضخمان الوسخان والنصف منتوفان عالقان أبدا في الطين،...المسكين كان هرما جدا مما جعل المطر يطيح به،...الجميع قد عرف أن ملاكا بدمه ولحمه قد وقع أسيرا في المنزل، ....، لم تطاوعهم قلوبهم على ضربه بالهراوات حتى الموت،... أخرجه من الطين وحشره في القن مع الدجاجات، ... يرمونه بمختلف الأشياء،...كأنه لم يكن كائنا سماويا مجرد حيوان سيرك،...أشبه بدجاجة ضخمة عاجزة بين الدجاجات وقشور الفواكه وبقايا الطعام ،...لم يستطع رفع عينيه الأثريتين،...نقرته الدجاجات بحثا عن الطفيليات المفضلة لديها ,والتي تتكاثر في جناحيه،...أكثرهم عطفا كانوا يرجمونه بالأحجار،...حرقوا جنبه بسيخ لوسم الثيران...تتساقط الدموع من عينيه،...نفض جناحيه عدة مرات مما أثار زوبعة من غبار ذروق الدجاج .
وبعد هذه السلسلة من التسفيهات للملاك-اللاهوت،المبثوثة في النص، لم يكتف الكاتب بذلك بل لجأ إلى السخرية من معجزاته،((ثمة بضع معجزات أوعزت إلى الملاك توضح اختلاله العقلي،مثل الرجل الأعمى الذي لم يشفه،بل زرع له ثلاثة أسنان جديدة،والمشلول الذي لم يتمكن من السير،بل كاد أن يربح اليانصيب،المجذوم الذي نبتت في تقرحاته زهور عباد الشمس،...عزاء المعجزات هذا الذي أشبه بالسخرية،كان قد حطم سمعة الملاك التي سحقت تماما.))حتى الآن يشعرك بانحيازه للدنيوية على حساب الآخروية وانه منخرط في هذه اللعبة، ومن المؤمنين بعصر لا وجود فيه للحقيقة المطلقة،إذ انهارت فيه السرديات الجليلة، ويلاحظ ذلك عبر التسفيه المتلاحق للملاك- اللاهوت، يشعرك انه واقع في إشكالية متعلقة بعدم ايمانه بأية حقيقة شأنه شأن الذين زحزح كوبرنيكوس قناعاتهم الراسخة ، في أن الكرة الأرضية هي مركز الكون،فأوجد معادلة جديدة، بات من غير الممكن فيها التمركز بالرؤية اللاهوتية ذاتها،
وبالقناعات السابقة نفسها،فضلا عن دور فرويد ودارون، مما دفع الإنسان بنسف الكثير من القناعات،وفي إشارة واضحة لانتصار العلم على معطيات الميثولوجيا واللاهوت ،هو ان الطبيب في القصة والذي يمثل العلم يعالج الملاك- اللاهوت، أي بمعنى آخر، أن العلم يمتلك الحلول للتساؤلات الدنيوية المطروحة،وعن تقاطع العلم (الطبيب)مع الملاك-(الميثولوجية)،هو قول الطبيب:(من الاستحالة ان يكون حيا)،ويستطيع العلم معالجة الطفل-المستقبل، بعد أن أصابه التلوث من الملاك- اللاهوت، ليشير إلى موت الملاك- وانه زائل لا محالة،لاسيما بعد أن هدمت الشمس والأمطار قن الدجاج،هنا القن رمز للملاك على الرغم من التساوق المتناغم في القراءة التتابعية، التي تتصاعد ضمن النسق الميثيولوجي،فنلاحظ تتابع الخط البياني المتتالي و المتعاظم،الذي يشبه كرة الثلج،كاد أن يشير إلى موت الملاك-القديم،نتيجة لمعطيات الأحداث والوقائع، فضلا عن ان كل الدلائل تشير إلى الموت غير المعلن له، بعد أن هدمت الشمس والأمطار قن الدجاج،فالدلالة السيميائية للشمس تؤشر لتحرر الإنسان من ما هو خرافي وميثولوجي،و وضع المطر رمزا للنماء الجديد،وللحياة الحديثة،إذ لا توجد علاقة فيزيائية لهدم القن بتأثير الشمس ، بل الإشارة إلى زوال الرؤية الماضوية وبعد أن أوشكنا للتسليم بذلك، إلا انه سرعان ما فجر صدمة مهولة بالاتجاه المعاكس،حين أوشك الملاك-الوهم،أن يلفظ أنفاسه الأخيرة(إذ كانوا يطردونه من غرفة النوم بالمكنسة...حتى ظهر لهم انه موجود في عدة أماكن ، في اللحظة نفسها،حتى ظنوا انه صار أكثر من واحد،فكان يولد من نفسه آخرين ينتشرون داخل البيت)!!.
ثمة تناص واع عبر التأكيد على قداسة الرقم ثلاثة،جاء ذلك بقصدية التكرار في حيثيات النسق الميثولوجي،للإحالة إلى النموذج الأول،(في اليوم الثالث لهطول المطر)...(كان العالم حزينا منذ الثلاثاء)إذ يبدأ الأسبوع من يوم الأحد،(عندما أمطرت السماء لثلاثة أيام) ثم يعزز الإحالة (أفاق فزعا وهو يدمدم بلغته الآرامية والدموع في عينيه)....(لم تطاوعهم قلوبهم على ضربه بالهراوات حتى الموت) أي المقاربة بالتشابه في العذابات التي تلقاها،...وفي النهاية(ومع بواكير كانون الثاني- بداية السنة الميلادية –نبتت له بعض الريش الكبيرة الصلبة).
وهكذا يتلاعب ويتقافز بين ما هو ميتافيزيقي ومادي، الشك واليقين ،وفي النهاية،
(ظلت تراقبه وهي لا تزال- تقطع البصل-واستمرت تراقبه حتى حين لم يعد بامكانها رؤيته ،لأنه عند ذاك لم يعد يمثل أي قلق لحياتها بل مجرد نقطة خيالية في أفق البحر(.
هكذا هو الإنسان في النص يلهث نحو الحقبقة ألا انه في دوامة من الغموض والشك والريبة بالمحيط الغامض والمضبب.
كذلك يسخر من المخيال الشعبي حين يوجد مسوغات أو تبريرات تبدو أحبانا ساذجة للظواهر الاجتماعية والطبيعية،فيعزو ذلك إلى خلل إنساني ما، يستوجب العقوبة، (امرأة تحولت إلى عنكبوت ) إذ أنها عندما كانت صغيرة- وعمليا هي ما زالت – رقصت الليل بطوله بدون اذنهما فحولتها السماء إلى عنكبوت لأنها عصت والديها وكل جريرتها إنها رقصت لتعبر عن حالة من الرقي والسمو الإنساني إذ تحركت بمساحات واسعة من الحرية والانطلاق البريء ،إلا إن العقوبة جاءت قاسية واعتباطية علامة الانزياح هذه رؤية استفزازية صارخة، كوميديا سوداء،كان لاختياره المكان والشخوص كيما يؤكد أنهم ينتمون إلى قاع المجتمع، إذ أن الأثرياء هم غير معنيين بالبحث عن مخلص، وضعنا حيال مجتمع ما يزال أسير فكر بطياريكي يقدس العائلة ولا يحترم الإرادة الفردية.
الا ان الكاتب يضعك في حرك دائب ومستمر،يكشف لك عن مستجدات تعتقد انك أمسكت بها ألا أنها سرعان ما تتبدد، فيها مساحات واسعة،تحتاج لمليء الفراغ.
يقول ستانلي روبن هوبر:إن الأفكار التي تحفزنا في الوقت الراهن هي الأيديولوجيات التي تفتقر إلى المغزى الروحي وليس الأساطير وباعتقادي ،أن فقدان الوعي الأسطوري هذا هو الفقدان الأكثر تدميرا والذي يمكن أن تقاسيه البشرية،فالوعي الأسطوري هو الرابط الذي يربط الناس مع بعضهم البعض ومع الغيب المجهول الذي انبثق منه الجنس البشري والذي يصير المعنى العميق للأشياء خرابا دون ربطها به والعالم المفتقد لمعنى عميق يصعب تحمله طويلا،إذ أنهم يتمسكون بأية أسطورة أو شبه أسطورة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: ما مبرّرات تكوين ائتلاف لمناهضة التعذيب؟


.. ليبيا: ما سبب إجلاء 119 طالب لجوء إلى إيطاليا؟ • فرانس 24




.. بريطانيا: ما حقيقة احتمال ترحيل مهاجرين جزائريين إلى رواندا؟


.. تونس: ما سبب توقيف شريفة الرياحي رئيسة جمعية -تونس أرض اللجو




.. هل استخدمت الشرطة الرصاص المطاطي لفض اعتصامات الطلاب الداعمة